تُنبئ الأحداث الأخيرة في كينيا عن حدوث تحول في العلاقة بين الدولة والمجتمع في إفريقيا، فقد كشفت تلك الأحداث والتظاهرات عن نشوء حالة جديدة من النشاط المدني في إفريقيا، استطاعت أن تحقق أهدافها وطلباتها، مدعومة بالتقدم التقني والقدرة على الوصول إلى أدوات التواصل الاجتماعي، والقدرة على مواجهة عنف الشرطة واستنفار المجتمع من أجل وقف الاستخدام المفرط للقوة من جانب الدولة، بما أدى إلى تحول في المشهد المدني في كينيا؛ حيث استطاع الشباب المحتجون أن يضغطوا على الحكومة التي أذعنت في النهاية لمطالبهم وتراجع الرئيس عن التوقيع على قانون الضرائب الجديدة في البلاد.
فقد بدأت الأحداث بعد أن وافق البرلمان الكيني على مشروع قانون جديد للمالية يفرض ضرائب على الخبز والسلع الأخرى، يجمع 2.7 مليار دولار من جيوب المواطنين، في إطار سعي البرلمان لوضع خطة الموازنة للبلاد في العام المالي المقبل، قبل أن ينجح المحتجون في إجبار الرئيس على رفض التوقيع على مشروع القانون. وبالرغم من الاستخدام المفرط للقوة من قبل الشرطة الكينية في مواجهة المحتجين، إلا أن التظاهرات اشعلت البلاد، وتخطت مطالب المحتجين مشروع القانون الضريبي وعجز الموازنة إلى مزيد من الإصلاحات الاقتصادية والسياسية تصل إلى حد مطالبة الرئيس بالتنحي عن السلطة.
كما تشير الاحتجاجات الأخيرة إلى مستوى الانقسام المجتمعي في كينيا، وكذلك الاستقطاب السياسي وعدم رضا الشباب عن منظومة الحكم في البلاد بعد انتخابات رئاسية جدلية أجريت في أغسطس 2022 فاز فيها الرئيس الحالي وليام روتو بـ 50.49% على حساب منافسه أودينغا، الذي يتهم بأنه له يد في قيادة التظاهرات الحالية، في ظل اتهامات متبادلة بتزوير الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وفي ظل أزمة سيولة فشلت فيها الحكومة في توفير رواتب آلاف العاملين في القطاع العام في أبريل 2023. كما أن البرلمان المتهم بإصدار تشريعات ضد مصالح المواطنين يتقاسمه تحالف الرئيس الحالي وليام روتو “كينيا كوانزا” بـ179 مقعداً، بينها 143 لحزب الرئيس “التحالف الديمقراطي المتحد”، من أصل 349 مقعداً برلمانياً. في المقابل، فاز تحالف المعارضة بقيادة أودينغا بـ158 مقعداً.
وتمثل الحالة الكينية تطورًا للنشاط المدني في إفريقيا جنوب الصحراء؛ حيث استطاع المحتجون أن يستخدموا أدوات التواصل الاجتماعي بكفاءة في التشبيك والحشد والتخطيط للتظاهرات، كما عملوا على استخدام التقنية في إغراق هواتف البرلمانيين برسائل احتجاجية، كما عكست تلك الاحتجاجات وعيًا بالأوضاع الاقتصادية في البلاد، والتي فشلت حكومتها في تنمية مواردها ورضخت لإملاءات صندوق النقد وتوسعت في الاقتراض واستخدمت الشرطة في قمع المواطنين، التي قتلت عشرات من المحتجين الذين أرادوا اقتحام البرلمان، ولكن بالرغم من ذلك استطاع الشباب الكيني أن يخضع السلطة لطلباتهم.
فقد استطاع المحتجون أن يحشدوا الشباب على منصة X Spaces التي تتيح لهم استضافة محادثات صوتية مباشرة لمناقشة مختلف القضايا، كما استخدموا منصات أخرى مثل تيك توك لحشد التظاهرات، واستطاعوا التشبيك مع النقابات التي هدد بعضها بالإضراب العام في حال عدم الإفراج عن المعتقلين، كما أدانت نقابة الأطباء الاستخدام المفرط للقوة ضد المتظاهرين الذين وقع منهم العشرات بإصابات دامية بما دفعها إلى التهديد بالإضراب العام. وبالرغم من أن السلطة استخدمت كل أدواتها السياسية والقانونية لقمع المتظاهرين، مثل استصدار أمر من المحكمة العليا باستخدام الجيش في قمع الاحتجاجات بعد عجز الشرطة عن حماية المنشآت الحكومية، إلا أن الحركة المدنية نجحت في تجييش النشطاء القانونيين لإجبار المحكمة العليا في البلاد على استصدار قرار لوقف نشر الجيش.
وقد جاءت الحالة الكينية بنموذج مثالي عن مشكلات الحكم في إفريقيا؛ حيث عجزت الحكومة عن تنمية مواردها ومن ثم اللجوء إلى جيوب المواطنين ثم استخدام القوة المفرطة من أجل إخضاع المواطنين وقمع مطالبهم، بالرغم من أن كينيا تتمتع بقدر من الديموقراطية مقارنة ببقية الدول الإفريقية جنوب الصحراء. فبالرغم من أن الرئيس الكيني وليام روتو انتخب ديموقراطيًا منذ ما يقرب العامين بعد أن حمل أجندة حماية الفقراء، إلا أنه لُقب على وسائل التواصل الاجتماعي بـ “الرئيس الطائر”، لكثرة سفرياته واستخدامه للطائرات، ما جلب له انتقادات واسعة، كما اتهمه معارضوه بأنه فشل في تنمية موارد البلاد وخضع في النهاية إلى المؤسسات المالية العالمية مثل صندوق النقد الذي يجبر المقترضين على إجراء إصلاحات هيكلية رأسمالية لاقتصاداتها تسحق الفقراء وتغرق البلاد في الديون وفوائدها، وهي حالة متكررة في عدد من الدول الإفريقية التي فشلت في تنمية مواردها وتعظيم إنتاجها وتوسيع قدراتها الاقتصادية والتنموية.
وقد راح ضحية الاشتباكات العشرات من القتلى والجرحى والمفقودين، حيث لم تتكشف بعد الحصيلة النهائية للضحايا، لكن التحول في أنماط الاحتجاج السلمي كان مدفوعًا بالتحول في أدوات التواصل الاجتماعي الذي أدى إلى تضخيم فاعلية الأصوات المهمشة وتشبيكها وحشد الجماهير وتسهيل التواصل بين النشطاء، كما أدت وسائل الذكاء الاصطناعي كذلك إلى تسهيل القدرة على الحشد ودعوة المواطنين وبث الرسائل الجماعية. كما أدى انتشار وسائل التواصل والإعلام الجديد إلى تسليط الضوء على انتهاكات السلطة وتعظيمها وفضحها مما أدى إلى تقليل ضحايا العنف السياسي المرتبط بالاحتجاجات السلمية نتيجة لذلك، مقارنة بالأحداث السياسية السابقة في كينيا وغيرها من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء.
حيث في كينيا، تستخدم منظمات المجتمع المدني والنشطاء التكنولوجيا لتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان والدعوة إلى التغيير وتوثيق وحشية الشرطة والإبلاغ عنها ومشاركة الصور ومقاطع الفيديو للحوادث والدعوة إلى المساءلة، حيث تستخدم منظمات المجتمع المدني والنشطاء البيانات والأرقام للحشد والتأثير، مثل مركز إفريقيا للحوكمة المفتوحة (AfriCOG) على سبيل المثال الذي يستخدم البيانات للتحقيق في الفساد وكشفه في المؤسسات الحكومية، بينما تستخدم مجموعات مثل اللجنة الكينية لحقوق الإنسان (KHRC) البيانات لرصد انتهاكات حقوق الإنسان والإبلاغ عنها.
فقد غرقت كينيا في الديون من صندوق النقد الدولي وغيره من الكيانات المانحة، حيث وصلت ديون البلاد الخارجية إلى 82 مليار دولار، وتبلغ فائدة الديون وحدها 37% من إجمالي الإيرادات السنوية للبلاد، وبدأت سن قوانين تفرض المزيد من الضرائب على الخبز والزيوت والسيارات، وهو ما يمثل ضربة للطبقات الفقيرة والمتوسطة، حيث لا يهدف مشروع القانون الجديد إلى فرض ضرائب على الأغنياء فقط، ولكن على مختلف الطبقات لاسيما الفقيرة منها التي تعتمد على الخبز والزيت بصورة رئيسية، وهي توليفة نمطية لإشعال الاحتجاجات في الدول التي تعتمد على أجندة صندوق النقد الرأسمالية التي لا تراعي الفقراء ولا تقدم حلولا تنموية وإنما فقط إصلاحات هيكلية على النمط الرأسمالي الغربي الطاحن للفقراء.
ومع تراجع الرئيس الكيني عن التوقيع على مشروع القانون، فإن هذا مثّل انتصارًا للحركة المدنية الكينية، ونجاحًا لجهود الشباب في الحشد والتأثير على صانع القرار الكيني، ومن ثم فإن هذه الاحتجاجات ستمثل خطوة مهمة في طريق النشاط المدني في القارة السمراء، حيث أجبر الرئيس على فتح حوار مع الشباب في أعقاب التظاهرات، كما صرح بأنه سيبدأ بإجراءات تقشفية تعمل على خفض نفقات الرئاسة لسد العجز في موازنة البلاد، بما يشير إلى نجاعة الحركة الاحتجاجية في إصلاح المسار السياسي الذي بالرغم من أنه كان ديموقراطيًا وأتى بنواب من الشعب، إلا أنهم لم يلقوا اعتبارًا للشعب وساروا في مسار ضد مصالحه العامة، وجاءت تلك الاحتجاجات كأداة لإعادة مسار الحكومة في اعتبار مصالح الشعب وليس النخبة الحاكمة وحدها.
بالرغم من أن الاحتجاجات بدأت سلمية، إلا أنها تطورت إلى مهاجمة المؤسسات العامة والمنشآت واحتلال البرلمان، كرمز لسيادة الدولة وجناحها التشريعي، بما دفع السلطة إلى الاستعانة بالجيش بعد عجز الشرطة عن مواجهة الاحتجاجات. وقد تطورت الأحداث، كما في الحالات الكلاسيكية للتظاهرات التي تتحول إلى ثورات، مثل حالات شمال إفريقيا في الربيع العربي، نتيجة لبطء استجابة السلطة لمطالب الشعب، وعدم استيعابها لحجم الاحتجاج، واللجوء في المقابل إلى محاولة تشويهها وتخوينها؛ حيث اتهمت السلطة قادة التظاهرات بأنهم ممولون من الخارج ولهم أجندات لزعزعة الاستقرار في البلاد وأن من يقودونهم هم خارجون عن القانون ومجرمون، وهي حالة الإنكار التي عادة ما تصاحب الأنظمة في حالات الاحتجاج الشعبي، إلا أن نطاق الاحتجاجات أجبرت السلطة في النهاية على الإذعان والقبول بمطالب المحتجين.