دعاء منصور أحمد محمد
حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية
مقدمة:
عرفت رواندا تاريخًا مضطربًا في فترات ما قبل الاستعمار وفي أثناء الاستعمار، وما بعد الاستعمار، ولطالما ارتبط فيها العرق بالسياسة ارتباطًا وثيقًا؛ فقد تسبَّبت الكراهية، وما رافقها من صراع على السلطة، في اندلاع فصول دورية من العنف، بلغت ذروتها بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية؛ ففي العقد الأخير من القرن العشرين شهدت رواندا حربًا أهلية تُعدّ من أعنف الحروب الأهلية التي شهدتها إفريقيا، والتي راح ضحيتها العديد من الروانديين، هذه الحرب كان سببها الصراع بين الهوتو والتوتسي؛ حيث تمثل قبيلة الهوتو الغالبية من سكان رواندا، وتمثل التوتسي الأقلية، فالصراع والنزاع وغياب ثقافة التعايش وعدم تقبُّل الآخر أدَّى لواحدة من أبشع الحروب الأهلية في تلك الفترة، والتي راح ضحيتها قرابة المليون إنسان، هذا غير آثارها المدمرة للاقتصاد، وغياب الاستقرار السياسي، لكن هذه الحرب وهذا النزاع ما هما إلا أحد صور الإرث الاستعماري. فالاستعمار في رواندا هو الذي ساعد على ترسيخ الكراهية بين الهوتو والتوتسي، حتى اندلعت تلك الحرب الأهلية في رواندا.
فرواندا تعاقَب عليها المستعمرون؛ حيث كانت تحت سلطة الاستعمار الألماني، وبعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى فقدت أجزاء من أراضيها، كما فقدت مستعمراتها، ومن تلك المستعمرات كانت رواندا، ثم وُضعت رواندا بعد ذلك تحت سلطة الاحتلال البلجيكي، وكانت ممارسات وسياسات الاحتلال البلجيكي أحد الأسباب غير المباشرة للتأثير على السلام الداخلي لرواندا، وتعميق الخلاف بين مكونات المجتمع الرواندي وتحديدًا بين الهوتو والتوتسي.
وقد تأزمت الأوضاع بين الهوتو والتوتسي حتى وصلت ذروتها في 6 أبريل 1994م، حين سقطت طائرة الرئيس الرواندي “هابياريمانا”، وهو من الهوتو، مما أشعل فتيل الحرب الأهلية في روندا، وكان بداية لواحدة من أعنف الحروب الأهلية في التاريخ السياسي المعاصر لإفريقيا؛ حيث تم إلقاء اللوم على التوتسي ونتيجة للتحريض بالانتقام من التوتسي بدأت أعمال القتل والعنف، مما نتج عنه واحدة من أكبر المذابح في إفريقيا؛ فقد راح ضحية تلك الحرب قرابة المليون قتيل أغلبهم من التوتسي والهوتو المعتدلين.
وبعد انتهاء الحرب الأهلية وأعمال القتل والعنف في 13 يونيو1994م كانت رواندا في حاجة لعملية شاملة لإعادة الإعمار في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لعلاج الآثار التي خلَّفتها الحرب الأهليه في مختلف المجالات، يومها تكاتفت النساء سويًّا لإنقاذ الوطن، فمعظم القتلى كانوا من الرجال، وكانت النتيجة أن حوالي 70% من السكان في مرحلة ما بعد الحرب كانوا من النساء، حينها تحمَّلت النساء الأعباء، ولعبن أدوارًا متعددة في بناء السلام وتحقيق التنمية، وقد حقَّقت رواندا تقدمًا ملحوظًا في معدل النمو الاقتصادي بلغ حوالي 8.2% في عام 2023م، كما أنها أيضًا واحدة من الدول الإفريقية القليلة التي استطاعت تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية بخفض نسبة الفقر المدقع إلى النصف منذ عام 2015م، ولديها أعلى نسبة لتمثيل المرأة في البرلمان على مستوى العالم؛ حيث تحوَّلت رواندا من دولة كانت تعامل المرأة كالمتاع والممتلكات وتختزل وظيفتها الأساسية في إنجاب الأطفال إلى دولة تنص دستوريًّا على ضرورة شغل النساء نسبة 30% على الأقل من المناصب الرسمية في جميع هيئات الدولة، وعلى جميع المستويات؛ لضمان مشاركتهن الكاملة في الحياه السياسية والاجتماعية، وبعد عشر سنوات ارتفع عدد النساء في البرلمان بمقدار الضعف. وفي الوقت ذاته فإن أكثر من 30% من الأسر الرواندية تعيلها امرأة.
وفي هذا الإطار تهدف هذه الدراسة إلى التعرف على مدى مساهمة المرأة في إعادة إعمار رواندا بعد الإبادة الجماعية؛ من خلال دراسة وتحليل أهم الأسباب التي أدت إلى اشتعال الحرب الأهلية، وكذلك التعرف على طبيعة الصراع بين الهوتو والتوتسي الذي تسبب في إحداث كارثة الإبادة الجماعية، بالإضافة إلى تسليط الضوء على الجهود التي بذلتها المرأة لنشر السلام، ومحاولة إعادة إعمار البلاد، والتي أدَّت لحل الكثير من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية.
مشكلة الدراسة:
إن جهود المرأة في رواندا وسعيها في الوصول إلى تلك النسبة المرموقة من التمثيل في البرلمان، لم يكن من أجل أضواء الشهرة؛ بل لأن النساء في رواندا قررن سلوك طريق جديد وفريد؛ حيث اجتمعت كلمتهن على تجميع صفوف النساء حول المشكلات العامة التي تهم كل المواطنين.
ومن الأمثلة التي ساقتها في هذا الخصوص: كان حشد وتعبئة الصفوف النسائية حول قضايا الحياة اليومية للمواطن العادي البسيط؛ من قبيل: الرعاية الصحية، المسكن اللائق، حياة الفقراء وإمكاناتهم ومواردهم ومعاناتهم. ومن هذا المنطلق تتمحور مشكلة الدراسة حول تساؤل رئيسي يتمثل في: إلى أيّ مدى أسهمت المرأة في إعادة الإعمار بعد الإبادة الجماعية في رواندا؟
وتسعى الدراسة للإجابة عن هذا التساؤل من خلال عدد من الأسئلة الفرعية والتي تتمثل في:
- كيف أسهم الاستعمار في ظهور الحرب الأهلية في رواندا؟
- ما واقع النزاع بين الهوتو والتوتسي؟
- كيف أسهم الصراع بين الهوتو والتوتسي في حدوث كارثة الإبادة الجماعية؟
- كيف استطاعت المرأة في رواندا أن تكون نموذجًا يُحتذى به في إعادة الإعمار ونشر السلام في أنحاء البلاد بعد الحروب والصراعات؟
- كيف تحولت رواندا من الإبادة الجماعية إلى نموذج ملهم لدول القارة الإفريقية؟
تقسيم الدراسة:
تقسم الدراسة إلى خمسة محاور رئيسية:
- أولاً: نبذة تعريفية عن دولة رواندا.
- ثانيًا: رواندا من الاستعمار إلى الحرب الأهلية.
- ثالثًا: اشتعال الأوضاع وتصاعد وتيرة الصراع السياسي بين الهوتو والتوتسي.
- رابعًا: إعادة الإعمار ودور المرأة الرواندية.
- خامسًا: تحول رواندا من الإبادة إلى الريادة.
أولاً: نبذة تعريفية عن دولة رواندا:
تعد دولة رواندا إحدى الدول الإفريقية؛ حيث تقع في وسط شرق إفريقيا، وهي دولة حبيسة لا تطل على سواحل، كما تقع في منطقة هضبة البحيرات الاستوائية؛ أي تُعد إحدى دول إقليم البحيرات العظمى الإفريقية، تشترك معها في حدودها السياسية: تنزانيا في الشرق، وأوغندا في الشمال، والكونغو الديمقراطية في الغرب، وبوروندي من الجنوب، وتبلغ مساحتها حوالي 26,340كم2. وتعتبر من الدول ذات الكثافة السكانية؛ إذ يبلغ عدد سكانها حوالي 14,254,354 نسمة حسب إحصائية عام 2024م، أما عاصمة البلاد فهي كيغالي واللغة الرئيسية في البلاد هي (الكينيارواندا).
ثانيًا: رواندا من الاستعمار إلى الحرب الأهلية:
تعد الحروب الأهلية في إفريقيا من أهم تداعيات الاستعمار الأوربي؛ نظرًا لما خلَّفه هذا الاستعمار من سياسيات قضت إلى تقسيم إفريقيا، ورسم الحدود الاصطناعية في القارة الإفريقية بدون استشارة شعوب المنطقة، الأمر الذي نتج عنه توزيع الجماعات الإثنية (العرقية) الواحدة إلى عدة كيانات سياسية دولية، وضم جماعات مختلفة الإثنية والثقافة في دولة واحدة دون وجود روابط قومية أو دينية بينها، كما حرص الاستعمار على عدم وجود تجانس عرقي ومذهبي في المستعمرات؛ حيث رسَّخت القوى الاستعمارية الانقسام والكراهية من خلال اعتماد إستراتيجية (فَرِّق تَسد)؛ بهدف إعاقة ظهور الوحدة الوطنية في الدول الإفريقية.
وقد شجّع الاستعمار الأوروبي على إثارة المشاعر العرقية بين القبائل الإفريقية، ففي رواندا والتي يتسم التركيب الإثني فيها بالبساطة من حيث عدد الجماعات القبلية؛ حيث توجد بها ثلاث جماعات قبلية، وهي (هوتو، توتسي، توا) حدثت حرب أهلية بين قبيلتي الهوتو والتوتسي، والتي راح ضحيتها حوالي مليون شخص([1]).
1- سياسة الاستعمار الألماني:
عندما وصل المستعمرون الألمان إلى رواندا، لاحظوا الاستخدام المحلي للمصطلحات (الهوتو، التوتسي، التوا)، ولاحظوا أيضًا أن العديد من الأشخاص ذوي الرتب العالية ينتمون إلى جماعة التوتسي، وكانوا يعملون أساسًا بالرعي، ويمتلكون الماشية. أما أبناء الهوتو فكانوا يمثلون الطبقة الدنيا في المجتمع، ويعملون في الزراعة، وقد اعتمد الحكم الألماني في رواندا على نظام الحكم غير المباشر؛ أي: ترك الحكم وإدارة المستعمرات الكبيرة والصغيرة في أيدى الحكام التقليديين الذين اكتسبوا الهيبة والاستقرار والحماية، والتي كان لها الأثر الكارثي على الهويات الرواندية، وتعميق الانقسام الداخلي بين المجموعات؛ حيث وجد الألمان أن اعتمادهم على الحكام التقليديين أسهل بكثير من السيطرة المباشرة على البلاد، لذا اعتمدوا على الطبقة الأرستقراطية التوتسية.
كما لم يرغب الألمان في إجراء العديد من التعديلات في بنية الدولة نفسها؛ حيث لم يكن لديهم الدافع ولا الوسائل للقيام بذلك، وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى وهزيمة ألمانيا ودخول القوات البلجيكية عام 1916م إلى العاصمة كيغالي فقدت ألمانيا مستعمراتها في القارة الإفريقية، وأصبح الإقليم تحت وصاية عصبة الأمم التي كلفت بلجيكا بإدارته اعتبارًا من عام 1923م، وأصبحت رواندا تحت الانتداب البلجيكي([2]).
2- سياسة الاستعمار البلجيكي:
في عام 1926م وضعت السلطات البلجيكية سياسة لزيادة التمييز بين الهوتو والتوتسي، فكان كل مَن يملك أكثر من عشر بقرات يُصنّف ضمن قبيلة التوتسي، أما الآخرون فيصنفون ضمن قبيلة الهوتو، فضلاً عن منع التنقل بين قبيلة الهوتو والتوتسي. كما كلفت الإدارة البلجيكية كل شخص بالغ أن يحمل بطاقة الهوية التي تحدد المجموعة التي ينتمي اليها -نظام التحديد الذي سمح للتوتسي بالوصول إلى وظائف الدولة-؛ أي استخدام التمييز العنصري بين قبيلة الهوتو والتوتسي، وخلق هرمية عرقية من خلال منح التوتسي السلطة والقيادة بعكس الهوتو، وذلك حتى يتمكنوا من السيطرة على التوتسي؛ لأنهم أقلية، مما أدى إلى زيادة الانقسام بين الهوتو والتوتسي([3]).
وقد أدى تفضيل الإدارة الاستعمارية البلجيكية للنخبة من التوتسي إلى استخدامها كمديرة لسياستها القاسية فازداد الاستغلال الذي تعرَّض له الهوتو وازداد غضبهم، ليس على السلطة الاستعمارية فحسب، وإنما على نظام التوتسي الملكي.
ولكن سرعان ما تغير الوضع؛ ففي خمسينيات القرن الماضي دخلت نخبة التوتسي في حرب ضد المستعمرين البلجيكيين مطالبة بالاستقلال، فدعم البلجيكيون الهوتو في تحوُّل سياسي فاضح. وفي عام 1959م تمرد الهوتو ضد النظام الملكي التوتسي، وأطلقوا شرارة الثورة والتي عُرفت باسم “ثورة فلاحي الهوتو” أو “الثورة الاجتماعية”، والتي استمرت ما بين 1959-1961م، وترتب على هذا قيام الهوتو بقتل المئات من القبيلة التوتسية، واضطر العديد من أفراد نخبة التوتسي إلى الهروب والنزوح إلى البلاد المجاورة (بوروندي، أوغندا، الكونغو الديمقراطية)، وبذلك انتهت سلطة التوتسي على الحكم، وأُلغي النظام الملكي التوتسي، وقد دعمت السلطات البلجيكية الثورة من أجل بقاء قوتها في رواندا([4]).
وخلال فترة الثورة ظهرت العديد من الأحزاب السياسية، ومنها حزب (حركة انعتاق الهوتو)؛ الذي تأسس في عام 1959م مِن قِبَل مجموعة من أبناء قبيلة الهوتو، وكانت أهداف الحزب هي إنهاء سلطة الأقلية التوتسية على البلاد وإعلان الجمهورية، وكان للحزب دور في المجازر التي حصلت عام 1959م، وفي سبتمبر عام 1961م جرت انتخابات عامة تمخَّض عنها انتخاب أول رئيس للبلاد من الهوتو، وهو “غريغوار كايباندا”، وكانت الانتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة، ألغيت على إثرها الملكية، وقامت الجمهورية التي أوصلت البلاد إلى الاستقلال في أول يوليو 1962م.
ثالثًا: اشتعال الأوضاع وتصاعد وتيرة الصراع السياسي بين الهوتو والتوتسي:
بعد أن استقلت رواندا عن الاستعمار البلجيكي عام 1962م، وأصبحت جمهورية بقيادة الهوتو، تم إعادة انتخاب “غريغوار كايباندا” رئيسًا للبلاد لفترتين عام 1965م وعام 1969م، وبعد ذلك قام وزير الدفاع “غوفينال هابياريمانا”، وهو من الهوتو أيضًا بانقلاب عسكري في عام 1973م، وتولى رئاسة الحكومة، وجعل البلاد تحت سيطرة الحزب الواحد، وهو حزب “الحركة الثورية القومية للتنمية” المدعوم من الجيش وقوات الأمن، وحارب بقية الأحزاب السياسية وتحول الحزب إلى عصابات باسم “أكازوا” بمعنى البيت الصغير، وهو خاص فقط للهوتو وعائلة الرئيس وزوجته، وأُعيد انتخابه عام 1978، 1983 ،1988م([5]).
وحافظت حكومتا الهوتو المتعاقبتان على نظام الهوية العرقية الذي وضعه البلجيكيون، واعتمدتا سياسة التمييز ضد الأقلية من التوتسي التي بقيت في البلاد في خطوة انتقامية نتجت عن سنوات من الخضوع والاستغلال في عهد الحكم البلجيكي/ التوتسي، وهمَّشت حكومتا الهوتو التوتسي عن طريق نظام حصص الأغلبية والأقلية في وظائف القطاع العام وفي المدارس، وكان الهدف الأساسي لسلطة الهوتو هو التخلص من التوتسي؛ حيث ارتكبوا عدة مجازر ضدهم، بلغ عدد ضحاياها حوالي 100 ألف قتيل، وهروب عدد كبير منهم إلى أوغندا بين عامي 1973-1979م ([6]).
1- محاولة التوتسي استرجاع السلطة:
قام مجموعة من اللاجئين المثقفين التوتسي في أوغندا عام 1979م بإنشاء مؤسسة “رفاهية اللاجئين الروانديين”؛ من أجل مساعدة المضطهدين من التوتسي، وقد غيَّرت اسمها بعد ذلك إلى “التحالف الرواندي من أجل الوحدة الوطنية”، وفي أكتوبر عام 1982م قام الرئيس “غوفينال هابياريمانا” بارتكاب المجازر بحق أبناء التوتسي وإبعاد نحو 80 ألف لاجئ من التوتسي طردهم النظام الأوغندي، وفي نفس الشهر توجَّه الرئيس الفرنسي “فرانسوا ميتران” إلى كيغالي من أجل تأكيد مساعدته للرئيس هابياريمانا، واستمرار دعم فرنسا له.
وقد تم تغيير اسم التحالف الرواندي إلى “الجبهة الوطنية الرواندية” عام 1988م، كان هدفها العمل على استرجاع السلطة إلى قبيلة التوتسي، وإعادة اللاجئين إلى رواندا ولو بالقوة إذا لزم الأمر، وإعادة تشكيل الحكومة الرواندية، ولقد كان لهذه الجبهة جناح عسكري مسلح باسم “الجيش الوطني الرواندي انكوتانية*“، وبالإضافة إلى اللاجئين في أوغندا فقد انضم إلى الجيش الوطني عناصر من خارج أوغندا وبعض عناصر الهوتو المعارضين لنظام الرئيس هابياريمانا، واجتاحوا رواندا في 1 أكتوبر عام 1990م، وأعادوا إلى الذاكرة الاستغلال والإخضاع الذي تعرض له الهوتو في ظل هيمنة التوتسي، وكان هذا الهجوم في شكل حرب عصابات، وقد اندلعت العمليات القتالية على الحدود بين أوغندا ورواندا بين الجبهة الوطنية والقوات المسلحة التي ينتمي إليها الغالبية من الهوتو، مع قيام مظاهرات واحتجاجات في العاصمة “كيغالي” بلغ عددهم نحو 100 ألف رواندي ضد حكومة الرئيس هابياريمانا، الأمر الذي دفع الحكومة إلى حملة اعتقالات واسعة في البلاد([7]). وفي البداية حقق هجوم الجبهة الرواندية نجاحًا كبيرًا، إلا أنه لاقى الفشل في 27 أكتوبر عام 1990م؛ وذلك بسبب المساعدات الفرنسية والبلجيكية لنظام هابياريمانا، واستمرت أعمال القتال إلى أن تم الإعلان عن وقف إطلاق النار عام 1992م ([8]).
2- التدخل الدولي لوقف إطلاق النار:
نتيجة الصراع بين الجبهة الوطنية والحكومة الرواندية قامت كل من فرنسا وبلجيكا والكونغو الديمقراطية بإرسال جنودهم إلى رواندا؛ من أجل إنهاء الصراع، كما عقدت محادثات السلام عام 1992م، والتي تهدف إلى تعزيز الحوار والسعي إلى حل النزاع وتحقيق سلام دائم، وقام السفير التنزاني “آمي مبونعوي” بتيسير المحادثات، وقد جاء المشاركون من داخل وخارج إفريقيا، وكان من بينهم ممثلون عن حكومة رواندا ومندوبون من 6 دول إفريقية “بوروندي ونيجيريا والسنغال والكونغو الديمقراطية وأوغندا وزمبابوي”، وممثلون عن منظمة الوحدة الإفريقية “الاتحاد الإفريقي حاليًّا”، ومنظمة الأمم المتحدة وألمانيا وبلجيكا، وقد دعت الجولة الأولى إلى وقف إطلاق النار، وركزت المحادثات اللاحقة على المصالحة وتقاسم السلطة والتعاون السياسي والأمن وبحث قضية اللاجئين، وفي أثناء المفاوضات توصل الطرفان إلى أن يكون تنفيذ بنود الاتفاق تحت إشراف هيئة الأمم المتحدة([9])، وقد تم توقيع اتفاقية “أورشا” في تنزانيا لإنهاء الحرب، والعمل على تحقيق المصالحة الرواندية في أغسطس عام 1993م.
3- الإبادة الجماعية في رواندا 1994م:
رغم الجهود الدولية المبذولة لوقف الصراع بين الهوتو والتوتسي؛ إلا أن هناك عقبات حالت دون تحقيق السلم والمصالحة، وكان في مقدمتها تصاعد التطرف السياسي الإثني لدى الهوتو؛ حيث كانوا رافضين لاتفاقية السلام؛ وذلك لجملة من الأسباب؛ من أهمها: الحاجة إلى امتلاك السلطة، وإبعاد قبائل التوتسي من مراكز القرار؛ وذلك لشعورهم بأن مصالحهم وامتيازاتهم في الحكومة أصبحت في خطر، ومن الواجب عليهم العمل لدفع هذا الخطر، حتى لو لزم الأمر إبادة كل توتسي، وحتى المعارضين من الهوتو الذين أطلق عليهم اسم “الخونة المتواطئين مع الجبهة الوطنية الرواندية”؛ الذين جاءوا لإعادة هيمنة التوتسيين، وبالتالي القضاء على منجزات ثورة الهوتو عام 1956م ([10]).
وقد انفجرت الحرب الأهلية من جديد، وبشكل لم يسبق له مثيل، إثر مقتل الرئيس الرواندي والرئيس البوروندي، ففي 6 أبريل عام 1994م، تم إسقاط طائرتهما بصاروخ أرض جو عند اقترابهما من مطار كيغالي، وقتل جميع من كانوا على متنها وبعد حوالى 45 دقيقة فقط من سقوط الطائرة بدأت الإبادة الجماعية؛ حيث تم إلقاء اللوم على التوتسي مِن قِبَل المتطرفين في رواندا، وقاموا بالتحريض على الكراهية والقتل عبر الصحف والإذاعة بخصوص مقتل الرئيس الرواندي، وطالبوا الهوتو في جميع أنحاء البلاد بالثأر والانتقام من التوتسي جميعهم لتبدأ بعدها مباشرة أحد أسوأ الإبادات الجماعية ([11]).
وقد بدأ نظام الهوتو الحاكم في رواندا في تنفيذ عملية إبادة جماعية على الأقلية من التوتسي، وفي غصون 100 يوم قُتِلَ حوالى 800 ألف من التوتسي، وكذلك تم قتل عدد كبير من الهوتو المعتدلين الذين عارضوا عمليات القتل الجماعي التي اعتُبرت واحدة من أكبر عمليات الإبادة الجماعية منذ الحرب العالمية الثانية([12])، وانتهت أحداث الإبادة الجماعية في 13 يونيو1994م، وتم تشكيل حكومة مؤقتة في كيغالي طبقًا لاتفاقية أورشا للسلام، وتعيين رئيس جمهورية من الهوتو وهو “باستيربيزيمونجو”، وانتهت أعنف حروب تاريخ إفريقيا الحديث، والتي راح ضحيتها حوالى مليون إنسان، بالإضافة إلى تشريد عدد مماثل على الأقل ([13]).
رابعًا: إعادة الإعمار ودور المرأة الرواندية:
خلَّفت الإبادة الجماعية خسائر بشرية ومادية جسيمة، وبدأت المحاكمات المحلية للمسؤولين عن جرائم الإبادة في نهاية عام 1996م، ووصلت إلى مائة ألف متهم بحلول العام 2000م، وقد كانت النسبة الأكبر من الضحايا والنازحين واللاجئين الفارين من الصراع أو الذين سُجِنُوا بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية من الرجال، وكانت النتيجة أن 70% من السكان تقريبًا في مرحلة ما بعد الحرب كانوا من الإناث، يومها تكاتفت جميع النساء على المستويين الرسمي وغير الرسمي لإبقاء أُسَرهن على قيد الحياة، فتكفلن بالأطفال اليتامى ونظمن مجموعات دعم للأرامل، وانتقلن من تنظيف الركام إلى إعادة بناء المباني، واستزرعن الأراضي، وباشرن بالأعمال التجارية، ونجحن في إعادة الاستقرار في جميع أنحاء البلاد، وقد كانت إعادة إعمار البلاد مترافقة مع عدالة انتقالية(*) يمكن أن تكون نموذجًا لجميع الشعوب التي عانت من نزاعات مماثلة. ولقد لعبت النساء أدوارًا رئيسية في لجان الحقيقة والمصالحة*)) التي عملت غالبًا على مستوى المجتمع المحلي، كما عملت المرأة في تلك اللجان على المستوى الوطني مديرةً، وقاضيةً، وشاهدة رئيسية ([14]).
وفى عام 1999م تم الانقلاب على العادات التي تقمع المرأة وتمنعها حقوقها، كتلك التي تمنع المرأة من وراثة الأرض مثلاً؛ إذ سُمح للنساء رسميًّا أن يرثن الممتلكات في غياب الوصية، مما أدى إلى جعل بنات الريف مالكات للأراضي بعد أن كن يُحرَمن حقَّهن في امتلاك الأراضي لمصلحة أشقائهن من الذكور.
وقد مكّنت الإصلاحات الأخرى النساءَ من استخدام أراضيهن ضماناتٍ للحصول على القروض. وقد مُنحت المرأة الحق في فتح حسابات مصرفية. وتم إعطاء الأولوية لتعليم الفتيات من خلال الجهود التي أتاحت لعدد أكبر منهن الالتحاقَ بالجامعات. وقد أصدرت الهيئة التشريعية مشاريع قوانين تهدف إلى إنهاء العنف الأسري، وإساءة معاملة الأطفال، وتمضي اللجان المختصة بمواءمة القوانين مع الدستور بإلغاء أو تعديل جميع القوانين التي تحوي مواد تمييزية ضد المرأة.
1- المشاركة الاجتماعية
أسست مجموعة من النساء في رواندا منظمة “كلنا معًا”؛ التي لعبت دورًا محوريًّا في إعادة الإعمار، ومهدت الطريق للتنمية المجتمعية المستدامة بعد الإبادة الجماعية، وضمت 32 منظمة نسائية، وحصل عملهم المرتبط بحملة “العمل من أجل السلام” على جائزة اليونسكو لتعزيز التسامح واللاعنف؛ حيث حاولت النساء نشر السلام عبر وقف العنف ونزع السلاح من السكان المدنيين؛ من خلال مبادرات قمن بها لإقناع عائلاتهن بالتخلي عن التعصب والتمرد، كما أسهمت النساء بشكل كبير في إعادة اللاجئين والمشردين ومعالجة مشكلة الأيتام التي تفاقمت في أعقاب الإبادة الجماعية، وتشير التقديرات إلى أنه ما بين 400 ألف و500 ألف طفل تمت رعايتهم وتبنيهم مِن قِبَل الأسر التي تعولها نساء ([15]).
وقد كانت ثقة المرأة وإيمانها بنفسها واجتماع كلمة النساء حول قدرتهن على التغيير وخلق واقع جديد مغاير لما عشنه في الحرب الأهلية؛ العامل الحاسم في التعافي والنجاح. فالجهود التي بذلتها المرأة الرواندية خلال مرحلة التعافي، أدت إلى التركيز على معالجة الكثير من المشكلات الاجتماعية، مما أفضى وبشكل تلقائي إلى معالجة مشكلات مثل: جريمة الاغتصاب، المساواة بين الجنسين ضمن رابطة الزواج، حق الفتاة في التعليم والتعبير عن رأيها.
2- المشاركة الاقتصادية:
بعد وفاة ملايين الرجال في المذبحة؛ اضطرت النساء للخروج للعمل وتولي مسؤولية الإنفاق على الأسرة. حيث شاركت النساء وبشكل كبير في النشاط الاقتصادي، وحملن لواء تحقيق التنمية والتقدم الاقتصادي على أكتافهم، ومِن ثَم فقد أصبحت النساء الروانديات معيلات للأسر فوفقًا لبيانات البنك الدولي (شكل 1)
فقد ارتفعت نسبة الأسر التي تعولها النساء في رواندا من 20,8% عام 1992م إلى 36.1% عام 2000م، وقد حدث تفاوت في النسبة حتى انخفضت إلى 29.2 عام 2013م، ثم ارتفعت مرة أخرى لتصل إلى 37.6 عام 2017م.
كما اتجهت النساء في رواندا لشغل وظائف لم يكنَّ يشاركن فيها بكثافة قبل الإبادة؛ كالعمل في البنوك والمصانع والنقل، كما عملت العديد من النساء في إطار برنامج الغذاء مقابل العمل؛ لتعزيز الأمن الغذائي والوقاية من سوء التغذية، ففي عام 2000م كان 57% من السكان العاملين البالغين الذين تتراوح أعمارهم بين 22 إلى 44 عامًا من الإناث، وكان النساء ينتجن ما يصل إلى 70% من الناتج الزراعي الوطني، وقد ارتفعت نسبة الإناث في القوى العاملة من 41.7% عام 1991م إلى 47.4% عام 1995م، ثم وصلت إلى 47.3% عام 2023م، كما هو موضح بالشكل (2):
3- المشاركة السياسية:
قبل الإبادة الجماعية كان 19% فقط من التمثيل السياسي مخصصًا للنساء، لكن بعد أن شكلت المرأة حوالي 70% من السكان أصبح من الضروري تدخُّل المرأة لملء الفراغ في القيادة وزيادة المشاركة في صنع القرار، لذا فقد أقر الدستور الرواندي الجديد 2003م نسبة 30% “كوته” من المناصب السياسية والحكومية([16])، مما أسهم في إحداث تغيير على الساحة السياسية على المستوى المحلي والقومي، كما أعلنت منظمة الأمم المتحدة عام 2003م أن رواندا اقتربت من تساوي وتكافؤ الفرص والأدوار بين النساء والرجال في البرلمان الوطني لتصبح الدولة الأولى على مستوى العالم في نسبة مشاركة المرأة في البرلمان، ولعل ذلك ما سبَّب الطفرة في التمكين السياسي للمرأة في رواندا، وجعلها تحتل موقع الصدارة بين دول العالم في التمكين السياسي لها، وكذلك تحظى باهتمام دول العالم لمعرفة الظروف والسياق الداخلي المسبب لتلك الطفرة.
– المرأة في القضاء:
عملت المرأة في رواندا قاضيةً في محاكم جاكاكا “النظام القضائي التقليدي في رواندا”، والذي يعتبر أحد أكثر إستراتيجيات المصالحة والعدالة الانتقالية فعالية في العالم، تم بموجبه التعامل مع مئات الآلاف من الأشخاص المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية، وتسريع وتيرة المحاكمات، وتحقيق التسامح بين الناس، واستئناف العيش المشترك؛ وذلك من خلال الاعتراف والمصالحة، وكانت قبل الإبادة الجماعية شأنًا مخصصّا لـ”الحكماء من كبار السن”، وفي نوفمبر 2005م وصل عدد القاضيات في محاكم جاكاكا إلى 26.752 قاضية، والجدير بالذكر أنه في المناطق التي عملت فيها النساء قاضيات في محاكم جاكاكا المحلية كان أداؤهن أفضل وفقًا لبعض التقديرات ([17]).
– المرأة في البرلمان:
نجحت المرأة في رواندا في تحقيق أعلى نسبة لمشاركة المرأة في البرلمان على مستوى العالم؛ فبعد تطبيق سياسة تخصيص الحصص للمرأة -30% في الدستور الرواندي 2003م- أسفرت الانتخابات البرلمانية الأولى عام 2003م عن فوز النساء بنصف مقاعد البرلمان تقريبًا؛ حيث وصلت النسبة إلى حوالى 49% مقارنة بنسبة الرجال التي وصلت إلى 51% كما هو موضح بالشكل (3)،
وارتفعت هذه النسبة لتصل إلى 56% في انتخابات عام 2008م، وفي عام 2013م حققت المرأة في رواندا رقمًا قياسيًّا عالميًّا بحصولها على 64% من مقاعد البرلمان. وقد أكدت “دواناتيل موكاباليزا”، رئيسة مجلس النواب للتشريعية الثالثة في رواندا، أنّ “معظم النساء يؤدّين مهامهن بشكل يرقى إلى المستوى المطلوب، ولذلك، لن أفاجأ في حال تم، في المستقبل، انتخاب امرأة لمنصب رئيس الجمهورية”. وأضافت: “أعتقد أنّ العقلية الرواندية تغيّرت بشكل جذري، ولذلك، فإنّه، وفي حال وصول امرأة إلى أعلى منصب في البلاد، فإنها ستحرص على خلق التوازن بين الرجال والنساء من أجل تنمية رواندا”.([18])
- المرأة في المناصب الوزارية:
استطاعت المرأة في رواندا أن تحظى بأكثر من نصف المقاعد في مجلس الوزراء الرواندي عام 2022م كما هو موضح بالشكل (4)،
وهي أعلى نسبة حصلت عليها المرأة خلال الفترة من 2014-2023م؛ حيث بلغت نسبة مشاركة المرأة عام 2014م في المواقع الوزارية 39% في مقابل 61% نسبة الرجال في نفس العام، وقد احتلت المرتبة (13) عالميًّا، بينما انخفضت النسبة في كل من عام 2015 ،2016م بمعدل (4%) لتصل نسبتها إلى (35%) للنساء في مقابل (65%) نسبة الرجال، وقد احتلت في العامين الترتيب (15) على مستوى العالم، ولكنها قد عادت لترتفع مرة أخرى بداية من عام 2017م حتى وصلت إلى 54.84% عام 2022م، وقد انخفضت النسبة مرة أخرى في عام 2023م لتصل إلى 47.62%؛ حيث حصلت المرأة على 10 حقائب وزارية من بين 22 حقيبة، كما حصلت رواندا على الترتيب (17) على مستوى العالم وفقًا لنسبة النساء اللائي يشغلن مناصب وزارية عام 2023م.
وقد أدرجت أسماء سيدتين من رواندا ضمن لائحة أكثر 50 امرأة تأثيرًا في العالم في عام 2014م، من بينهم وزيرة الخارجية “لويز موشيكيوابو”([19])، والتي تُعدّ أحد النماذج المشرفة للمرأة ووفقًا للمقرّبين منها؛ فإنها تدير “ببراعة كبيرة” مهام وزارة خارجية بلادها منذ العام 2009م. فعلى الرغم من أنها فقدت عددًا كبيرًا من أفراد أسرتها في المذبحة الجماعية عام 1994م؛ فإن الذين يعرفونها عن قرب يقولون عنها: إنها تعلمت من خلال هذه المحطة الصعبة في مسارها الشخصي كيف تكون مثابرة وحريصة على إيجاد حلول للمشكلات المطروحة بعيدًا عن منطق التشفي وتصفية الحسابات. وهذا ما يقر به كثير من الذين عملوا معها مثلاً في تونس عندما كانت لفترة قصيرة مديرة دائرة الإعلام في البنك الإفريقي للتنمية، وفي يوم 12 أكتوبر2018م انتُخبت “لويز موشيكيوابو” أمينة عامة لمنظمة الفرنكوفونية العالمية، وهي في السابعة والخمسين من العمر خلفًا للكندية ميكائيل جون. وكان من المنتظر أن تتبوأ هذا المنصب بعد أن دعم الاتحاد الإفريقي وفرنسا ترشحها.([20])
خامسًا: تحول رواندا من الإبادة إلى الريادة:
لقد لعبت النساء في رواندا دورًا مهمًّا في بناء السلام وترسيخ أسس الديمقراطية وتحقيق التنمية بشكل جعل منها نموذجًا حقيقيًّا لكثير من الدول المتقدمة. فبعد أن دمرت جرائم الإبادة الجماعية الاقتصاد الرواندي؛ إذ انخفض الناتج المحلي الإجمالي*)) عام 1994م إلى (-8.1%)؛ تمكنت رواندا من أن تخلق واقعًا سياسيًّا واقتصاديًّا جديدًا طوت به صفحة الماضي الأليم بمدة زمنية قليلة، وحققت طفرات نوعية في جوانب مهمة أسهمت بجعل هذه الدولة رقمًا مهمًّا بين الدول الإفريقية، وبدون وعود كاذبة غير قابلة للتحقق، ومن غير التباهي بماضي ومجد سابق أو وعود مثالية قادمة، وبأقل التكاليف والإمكانيات تحولت رواندا تدريجيًّا لتكون واحدة من أهم الدول الإفريقية.
فالنمو الاقتصادي السريع لرواندا جعل كثيرًا من الخبراء يصفونها بالمعجزة الاقتصادية فقد ذكرت منظمة دول تجمع السوق الإفريقية المشتركة لدول شرق وجنوب إفريقيا “الكوميسا” أن دولة رواندا تعتبر الآن واحدة من الدول الإفريقية الرائدة في مجال النمو الاقتصادي؛ حيث سجلت رواندا عام 1995م أعلى نسبة للناتج المحلى الإجمالي وصلت إلى (35.2)، وهي أعلى نسبة حصلت عليها خلال الفترة من 1992-2023م كما هو موضح بالشكل (5)، ومنذ عام 2018م سجَّلت رواندا نموًّا اقتصاديًّا بأكثر من 8% إلا في عام 2020م؛ حيث تأثر الاقتصاد الرواندي بشدة جراء جائحة كورونا (*)التي أضرت بالنشاط الاقتصادي ليس في رواندا فقط، بل في جميع أنحاء العالم.
كما استغلت رواندا طبيعتها الخلابة للترويج لنفسها كواجهة سياحية، وأصبحت تستقطب عددًا كبيرًا من السياح، واهتمت الدولة بالسياحة المستدامة، وتحديث بنيتها التحتية لتكون أكثر قدرة على استضافة أكبر عدد ممكن من السياح، وكذلك أكثر جذبًا لهم، لتنجح عام 2015م في أن تصبح كيجالي أجمل مدينة في إفريقيا وفقاً لتصنيف الأمم المتحدة للمدن الأكثر جمالاً. فوفقًا لبيانات البنك الدولي شكل (6) زاد عدد السياح في رواندا من 531 ألف سائح عام 2006م إلى حوالي 1.6 مليون سائح عام 2019
وقد تم توظيف السياحة سياسيًّا عندما تم تأسيس متحف للإبادة الجماعية التي تعرضت لها الدولة، لكي يرتاده السياح؛ مما جعلها تعطي رسالة مفادها أن البلد قد مرت بزمنين زمن الحرب والدمار وزمن التطور والازدهار، والأهم في هذا المتحف أنه لا يُوثِّق فقط الجرائم والمذابح فحسب، بالرغم من أهميتها، بل يوثق أيضًا كيف استطاعت الدولة بعد ذلك أن تحقق المصالحة والعدالة لكي تنهض وتبني نفسها من جديد.
وبفضل الإنجازات المتحققة حصلت العاصمة كيغالي على مجموعة من الألقاب من بينها (الأكثر أمنًا في إفريقيا، رمز الحداثة في القارة الإفريقية، الأنظف بين عواصم إفريقيا، أيقونة التنمية الإفريقية الحديثة)، إضافة إلى احتضان المدينة لمجموعة من القمم الإفريقية ومجموعة من الملتقيات الاقتصادية، وكل ذلك هي مؤشرات واضحة على أنها تجربة مثالية، وليس هناك مبالغة في وصفها بـ(الريادة المثالية).
الخاتمة:
بعد أن تم عرض ما مرت به رواندا من حرب أهلية طاحنة راح ضحيتها قرابة المليون إنسان، علاوة على الآثار المدمرة التي طالت الاقتصاد ودمرت البنية التحتية بها، بالإضافة إلى غياب الاستقرار السياسي، نجد أن المرأة أصبحت مصدر قوة وعاملاً أساسيًّا في إعادة بناء الدولة الرواندية، برغم المعاناة التي مرت بها النساء في رواندا من ظروف اللجوء عبر تاريخ رواندا الطويل المليء بالنزاعات، واختتمت بالإبادة الجماعية، ونتيجة لما سبق توصلت الدراسة لجملة من النتائج؛ أهمها:
- إن الاستعمار هو أحد الأسباب الرئيسية لانتشار الحروب الأهلية في إفريقيا؛ نظرًا لما خلّفه الاستعمار من سياسيات قضت إلى تقسيم إفريقيا ورسم الحدود الاصطناعية في القارة الإفريقية بدون استشارة شعوب المنطقة، الأمر الذي نتج عنه توزيع الجماعات الإثنية (العرقية) الواحدة على عدة كيانات سياسية دولية، وضم جماعات مختلفة الإثنية والثقافة في دولة واحدة دون وجود روابط قومية أو دينية بينها.
- لقد خلَّف الاستعمار انطباعًا عقائديًّا لدى شعوب القارة الإفريقية بأن الحقوق لا تُنَال إلا بالقوة والعمل المسلح، مما أدى إلى انتشار الصراعات المسلحة بين أفراد البلد الواحد، كما حدث في رواندا بين قبيلتي الهوتو والتوتسي، وفي النهاية أدى الصراع إلى كارثة دموية راح ضحيتها حوالي مليون إنسان.
- إن وسائل الإعلام تلعب دورًا كبيرًا في تشكيل الوعي المجتمعي لدى الأفراد والمجتمعات، ولذا يجب التحكم بها لكي تكون وسيلة لبناء المجتمع لا لهدمه؛ فقد كانت الإبادة الجماعية في رواندا نتيجة مباشرة لإعلام الكراهية الذي أشعل نيران الكراهية والحقد بين أكثرية الهوتو ضد أقلية التوتسي.
- لقد أظهرت نساء رواندا ما يمكن أن يحدث عندما تسهم النساء بفعالية في بناء السلام والاستقرار، ولا شك أن تلك التجربة المهمة والملهمة لا بد أن تكون مثالًا يُحتذى به على الصعيد العالمي؛ حيث يمكن للنساء أن يلعبن دورًا مهمًّا في إحلال السلام، والحفاظ عليه، والعدالة الانتقالية وإعادة الإعمار؛ حيث إن المرأة هي أكثر الفئات تضررًا في حالة الحروب والنزاعات، ومِن ثَم فهي التي تبحث عن السلام، وتعمل على حل المنازعات بالطرق السلمية؛ حيث يمثل السلام شرطًا أساسيًّا لتحقيق التنمية؛ فلا توجد تنمية دون سلام.
- إن السبب الرئيسي لنجاح النساء في رواندا هو اتحادهن سويًّا لإنقاذ الوطن، فبفضل قيادة النساء اللواتي شكلن حوالي 70% من السكان بعد الإبادة الجماعية بعد قتل معظم الرجال ومحاكمة الجناة الذكور، أدى هذا الوضع بالنساء إلى النهوض من أجل إعادة بناء دولتهن، وبالفعل جعلنها من أسرع الاقتصادات نموًّا في إفريقيا.
- بعد أن أثبتت المرأة في رواندا جدارتها وقدرتها على حل المشكلات وإعادة الإعمار والنهوض بالدولة؛ قامت الحكومة بإجراء العديد من الإجراءات لزيادة تمكينها وتفعيل مبدأ المساواة بين الجنسين؛ حيث إن القوانين الجديدة منحت المرأة حقوقًا واضحة في الأرض والميراث والعمل والتعليم، ودليل على مؤشرات النجاح في التمكين أن البرلمان الرواندي غالبيته من النساء وفي تشكيل الحكومة أخذت النساء نصيبًا وافرًا.
- استطاعت المرأة في رواندا أن تُثبت للعالم أجمع أن المرأة هي أساس نجاح وتنمية المجتمع، وبالتالي فإن تحقيق التنمية المستدامة، والتي تسعى جميع دول العالم إلى تحقيقها؛ تتوقف على تحقيق الهدف الخامس من أهدفها، والمتمثل في “المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة”.
- إن رواندا هي أمل كبير لكل حالة أو أزمة مشابهة؛ فهذه التجربة المثالية الرائدة والفريدة مهمة جدًّا بالنسبة للدول التي تعاني من النزاعات والصراعات والحروب الأهلية؛ حيث يمكن الاستفادة من جميع الخطوات والإجراءات التي عملت بها؛ سواء السياسية منها أم الاقتصادية، فبعد أن كانت تعاني رواندا من حرب أهلية طاحنة يسعى العديد من سكانها إلى الفرار منها من أجل إنقاذ أنفسهم من الموت؛ أصبحت واجهة سياحية لا يُستهان بها لجذب عدد كبير من السياح، كما حصلت عاصمتها كيغالي على عدد من الألقاب منها الأكثر أمنًا في إفريقيا.
……………………………………………….
[1] – رغيد هيثم منيب، الحرب الأهلية في رواندا: أسبابها ونتائجها، مجلة الأطروحة للعلوم الإنسانية، العدد 2، 2019م، ص 117-121.
[2] – أميرة رشك لعيبي الزبيدي، منتهى صبري مولى، مذبحة رواندا 1994م، والموقف الدولي منها، حولية المنتدى للدراسات الإنسانية، المنتدى الوطني لأبحاث الفكر والثقافة، عدد 47، 2021م، ص269-271.
[3] – رغيد هيثم منيب، مرجع سابق، ص121.
[4] – إزيكيل سينتاما، المصالحة الوطنية في رواندا: التجارب والدروس المستخلصة، تقرير مشروع بحثي، فبراير 2022م.
[5]– رغيد هيثم منيب، مرجع سابق، ص122.
[6] – إزيكيل سينتاما، مرجع سابق.
* – انكوتانية باللغة الرواندية تعني “المقاتلون الأشداء”.
[7] – رغيد هيثم منيب، مرجع سابق، ص123.
[8] – أحمد جمال الصياد، رواندا بين الحرب الأهلية والتحول الديمقراطي، المركز الديمقراطي العربي، أبريل 2021م، متوفر على الرابط: https://democraticac.de/?p=74066
[9] – صبرينة كوبي، حنان بن حمى، الحروب العرقية في إفريقيا وموقف المجتمع الدولي منها “رواندا نموذجًا”، رسالة ماجستير، جامعة أحمد دراية، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم الإسلامية، قسم العلوم الإسلامية، الجزائر، 2022م، ص28-29.
[10] – رغيد هيثم منيب، مرجع سابق، ص125.
[11] – أحمد جمال الصياد، مرجع سابق.
[12] – صبرينة كوبي، حنان بن حمى، مرجع سابق ص30
[13] – نهى نديم، دور المرأة في تعافي الدول بعد الصراعات في إفريقيا “دراسة مقارنة بين تجربتي رواندا والصومال”، مجلة كلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية، جامعة الإسكندرية، المجلد9، العدد17، يناير 2024م.
* – العدالة الانتقالية: تشير إلى مجموعة التدابير القضائية وغير القضائية التي تقوم الدول بتطبيقها من أجل معالجة ما ورثته من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
* – لجان الحقيقة والمصالحة: هي هيئات غير قضـائية تجري تحقيقات بشأن الانتهاكات التي وقعت في الماضي القريب وتعمل على إصدار تقارير وتوصيات بشأن سبل معالجـة الانتهاكات والترويج للمصالحة وتعويض الضحايا وإحياء ذكـراهم وتقـديم مقترحـات لمنـع تكـرار هـذه الانتهاكـات مستقبلا”، وفي عام 1990م تم إنشاؤها في رواندا تحت مسمى “اللجنة الوطنية لانتهاكات حقوق الإنسان”، وقد أنشأ دستور 2003م “اللجنة الوطنية لحقوق الفرد، والتي أسند إليها نفس المهام المسندة للجنة الوطنية لحقوق الإنسان.
[14] – جليلة الترك، صفحات نسوية مشرقة، المرأة في رواندا نموذجاً، متوفر على الرابط: https://syrianwomenpm.org/
[15] – نهى نديم، مرجع سابق، ص454-455.
[16] ريتويك دوتا، رواندا تحقّق أعلى نسبة تمثيل نسائي في العالم بعد أن خصّصت 30 في المائة من مقاعد البرلمان للمرأة، 2023م، متوفر على الرابط: https://www.sdg16.plus/
[17] Bert Ingelaere, ” The gacaca courts in Rwanda. In: L. Huyse and M. Salter, eds. 2008. Traditional justice and reconciliation mechanisms after violent conflict: learning from African experiences. Stockholm: International Idea, 2008,48-49.
[18] – هنري ديماري، نساء رواندا يشكلن غالبية مجلس النواب، تاريخ النشر 13 يونيو 2015، تاريخ الإطلاع7يوليو 2024 متوفر على: https://www.hespress.com/
[19] – هنري ديماري، في سابقة عالمية.. ثلثا البرلمان الرواندي نساء، صحيفة رأي اليوم، 7 يوليو2024، متوفر على: https://www.raialyoum.com/
[20] – مونت كارلو الدولية، من هي الأمينة العامة الجديدة لمنظمة الفرنكفونية؟، تاريخ النشر 12 أكتوبر 2018، تاريخ الاطلاع 7يوليو 2024 متوفر على: https://www.mc-doualiya.com/
* – الناتج المحلى الإجمالي GDP: يعني قيمة جميع السلع والخدمات التي يتم إنتاجها داخل حدود الدولة خلال فترة زمنية محددة، وهو يعكس الحالة الاقتصادية للدولة عبر تقدير حجم الاقتصاد ومعدل النمو لهذه الدولة.
* – جائحة كورونا: هي وباء عالمي ناجم عن فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، بدأت الجائحة في نهاية عام 2019م في مدينة ووهان في الصين وانتشرت بسرعة في جميع أنحاء العالم.