تُمثّل ذِكرى أحداث 11 سبتمبر 2001م مناسبة مهمة لإعادة النظر في الكثير من القضايا والمشكلات التي اجتاحت العالم عقب هذا الحدث المفصلي، والذي استغلته الولايات المتحدة في بذل جهود مضاعفة لإحكام قبضتها على الأوضاع في أقاليم ودول مختلفة ومتنوعة في العالم. وتُحيل ذكرى تلك الأحداث، التي تقترب من ربع قرن، إلى مسألة الإرهاب في إفريقيا، وما آلت إليه في الوقت الراهن.
يتناول المقال الأول ما يَعتبره كاتبه انتهازًا روسيًّا للحالة السائلة في الأمن ومواجهة الإرهاب في إفريقيا لتعزيز حضورها من باب مساعدة عددٍ من الدول الإفريقية في هذه الجهود.
أما المقال الثاني فيقدّم قراءة تحليلية ودقيقة لأسباب فشل السياسات الأمريكية في مواجهة الإرهاب في النيجر.
ويتناول المقال الثالث دور الصين في جهود مواجهة الإرهاب في إفريقيا، والأبعاد الاقتصادية والسياسية لهذا الدور.
فرص روسيا في محاربة الإرهاب في إفريقيا([1]):
زادت روسيا في العام الجاري (2024م) من جهودها للتأثير في العمليات الراهنة في إفريقيا، والتي ينتج عنها مشكلات سياسية واقتصادية لدول الناتو؛ فقد كانت القوات الروسية مؤثرة للغاية في إفريقيا منذ العام 2018م. وحتى في ظل العمليات العسكرية التي تقوم بها روسيا حاليًّا في أوكرانيا، فإن تحركاتها في إفريقيا ظلت مستمرة وناجحة. ويساعد ذلك الروس ويدعم عملياتهم في أوكرانيا؛ لأن دول الناتو تعتمد على المواد الخام القادمة من إفريقيا، بينما تؤدي العمليات العسكرية الروسية في إفريقيا إلى اضطراب شحنات المواد الخام المتَّجهة إلى غرب أوروبا. ومن المُسلَّم به أن لروسيا نحو ألف مرتزق حاليًّا يعملون في إفريقيا.
وعلى سبيل المثال، ففي مطلع أغسطس 2024م، عانَى الجنود الروس والماليون في شمالي مالي من خسائر كبيرة خلال عمليات قتالية ضد “قوات شعب أزواد” التي تكونت في العام 2021م بالأساس من عناصر من الطوارق، رغم أن جنود الجيش المالي كانوا مدعومين مِن قِبَل مجموعة فاغنر الروسية.
وفي العام 2023-2024م ازداد الوضع الاقتصادي والسياسي في مالي سوءًا مع تزايد عنف الجماعات المسلحة في شمالي مالي ووسطها. ولم يستطع الجيش المالي المدعوم بالمرتزقة الروس القيام بمهامه المخوَّلة له بمنع مرور العناصر المسلحة من مالي إلى النيجر.
ومع حلول العام 2024م ظلت الفوضى قائمة، رغم تقديم روسيا دعمًا تدريبيًّا للقوات المسلحة في مالي، ومن قبلها كانت مالي مدعومة من الاتحاد الأوروبي.
كما انخرطت روسيا في العديد من مشروعات التنمية الاقتصادية، مثل مشروع لإنتاج الطاقة الشمسية. كما حلت القوات الروسية في مهامّ أمنية خلفًا لقوات الأمم المتحدة التي خرجت من مالي مع نهاية العام 2023م. وتساعد روسيا الجيش المالي الذي لا يزال متماسكًا بفضل الضرائب التي يفرضها على مناجم الذهب التي تقوم بتطويرها وتشغيلها العديد من الشركات الأجنبية، والتي تقوم بدورها بتشغيل عدد من قوات الأمن الخاصة لحراسة المناجم والقوافل التي تقوم بنقل الذهب إلى خارج البلاد.
كما ينشط المرتزقة الروس في جمهورية إفريقيا الوسطى وفي شرقي الكونغو؛ حيث تتركز كميات كبيرة من المواد الخام، ويتم تعدينها لصالح مستهلكين أجانب. وتُعدّ أقاليم الكونغو مثل شمال كيفو، وجنوب كيفو، مركزًا للتعدين والصراعات العسكرية في وقتٍ واحدٍ. وينخرط الروس حاليًّا، بشكل غير رسمي لكن بالغ الفعالية، في هذه الأقاليم. كما تنشط روسيا ومرتزقتها في ليبيا على نحوٍ يُمكّنها من نقل المواد الخام من هذه الدولة المتوسطية.
الجيش الأمريكي يغادر النيجر رغم التراجع الأمني([2]):
تقوم الولايات المتحدة بتهدئة عملياتها العسكرية في النيجر مع قرب حلول منتصف سبتمبر الجاري؛ حيث اتفقت واشنطن مع القادة العسكريين في النيجر على إكمال سحب قواتها من البلد الإفريقي في هذا التوقيت.
وقد أعلنت النيجر مؤخرًا إنهاء التعاون العسكري مع الولايات المتحدة بعد 11 عامًا. وجاءت تلك الخطوة بعد إسقاط الجيش في النيجر نظام الرئيس المنتخب ديمقراطيًّا. وكانت النيجر شريكًا عسكريًّا إستراتيجيًّا للعديد من الدول بما فيها الولايات المتحدة، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وروسيا.
وإضافة إلى مساعدة الحكومات الإفريقية في محاربة الإرهاب؛ فإن الدول الغربية كانت تُعزّز وتُؤمّن مصالحها الاقتصادية والتجارية. وقبل انقلاب 26 يوليو 2023م الذي استولى فيه المجلس العسكري في النيجر على الحكم؛ كانت الولايات المتحدة تمتلك قاعدتين عسكريتين للمسيرات (الدرونز)، وأكثر من ألف جندي أمريكي.
وكعالِمٍ في السياسة والأمن في غرب إفريقيا والساحل كنتُ قد قمتُ بتحليل أثر الوجود العسكري الأجنبي، ولا سيما قاعدة المسيرات الأمريكية في أغاديس. ورأيت في العام 2018م أن وجود قاعدة المسيرات لن تقضي على الإرهاب في الإقليم. وبالفعل، بعد ستة أعوام، فإن الإرهاب آخِذ في التصاعد في الإقليم. وباستخدام بيانات من Armed Conflict Location and Event Data (وهي منظمة مستقلة وغير هادفة للربح تقوم بجمع بيانات حول الصراع العنيف والاحتجاجات في جميع دول وأقاليم العالم) قمتُ بتحليل أثر الوجود العسكري الأجنبي وقاعدة المسيرات الأمريكية على مواجهة الإرهاب في النيجر. ويقوم التحليل على عدد الهجمات التي نفَّذتها مجموعات إرهابية في البلاد، والخسائر المترتبة عليها.
وتُظهر الإحصاءات أنه رغم عمل الولايات المتحدة في العام 2013م، فإن الأنشطة الإرهابية والخسائر قد زادت بانتظام منذ العام 2014م. وفي الواقع فإن عدد الهجمات زاد بشكل كبير منذ العام 2018م عندما افتتحت الولايات المتحدة القاعدة الجوير 201 في أغاديس.
وتوقُّعي هو أن قاعدة المسيرات ربما تكون قد ساهمت في تردّي الوضع الأمني ووضع البلاد ككل. وقد ذكر المجلس العسكري تصاعد حالة عدم الأمن وتدهور التوقعات الاقتصادية كأسباب للاستيلاء على السلطة. وتُظهر الإحصاءات صحة تزايد عدم الأمن بالرغم من وجود العناصر العسكرية الأجنبية في البلاد. واحتج كثير من النيجريين على وجود القوات المسلحة الأمريكية والفرنسية في البلاد، مما أثار مخاوف مماثلة.
وفي رأيي فإن هناك ثلاثة عوامل رئيسة تفسِّر أسباب فشل أمريكا في النيجر:
أولًا: أنه كان هناك تأكيد مُبالَغ فيه على العمليات العسكرية دون معالجة الأسباب الاقتصادية للإرهاب. وتُظهر البحوث أنه ثمة صلة بين الفقر والإرهاب. كما أن التوقعات الاقتصادية البائسة، والبطالة ونسبة الشباب الكبيرة إلى إجمالي سكان البلاد قد أسهمت جميعًا في توسُّع الجماعات الإرهابية في النيجر. ويبرز تقرير حديث صادر عن مفوضية حوض بحيرة تشاد Lake Chad Basin Commission أهمية الإجراءات غير القسرية في مواجهة الإرهاب. وأنه لا يمكن معالجة الإرهاب في الإقليم بطريقة عسكرية. إن المسائل الناجمة عن الإرهاب بحاجة إلى أن تتم معالجتها من أجل خفض حوافز انضمام الأفراد للجماعات المسلحة.
ثانيًا: إن الولايات المتحدة وحلفاءها لا يعملون حقيقة الديناميات المحلية للدولة أو أدوار الحكام التقليديين في مساعدة الجماعات المسلحة أو مواجهتها. ولقد وجدت في بحوثي السابقة أن التبعية السياسية لعبت دورًا في تكوين الجماعات المتمردة المسلحة ونموّها. ويسري الحال نفسه على النيجر وبعض الدول الإفريقية. وتُشكّل الديناميات السياسية المحلية، والإثنية والدين نطاق وأبعاد الإرهاب. إن مقاربة عسكرية دون حوار ذي صلة مع الجماعات المحلية المعنية، ولا سيما الحكام التقليديين، لن يُنتج أيّ مخرجات إيجابية مهمة.
ثالثًا: إن التأكيد على حقوق الإنسان في الحرب ضد الإرهاب قد دفَع النيجر والقيادات العسكرية الحاكمة الأخرى إلى التقرب لروسيا والصين. فقد تجاهلت الولايات المتحدة وحلفاؤها بانتظام مبيعات أسلحة معينة للدول الإفريقية استنادًا لسجلاتها في مجال حقوق الإنسان. وفي العام 2021م منع الكونجرس الأمريكي بيع أسلحة مهمة كانت مطلوبة لمواجهة الإرهاب في نيجيريا.
على أيّ حال، فإن روسيا والصين لا تضعان مثل هذه القيود على مبيعات الأسلحة. فيما كانت النيجر تقوم ببناء صلات عسكرية أقوى مع روسيا في الفترة الأخيرة.
وأخيرًا، فإن بعض النيجريين والُمحلّلين والخبراء يوقنون أن الهدف الأساسي للولايات المتحدة وحلفائها في البلاد ليس محاربة الجماعات المسلحة، بل حماية مصالحهم. وكانت تلك رسالة متسقة مع رؤية العامة النيجريين بعد الانقلاب والتي استغلها المجلس العسكري لحشد مزيد من التأييد له. ويمكن وصف عدم الأمن والإرهاب في النيجر على أنه مشكلة عويصة، بالغة التعقيد والصعوبة ولا يمكن حلها، ويجب على الولايات المتحدة أن تُعيد التفكير في تحالفاتها الأمنية والتأكد من عدم تحمل العامة تبعات سياسات مواجهة الإرهاب قدر الإمكان.
الصين تقدّم مزيدًا من المساعدات والتدريبات العسكرية لإفريقيا تعزيزًا للصلات الأمنية([3]):
عرضت الصين تقديم مزيد من المساعدات والتدريبات العسكرية للدول الإفريقية، مع سعيها لتقوية اتصالاتها الأمنية في مواجهة تحديات مضاعفة في أرجاء القارة. وقدَّم الرئيس شي جينبينغ هذا العرض -الذي يتضمن تقديم 1 بليون يوان (140.5 مليون دولار أمريكي) في شكل مساعدات عسكرية وتدريب ستة آلاف عسكري إفريقي و1000 ضابط شرطة- في كلمته خلال افتتاح قمة منتدى تعاون الصين- إفريقيا “فوكاك” يوم الخميس الماضي (5 سبتمبر 2024م). وستدعو بكين 500 ضابط عسكري شابّ للقدوم إلى الصين للمشاركة في تدريبات وعمليات مع نظرائهم الأفارقة، وكذلك المساعدة في تطهير الألغام، وهو من المخاوف الرئيسة لبعض الدول الإفريقية.
ولم تعلن الصين بعدُ عن تفاصيل الحزمة، والدول التي ستستفيد منها، لكنّ الالتزام تضمن مزيدًا من التفاصيل مقارنةً بالتعهد خلال القمة السابقة في العام 2021م، والتي تضمَّنت عرضًا بالمشاركة في مشروعات أمنية ومناورات تدريب مشتركة لمواجهة الإرهاب وحفظ السلام.
على أيّ حال، فإن الرئيس شي، خلافًا لما تمَّ في العام 2021م، لم يذكر جهود السيطرة على انتشار الأسلحة الصغيرة. وقد زادت الصين من انخراطها العسكري مع الدول الإفريقية في السنوات الأخيرة، فيما تعمَّقت منافستها على النفوذ (في إفريقيا) مع الولايات المتحدة. وفي العام السابق كانت الدبلوماسية العسكرية الصينية قد وضعت إفريقيا في مرتبة تالية لأهمية جنوب شرق آسيا، كما اتضح في العديد من الاجتماعات رفيعة المستوى حسب مركز التفكير Asia Society Policy Institute.
وفي الشهور الأخيرة بادر جيش التحرير الشعبي (الصيني) بالمشاركة في سلسلة من المناورات مع دول إفريقيا بما فيها مناورة لمكافحة الإرهاب مع تنزانيا وموزمبيق في أغسطس 2024م. كما شاركت الصين في تدريبات بحرية مع روسيا وجنوب إفريقيا في وقتٍ مبكرٍ من العام الجاري، وهو الأمر الذي جذب اهتمامًا خاصًّا في ضوء دور جنوب إفريقيا كشريك إستراتيجي للولايات المتحدة.
ولطالما كانت الصين وجهة رئيسة لتدريب الجيوش الإفريقية، بما في ذلك مئات من كبار القادة الذين تلقوا تدريبات في مؤسسات جيش التحرير الشعبي. وكانت الصين أكبر مُورّد بالسلاح لإفريقيا جنوب الصحراء في الفترة 2019- 2023م، وقدَّمت 19% من إجمالي واردات إفريقيا من السلاح، وتجاوزت روسيا بالكاد التي كانت بدورها لفترة طويلة المورد الأول للسلاح في إفريقيا، وكانت مسؤولة عن 17% من واردات إفريقيا من السلاح في الفترة المذكورة، وفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام Stockholm International Peace Research Institute. وكذلك الحال بالنسبة للأسلحة الصغيرة إذ تعد الصين موردًا رئيسًا لمعدات مثل المسيرات والدبابات والعربات المسلحة.
وقالت ليزلوت أودجارد Liselotte Odgaard، وهي زميل رئيس في معهد هدسون Hudson Institute (وهو مركز تفكير مقره في واشنطن) أن تركيز الصين طويل الأجل على إفريقيا عنى أنها لا ترى في إفريقيا فحسب “مصدرًا للموارد الاستراتيجية”، لكنه كان في سياق محاولة الصين “بناء علاقات سياسية والاستماع لوجهات نظر ومصالح النُّخب الإفريقية التي لم تكن ذات أولوية عليا لأغلب الدول الغربية، مؤكدة أن “النفوذ الصيني كان له بُعْد أمني، الأمر الذي تعكسه المساعدات العسكرية الصينية”. ولاحظت أودجارد أن الغرب يحاول الآن فحسب “مواجهة النفوذ الصيني مواجهة جادة بالاستماع لأصوات إفريقيا. والمسألة القائمة الآن: هل مثل هذه الجهود قد فات أوانها ولو قليلًا؟
وقدَّمت الصين شكلًا من أشكال المساعدات العسكرية لجميع دول القارة الإفريقية تقريبًا، مع سعي بكين لتقوية صلاتها وحماية مصالحها الاقتصادية. وفي نهاية أغسطس الماضي مجموعة ثانية من المعدات -أغلبها مدافع هاويتزر howitzers ومستلزماتها-، مثل التي قُدِّمت لدولة بنين التي شهدت بدورها تزايدًا في عدد الهجمات المسلحة كجزء من أنشطة الجماعات المسلحة في غرب إفريقيا. كما تستضيف جيبوتي في القرن الإفريقي أول قاعدة بحرية صينية خارج الأراضي الصينية، وتشارك القطع البحرية العسكرية لجيش التحرير الشعبي في دوريات مكافحة القرصنة في خليج عدن وقبالة سواحل الصومال.
وقال مالكوم ديفز M. Davis، -وهو كبير محللي معهد السياسات الإستراتيجية الأسترالية Australian Strategic Policy Institute-: “إن الدعم العسكري الصيني لإفريقيا يمكن أن يكون جزءًا من استخدام بكين لمبادرة الحزام والطريق من أجل “تحقيق سيطرة ووجود أكبر في الأقاليم المهمة جيواستراتيجيًّا”.
وأردف قائلًا: إن “استخدام الصين لمبادرة الحزام والطريق يستهدف تمكين وتيسير الوصول الصيني إلى الموارد الاستراتيجية المهمة، وكذلك المرافق البحرية المهمة في الموانئ المختلفة حول العالم (وفي إفريقيا)؛ من أجل دعم تدفُّق تلك الموارد ومِن ثَم استدامة النمو الاقتصادي الصيني”.
…………………………….
[1] Counter-Terrorism: Russian African Opportunities, Strategy Page, September 5, 2024 https://www.strategypage.com/htmw/htterr/articles/202409050104.aspx#gsc.tab=0
[2] Olayinka Ajala, US military is leaving Niger even less secure: why it didn’t succeed in combating terrorism, Defence Web, September 5, 2024 https://www.defenceweb.co.za/african-news/us-military-is-leaving-niger-even-less-secure-why-it-didnt-succeed-in-combating-terrorism/
[3] Zhao Ziwen and Seong Hyeon Choi, China offers more military aid and training to Africa as it seeks to boost security ties, South China Morning Post, September 9, 2024 https://www.scmp.com/news/china/diplomacy/article/3277360/china-offers-more-military-aid-and-training-africa-it-seeks-boost-security-ties