شيرين ماهر
مترجمة وباحثة في الشأن الإفريقي
في ظلّ تهديدات بالعُزْلة الاقتصادية -أخذت تتضح أكثر فأكثر من جانب الشُركاء الاقتصاديين التقليديين، مثل الصين والولايات المتحدة-؛ سعت ألمانيا مؤخرًا إلى تنويع شراكاتها بما يشمل القارة الإفريقية.
وعلى الرغم من وجود الشركات الألمانية بالفعل في القارة الإفريقية منذ عقود؛ إلا أن العلاقات الاقتصادية الألمانية لم تكن على نفس المستوى من الكثافة مع معظم دول القارة، بل إن هناك عددًا من الدول الإفريقية بحاجة إلى تعزيز وتعميق تلك الشراكات؛ بحسب تصريحات وزير الاقتصاد الألماني “روبرت هابيك”.
في الثالث من ديسمبر الجاري، استضافت كينيا قمة الأعمال الألمانية الإفريقية لعام 2024م؛ بهدف الاستفادة من علاقات الأعمال في الأسواق العالمية، وتعزيز مكانة ألمانيا كشريك رئيسي للتجارة والاستثمار والعلاقات الدبلوماسية في قارة إفريقيا.
وجمعت قمة الأعمال الألمانية الإفريقية الخامسة 2024م -وهي الحدَث الألماني الأهم في القارة الإفريقية والتي استمرت لمدة ثلاثة أيام-؛ قادة الأعمال البارزين وممثلي الحكومات والمُبتكِرين من ألمانيا وإفريقيا؛ حيث أكَّدت الفعالية على الأهمية المتزايدة للحوار والتعاون بين القارات.
هذا، وتُعقَد القمة بشكل دَوْري كل عامين، وتعكس اهتمام ألمانيا المتزايد بالأسواق الإفريقية. وتأتي القمة في وقتٍ تشهد فيه القارة معدلات نموّ مرتفعة؛ حيث احتلت القارة المرتبة الثانية عالميًّا بعد آسيا، رغم انطلاقها من قاعدة اقتصادية محدودة ومنخفضة نسبيًّا… ولك السؤال المطروح هنا: تُرى، ما هي أجندة أعمال القمة الاقتصادية الخامسة للعام الجاري؟ وما الأهمية التي تُمثّلها إفريقيا للاقتصاد الألماني؟ وما موقف الشركاء الاقتصاديين من محاولات ألمانيا الضلوع بدور أكبر في إفريقيا؟
قمة الأعمال الألمانية الإفريقية 2024م تعاون ثنائي أوثق:
“باهظ التكلفة”، “نافذ الصبر”، و”شديد النفور من المخاطرة”؛ هذه هي سُمعة الاقتصاد الألماني في إفريقيا. ويرغب وزير الاقتصاد الألماني “روبرت هابيك” في تحسين هذه الصورة خلال زيارته لكينيا لافتتاح القمة الاقتصادية الألمانية الإفريقية الخامسة؛ حيث أعلن “هابيك” أن بلاده تعتزم تعزيز التعاون مع الدول الإفريقية. وأوضح أن هناك “إمكانات لمزيد من الاستثمارات الألمانية في القارة الإفريقية”.
ويُقام هذا الحدث كل عامين للترويج للأعمال التجارية الألمانية في إفريقيا، ويُنظّمه مبادرة إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى للاقتصاد الألماني، بتمويل مشترك من وكالة التنمية الألمانية (GIZ) وشركات ألمانية مثل DHL وSiemens Healthineers وKnauf . وقد سجَّل نحو 800 مشارك من ألمانيا و35 دولة إفريقية لحضور اجتماع هذا العام. وركَّز الاجتماع على مجالات الطاقة المتجددة والهندسة الميكانيكية والقطاع الطبي.
يُشار إلى أن التجارة الألمانية في إفريقيا وصلت إلى رقم قياسي جديد بلغ 61.2 مليار يورو في العام الماضي. وهي زيادة بنسبة 0.9 في المائة فقط، ويرجع ذلك أيضًا إلى ارتفاع أسعار السلع المُصدَّرة من ألمانيا إلى إفريقيا. وبالمقارنة، بلغت تجارة الصين في إفريقيا 282 مليار دولار أمريكي في عام 2023م؛ وكانت تجارة الهند تقترب من 100 مليار دولار أمريكي؛ وقد تجاوزت تجارة تركيا بالفعل 40 مليار دولار أمريكي في عام 2022م واستمرت في النمو بوتيرة سريعة[1].
كما دعت كينيا إلى الاتفاق على قواعد واضحة وأقل صرامة للاستثمار؛ حيث قال رئيس مجلس الوزراء الكيني “موساليا مودافادي”: إن رأس المال يتطلب ضوابط قانونية واضحة. وفي الوقت نفسه، انتقد العقبات البيروقراطية والقوانين التي قد تعوق المستثمرين، قائلًا: “لا ينبغي لنا أن يكون لدينا تشريعات تُشكّل عائقًا أمام الاستثمار الأجنبي المباشر في بلداننا”. وأضاف “مودافادي”: إن إفريقيا تمتلك “إمكانات هائلة”، معظمها لا يزال غير مُستغَلّ، في قطاعات أساسية مثل الطاقة والزراعة والبنية الأساسية والصناعة. وأكد أنه لن يتسنى تحقيق ذلك إلا من خلال شراكات قوية. بدَوْره، أشاد الزعيم الكيني، الرئيس ويليام روتو، بالمشاركة الألمانية في البلاد، قائلًا: إنها “لم تخلق فرص عمل فحسب، بل أسهمت أيضًا في نقل العلوم والتكنولوجيا التي تُشكّل أهمية حاسمة للتنمية الاقتصادية في كينيا على المدى الطويل”.
كما أشار “مودافادي” إلى أن بلاده بحاجة إلى شراكات قوية، لافتًا إلى أن القمة تتزامن من الاحتفالات الرسمية في كينيا بمرور 60 عامًا على رحلتنا الدبلوماسية، قائلًا: “في هذه الفترة، نتذكر أن ألمانيا كانت أول دولة في العالم تعترف بكينيا كدولة مستقلة”، مؤكدًا أن العلاقة بين ألمانيا وكينيا نمَت، بشكلٍ كبيرٍ، في السنوات الأخيرة؛ حيث تستثمر الشركات الألمانية بكثافة في قطاعات مثل الطاقة المتجددة وتصنيع السيارات والبنية التحتية. كما أوضح أن بلاده ملتزمة بدَوْرها نحو كينيا كبوابة إلى شرق إفريقيا والسوق الإفريقية الأوسع وتتقدّم بثبات في رؤيتها 2030، التي تسعى إلى تحويل كينيا إلى اقتصاد صناعي متوسط الدخل. كما تعمل بشكل وثيق مع الشركاء لتحقيق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، وخاصةً تلك المتعلقة بالطاقة النظيفة، وتعزيز آليات معالجة آثار تغيُّر المناخ، وتحقيق النمو الاقتصادي الشامل.
بدوره، أشار رئيس مبادرة إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى “توماس شيفر” إلى أن قمة هذا العام تأتي في وقتٍ حاسمٍ؛ حيث تنمو المنطقة الإفريقية بوتيرة متلاحقة، مدفوعةً بروح ريادية ملحوظة، لتصبح أكثر ترابطًا من خلال مبادرات؛ مثل: منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية. وتابع: “يمكن تعزيز هذا الزخم من خلال تقليل الاعتماد على صادرات المواد الخام، وتعزيز التنويع الاقتصادي، وجذب الاستثمار في القطاعات الرئيسية مثل الطاقة والأعمال الزراعية والسيارات والتصنيع، وتعزيز نقل التكنولوجيا وتنمية المهارات والابتكار المشترك”[2].
من جهته، أشار وزير الاقتصاد الألماني “روبرت هابيك” إلى أن العلاقات التجارية الألمانية الكينية زادت، بشكل مطرد، على مدى السنوات الأخيرة؛ حيث استثمرت 930 شركة ألمانية في إفريقيا، ووظَّفت أكثر من 230 ألف شخص في إفريقيا، مُشدِّدًا على أهمية الأمن كقضية مهمة، وكذلك سيادة القانون والدولة الدستورية التي تساعد المستثمرين الألمان على الحصول على بيئة استثمارية آمنة ومستقرة.
وأبرز “هابيك” أهمية المؤتمر في معالجة التحديات؛ مثل: أزمة المناخ التي تؤدي إلى الفيضانات والجفاف والطقس المتطرف، والتصحر والاحتباس الحراري، والتغيرات الديموغرافية، والحروب والصراعات، وغيرها. وقال: “إن العالم ما قبل العولمة يُواجه الآن تحديات من الحمائية. وأصبحت الدول والسياسيون والحكام تستخدم التجارة والطاقة وسلاسل التوريد لمصالحهم السياسية، وهذا الأمر تتصاعد وتيرته أحيانًا وصولًا إلى الحروب”.
وتابع: “هذا المؤتمر يُشكّل ردّ فِعْل مضادّ لهذا الاتجاه المتمثل في إغلاق الأسواق، ورفع الحواجز، وجعل الحدود خطًّا فاصلاً بين البلدان والشعوب”. وأشار إلى أنه بحلول عام 2030، سيكون 75 في المائة من الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 35 عامًا يتركزون في إفريقيا؛ حيث قدّم المشورة بشأن إنشاء مراكز المهارات في إفريقيا؛ حيث تستثمر الشركات وتُثقّف سوق العمل، وتُنمِّي إتقان تعلُّم اللغة الألمانية. وأكَّد “هابيك” على أهمية الشراكة وإنشاء الشركات الناشئة الألمانية في إفريقيا، بالإضافة إلى برنامج تسريع الأعمال الألماني، وهو برنامج للشركات الناشئة الألمانية في كينيا كمركز لإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
وفي الوقت نفسه؛ حثَّ “هابيك” على التفكير في خيارات العمل في ألمانيا، مُجادلًا بأن هذا لا يعني بالضرورة “هجرة للعقول”، لافتًا إلى إصلاحات قواعد الهجرة للعُمَّال المَهرة التي قدَّمها الائتلاف الحالي في برلين، قائلًا: “لقد أصبح الانتقال إلى ألمانيا أسهل”؛ إذ وقَّعت ألمانيا وكينيا اتفاقية بشأن انتقال العمالة الماهرة والهجرة في شهر سبتمبر. وأضاف: “نحن لا نريد أن ننتزع المواهب من الاقتصادات الإفريقية”. وبدلًا من ذلك، إذا انتقل هؤلاء الأشخاص إلى ألمانيا لبضع سنوات ثم عادوا إلى كينيا حاملين معهم مهارات جديدة، فقد يؤدي ذلك إلى خلق “فائدة مزدوجة” لكلا الجانبين[3].
والواقع أنه تتزايد تجارة ألمانيا مع إفريقيا بمعدل بطيء نسبيًّا، فقد بلغ معدل التجارة الخارجية الألمانية مع إفريقيا إلى حجم قياسي بلغ 61.2 مليار يورو العام الماضي. وزادت الصادرات الألمانية 8.3 بالمئة إلى 28.7 مليار يورو، بينما تراجعت الواردات 4.9 بالمئة إلى 32.5 مليار يورو. وربما يُفسَّر ذلك الانخفاض الكبير في أسعار المواد الخام التي تستوردها ألمانيا من إفريقيا. ومن خلال شراء المعادن المهمة في إفريقيا، يسعى الاقتصاد الألماني أيضًا أن يصبح أكثر استقلالًا عن الصين[4].
لماذا تستثمر ألمانيا في إفريقيا؟
عندما تعمل جنبًا إلى جنب شركات من “داكار” و”دريسدن”، ومن “نيروبي” و”نورمبرج”، ومن “كيب تاون” و”كاسيل”؛ فإن العمالة في كل هذه المناطق قطعًا سوف يستفيدون، وهذا ما تؤكده وزيرة التنمية الألمانية “سفينيا شولتس” عن قناعة؛ بأن مسألة “الفائدة المزدوجة” و”المكسب للجميع” هو الموضوع الذي تصدَّر جدول أعمال قمة نيروبي 2024م حتى تكون هناك شراكات مستقرة ومثمرة. ومِن ثَم، تركز النقاش في القمة الاقتصادية الألمانية الإفريقية الخامسة لهذا العام حول إنتاج الهيدروجين الأخضر، على سبيل المثال، في دول مثل كينيا أو مصر: إنها مسألة مفيدة للأفراد في البلدان المنتجة؛ لأنها تُسهم في إمدادات الطاقة المحلية وتخلق سلاسل قيمة مع خلق وظائف مستدامة. كما أنها مفيدة للأفراد في ألمانيا؛ لأنها تَحُدّ من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الضارَّة، وتُعزّز الصناعة الألمانية. ومِن ثَمَّ تحقيق فائدة مزدوجة في البلدين.
ولهذا السبب تدعم وزارة التنمية الألمانية التوسع في استخدام الهيدروجين الأخضر في هذه البلدان -على سبيل المثال- من خلال صندوق يسد فجوة التمويل لمشاريع الهيدروجين. ويرجع ذلك إلى أن سوق الهيدروجين الأخضر لا يزال في مراحله الأولى، وبالتالي فإن البنوك ليست مُؤهَّلة بالكامل بعدُ للحصول على التمويل. وهذا الصندوق، الذي أطلقته في عام 2022م، يدعم الشركات الحكومية والخاصة ويضمن القيمة المضافة المحلية، عندما تتم معالجة بعض الهيدروجين وتحويله إلى أسمدة، وبالتالي تعزيز الأمن الغذائي.
كما يُسهم عدد متزايد من الشركات الناشئة الإفريقية الشَّابَّة في خلق مزيد من القيمة المحلية. وبذلك، يعالجون العديد من المشكلات الاجتماعية. فعلى سبيل المثال، “جيرالدين موباندانياما” من زيمبابوي، من خلال شركتها الاستشارية لإدارة رأس المال الاستثماري، تدعم الشركات الناشئة الإفريقية في قطاع تكنولوجيا المناخ. وبواسطة تمويل وتقديم المشورة لرواد الأعمال الشباب، تضمن أن يكون للابتكارات تأثير ملموس. وكذلك عندما تعمل الشركات الناشئة على تحسين الوصول إلى الكهرباء، يمكنها أيضًا خلق فرص عمل جديدة في مجال الطاقات المتجددة. لذلك يبدو رواد الأعمال الأفارقة الشباب جذابين أيضًا لشركاء الأعمال الألمان في قمة الأعمال انطلاقًا من شعار تحقيق “الفائدة المزدوجة”؛ لكونهم يستوعبون جيدًا احتياجات وإمكانات بلدانهم ويعتمدون، بشكل كبير، على تقنيات المستقبل. وتتميز أفكارهم ونماذج أعمالهم بالابتكار، وغالبًا ما تساعد على دَفْع التغيير نحو مجتمعات عادلة بيئيًّا واجتماعيًّا.
على صعيد آخر، تُمثّل قضية هجرة الأيدي العاملة نقطة مهمة، خاصةً بالنسبة للجهات الفاعلة الاقتصادية والسياسية الإفريقية والألمانية. لقد أصبحت ألمانيا أكثر اعتمادًا من أيّ وقتٍ مضى على العُمال الأجانب والعُمال المهرة. ويوجد بالفعل حوالي 1.34 مليون وظيفة شاغرة في ألمانيا، وتستمر التحديات الديموغرافية في سوق العمل في النمو. وفي الوقت نفسه، لا تستطيع أسواق العمل في العديد من البلدان الإفريقية استيعاب العدد المتزايد من السكان الشباب. ولذلك تلتزم سياسة التنمية بخلق آفاق وظيفية للأشخاص من هذه البلدان، وتعزيز تدابير التأهيل لإعداد الأشخاص للعمل الجيد، سواء في بلدانهم الأصلية أو كجزء من هجرة العمالة إلى ألمانيا[5].
الشركات الألمانية ترى فرصًا جيدة في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى:
نشرت غرفة التجارة والصناعة الألمانية تقييمًا خاصًّا حول توقعات غرف التجارة الأجنبية وروّاد الأعمال على خلفية انعقاد القمة الاقتصادية الألمانية الإفريقية الخامسة في نيروبي؛ حيث أعربت الشركات الألمانية عن تفاؤلها بشأن أعمالها في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وعلى الرغم من حالة عدم اليقين العالمية الحالية؛ أشارت التوقعات إلى أن المنطقة تتطور إلى سوق نموّ بالغ الأهمية. ينبثق هذا من تقييم خاص لتوقعات الأعمال العالمية (WBO) لخريف عام 2024م الصادر عن مجموعة غرف التجارة الأجنبية التابعة لغرفة التجارة والصناعة الألمانية.
ففي خريف هذا العام، شاركت 3500 شركة من جميع أنحاء العالم في غرف التجارة الألمانية في الخارج (AHKs) وغرفة التجارة والصناعة الألمانية (DIHK) –كان من بينهم 433 شركة من إفريقيا، 34% من هذه الشركات تقع في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وصُنِّف وضع أعمالها المحلي الحالي على أنه (جيد)، في حين صُنِّف 20% منه بأنه (سيئ). وبالتالي فإن التقييم أقل تفاؤلًا إلى حدّ مما كان عليه في الربيع، لكنه يظل مستقرًّا مقارنةً بمناطق أخرى من العالم. بدوره، يقول “فولكر ترير”، رئيس قسم التجارة الخارجية في غرفة التجارة والصناعة الألمانية: “إن الديناميكية الاقتصادية في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى تُوفّر للشركات الألمانية مجموعة واسعة من الفرص”. وتابع: “إن العديد من الأسواق في المنطقة تتطور بسرعة وتجذب الاستثمارات على الرغم من حالة عدم الاستقرار في الأسواق العالمية”.
وكذلك تتزايد الثقة في المنطقة رغم التحديات؛ إذ تبدو منطقة جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا مستقرة إلى حد كبير حتى بالمقارنة الدولية. ويتوقع ما يقرب من 60% من الشركات الألمانية العاملة في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى أن تشهد أعمالًا أفضل خلال الاثني عشر شهرًا المقبلة. والتوقعات إيجابية بشكل خاص في نيجيريا (67%) وجنوب إفريقيا (55%). علاوة على أن الرغبة في الاستثمار آخِذة في الازدياد؛ حيث تُخطّط حوالي ثلث الشركات (31 بالمائة) لزيادة الإنفاق في المنطقة، وهي زيادة كبيرة مقارنة بربيع عام 2024م (27 بالمائة). ويتزايد الاستعداد لضخّ رأس المال، لا سيما في كينيا (32 في المائة) ونيجيريا (35 في المائة). وبالتالي فإن منطقة جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا تتحدى الاتجاه العالمي المتمثل في انخفاض استثمارات الشركات الألمانية؛ وهنا يبلغ التوازن بين زيادة وتناقص نوايا الاستثمار 16 نقطة فوق المتوسط العالمي البالغ 12 نقطة.
علاوةً على ذلك، تلعب اتفاقية التجارة الحرة الإفريقية عاملاً رئيسيًّا في هذا الاتجاه المتفائل؛ حيث تُوفّر منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية، AfCFTA، فرصًا عظيمة مواتية؛ إذ ترى كل شركة ألمانية ثانية (52%) أنها فرصة لتعزيز قدرتها التنافسية. كما أن تعزيز التجارة البينية الإفريقية يخلق إمكانات جديدة للأعمال التجارية عبر الحدود والشراكات طويلة الأجل. وأعرب “فولكر ترير” أن “اتفاقية منطقة التجارة الحرة الإفريقية ستلعب دورًا حاسمًا في السنوات القليلة المقبلة في ربط الأسواق البينية الإفريقية بشكل أوثق، وفتح آفاق تجارية جديدة”، وهذا من شأنه أن يخلق “أساسًا واعدًا للشركات الألمانية بهدف توسيع أنشطتها المحلية على المدى الطويل”.
كذلك تمثل الاستدامة ميزة تنافسية؛ حيث تقوم المزيد من الشركات النشطة في إفريقيا بتقييم متطلبات الاستدامة بشكل إيجابي؛ فنحو نصف شركات غرفة التجارة والصناعة الألمانية (49 في المائة) ترى في ذلك ميزة تنافسية، وفي نيجيريا يصل الرقم إلى 63 في المائة. وتقول النتائج التي توصل إليها “ترير”: “إن الديناميكية الاقتصادية وجهود الاستدامة تجعل من إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى سوقًا ذات إمكانات متنامية للشركات الألمانية”. وعلى الرغم من التفاؤل واسع النطاق، لا تزال هناك تحديات. وتعتبر حالة عدم اليقين في السياسات الاقتصادية (56%)، وتقلبات أسعار الصرف (50%)، وخيارات التمويل المحدودة (49%) من أكبر التحديات والمخاطر. وتبدو المخاوف قوية بشكل خاص في غانا؛ حيث ترى ثلاثة أرباع الشركات (75%) أن إطار السياسة الاقتصادية هناك يمثل عقبة. وقال “ترير”: “بالطبع لا تزال هناك حاجة للإصلاح؛ سواء كان ذلك فيما يتعلق بالبيروقراطية، أو استقرار إطار السياسة الاقتصادية أو السياسة النقدية. لكنَّ التطورات في العديد من البلدان في المنطقة تُظهِر إحراز تقدُّم”[6].
إستراتيجية ألمانيا في إفريقيا وصراع النفوذ:
تعاني الاقتصادات الأوروبية تحت وطأة آثار الحرب الروسية الأوكرانية، ومنها الاقتصاد الألماني، ومِن ثَم يسعى إلى حلول مستقبلية مستدامة، خصوصًا في مجال الطاقة. وتمثل قارة إفريقيا وجهة مميزة لبرلين لتحقيق تلك الأهداف. وبحسب صحيفة «هاندلسبلات» الاقتصادية البارزة في ألمانيا، تعتزم برلين تطبيق إستراتيجية جديدة تجاه إفريقيا، تُركّز على الاستثمارات في مجالات الطاقة والمواد الخام، خصوصًا المعادن النادرة، علاوةً على إيجاد أسواق جديدة. وتُحدِّد الإستراتيجية الصين وروسيا وتركيا دولًا «منافسة» في القارة الإفريقية. وعند مناقشة التدخل الخارجي في القارة الإفريقية مِن قِبَل القوى الكبرى، يتبادر إلى الذهن أسماء مثل فرنسا وبريطانيا وإيطاليا والولايات المتحدة، بالإضافة إلى الصين وروسيا. لكن لم يُسلّط الضوء على الدور الخارجي لألمانيا في إفريقيا خلال السنوات الماضية؛ حيث قدّمت ألمانيا نفسها كرائدة في المشاريع الاقتصادية، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، متجنّبة الانخراط في الصراعات السياسية أو سيناريو الأطماع.
ولهذا، لم تحظَ ألمانيا -التي تُعتبر أحد عمالقة الاقتصاد الأوروبي- بالاهتمام الكافي من وسائل الإعلام الأوروبي ومن جانب المحللين، رغم كونها لاعبًا لم يُسلَّط الضوء عليه في صراع النفوذ في القارة السمراء، كما يشير بعض الخبراء.
وقد حرصت برلين على مدار الأعوام السابقة على عدم لفت الانتباه إلى تحركاتها في إفريقيا قبل أوانها، كما لجأت إلى عدة أساليب لإخفاء وجودها وخططها في القارة. وهذا ما أكَّده الباحث السياسي والخبير في الشؤون الإفريقية “عطاف محمد مختار” في حديث صحفي، مشيرًا إلى أن برلين وضعت إستراتيجية شاملة للوجود في القارة الإفريقية بأساليب مختلفة، ومن خلال الدول الشريكة والشركات العابرة للحدود. وبحسب “مختار” حاولت ألمانيا في الأغلب إظهار علاقتها بالدول الإفريقية بأنها مقتصرة على الزيارات الدبلوماسية الرسمية ومؤتمرات القمة ومراكز التعاون الاقتصادي، والوساطة لحل الخلافات السياسية، وأبرزها كان المؤتمر الرسمي في عامي 2021 و2022م للتشاور حول الحلول للأزمة الليبية.
بدوره، أكد الباحث السياسي المتخصص بالعلاقات الأوروبية الإفريقية “عاصم محمد عبد السلام” بأن ألمانيا حاولت استغلال وجود العديد من المنظمات المدنية والإنسانية والاقتصادية الألمانية في خدمة هذا الملف عبر التخفي وراء أهداف معلنة كتطوير التعاون الاقتصادي مع إفريقيا. وحول أسباب إخفاء ألمانيا خططها السياسية والأمنية في إفريقيا، أكد “عبد السلام” أن لذلك عدة أسباب؛ أبرزها رغبة برلين في عدم إثارة انتباه وقلق المنافسين الشرسين لها على النفوذ في القارة السمراء وأولهم منافستها الرئيسية في أوروبا: فرنسا، يليها إيطاليا، ثم الدول الأخرى. ثانيًا: لا تريد برلين أن تُثير انتباه أصدقائها المباشرين من الدول الأخرى الراغبة بالوجود والتعاون مع الدول الإفريقية. وفي الوقت نفسه تسعى ألمانيا لإخفاء هذه السياسة عن الداخل الألماني لتجنُّب الحاجة إلى تنسيق السياسة والخطط الإستراتيجية عبر المؤسسات الرسمية. ثالثًا: وبحسب “عبد السلام”، فإن السبب الرئيسي لتوجُّه ألمانيا نحو القارة السمراء هو طموحها الاقتصادي، وتحديدًا فيما يخص ملف الطاقة، بالإضافة إلى تاريخ ألمانيا الاستعماري الراسخ في ذهن الشعوب الإفريقية، ومحاولة تحسين هذه الصورة الذهنية[7].
ويوضح أيضًا الباحث المتخصص في العلاقات الأوروبية الإفريقية أنه في ظل الحاجة المتزايدة للطاقة، شهدت ألمانيا وإيطاليا تعاونًا ملحوظًا في إفريقيا، لهذا قامت ألمانيا بالتنسيق مع الحكومة الإيطالية لبناء خط أنابيب لنقل الغاز والهيدروجين بين البلدين، متابعًا إنه في 2024م، وقَّع كلّ من ألمانيا وإيطاليا، وسويسرا اتفاقية للتعاون في تطوير شبكة لنقل الهيدروجين من شمال إفريقيا إلى أوروبا، كجزء من إستراتيجية مشتركة للاستفادة من موارد الطاقة الإفريقية. ويضيف “عبد السلام” إن هذا التعاون بين روما وبرلين بمنزلة محاولة لتأمين موارد جديدة للطاقة، لكن رغم ذلك، يعكس أيضًا تنافسًا خفيًّا بين الدولتين للسيطرة على مصادر الطاقة الحيوية، لافتًا إلى أن هذا التعاون قد يظهر كتحالف من أجل الطاقة، لكنَّه في الحقيقة تنافس صامت يسعى كل طرف فيه إلى تعزيز موقعه في إفريقيا على حساب الآخر.
من جهة أخرى، ورغم التوترات السياسية الظاهرية بين ألمانيا وتركيا، إلا أن برلين تُبدي مرونة في التنسيق مع أنقرة، خاصةً في ظل التغيرات الجذرية التي شهدتها منطقة الساحل الإفريقي بعد انسحاب الوحدات العسكرية الفرنسية من دول مثل؛ مالي والنيجر وبوركينا فاسو. ويُضيف الباحث في العلاقات الأوروبية الإفريقية أن في هذا الفراغ الذي تركته فرنسا، تسعى تركيا بفاعلية لدعم الحكومات الإفريقية وتأمين احتياجاتها من الأسلحة، ما يجعلها طرفًا رئيسيًّا في المنافسة على النفوذ الإقليمي، متابعًا إنه بالنسبة لألمانيا، تعتبر توسعات تركيا في إفريقيا فرصة لتقليص نفوذ فرنسا، التي طالما كانت منافسًا رئيسيًّا لألمانيا في الاتحاد الأوروبي، خاصةً في الملفات الإفريقية[8].
وعلى الرغم من الإستراتيجيات التي تتبعها الدول الكبرى لتعزيز نفوذها في إفريقيا؛ إلا أن الطريق نحو استقرار القارة وتحقيق تنمية مستدامة يعتمد، بشكل كبير، على قدرة الدول الإفريقية على إدارة مواردها بشفافية وعدالة، وتجنُّب الوقوع ضحية للصراعات الدولية على ثرواتها. وتطمح الشعوب الإفريقية إلى مستقبل أفضل تتحقق فيه التنمية والاستقلالية الاقتصادية، بعيدًا عن استغلال القوى الأجنبية، ومعتمدةً على القادة الأفارقة لاتخاذ القرارات الصائبة لضمان حقوقها ورفاهيتها.
……………………………………………………….
[1] Habeck wirbt um Afrikageschäft, https://2u.pw/UlpZJLwT
[2] Nairobi hosts German-African Business Summit, https://2u.pw/H3uTVhuq
[3] Businesses need ‘safe and stable’ Africa to invest: Habeck, https://2u.pw/9r9KJTWo
[4] Habeck bietet Ländern Afrikas engere Zusammenarbeit an, https://2u.pw/GPUFMnOf
[5] Warum Deutschland in Afrika investiert, https://2u.pw/36OTtF2E
[6] Deutsche Betriebe sehen gute Chancen in Subsahara-Afrika, https://2u.pw/xPp6lzC2
[7] الإستراتيجية الألمانية في إفريقيا: خفايا النفوذ الاقتصادي والسياسي، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/2940guWs
[8] ألمانيا في إفريقيا: اللاعب الخفي وصراع الطاقة والنفوذ في القارة السمراء، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/CoV07Wj0