تبدو حظوظ جنوب إفريقيا في قيادة القارة السوداء مرتفعة للغاية على مسافة أيام قليلة من انعقاد قمة مجموعة البريكس في مدينة كازان الروسية (20-22 أكتوبر الجاري)، وفق عدد من المؤشرات؛ من بينها: تكثيف الصين وروسيا اتصالاتهما مع جنوب إفريقيا لتنسيق عمل القمة المقبلة؛ التي من بين أجندتها: قبول عضوية دول جديدة من بينها الجزائر ونيجيريا في إفريقيا، وملفات دول أخرى مقترحة، والعودة النشطة للدبلوماسية الجنوب إفريقية في ملفات مثل الأزمة في السودان، وفي جمهورية الكونغو الديمقراطية، إضافةً إلى مجالات أنشطتها التقليدية في جنوب إفريقيا، وما يتضح من استعادة الخارجية الجنوب إفريقية توازنها بعد تجربة انتخابات وطنية صعبة أفقدت حزب المؤتمر الوطني الإفريقي أغلبيته الانتخابية للمرة الأولى منذ ثلاثة عقود.
تناول المقال الأول رؤية مهمة لأسباب وجوب توجُّه جنوب إفريقيا نحو الشرق اقتصاديًّا وعسكريًّا وسياسيًّا حال رغبة الحكومة الحالية في تحقيق تنمية اقتصادية شاملة تقوم بالأساس -حسب تصور المقال- على الافتراق عن سياسات النيوليبرالية التي تحثّ عليها المؤسسات الاقتصادية الدولية لصالح تبنّي تجارب الدول الآسيوية التي عُرِفَت بالنمور الاقتصادية.
وتناول المقال الثاني متغيرًا سياسيًّا مُهمًّا في مرحلة ما بعد الانتخابات الجنوب إفريقية، وهو عودة الزخم الشعبي القويّ المطالب بمواجهة جنوب إفريقية مع سياسات التفرقة العنصرية التي تتبنَّاها إسرائيل وعدوانها في فلسطين ولبنان بعد مرور عام على أحداث 7 أكتوبر.
أما المقال الثالث فقد قدَّم رؤيةً مغايرة لما سبق، ومن وجهة نظر بالغة الأدلجة؛ حيث رأى ضرورة ابتعاد جنوب إفريقيا عن روسيا؛ باعتبار أن الأخيرة دولة مستبدَّة وتُهدّد الديمقراطية الجنوب إفريقية، مقدِّمًا أسبابًا دعائية صِرْفة؛ باعتبار أن التوجُّه الطبيعي المقبول عالميًّا هو الاقتصاد والنظام السياسي الغربي، وأن أيّ بدائل له تُمثّل تطرفًا أيديولوجيًّا مرفوضًا.
لماذا يجب على جنوب إفريقيا التوجُّه شرقًا؟([1])
على سياسات جنوب إفريقيا التجارية أن تعكس الديناميات المتغيرة لتطور الاقتصاد العالمي. إننا بصدد الانتقال من عالم أحادي القطب بهيمنة أمريكية إلى نظام صاعد متعدّد الأقطاب، بما فيه روسيا والصين والهند. وقد توقَّع Goldman Sachs على وجه الدقة في العام 2007م أن تفوق الصين ألمانيا (اقتصاديًّا) بحلول العام 2011م، واليابان بحلول العام 2015م، والولايات المتحدة بحلول العام 2016م. كما كان متوقعًا أن تهيمن روسيا على ألمانيا وفرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة. ومع تكون مجموعة البريكس في 16 يونيو 2009م، بات واضحًا أن الأمم الصاعدة، وليست الدول الغربية الثريَّة، يمكن أن تقود راهنًا الاقتصاد العالمي.
وبالنسبة لجنوب إفريقيا؛ فإن هذا العالم متعدّد الأقطاب يُقدِّم فرصة في وقتها لمفاوضات التجارة مع الغرب والمجتمع الدولي بشكل أشمل. وعلى سياسة جنوب إفريقيا الخارجية في مجال التجارة دعم تعاون الجنوب-الجنوب، ورفض “إجماع واشنطن” Washington Consensus. الأمر الذي سيجعل جنوب إفريقيا أكثر مقبولية دوليًّا مع تركيزها على تقديم الخدمات الأساسية، والرعاية الصحية رفيعة المستوى، ومهارات دعم النمو الاقتصادي للتجمعات الفقيرة في البلاد (جنوب إفريقيا).
وفي “طرق الحرير الجديدة” The New Silk Roads يقدم بيتر فرانكوبان Peter Frankopan ملاحظة مهمة؛ وهي أن القرارات العالمية اليوم لم تَعُد تُصنَع في باريس ولا لندن ولا برلين ولا روما، كما كان الحال قبل قرن. والآن تُتَّخذ هذه القرارات في بكين وموسكو وطهران والرياض ودلهي وإسلام آباد وكابول وأنقرة ودمشق.
ويُصوّر فرانكوبان عالمًا متعدّد الأقطاب بالضرورة مع تصدُّر الصين وروسيا في المقدمة كقوتين وازنتين جيوسياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا لعالم أحادي القطب بقيادة الولايات المتحدة. وفي الغرب هيمن الفزع والاضطراب على النُّخَب الحاكمة في لندن، ولا سيما في واشنطن أيضًا.
وثمة شيء مُؤكَّد (في سياق هذه التحولات)، وهو أن بكين تصدَّت لشغل دول القيادة العالمية الذي تخلَّت عنه واشنطن خلال فترة إدارة ترامب المثيرة للاضطراب، وجهود جو بايدن لاحتواء مدّ تغيُّر متعدّد الأقطاب في العالم. ويكشف فرانكوبان أنه بنهاية العام 2015م بدأ بنك التصدير والاستيراد الصيني في تمويل مشروعات في 49 دولة كجزء من مبادرة الحزام والطريق، ويتوقع أن يتجاوز عدد هذه المشروعات الألف مشروع.
وبحلول العام 2022م شملت المبادرة أكثر من 80 دولة تمتد من آسيا الوسطى وإفريقيا والشرق الأوسط والكاريبي وأمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية. ولا تزال اقتصادات إفريقيا، ولا سيما جنوب إفريقيا، معتمدة بقوة على تصدير السلع الأولية، مما يجعلها بالغة الهشاشة إزاء تقلبات أسعار السلع العالمية.
وإن التنويع في التصنيع والقطاعات الأخرى يُعدّ أمرًا أكثر أهمية حاليًّا في ضوء الأزمات المختلفة التي يشهدها العالم. وقد أبرزت أزمات جائحة كوفيد-19، والتقلبات المناخية، والصراع في أوكرانيا ضرورة بناء صمود اقتصادات دول إفريقيا.
وقد استخدمت دولٌ مثل كوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة السياسة الصناعية لقيادة التحول الصناعي والنمو، والاستثمار في رأس المال البشري والقضاء على الفقر. وتقدّم تجارب هذه الدول رؤًى بديلة لتوصيات مغايرة عن تلك الصادرة عن المؤسسات الدولية المرموقة. أولًا تجب ملاحظة أن التحول الصناعي أكثر من مجرد بناء صناعات؛ بل إنه يتعلق بصياغة تفاعلات اقتصادية وعمليات ضبط هيكلي تؤدي لصعود الاقتصادات.
ومقارنةً بسياسات جنوب إفريقيا المالية والنقدية؛ فإن النظم الاقتصادية التي تتسم بصبغة غير رسمية بشكل أكبر -وهو أمر شائع في أغلب دول القارة الإفريقية-، لا تصمد أمام هذه المقارنة. ويجب على جنوب إفريقيا التعلُّم من النمور الاقتصادية الآسيوية، لا سيما الطموح والتركيز والانحياز للأولويات الوطنية؛ حيث تقود العوامل الرئيسة نجاحها. وتُمثّل هذه المكونات الثلاثة الدروس القيِّمة التي يمكن أن تتعلمها جنوب إفريقيا. إن اندماج الاقتصادات الناشئة في سلاسل الإمداد العالمية قد تغيَّر بسبب تنظيمات التجارة المتغيرة، وقوانين الملكية الفكرية، والتقدم التكنولوجي الذي زاد من ضغوط تكلفة العمالة. وفيما تغيرت بيئة العمل فإن الجوانب المؤسسية للسياسة الصناعية تظل ذات صلة.
كما تقدّم التكنولوجيا لجنوب إفريقيا فرصة مهمة إذا تم استهدافها على وجه صحيح. وربما يكون هناك نقص في البحوث والتنمية في جنوب إفريقيا، لكن يمكن للمؤسسات أن تُحقّق استثمارات مستهدَفة. وعلى سبيل المثال فإن الصيرفة المتنقلة mobile banking قد ازدهرت في إفريقيا، وأظهرت الجائحة كم الدول الآسيوية التي طبّقت تغطية رعاية صحية شاملة رقميًّا. وتلك هي النماذج التي يمكن لجنوب إفريقيا أن تحتذيها، وهي تُبحر في الثورة الصناعية الرابعة.
ومن الأهمية بمكان أن تُركّز جنوب إفريقيا على نقاط قوة محددة؛ لأن الإستراتيجيات الموجَّهة للتصدير ستكون على الأرجح أكثر تكلفة لمن يتأخرون عن اللحاق بها. وبدلًا من ذلك فإن البلاد يجب أن تعتمد بقوة على سلعها، وأن تُركّز على التحوُّل الصناعي القائم على السلع، والاستفادة من الفرص التي ستُقدّمها منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية African Continental Free Trade Area (AfCFTA).
في النهاية، لقد ركّزت دول النمور الاقتصادية الآسيوية على نقاط قوة محددة، ولذا فإنه لا يمكن لدولةٍ ما أن تنشر جهودها في كمٍّ بالغ التنوع من القطاعات. بل يجب على جنوب إفريقيا أن تُركّز على واحد أو اثنين من سلاسل الإمداد من أجل تعظيم تأثيرها.
صعود الدعوات المناهضة لإسرائيل في جنوب إفريقيا([2]):
حثَّت أحزاب سياسية وأفراد داعمون لفلسطين حكومة جنوب إفريقيا على تبنّي تشريع جديد مناهض للأبارتهيد، يَستهدف إسرائيل أو أيّ دولة تُتَّهم بارتكاب الأبارتهيد. وقد خرج مئات المتظاهرين في شوارع كيب تاون يوم السبت 5 أكتوبر ضمن مسيرات عامة في أرجاء البلاد دعمًا لفلسطين، التي تُواجه هجمات إسرائيلية منذ عام كامل. ويدعو المحتجون الآن لفرض عقوبات ضد إسرائيل، على أن تتضمن في التشريعات الجنوب إفريقية.
ويمثل تاريخ 7 أكتوبر مرور عام على هجمات حماس على إسرائيل فيما لا تبدو نهاية وشيكة للصراع الجاري الذي قاد إلى عشرات الآلاف من الضحايا وتشريد الملايين (في غزة ولبنان).
ويطالب المحتجون -الذين أظهروا أيضًا التضامن مع لبنان التي تتعرض لهجوم إسرائيلي- البرلمان الجنوب إفريقي باتخاذ موقف أقوى لمحاسبة إسرائيل. وأكد نظير بولسن Nazier Paulsen، عضو البرلمان عن حزب “مقاتلون من أجل الحرية الاقتصادية” Economic Freedom Fighters (EFF)، على الحاجة إلى سنّ تشريع جديد، وقال: “بينما انتهت الأبارتهيد في جنوب إفريقيا، فإننا لم نُدخل أيّ مشروع قانون مناهض للأبارتهيد؛ لضمان أن مثل هذه الأعمال تتم معاقبتها عالميًّا. وإنّ مثل هذا القانون المقترَح سيسمح لنا بمحاكمة الجنوب أفارقة الذين يخدمون في قوات الاحتلال الإسرائيلي”.
وكانت حملة التضامن مع فلسطين Palestine Solidarity Campaign قد دعت لتكوين لجنة لتقديم توصيات بما فيها الإجراءات ذات الصلة بالقيود والعقوبات التجارية ضد إسرائيل.
مغازلة رامافوسا لروسيا تهدّد جنوب إفريقيا بما يفوق التصور([3]):
“ملحوظ تمامًا”، هكذا لاحظ دبلوماسي غربي مقيم بجنوب إفريقيا بشأن الصعوبة التي لاقتها واشنطن في سبيل حضور معرض الفضاء والدفاع الإفريقي Africa Aerospace and Defence (AAD) Expo فيما كانت بارجة روسية من فئة نيوستراشيمي Neustrashimy وسفينة دعم لها راسيتان في القاعدة البحرية لمدينة سيمون Simon.
والآن، تحت غطاء المساعي الحميدة التي تقوم بها حكومة الوحدة الوطنية؛ فإن (حزب) المؤتمر الوطني الإفريقي (الذي يمثل الأغلبية في هذه الحكومة) يقوم بتعميق صلاته مع العالم المستبدّ، ويضاعف صداقته مع روسيا وإيران.
لقد كان رحيل ناليدي باندور من منصب وزيرة العلاقات والتعاون الدوليين وتعيين رونالد لامولا R. Lamola -الذي يُنْظَر له على أنه أقل تشددًا أيديولوجيًّا- بمثابة مؤشر في إعادة ضبط جنوب إفريقيا تحالفها مع المستبدين، وهو التوجُّه الذي كان قد بدأ في التهديد الجاد لصلات البلاد مع شركاء تجاريين كبار في الغرب. لكن بعد فترة من الخطاب الهادئ يبدو أن المتشددين في المؤتمر الوطني الإفريقي قد استقرت بهم الأمور، ويقودون الآن العودة إلى التحالف مع روسيا واتباع مقاربة أكثر موالاة للشرق الأوسط.
ويصعب تجاهل هذه الرمزية، أي الخاصة برسو البارجة الروسية بينانات رقم 772 Pennant No 772 من فئة نيوستراشيمي Neustrashimy، وأنها حدثت فيما واصلت روسيا حربها العنيفة ضد أوكرانيا وسط انتقادات عالمية مستمرة. لا سيما أن بينانات 772 هي أكبر وأحدث بارجة عسكرية روسية مضادة للغواصات في البحرية الروسية، وقد عملت بشكل موسَّع في مهامّ دبلوماسية دفاعية في مناطق متفرقة من قبالة السواحل الصومالية إلى كوبا وفنزويلا.
وقيل: إن البارجة ستظل في المياه الجنوب إفريقية لحضور احتفالات البحرية الجنوب إفريقية SA Navy Festival. ويمثل ذلك –خلال مواجهة روسيا عزلة وعقوبات دولية- بيانًا قويًّا مِن قِبَل جنوب إفريقيا بدعم روسيا، وتهديد بتجدد الانتقادات لبريتوريا عقب رسوّ سفينة الذخيرة الروسية ليدي آر Lady R. في القاعدة البحرية عند نهاية العام 2022م تحت جنح الظلام.
والآن ثمة شائعات عن تكرار زيارة عاجلة، حرفيًّا تمامًا، مِن قِبَل طائرات توبوليف تو Tupolev Tu-160 المعروفة “بالبجع الأبيض” كجزء من تعزيز دبلوماسية البريكس نهاية أكتوبر الجاري. وكانت هذه الطائرات، التي زارت جنوب إفريقيا في أكتوبر 2019م، قد شاركت في إطلاق مجموعة من الصواريخ في أوكرانيا، وتَعتبر كييف أن قائديها “مجرمو حرب”.
ويُتوقع أن يتزايد الغزل الروسي عندما يستضيف الرئيس فلاديمير بوتين، رئيس البريكس حاليًّا، قمة المجموعة في كازان بروسيا في الفترة 22-24 أكتوبر الجاري. ولا شك أن اختيار مدينة كازان لاستضافة القمة يرجع لبُعْدها الكبير عن الخطوط الأمامية في أوكرانيا، ولن تزعجها أصوات الصواريخ أو الدرونز أو المدفعية، مما سيخلق وَهْم أن روسيا في سلام.
إن تطبيع العلاقات مع دولة مستبدَّة (روسيا) يمثل تراجعًا كبيرًا للبريكس التي تحاول أن تُصوِّر نفسها كتحالف براجماتي. وفي المقابل فإن المؤتمر الوطني الإفريقي كان قد خسر أغلبيته الانتخابية في البلاد، لكنه يربط نفسه مع هذه “الغالبية” في الجنوب العالمي، ويتسق مع خطابها المزدوج.
ففي جلسات الدورة العامة للأمم المتحدة قال الرئيس سيريل رامافوسا: “اليوم تزدهر الديمقراطية في جنوب إفريقيا. لدينا دستور تقدُّمي، وثقافة حقوق إنسان راسخة، ومؤسسات قوية. لدينا قوانين لتحقيق تقدُّم في المساواة وبرامج لحماية الجماعات الأكثر تهميشًا في المجتمع”.
يأتي هذا فيما يتجاهل حزب “المؤتمر الوطني الإفريقي” عن عمدٍ إشراك أحزاب معينة في صناعة القرار؛ لكونها لا تشاركه الولع ببوتين. ويبدو أن عائد هذه الصداقة كبير بما يكفي لتجاهل التداعيات العالمية والقيود المترتبة عليها والمؤثرة على حكومة الوحدة الوطنية في جنوب إفريقيا.
……………………………………………………..
[1] Qhuba Gumbi-Dlamini, Why South Africa Should Look East, Independent Online, October 4, 2024 https://www.iol.co.za/news/politics/opinion/why-south-africa-should-look-east-d7ccad27-0274-4c92-81e4-089bf428477a
[2] Calls for Anti-Apartheid Legislation Against Israel Grow Amid Protests in South Africa, IAfrica, October 6, 2024 https://iafrica.com/calls-for-anti-apartheid-legislation-against-israel-grow-amid-protests-in-south-africa/
[3] Ray Hartley and Greg, Ramaphosa’s Russia flirtation imperils more than South Africa’s image, The Daily Maverick, October 7, 2024 https://www.msn.com/en-ca/news/other/ramaphosa-s-russia-flirtation-imperils-more-than-south-africa-s-image/ar-AA1rN8CU?ocid=BingNewsVerp