على هامش مهرجان هامبورج الأدبي «أوروبا 24»، أجرت صحيفة «تاز TAZ» الألمانية لقاءً مع الأديب الكونغولي المقيم في النمسا «فيستون مونزا موخيلا»، الذي كان ضيفًا في المهرجان.
موخيلا هو أديب إفريقي وُلِدَ في عام 1981م في مدينة لوبومباشي بجمهورية الكونغو الديمقراطية. ومنذ عام 2009م يعيش في مدينة جراتس النمساوية.
حصل على العديد من الجوائز عن روايته الأولى «ترام 83»، والتي صدرت في عام (2016م). كما تحوَّلت روايته «رقصة الشياطين» الصادرة في عام 2022م إلى فيلم تدور أحداثه في مناجم الماس في منطقة الحدود الكونغولية الأنجولية.
يتقن موخيلا العديد من اللغات؛ منها الفرنسية والألمانية، إلى جانب السواحيلية وعدد من اللغات المحلية، وهو يمتلك رؤية خاصة حول الأدب الكونغولي والأدب متعدد الهويات، ويدافع عن منظور تعدُّدي حول الترابط بين الشمال والجنوب. كما يُطلق العنان إلى اللغة في مشروعه الأدبي، مُركزًا في كتابته على مفهوم جديد للاستعمار يتعلق بصراع السيطرة على الموارد.
أجرى الحوار: بيترا شيلن
ترجمة: شيرين ماهر
سيد موجيلا، في اعتقادك، ما أهمية قراءة الأدب بصوت عالٍ؟
اللغة لها مذاقها الخاص. يمكن أن تكون مُرةً أو حلوةً أو لاذعةً. وعندما أقرأها بصوت عالٍ، فانا أحاول الاستمتاع بها وبمذاقها. ليس للغة روح فحسب، بل تمتلك جسدًا أيضًا، فهي شيء مادي وملموس. بالنسبة لي، الكتابة ماكرة للغاية وتُجيد المراوغة. أُجرّبها وأحاول الوصول إلى جوهرها. ولهذا السبب، أهتمّ بشكل خاص، أن أقرأ بصوت عالٍ أحيانًا، بمصاحبة مخزون من الإيقاعات والأصوات. وهو ما يُفرّق بين النص المسموع والنص المكتوب؛ إذ يرمز النص المكتوب بالنسبة لي إلى السجن، ومِن ثَم يجب عليّ الصراخ بالكلمات لإطلاق سراح كلماته.
في رأيك، هل كل كتاب بمثابة سجن؟
من وجهة نظري، نعم.. الكتاب حافظة تحوي الكلمات لحين إطلاق سراحها بالقراءة والسرد والنقاش. أنحدر من ثقافة تهيمن عليها طبيعة شفهية، وبالنسبة لنا نحن سكان الجنوب العالمي، “الأرض” تشبه سجنًا مترامي الأطراف.. هكذا حوَّلها الاستعمار وأصبحت مصطلحًا استعماريًّا في وعينا الجمعي. فيما قبل الاستعمار لم تكن هناك أراضٍ، بل كانت هناك شعوب، ولكل منها أراضيها ولغتها ونظرتها الخاصة للعالم.
أنا، على سبيل المثال، أنتمي إلى شعب لوبا الكونغولي، والذي يغلب على لغته الكثير من الغناء والسرد، ويمكن للراوي أن يقرأ نفس القصة قرابة 30 مرة، وفي كل مرة يسردها بشكل جديد لإيصال رسالة جديدة. نفس الشيء يحدث عندما أغنّي وأصرخ، وأغنّي كلماتي اليوم: فأجدها تكتسب وجهًا جديدًا في كل مرة.
تكرّس رواياتك للحديث عن مناجم الماس والاستعمار والحروب الأهلية. فهل ترى نفسك كاتبًا سياسيًّا في المقام الأول؟
لا أعتبر نفسي كاتبًا سياسيًّا. أنتمي، في الواقع، إلى “مجموعة 47” الألمانية(*)؛ حيث يكتب مؤلفوها؛ مثل هاينريش بول، وإنجبورج باخمان، وإلسي آيشينجر، وسيغفريد لينز، عن واقع ما بعد الحرب، ولكنهم ليسوا بالضرورة مؤلفين سياسيين. هذا وَضْع مماثل في الكونغو في الوقت الحالي: بعد الحرب الأهلية، دُمِّر كل شيء، وأصبح علينا مسؤولية إعادة بناء البلاد.
المؤلفون الكونغوليون اليوم هم مؤلفو الحرب، أو مرحلة ما بعد الحرب. فعندما تكون هناك دولة ما في حالة حرب، يقع على عاتق كُتّابها مسؤولية التحدُّث عنها، وجعل بلادهم في بُؤرة الضوء أمام العالم. لقد نشأتُ في ظل دكتاتورية موبوتو. كما نشأ أجدادي في الحقبة الاستعمارية. ويمكن للأدب أن يُحيل هذا العنف، مرةً أخرى، إلى واقع مرئي يُطالعه الجميع، مما يُعيد إحياء هذه الانتهاكات بهدف مثولها، ولو بأثر رجعي، أمام ضمير العالم.
هل تشعر بالمرارة تجاه الحقبة الاستعمارية؟ أم مضى وقت طويل على ذلك؟
أعتقد أن الصدمة يمكن توارثها عبر ثلاثة أو أربعة أو خمسة أجيال. فلا يزال الاستعمار قريبًا مِنَّا؛ حيث عايَشه أجدادي بأنفسهم والذين وُلِدوا في زمن الاستعمار. إن العنف الذي نعيشه يشبه المرض الذي يسري في أوصال الأجيال الجديدة رغمًا عنهم. ومن هذا المنطلق، تُواصل حقبة الاستعمار تشكيل المجتمعات الإفريقية المعاصرة. وبعض الدول الإفريقية يمكن اعتبارها الآن بمنزلة مستعمرات حديثة ليس أكثر، وكان الاستعمار غيَّر وجهه فقط.
هل لديك مثال على ذلك؟
الكونغو غنية بالمواد الخام التي تستفيد منها الشركات الكبرى من أوروبا والصين والولايات المتحدة الأمريكية. ولهذا السبب من واجبي، كمواطن كونغولي، وكشخص ربما أمكنه التأثير، أن أكتب عما يحدث؛ لأن أزمات العالم كلها مترابطة. إن حقيقة قطع الغابات المَطيرة في الكونغو لاستخراج الموارد المعدنية لها أيضًا تداعيات وتأثيرات على أوروبا، يمكننا أن نراها الآن في ظل أزمة تغيُّر المناخ. ناهيك عن عِمالة الأطفال في آسيا، التي ربما تحوَّلت سريعًا إلى موضة يمكن محاكاتها في أوروبا، والتي من شأنها أيضًا أن تَضُرّ بالبيئة بشدة.
منذ عام 2009م وأنت تعيش في مدينة جراتس.. هل يمكنك رؤية الكونغو أكثر وضوحًا من مسافة بعيدة؟
أظن ذلك. مركز الدائرة بالنسبة لي كشخص، وكاتب، هو شقتي، سريري. من هنا أنظر إلى العالم، كمواطن كونغولي، وكشخص أسود يعيش في أوروبا. ولذلك يرتبط واقعي في أوروبا أيضًا بالعنصرية والعبودية والاستعمار. لكن حياتي -وتاريخ إفريقيا- ليست مجرد عنصرية واستعمار وعبودية. في الكونغو تقابل أشخاصًا، مثلي، يعيشون في أوروبا. وفي أوروبا، تقابل أطفالًا فقراء ومشردين. كل هذه الحقائق مُتداخلة ومتشابكة بشدة. ولهذا السبب نحتاج إلى التضامن العالمي.
كيف غيَّرت أوروبا حياتك؟
في أوروبا، كانت هذه مفاجأة كبرى شعرت بها لأول مرة، نعم أنا أسود، لكنني حتى ذلك الحين، لم أشعر بذلك الأمر لثانية واحدة. في الكونغو، يتم تحديد الهوية من خلال عِلْم الأنساب: فعندما أقابل شخصًا هناك، يكون السؤال الأول هو: “ابن مَن أنت؟” وعندها فقط يسألك: “كيف حالك؟”. ولكن عندما جئت إلى أوروبا، أصبحت فجأة الشخص الأسود، الكونغولي، الذي يعيش في أوروبا، فحسب.
ما شعورك حيال ذلك اليوم؟
أرى نفسي الآن على قدم المساواة مع أيّ مواطن أوروبي. لقد عشتُ في العديد من البلدان الأوروبية، وأتحدث ثلاث لغات أوروبية، وأعيش في جراتس، وأراقب العالم من هناك. بالنسبة لي ككاتب كونغولي وفرانكفوني، يُعدّ العيش في أوروبا الوسطى أكثر إثارة من العيش في باريس على سبيل المثال. وبسبب القرب الجغرافي، يمكنني أن أتعلم الكثير هنا عن الأدب الألماني وأوروبا الشرقية، وبالطبع الأدب الفرنسي أيضًا. وجهة نظري دائمًا تجنح إلى التعددية، والمحيط الذي أعيش فيه هو نقطة تمركزي لفهم العالم من حولي، وقراءة الواقع على نحو أكثر عمقًا.
هل تلقى أعمالك الأدبية رواجًا في الكونغو؟
إنها مقروءة ومُعتَرف بها، لكنَّ مؤلفاتي يصعب الوصول إليها. يكاد يكون من المستحيل الحصول على كتاب من ناشر أوروبي في كينشاسا. كان الأمر كذلك خلال طفولتي. فهناك عدد قليل جدًّا من الكتب في مدينتي لدرجة أنني قرأت نفس الكتاب حوالي 50 مرة، حتى كتب الطبخ والرياضيات. لقد كان شغفي بالقراءة هائلًا.
هل تغير ذلك الوضع الآن؟
بالكاد.. فعلى الرغم من وجود الإنترنت الآن، ولكن لا يزال من الصعب الحصول على الكتب في الكونغو. وإذا كان لدى شخص ما كتاب، يتم تداوله في الحي، وفي المدينة. وبمجرد قراءته من قبل 20 أو 30 شخصًا، يصبح الكتاب وكأنه قطعة داخل متحف تحمل الكثير من علامات الزمن والاستخدام.
وهذا الأمر لم يتغير أيضًا: فإذا لم تكن هناك كهرباء لمدة أسبوع أو أسبوعين، فعليك أن تقرأ على ضوء الشموع. لقد قرأت مارجريت دوراس، وتوني موريسون، وبول على ضوء الشموع، وكثيرًا ما طالت وريقات الكتاب قطرات من الشمع الباكي. لكنّ علامات الاستخدام تترك أيضًا تأثيرًا مُشترَكًا. فمن الجيد أن نعرف أن الكثير من الأشخاص قد قرأوا هذا الكتاب وتناقلته العديد من الأيدي والأماكن، الأمر الذي يُفْضِي بالكثير عن قوة الكلمة ونفاذها وتأثيرها مهما كانت الأوضاع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
(*) هي أهم مجموعة أدبية في تاريخ ألمانيا ما بعد الحرب، وجاءت تعبيرًا عن أحلام جيل عاش مآسي الحرب العالمية الثانية واختار تأسيس كتابة أدبية جديدة.
رابط الحوار: https://taz.de/Autor-ueber-globale-Verflechtungen/!6010964/