مع قرب عقد الانتخابات الرئاسية الأمريكية نوفمبر المقبل، وانعقاد اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في سبتمبر الجاري، وعلى خلفية التصاعد المقلق في الشرق الأوسط باتت قضايا القارة الإفريقية الملحة رهينة لديناميات النظام العالمي بوجه سافر، وربما تزداد هامشية في الفترة المقبلة في ضوء تراجع زخم دعم القارة الإفريقية وقضاياها التنموية والأمنية إلى حدود دنيا مع الانسحاب الأمريكي التدريجي من إقليم الساحل الإفريقي، وعدم قدرة روسيا والصين على تقديم دعم كاف للدول الإفريقية وتعويض التجاهل الغربي الملحوظ.
يأتي المقال الأول ليتناول أزمة الديون الإفريقية المتصاعدة في مواجهة أعباء التغير المناخي وتراجع الدعم الدولي للدول الإفريقية لمواجهة تداعيات هذا التغير. ويكشف المقال عن أرقام صادمة في الفجوة بين ما تتلقاه الدول الإفريقية واحتياجاتها الدنيا المقدرة بحسابات أشمل، وأن الدول الغربية لا تزال ترى في تهديدات المناخ على القارة الإفريقية قضية هامشية ومؤجلة قدر الإمكان.
أما المقال الثاني فقد تناول بإيجاز التكهنات بخصوص أجندة الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال زيارته المرتقبة إلى أنجولا منتصف أكتوبر الماضي، وهي زيارة تعزز في واقع الأمر تصور هامشية إفريقيا في النظام العالمي وعدم التفاعل مع قضاياها إلا بعد فوات الأوان أو في اللحظات الأخيرة في أفضل الأحوال.
وتناول المقال الثالث مساعي إفريقيا لنيل مكانتها المستحقة في المجتمع الدولي كما يتضح في مساعي نيل مقعدين دائمين في مجلس الأمن الدول وتشابكات هذا الطرح كما يكشف المقال.
دون الإعفاء من الديون، إفريقيا تواجه التغير المناخي بأيدي مقيدة!([1])
تنفق إفريقيا ثلاثة أضعاف ما تتلقاه من تمويل المناخ على خدمة ديونها الخارجية؛ لذا فإن إلغاء الديون على إفريقيا بات مسألة عاجلة وهامة. وقد اجتمع مطلع سبتمبر الجاري وزراء البيئة من مختلف أرجاء إفريقيا في كوت ديفوار لمناقشة حكومة القارة البيئية والتوصل لمواقف موحدة للمشاركة في محادثات المناخ الدولية. وكان من أولويات أجندة المؤتمر الوزاري الإفريقي للبيئة African Ministerial Conference on the Environment (AMCEN) في العام الجاري بند الحاجة إلى تمويل بيئي معزز في ضوء فجوة التمويل الكبيرة. وتتلقى الدول الإفريقية في الوقت الحالي نحو 30 بليون دولار في شكل تمويل بيئي كل عام، غير أنها تتطلب نحو 277 بليون دولار سنويًا لتطبيق خططها المناخية القومية وتلبية أهداف 2030.
وخلال المؤتمر قدم علي محمد، وهو رئيس مجموعة المفاوضين الأفارقة في شأن تغير المناخ African Group of Negotiators on Climate Change (AGN) موقفًا طموحًا بخصوص هدف تمويل المناخ الجديد المقرر حسم الأمر فيه في محادثات كوب29 COP29 المتعلقة بالمناخ في نوفمبر المقبل. وأكد أن New Quantified Goal on Climate Finance (NCQG)- التي ستحل محل هدف المائة بليون دولار الحالي- ستجمع ما لا يقل عن 1.3 تريليون دولار سنويًا للدول النامية بحلول العام 2030. وقال إن مثل هذا الرقم سيكون أوليًا مع المراجعة الدورية للهدف وضبطه مع توفر أكبر للبيانات والحاجات المطلوبة.
وإلى جانب هذا الرقم أكد الوزراء والمفاوضون الأفارقة على أهمية المراجعة والمحاسبة والشفافية في مسألة كيفية إدارة المخصصات وتوجيهها للأوجه الأكثر احتياجًا لها. كما دعوا لتغيرًا من تمويل مناخي قائم بالأساس على القروض، مما يزيد أعباء الديون على الدول، إلى تمويل funding في شكل منح وتمويلات تفضيلية مرتفعة. وفي هذا السياق ربما يحتاج المفاوضون الأفارقة إلى أن يكونوا أكثر جرأة. إذ تواجه الكثير من الدول في القارة أزمات ديون أكثر عمقًا تحجم بشكل بالغ قدراتها على رعاية مواطنيها في الوقت الحالي والاستثمار فيهم مستقبلًا. وفي العام 2023 وصلت مدفوعات الديون الخارجية للدول الإفريقية إلى 85 بليون دولار، أو ما يقرب من ثلاثة أضعاف ما تتلقاه الدول الإفريقية تمويلًا مناخيًا. وفي العام 2024 ستمثل مدفوعات خدمة الديون للدول الإفريقية ما لا يقل عن 18.5% من مدخولات الموازنة بها.
وفي بعض الدول فإن الوضع أكثر سوءًا. فقد شغلت زامبيا العناوين في نوفمبر 2020 عندما أصبحت أول دولة إفريقية خلال جائحة كوفيد-19 تعجز عن سداد ديونها، لاسيما ان خدمة ديونها كانت تستهلك أكثر من 33% من العائدات الحكومية. وفي غانا كشف وزير المالية في نهاية العام 2022 أن نصف إجمالي عائدات البلاد وأكثر من 70% من عائداتها الضريبية ستوجه مباشرة لمدفوعات الديون. وفي كينيا استهلكت خدمة الدين عند يونيو 2024 قرابة 70% من العائدات المحلية. ويعوق هذا الوضع بشكل عميق قدرة الدول الإفريقية على الاستثمار لتعظيم مكاسب مواطنيها لاسيما عندما يتعلق الأمر بالتحرك المناخي.
كما يلاحظ أنه هناك حركة صاعدة بين الحكومات ومجموعات المجتمع المدني الإفريقية تقوم بالدفع نحو إلغاء الديون والتوصل لحلول مبتكرة. وهناك هيئات مثل Jubilee Debt Campaign وحركات مثل “الديون مقابل المناخ” Debt for Climate بالدفاع عن مطالب إلغاء الديون المتعلقة بالصمود المناخي للدول الإفريقية. ودعا الاتحاد الإفريقي وبنك التنمية الإفريقي إلى إعفاء كبير من الديون من أجل دعم التنمية المستدامة في إفريقيا. بأي حال فإنه دون تعاون دولي أقوى وإرادة سياسية صلبة من الدول الغنية فإن مثل هذه الجهود ستكون بلا طائل. وفي سبيل التحرك للأمام فإنه على الحكومات الإفريقية وحلفائها الدفع بقوة نحو حلول أكثر راديكالية لمسألة الديون مثل الإلغاء غير المشروط للديون، وإرساء آليات وصناديق تعويض عن المناخ العالمي، والنقل المباشر للتكنولوجيات الخضراء- وسيتيح ذلك على وجه اليقين للدول الإفريقية الاستثمار في المشروعات المناخية وتأمين مستقبل مستدام.
بايدن سيزور إفريقيا في أكتوبر المقبل: ما الجديد؟([2])
تقرر أن يقوم الرئيس الأمريكي جو بايدن بزيارة طال انتظارها للقارة الإفريقية عند سفره لألمانيا وانجولا منتصف أكتوبر المقبل حسبما أعلن البيت الأبيض يوم الثلاثاء 24 سبتمبر. وكان بايدن قد وعد خلال استضافة واشنطن لقمة للقادة الأفارقة نهاية العام 2022 بزيارة إفريقيا في العام 2023. وستكون الزيارة ذروة جهود الإدارة الأمريكية لمد الصلات مع القارة، من أجل -ضمن عوامل أخرى- مواجهة النفوذ المتنامي في إفريقيا من قبل الصين، منافس الولايات المتحدة.
وقام عدد من الوزراء في إدارة بايدن ونائبة الرئيس كامالا هاريس وكذلك جيل بايدن بزيارة لعدد من الدول الإفريقية في العام 2023 لكن العام مضى دون زيارة بايدن. والآن مع قرب خروج بايدن من منصبه خلال شهور بعد وقفه حملة إعادة انتخابه فإنه يخطط لزيارة برلين ولواندا في الفترة 10-15 أكتوبر كما أعلنت كارين جين- بيير المسئولة الصحفية بالبيت الأبيض فيما كان بايدن في نيويورك حيث ألقي خطابه الأخير أمام الجمعية العام في وقت مبكر من الثلاثاء 24 سبتمبر. وسيكون بايدن أول رئيس أمريكي يزور إفريقيا جنوب الصحراء منذ نحو عقد (2015). وخلال لقائه المرتقب في برلين مع القادة الألمان سيعمق بايدن التحالفات معهم ويعبر عن تقديره لألمانيا لدعمها دفاع أوكرانيا ضد العدوان الروسي واستضافة أفراد الجيش الأمريكي وإسهامهم في تحالف الناتو حسب تصريحات جان- بيير.
وعندما سئل بايدن في مايو الفائت عن توقيت جولته الإفريقية قال بايدن أنه كان يأمل في القيام بالزيارة بعد الانتخابات الرئاسية في نوفمبر: “أخطط للذهاب (لإفريقيا) في فبراير (2025) بعد إعادة انتخابي، حسبما أكد بايدن خلال استقباله للرئيس الكيني وليام روتو في البيت الأبيض خلال زيارته للولايات المتحدة
إفريقيا تحارب من أجل النفوذ في الحوكمة الدولية([3]) :
خلال ملاحظاته الختامية يوم الأحد (22 سبتمبر الجاري) أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة لم يكن الرئيس الجنوب إفريقي سيريل رامافوزا مخطئًا إزاء ما اعتبره فشل متكرر في أبنية الحوكمة الشاملة في العالم. ومما ذكره أمام وفود الجمعية العامة للأمم المتحدة أن “وضع مصير أمن العالم في يد قلة مختارة فيما تتحمل الغالبية العظمى الاحتراق بنيران تلك التهديدات لأمر جائر وغير عادل ولا يمكن استمراره”، وجاء ذلك في وقت تتبنى فيه الدول الأعضاء في الجمعية ما أطلقت عليه “ميثاق المستقبل” Pact of Future. وقد تفاوضت دول المنظمة على تبني هذا الميثاق طوال تسعة أشهر ويهدف إلى تحقيق النزعة التعددية في العلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين، وقال رامافوزا أنه يجب أن يكون (ميثاقًا) شاملًا وأن “يمثل جميع وجهات نظر ومخاوف ومصالح الجنوب العالمي”؛ لكن كما هو حال جميع الاتفاقات متعددة الأطراف في الأمم المتحدة فإن مستوى التأثير يتعلق برغبة وقدرة الدول الأعضاء على تطبيقها.
ولقد كانت مسالة إصلاح مجلس الأمن بالأمم المتحدة، الذي تأسس في العام 1946، أولوية فائقة للاتحاد الإفريقي الذي تبنى أعضاؤه ما عرف بإجماع إزولويني Ezulwini Consensus كموقف مشترك إزاء المسألة منذ العام 2005. وعبر هذا الاتفاق صممت الدول الإفريقية على وجوب أن يكون للقارة مقعدين دائمين في مجلس الأمن، في ضوء أن أغلبية بنود أجندته ترتبط بالأزمات في إفريقيا التي يقطنها 1.4 بليون نسمة. إضافة إلى ذلك فقد أكد الموقعون على وجوب منح الدول الإفريقية المقعدين على أن يكون لهما نفس امتيازات الاعضاء الخمسة الدائمين في المجلس وهم فرنسا وروسيا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة والصين. ويشمل ذلك حق النقض على جميع قرارات مجلس الأمن. بأي حال فإن الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن لم يقوموا، منذ عشرون عامًا بعد تبني الاتحاد الإفريقي “إجماع إزولويني”، بجهد يذكر أكثر من التضامن الشفهي الظاهري مع دعوات الإصلاح.
وقد ناقش خبراء العلاقات الدولية في أرجاء القارة الإفريقية لوقت طويل مسألة كيف يمكن للاتحاد الإفريقي تحقيق تمثيل عادل داخل أبنية الحوكمة الدولية. وبالفعل فإن بعض المراقبين من الغرب قد يروا في إعلان الولايات المتحدة في وقت سابق من سبتمبر الجاري أنها ستنظر في إضافة عضوين دائمين لمقاعد مجلس الأمن لصالح دول إفريقية، وإن كانت دون صلاحيات حق النقض، على أنه تقدم في هذا الصدد.
أما في إفريقيا فقد استقبلت الخطوة بقليل من الحماس. وعلى سبيل المثال كتب البروفيسور تيم موريثي Tim Murithi، وهو باحث مشارك في معهد الديمقراطية والمواطنة والسياسة العامة في جنوب إفريقيا، أن الاقتراح الأمريكي لن يؤدي إلا إلى تكريس الوضع القائم، وأنه “في عقب الرفض واسع النطاق لها فإنه يمكن لمؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية أن تنفض يديها في دناءة وأن تعاقب الجنوب العالمي لرفضه اقتراحًا عقلاني على نحو تام”. ومن وجهة نظر الجنوب العالمي فإنه بات ينظر لجنوب إفريقيا من قبل كثيرون في موقع ملائم للدفاع عن قضية رغبة العالم النامي في تمثيل أكبر في النظام التعددي بفضل تاريخها.
وقد شرح دكتور بول-سيمون هاندي Paul- Simon Handy ممثل الاتحاد الإفريقي في معهد الدراسات الأمنية (في بريتوريا) أسباب ذلك ومن بينها أن جنوب إفريقيا دولة ديمقراطية في حين أن كثير من دول الجنوب العالمي ليست كذلك، ومن ثم فإنها في وضع تفاوضي أقوى للدفع بقضية التغيير للأمام، كما أن “جنوب إفريقيا كانت واحدة من الدول الرئيسة المثرة في موقف الاتحاد الإفريقي بخصوص مسألة الحوكمة الدولية، ولاسيما مجلس الأمن، لذا فإنه هناك إجماع في الاتحاد الأفريقي على أن تكون جنوب إفريقيا المطالبة بالتغيير”.
ووفقًا لأليكس بينكنشتين Alex Benkenstein، وهو مدير برنامج في المعهد الجنوب إفريقي للشئون الدولية South African Institute of International Affairs (SAIIA)، فإن ظهور وتوسع تجمع البريكس في العام الماضي قاد إلى بروز مخاوف في الغرب تمثل انقسامًا جذريًا في النظام الدولي العالمي. فقد انضمت في العام الماضي كل من إيران ومصر وإثيوبيا والإمارات والسعودية إلى البريكس إلى جانب دول المجموعة الأساسية وهي البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا. بأي حال فإن خبراء يرون أنه ثمة مشكلات عديدة في فرضية أن البريكس تفرض تهديدًا (على الغرب). ورأى هؤلاء أن “تماسك دول البريكس مبالغ في تقديره إذ انه ثمة اختلافات جذرية في مقارباتها للحكم وإدارة اقتصاداتها، وبهذا المعنى فإنها لا تمثل نموذجا بديلًا متماسكًا للحوكمة الاقتصادية او السياسية للغرب.
إضافة إلى ذلك يرى بينكنشتين أن الدول الأعضاء في البريكس تملك علاقات قوية مع قوى الشمال العالمي، وبهذا المعنى فإن اختيار الانضمام للمجموعة ليس قرارًا بالانقطاع عن الغرب بأية طريقة جذرية ما. وأكد أن مجموعة البريكس “واضحة تمامًا في التأكيد أن هدفها الرئيس فيما يتعلق بمؤسسات الحوكمة العالمية هو الإصلاح، وليس أن تحل محلها. وبكل تأكيد فإن البريكس باتت تحقق قوة ونفوذ لكن تأطير المجموعة كأنها مقابل معارض للغرب يسيء تقديم حقائقها وطموحاتها ككتلة اقتصادية. ويتفق هاندي مع وجهة النظر تلك، ويوقن أن الأمم المتحدة ستظل، رغم قيودها، هيئة الحكم المركزية في العالم، وأنه لا توجد دولة تختلف على الحاجة للعمل الأساسي الذي تقوم به هيئات الأمم المتحدة.
………………………
[1] Karabo Mokgonyana, Without debt relief, Africa is fighting climate change with its hands tied, African arguments, September 24, 2024 https://africanarguments.org/2024/09/without-debt-relief-africa-is-fighting-climate-change-with-its-hands-tied/
[2] President Biden to visit Africa in Oct; will stop in Germany, then Angola, Business Standard, September 25, 2024 https://www.business-standard.com/world-news/president-biden-to-visit-africa-in-oct-will-stop-in-germany-then-angola-124092500033_1.html
[3] Bill Corcoran, Africa fights for influence on international governance, the Irish Times, September 25, 2024 https://www.irishtimes.com/world/africa/2024/09/25/africa-fights-for-influence-on-international-governance/