منَحت الصين في أغسطس 2024م معدات عسكرية متطورة ومهمة للقوات المسلحة في دولة بنين الواقعة في غرب إفريقيا؛ بسبب ما تُواجهه بشكل متزايد مخاطر تهديدات وهجمات الجماعات المسلحة وتنامي أعمال العنف.
وتُمثّل الخطوة الصينية الأخيرة علامة فارقة في تعزيز قدرات بنين الأمنية والعسكرية على مواجهة تمدُّد أعمال العنف، لا سيما من جهة حدودها الشمالية. وتمت مراسم تسليم المساعدات العسكرية رسميًّا منتصف أغسطس الجاري في حفل حضره بينج جينجتاو Peng Jingtao سفير الصين في بنين وقائد الأركان العامة بالقوات المسلحة في بنين فروكتيو جباجويدي Fructueux Gbaguidi الذي أكَّد أن المساعدات الصينية تستهدف تقوية ترسانة الجيش البنيني، وأنها “رمز قويّ للصداقة التي تربط الشعبين الصيني والبنيني”([1]).
التعاون العسكري بين بكين وبورتو نوفو: أمريكا حاضرة
يأتي التقارب الصيني البنيني فيما لم تتضح بعدُ ملامح السياسة الأمريكية العسكرية في بنين، خاصةً في مرحلة ما بعد الخروج الأمريكي من النيجر، واحتمالات اضطراب هذه السياسة في الشهور المقبلة، لا سيما أن جهود واشنطن في دعم بنين لم تكتمل على النحو المرجو، مثل إقامة نظام مراقبة شامل لحدود بنين كما كان مُرتبًا في العام 2022م، على أن تقوم به شركة أمينتوم Amentum الأمريكية لمساعدة جيش بنين في حماية الحدود([2]).
ونجحت الصين في تجاوز الاضطراب الأمريكي بإرساء علاقات وطيدة، بحسب بيان الجيش البنيني عقب تلقّي المساعدات الصينية، فإنها ستكون حاسمة في مواجهته للجماعات المسلحة وأنشطتها عبر الحدود الشمالية مع دولتي بوركينا فاسو والنيجر.
كما أن الأسلحة التي وفَّرتها الصين ستُمكِّن وحدات الجيش البنيني من “التعامل الأمثل للتحدّيات العملية على الأرض في مواجهة التهديدات المسلحة”، لافتًا إلى أن الدعم المُقدَّم من الصين (حتى تاريخه) هو “جزء من التعاون العسكري بين البلدين الذي تزداد قوته وتنوُّعه يومًا بعد آخر”.
يأتي الدعم الصيني بعد نحو عام كامل من تقديم بكين أربع مُسيَّرات من طراز نورينكو بي إم آر-50 (Norinco PMR-50) لبنين؛ لمساعدتها في تعزيز أمنها. كما يأتي في ظل سعي بكين لتعزيز تعاونها العسكري مع الدول الإفريقية عبر منحها أسلحة قتالية وغير قتالية، وتقديم التدريب لقواتها المسلحة والبنية الأساسية، وكذلك الطائرات المتنوعة([3]).
ويرى خبراء في المجال العسكري أن إستراتيجية الصين قائمة على تقديم حزم مساعدات متنوعة وفعّالة وملائمة لحالة كل دولة إفريقية على حدة، باعتبار أن ذلك وسيلة ناجعة لبناء الثقة وتعزيز التعاون بين جيش التحرير الشعبي الصيني والقوات المسلحة في الدول الإفريقية المختلفة. كما أن مَنْح الصين لأسلحة وتدريبات ومعدات يُعدّ وسيلة ناجحة للغاية في تعزيز مبدأ العلاقات الصينية الإفريقية المفيدة للجانبين، ولتعزيز التبادل الاقتصادي والسياسي على المدى البعيد؛ كما أن تركيز بكين على تقديم أسلحة للدول الإفريقية لمواجهة التهديدات الإرهابية يُعبِّر عن رؤية واضحة لتعاون صيني- إفريقي حيوي وبعيد المدى([4]).
ومن الواضح تمامًا ما تُمثله جهود الصين لتوثيق صلاتها العسكرية مع بنين من ضربة موجعة للجهود الأمريكية المتصاعدة مؤخرًا –خاصةً مع قرب انتهاء ولاية الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن نهاية العام الجاري-، لتعويض خسائرها العسكرية في غرب إفريقيا، ولا سيما في النيجر (جارة بنين الشمالية)، مع اكتمال خروج القوات الأمريكية من النيجر في أغسطس الجاري، أخذًا في الاعتبار أهمية موقع النيجر في الإستراتيجية الأمريكية العسكرية تجاه القارة، وأنها كانت تستضيف قاعدة مسيرات أمريكية مهمة تدعم مهام جمع المعلومات والتجسس والاستطلاع ISR (Intelligence, Surveillance, and Reconnaissance)([5])، ومن هنا يمكن فَهْم أهمية موقع بنين كبديل مُحتمَل لاستضافة قاعدة مسيرات أمريكية.
الصين وبنين: البترول أولًا!
لا يمكن فصل التقارب الصيني- البنيني المتصاعد عن ملف بالغ الأهمية، وهو سعي الصين لاستئناف شركة البترول الوطنية الصينية صادراتها من البترول من الحقول التي تديرها في النيجر. وبالفعل فإن تقارب بكين وبورتونوفو تزامن مع استئناف النيجر صادراتها من البترول الخام عبر بنين بعد خلافٍ بين البلدين قاد في الشهور السابقة إلى وقف تدفق البترول النيجري عبر خط أنابيب جديد موَّلته الصين لنقل البترول إلى ساحل غرب إفريقيا.
وقد أعلن وكيل شركة خط الأنابيب الصينية ذلك في بيان رسمي صدر في 21 أغسطس الجاري. ويبدو دور الصين واضحًا في إقناع النيجر وبنين بتجاوز الخلاف بينهما عقب رفض النيجر رفع الحظر عن السلع المستوردة من بنين، مما قاد الأخيرة لمنع تصدير النيجر بترولها عبر خط الأنابيب الذي أقامته وتديره شركة صينية في مايو 2024م، وهو خط يمتد لمسافة نحو 2000 كيلو متر من حقل أغاديم Agadem في النيجر إلى سواحل بنين، وبقدرة 90 ألف برميل يوميًّا (حوالي 30 مليون برميل سنويًّا)، وبدأ العمل فيه منذ مطلع العام الجاري([6]).
وتتطلع الصين، حسب الشواهد السابقة في العديد من الدول الإفريقية، إلى إلحاق مساعداتها العسكرية بحزم من الاستثمارات في البنية الأساسية في بنين، وتعزيز التجارة البينية بين البلدين (في حدود 1.6 بليون دولار في العام 2022م بلغ نصيب الصادرات الصينية منها 1.5 بليون دولار تصدرت فيها سلع مثل وسائل النقل الخفيفة والملابس القطنية، مع ملاحظة عدم تصدير الصين أيّ خدمات حتى العام الجاري 2024م، بينما بلغت صادرات بنين إلى الصين نحو 61 مليون دولار أغلبها خام القطن وفول الصويا؛ بينما قدرت مصادر أخرى التجارة بينهما في العام 2022م بنحو 1.95 بليون دولار شهدت زيادة نحو 34% عن العام 2021م)([7]).
على أيّ حال، فإن خطوات بكين تجاه بورتونوفو تتسق مع مجمل إستراتيجية الأولى التي تم وضع ملامحها في سبتمبر 2023م باتفاقهما، خلال زيارة دولة رسمية قام بها الرئيس البنيني باتريس تالون إلى بكين والتقى خلالها بالرئيس الصيني شي جينبنغ، على تصعيد العلاقات إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية، وعزم بكين على تعزيز البنية الأساسية والتجارة والصناعة في بنين.
كما حدّد البيان المشترك بين الرئيسين أهم ملامح هذه الشراكة، وهي دعم الصين إقامة بنى للتحول الصناعي، وتيسير الترويج للاستثمار في بنين بين الشركات الصينية. كما أكَّد شي عزم بلاده تشجيع هذه الشركات على الاستثمار في بنين والشركات البادئة والمساعدة في إقامة البنية الأساسية. وفق بيانات متخصصة حول الديون الصينية في إفريقيا فإن الصين قدمت لبنين مساعدات بقيمة 536 مليون دولار في الفترة 2000-2020م، وُجِّه أغلبها لتشييد الطرق، والاتصالات والبنية الأساسية لمرافق مياه الشرب. ووافقت الصين في يناير 2023م على إلغاء جزء من ديون بنين؛ التي تستفيد بدورها من مبادرة الصين التي تسمح لبعض منتجاتها (لا سيما القطن)، بالوصول للسوق الصيني دون رسوم جمركية([8]).
ويتضح من مقاربة الصين في النيجر وبنين جدية مساعيها لتجاوز الصورة السائدة عنها باعتبارها القوة العظمى التي تنصب فخّ الديون للدول الإفريقية، إلى تعزيز واقع حقيقي بإدخال استثمارات كبيرة في شكل بنية أساسية تُدِرّ مدخولات للدول الإفريقية (وفي هذه الحالة النيجر بالأساس وبدرجة أقل بنين) تُمكّنها من تسديد مديونياتها وتحقيق عوائد معقولة عبر استغلال أفضل لموارد تلك الدول الطبيعية مثل البترول والمعادن المختلفة. وهكذا تنجح الصين في واقع الأمر في تفنيد الرواية الغربية، وإظهار أن الغرب من خلال الإعلان عن قناعته بأن الاقتصاد الإفريقي يحمل بعض دلائل التحسن، فإنه يهدف إلى دفع إفريقيا نحو سوق رأس المال العالمي للاقتراض بإفراط، وما قد يؤدي إليه ذلك من ارتفاع نسبة الديون الخارجية في إفريقيا، مما يمكن معه القول بأن الغرب يدفع إفريقيا مباشرة نحو “فخ الديون”([9]).
ماذا بعد بنين؟
تكتسب الصين يومًا بعد آخر مواقع جديدة في القارة الإفريقية، وتتصف خطواتها بالوضوح والاستمرارية، ومراكمة العلاقات مع أغلب الدول الإفريقية، ومن أحدثها بنين في المرحلة الحالية.
وفي حال تحقيق تطوُّر لافت في العلاقات الصينية البنينية بحسب الإعلانات الرسمية من البلدين؛ فإن الصين ستحقق العديد من المكاسب لمجمل سياساتها الإفريقية في السنوات الأخيرة، ومن بينها:
- تحقيق إطلالة مباشرة على خليج غينيا، والاستفادة من مُقدّرات بنين البحرية المتميزة نسبيًّا في هذه المنطقة.
- تعميق واضح لمصالح الصين الإستراتيجية في دول جوار بنين (وأبرزها في الحالة الراهنة النيجر وبوركينا فاسو).
- كما أن نجاح الصين في تعزيز علاقاتها مع بنين وتطويرها سيمثل علامة كاملة لمجمل سياسات الصين في غرب إفريقيا، وقدرتها على احتواء أوجه التناقض في هذا الإقليم المهم والغني بموارده الطبيعية، وتزداد أهميته إفريقيًّا بارتباطاته بشمال إفريقيا.
- قد يُمثّل نجاح الصين ضربة مؤلمة للدبلوماسية الأمريكية المضطربة بالأساس، ويتيح لعدد من الدول المستفيدة من الحضور الصيني في غرب إفريقيا (مثل روسيا وتركيا) البناء على هذا الوضع وتحقيق مكاسب بعيدة المدى جراء التعاون غير المشروط (سياسيًّا على الأقل) مع بكين والدول الإفريقية المعنية.
- سيُعزّز هذا التطور التوجهات الاستقلالية للدول الإفريقية في سياساتها الخارجية، بعيدًا عن المعادلات الصفرية التقليدية.
………………………………….
[1] Jevans Nyabiage, China donates military equipment to Benin in latest bid to build ties in Africa, South China Morning Post, August 24, 2024 https://www.msn.com/en-xl/news/other/china-donates-military-equipment-to-benin-in-latest-bid-to-build-ties-in-africa/ar-AA1pkSrw?ocid=BingNewsVerp
[2] US firm Amentum to assist army in protecting borders, Africa Intelligence, December 19, 2022 https://www.africaintelligence.com/west-africa/2022/12/19/us-firm-amentum-to-assist-army-in-protecting-borders,109874918-bre
[3] Jevans Nyabiage, China donates military equipment to Benin in latest bid to build ties in Africa, South China Morning Post, August 24, 2024 https://www.msn.com/en-xl/news/other/china-donates-military-equipment-to-benin-in-latest-bid-to-build-ties-in-africa/ar-AA1pkSrw?ocid=BingNewsVerp
[4] China donates military equipment to Benin in a bid to expand its influence in Africa, FirstPost, August 24, 2024 https://www.firstpost.com/world/china-donates-military-equipment-to-benin-in-a-bid-to-expand-its-influence-in-africa-13807773.html
[5] Aja Melville, AFRICOM Scrambles To Sustain Intel Operations In West Africa, Defence and Security Monitor, August 21, 2024 https://dsm.forecastinternational.com/2024/08/21/africom-scrambles-to-sustain-intel-operations-in-west-africa/
[6] Isabel Stagg, Niger resumes oil exports via Benin, World Pipelines, August 22, 2024 https://www.worldpipelines.com/business-news/22082024/niger-resumes-oil-exports-via-benin/
[7] China/ Benin 2022 https://oec.world/en/profile/bilateral-country/chn/partner/ben
[8] China pledges stronger economic ties with Benin, South China Morning Post, September 3, 2023 https://finance.yahoo.com/news/china-pledges-stronger-economic-ties-093000590.html
[9] Song Wei, Western ‘debt trap’ slander against China-Africa cooperation contradicts facts, Global Times, August 25, 2024 https://www.globaltimes.cn/page/202408/1318608.shtml