بقلم: روناك جوبالداس
ترجمة: سيدي.م. ويدراوغو
- اهتمام الشاب الإفريقي بالنشاط السياسي، وعدم رغبته في البقاء على الهامش.
- صعوبة تحديد أسباب طبيعة الاحتجاجات متعددة الأبعاد.
- تفاقم الاستياء الشعبي غير المسبوق تجاه الحكومات في إفريقيا.
- السمة البارزة لهذه الاحتجاجات تكمن في كونها فردية وغير مركزية القيادة.
- التقشف رمز للفشل السياسي والاقتصادي للحكومات وليس عاملًا للإصلاح.
- ضرورة إحداث تغييرات هيكلية عميقة.
في ظل التغيرات السياسية والاجتماعية في العصر الحديث، لم يَعُد الشباب الأفارقة يرضون بالبقاء على هامش الأحداث؛ مما أدى إلى إحداث زوبعة من الاحتجاجات طالت العديد من الدول الإفريقية هذا العام.
وحتى الآن لم يتم طرح نظرية معينة لتحديد طبيعة الاحتجاجات متعددة الأبعاد. وثمة تباين يُميِّز الاضطرابات الحالية عن نظيراتها السابقة في 2010م و2018م و2020م.
وللتذكير، كانت نيجيريا آخر دولة تشهد، هذا العام، مظاهرات حاشدة بعد كينيا والسنغال وأوغندا وتوغو وجزر القمر. وعليه يمكن القول: إن إفريقيا لم تشهد احتجاجات تُعبِّر عن الاستياء الشعبي من الحكومات بهذا الحجم والنطاق الجغرافي منذ حركات الاستقلال في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.
فما الفرق إذن؟ ولماذا الآن؟ وما هي الدولة التالية في القائمة؟
يتمثل التباين الذي ميَّز الاحتجاجات الحالية عن سابقاتها في كون السمة البارزة الأولى فيها تكمن في كونها تنظيمًا عفويًّا، وقيادتها ليست مركزية، على عكس ما كان يحدث في السابق؛ حيث كانت المعارضة السياسية أو النقابات العمالية أو منظمات المجتمع المدني هي التي تغذي هذه الحركات بشكل عام. أما الآن فالشباب الساخطون الذين يتسلحون بمنصات وسائل التواصل الاجتماعي والمظالم المشتركة، هم مَن يتصدرون المشهد، ويقومون بالتعبئة أولًا، ثم التنظيم لاحقًا. فعلى سبيل المثال، تم تعبئة المظاهرات في كينيا ضد مشروع قانون المالية: “لا، لقانون التمويل”، قبل أن تتوحد بالكامل في حركة اجتماعية ضد سياسات الحكومة.
والسمة الثانية تتمثل في كون المطالب لم تَعُد تستهدف فقط مشكلات محددة، بل تستهدف الإصلاح المنهجي. تاريخيًّا، كانت التعبئة تميل إلى التركيز على مظالم محددة مثل إلغاء الضرائب، وتوفير الخدمات العامة، ومكافحة الفساد والقمع السياسي. أما اليوم، فالمتظاهرون غاضبون من النظام. وعلى الرغم من أن الإصلاحات التقشفية التي أطلقها الرئيسان بولا تينوبو في نيجيريا وويليام روتو في كينيا، قد أثارت غضب المحتجين، إلا أن هذه الإجراءات لم تفرز غير شرارات نار على برميل بارود.
إن التقشف، الذي يبلور الآن الشعور باليأس بين الشباب، هو أحد أعراض نظام سياسي واقتصادي فاشل، يحتاج إلى إعادة ضبط أكثر منه إلى الإصلاح.
انهيار العقد الاجتماعي:
ومما يشير إلى لامركزية الاحتجاجات، هو تصدُّر مجموعة “الجيلZ ” في طليعة الاحتجاجات، علمًا بأن موقف الشباب الإفريقي المناهض للحكومات يرجع إلى تلاشي تطلعاتهم وانعدام ثقتهم في النظام السياسي؛ فضلاً عن أن نشأتها في العصر الرقمي يُتيح لها الفرصة للإلمام بالقضايا العالمية والانخراط في نشاط مُعْدٍ، والركوب على موجة من التضامن العابر للحدود، والسعي إلى التغيير الفوري والفعَّال. كل هذه العناصر تُضْفِي على احتجاجاتهم قدرًا أكبر من الوضوح والتأثير، وتُعزِّز قدرتهم على التعبئة.
لكنَّ “جيل Z” يرى أن العقد الاجتماعي -وإن كان موجودًا أصلاً-؛ فقد انهار نتيجة مساهمة عوامل قصيرة وطويلة الأجل؛ فالرئيسان الجديدان في كينيا ونيجيريا قطعَا وعودًا خلال حملتهما الانتخابية، ولكنهما قاما بعكس ذلك بمجرد وصولهما إلى السلطة. وعلى سبيل المثال، يطالب كل من روتو و تينوبو من المواطن العادي تحمُّل المزيد من التقشف والصمود، بينما تتباهى النُّخَب السياسية بثرواتها.
وهذه الفجوة بين النخب والمواطنين العاديين تؤجّج وتيرة الاستياء في وقتٍ يُتيح فيه الوصول إلى شبكات التواصل الاجتماعي، وإتقان أدوات تكنولوجيا المعلومات للمواطنين سهولة الوصول إلى معرفة وقائع مَن يحكمهم. وقد أدَّى تباهي النخب السياسية بالثروة، في ظل ركود الأجور وارتفاع معدلات البطالة وارتفاع التضخم وعدم كفاءة الحكومة، إلى تقويض الثقة بين الدولة ومواطنيها. ولم يتوقف استياء المواطن على الحكومة فحسب، بل امتد الامتعاض حتى إلى المعارضة السياسية؛ حيث يعتقد العديد من المواطنين العاديين أن المعارضة متواطئة في الحفاظ على الوضع الراهن أو أنها مجرد متطفلة على الفتات.
ومن نافلة القول: إن الأزمات المتعاقبة أدَّت إلى انهيار التفاؤل والحلم بغَدٍ أفضل؛ فغداة الأزمة المالية العالمية، ترسَّخ الخطاب الإيجابي عن “إفريقيا الصاعدة”، الذي غذَّته سندات اليورو الرخيصة، وعودة المغتربين، وارتفاع النمو والاستثمار، وكأس العالم لكرة القدم لأول مرة في إفريقيا في عام 2010م. واعتقد الجيلان Y و Xفي إفريقيا أن حياتهم ستتحسن بشكل كبير؛ لكنَّ جاءت الرياح (لجيلZ ) بما لا يشتهيه، ليس فقط لأن الحلم لم يتحقق، بل لأنه قد حدث العكس.
وزاد الطين بلة خلفية تضاؤل الأمل الناجم عن التداعيات التراكمية لسنوات من الركود الاقتصادي (من وباء الإيبولا، وانهيار السلع الأساسية، إلى تفشي كوفيد-19، والحروب العديدة، وتغير المناخ، وأزمة غلاء المعيشة العالمية)، والتي استمرت لمدة عقد من الزمن، دون حدوث أيّ تحسن ملحوظ. لكنّ النمو الديموغرافي وزيادة أعداد الشباب في القارة -والذي يفوق القدرة الاستيعابية لسياسات المحسوبية- كشف عن نقاط ضعف النظام، وأدَّى إلى نفاد صبر الشباب الإفريقي، ودفعهم إلى الأخذ بزمام الأمور بأيديهم.
هل نحن على وشك ربيع إفريقي وعدوى أوسع نطاقًا؟
إذا كانت أسباب نشوء الربيع العربي، وفقًا لتحديد الباحثين، ترجع إلى عدة عوامل؛ منها: المصاعب الاقتصادية، والقمع السياسي، والفساد، وانعدام الثقة في المؤسسات الحكومية. وعلى الرغم من عدم وجود “ربيعين” متماثلين؛ إلا أن العديد من عوامل الظاهرة مشتركة بين العديد من دول جنوب الصحراء الكبرى.
ففي إثيوبيا يرجع السبب الأساسي إلى فشل عملية العدالة الانتقالية، في مرحلة ما بعد الحرب، ما عزَّز نشوء حالة متفجرة اتسمت بارتفاع معدلات التضخم والبطالة والفقر وانخفاض النمو الاقتصادي، غير أن اعتماد برنامج صندوق النقد الدولي أدى إلى التخفيف من وطأة المشكلات الاقتصادية، ولكن كما هو الحال في كينيا، فإن الإصلاحات سيئة الاستهداف والدعم الاجتماعي غير الكافي قد تؤدي إلى اضطرابات بين الإثيوبيين الذين يراقبون الأحداث مع دول الجوار عن كثب.
بينما في زيمبابوي، توحي الظروف إلى احتمال الإقبال على فترة من الاضطرابات؛ حيث سعى النشطاء، طوال شهري يونيو ويوليو 2024م، إلى تنظيم مظاهرات مناهضة للحكومة، تزامنًا مع قمة الجماعة الإنمائية للجنوب الإفريقي في 17 أغسطس؛ من أجل الضغط على إدارة منانغاغوا لإدخال إصلاحات سياسية واقتصادية. وفي حملة قمع استباقية، اعتقلت الحكومة أكثر من 160 شخصًا، من بينهم ممثلون منتخبون وأعضاء من المعارضة وزعماء نقابات وطلاب وصحفيون.
وفي السياق ذاته، قامت المعارضة والمجتمع المدني في توغو بالتعبئة ضد الدستور الجديد الذي صدر في مايو، والذي من المحتمل أن يضمن للرئيس فوري غناسينغبي سلطة مطلقة وفتح مدد الرئاسة لفترات غير محددة. أما في السنغال، فيبدو أن انتخاب الرئيس الشعبوي “باشيرو فاي” قد أدى إلى خفض درجة التشنج السياسي؛ بيد أنه -في حال عدم احترام برنامجه الانتخابي- عُرضة لانقلاب الجماهير ضده على غرار ما حدث ضد روتو. وهناك خلافات تختمر في تنزانيا وزامبيا؛ حيث يكافح الرؤساء الإصلاحيون لتنفيذ برامجهم الانتخابية.
بداية حقبة جديدة من النشاط السياسي والتغيير:
وعلى الرغم من تجاوز النمو الديمغرافي الإفريقي القدرة الاستيعابية لسياسات المحسوبية؛ إلا أن تهيئة الظروف للاضطرابات لا يعني أنها حتمية، أو أن العدوى مضمونة؛ فالحكومات الاستبدادية مثل تلك الموجودة في زيمبابوي وأوغندا، والتي تتسم بالإحباط العميق من الوضع الراهن، وجدت طريقة لمقاومة الضغط الشعبي لعقود طويلة.
فعندما تكون الدولة قوية ومُقرّبة من الجيش، وتمارس نفوذًا طاغيًا على المؤسسات، يستمر الوضع السياسي القائم. وفي المقابل، فإن الحكومات التي تستجيب للمظالم السياسية، مع وجود مؤسسات متواضعة ونشاط مدني قوي، لديها فرصة أفضل لتحقيق تغيير سياسي جوهري. ورغم ذلك، فإن البلدان التي لديها حكومات ومؤسسات ضعيفة وجهات عسكرية قوية تكون أكثر عُرضة لخطر التمرد المسلح.
وبغض النظر عن نوع النظام القائم، سيكون على الدول في جميع أنحاء إفريقيا أن تعمل على التكيّف مع هذا المناخ. وقد تختلف الاستجابات وفقًا لقدرة المؤسسات على احتواء أو قمع الاضطرابات، عطفًا على مرونة المجتمع المدني، وطبيعة الأنظمة السياسية.
لكن من المرجح أن تجد حكومات الرجال الأقوياء مثل تلك الموجودة في إثيوبيا وأوغندا وزيمبابوي وتوغو طرقًا لاحتواء الاضطرابات باستخدام العصا، مع تقديم القليل من التنازلات للجمهور. ولكن لا يمكن توقُّع الشيء ذاته من دولٍ مثل كينيا وتنزانيا ونيجيريا التي ستضطر إلى استرضاء الجماهير الساخطة، وقد تتراجع الحكومات المتشبثة بالبقاء عن الإصلاحات الضريبية مقابل الاستقرار السياسي؛ فضلاً عن أن التعديلات الضريبية قد تكون أكثر تواترًا، وهي علامة على التغيير السياسي.
ورغم الأمور التي سبق ذكرها؛ فإن الاستقرار المكتسب من هذه التدابير المؤقتة قد يكون قصير الأجل. وعليه تدعو الضرورة ومراعاة الأمر الواقع إلى تغييرات هيكلية عميقة؛ نظرًا لأن الشريحة الشَّابَّة أقل استعدادًا لقبول تنازلات مجزأة، وقد تقاوم التدابير القمعية.
وقد تكون الاحتجاجات، في نهاية المطاف، في إفريقيا بداية حقبة جديدة من النشاط السياسي والتغيير. ويبقى أن نرى ما إذا كان هذا سيؤدي إلى “ربيع” يطال القارة برُمّتها، أم ستبقى مجرد سلسلة من التصحيحات المعزولة.
الأمر المؤكد هو أن الشاب الإفريقي لم يَعُد راضيًا بالبقاء متفرجًا على الهامش؛ وإنما يرغب في أخذ رأيه بعين الاعتبار في تقرير مستقبله، ولن يتم إسكاته بسهولة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رابط المقال:
https://issafrica.org/fr/iss-today/les-manifestations-en-afrique-coincidence-correction-ou-contagion