بسمة سعد
باحثة في المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية
المقدمة:
تطورات متسارعة ومثيرة للقلق شهدها الداخل التشادي تُعدّ هي الأعقد منذ بدء المرحلة الانتقالية في البلاد، تكشف عند المقارنة بين أولى مشاهدها عقب إعلان وفاة الرئيس التشادي إدريس ديبي في أبريل 2021م، والمتمثلة في إطلاق رئيس المجلس العسكري الانتقالي محمد إدريس ديبي عدة وعود واتخاذ سياسات تُشير إلى بدء انفراجة حقيقية في البلاد وفتح المجال العام، وإطلاق حوار وطني في أغسطس 2022م، وعودة العديد من قادة التمرد والناشطين السياسيين إلى تشاد عقب سنوات من المنفى، وبين آخِر مشاهدها المتمثلة في إعلان فوز محمد ديبي برئاسة تشاد لولاية مدتها 5 سنوات بنسبة 61% من الأصوات في 10 مايو 2024م، وبدء عهد سياسي جديد للبلاد تحت رئاسة محمد ديبي، والتي سبقها مقتل أبرز معارضيه السياسيين يحيي ديلو، تكشف عن تحول كبير في سياسة محمد ديبي، وهو ما يُثير تساؤلًا حول: ملامح المسار الانتقالي التشادي وانعكاساته على دول الجوار؟
انطلاقًا مما سبق، تهدف الدراسة لتناول مراحل تطور المسار الانتقالي التشادي منذ تولي محمد ديبي رئاسة المجلس العسكري عقب وفاة الرئيس التشادي إدريس ديبي في أبريل 2021م، وما شهده من تطورات وما يحمله من دلالات، بالإضافة إلى مناقشة تداعيات حدود التفاعل والتشابك بين الداخل التشادي ودول الجوار، في خضم ما تشهده دول منطقة الساحل من تحولات سياسية وأمنية قد تكون ألقت بظلالها على الداخل التشادي، وفرضت حالةً من التأثير والتأثر بين الداخل التشادي والإقليم.
أولًا: نحو مزيد من التعقيد.. ملامح المسار الانتقالي التشادي
مرت المرحلة الانتقالية التشادية منذ وفاة الرئيس إدريس ديبي، وتولي ابنه محمد ديبي رئاسة المجلس العسكري في أبريل 2021م، وحتى لحظة إعلان فوز محمد ديبي برئاسة البلاد، بمرحلتين؛ أولاهما: اتسمت بالانفتاح والانفراجة، والأخرى اتسمت بالديكتاتورية وتقييد حرية الرأي والتعبير، وإلغاء مبدأ المشاركة، والتي كانت سببًا لنشوب التوترات الأمنية والسياسية الداخلية في الفترة الأخيرة، ويُمكن تناول أبرز ملامح هذه المرحلة كالتالي:
1- المسار الأول للمرحلة الانتقالية:
والذي اتسم بالانفتاح والانفراجة، وإن شَابَهُ العديد من الشكوك، في ضوء ما أطلقه محمد ديبي من وعودٍ وسياسات بمستقبل سياسي للبلاد يعتمد على الحوار والتفاوض، اتخذ خلاله عدة قرارات وسياسات، أبرزها التالي:
– تحديد مسار سياسي انتقالي يُفضي إلى انتخابات حرة وتشكيل حكومة مدنية:
فعقب تولّي محمد إدريس ديبي رئاسة المجلس العسكري الانتقالي، حدَّد مسارًا سياسيًّا انتقاليًّا للبلاد مدته 18 شهرًا، قابلة للتجديد مرة واحدة، تُفضي نحو حكومة مدنية عبر انتخابات حرة وديمقراطية، اتبعها تشكيل حكومة انتقالية في مايو 2021م، ضمَّت ثلاثة أفراد من قوى المعارضة شغلوا ثلاث حقائب وزارية (العدل والتعليم والخارجية)، هم على التوالي: محمد أحمد الهابو، المعارض البارز للرئيس ديبي الراحل، ووليداي بياسيمدا، التي حلت في المرتبة الثالثة في الانتخابات الرئاسية التشادية الأخيرة، وشريف محمد زيني، الذي كان متحدثًا باسم ثلاث مجموعات متمردة([1]).
كما ضمَّت الحكومة الانتقالية في إحدى حقائبها حقيبة المصالحة الوطنية والتماسك الاجتماعي التي كان أول رؤسائها أحد رموز المعارضة التشادية الشيخ ابن عمر وهو الأمين العام الأسبق لجبهة التحرير الوطنية التي شاركت في التمرد على الرئيس الراحل إدريس ديبي عام 2008م، والذي كاد أن يُسْقِط حكم ديبي لولا التدخل الفرنسي حينئذ، وتمكّنه من فكّ حصار المتمردين عن القصر الرئاسي والسيطرة على العاصمة التشادية إنجامينا؛ حيث يتمتع ابن عمر بعلاقات واسعة تجمع بين النخبة الحاكمة باعتباره مستشارًا دبلوماسيًّا للرئاسة منذ العام 2019م، وبين رموز المعارضة([2])، تُثقّل من مصداقية دعوة المجلس العسكري للانفتاح على الحوار والمعارضة.
وعلى الرغم مما أُثير من جدل حول دستورية تشكيل مجلس عسكري انتقالي برئاسة محمد ديبي، إلا أن هذه الخطوة لاقت دعمًا واعترافًا مِن قِبَل عدد كبير من قادة المعارضة مثل صالح كبزابو، أبرز معارضي الرئيس التشادي الراحل، وذلك بعدما ضمَّت الحكومة اثنين من حزب كبزابو([3])، كما ضمَّت الحكومة الانتقالية في تشكيلها محمد أحمد الهابو، المُعارض التاريخي لإدريس ديبي والمنتمي إلى حزب الحريات والتنمية، بتوليه حقيبة العدل([4]).
– إصدار محمد ديبي عفوًا رئاسيًّا عن المتمردين والمعارضين:
أصدر المجلس العسكري في نوفمبر 2021م مرسومًا بالعفو العام عن المتمردين والمعارضين المُدانين بارتكاب “جرائم رأي أو إرهاب”، أو “المساس بوحدة الدولة”، والذي شمل نحو 296 مُدانًا بين معتقلين وغير معتقلين، ضمت نحو 39 شخصًا متهمين بالمساس بوحدة الدولة، أو جرائم الرأي والتعبير، إضافة إلى نحو 257 عنصرًا من الجماعات المسلحة والمعتقلين والمحكوم عليهم الذين سبق وأن شنّوا هجمات للإطاحة بالرئيس الراحل إدريس ديبي في العام 2019م؛ وذلك تلبيًا لأحد مطالب الجماعات المتمردة الرئيسية كشرط للقبول بدعوة محمد ديبي لإجراء مفاوضات مع المتمردين([5]).
– توقيع اتفاقية الدوحة للسلام 2022م
خلال الفترة (مارس – أغسطس) 2022م، احتضنت العاصمة القطرية الدوحة مباحثات بين الحكومة الانتقالية التشادية وممثلين عن الأحزاب والحركات المسلحة التشادية، كأولى الخطوات في طريق المصالحة الوطنية التشادية، وبوابة تمهيدية نحو بدء انعقاد الحوار الوطني الشامل في العاصمة التشادية إنجامينا، انتهت بتوقيع “اتفاقية الدوحة للسلام ومشاركة الحركات السياسية العسكرية في الحوار الوطني الشامل السيادي في تشاد” في أغسطس 2022م([6])، بمشاركة نحو 40 حركة مسلحة. وتمثلت أبرز بنود الاتفاق في: وقف الأعمال العدائية بصورة تامة ونهائية بمجرد التوقيع على الاتفاق، إلى جانب الاتفاق على نزع السلاح والتسريح وإعادة دمج الحركات المسلحة، ناهيك عن تعهّد الأطراف المُوقِّعة على الاتفاق ببدء تنظيم حوار وطني شامل، تكون قراراته مُلزِمَة للجميع، ويُستند على أساس توافقي وشفاف وشامل يُرضي جميع الأطراف المشاركة([7]).
-إطلاق الحوار الوطني الشامل
اتساقًا مع ما تم الاتفاق عليه في اتفاق الدوحة، وفي محاولة لخلق أجواء إيجابية تثبت صدق مساعي إجراء مصالحة وطنية مع القوى المعارضة وجماعات التمرد؛ قام الفريق محمد ديبي بإطلاق دعوته للحوار الوطني الشامل الذي عقدت جلساته خلال الفترة (أغسطس- أكتوبر 2022م)، مع تشكيل لجنة منظمة للحوار بقيادة الرئيس السابق للبلاد قوكوني وداي، أُلحقت بها لجنة أخرى باسم “اللجنة الفنية الخاصة المتعلقة بمشاركة المعارضة السياسية العسكرية في الحوار الوطني الشامل”؛ للعمل على تسهيل مشاركة كافة القوى المعارضة سواء السياسية أو المسلحة([8]).
ولقد قُدر عدد الحركات المُسلحة المدعوَّة للحوار الوطني بحوالي 52 حركة، أتى على رأسها حركة “جبهة الوفاق من أجل التغيير” (فاكت)، إلى جانب نحو 200 حزب سياسي وتجمُّع مدني من الداخل والشتات، بعدد إجمالي وصل إلى نحو 300 شخص([9]).
وعلى هامش الحوار الوطني، وكأحد شروط عدد من قوى المعارضة للمشاركة في جلسات الحوار، قام المجلس العسكري بالإفراج عن عددٍ من قادة التمرد، والعفو عن عدد من الهاربين منهم، كالقيادي التشادي توم إرديمي الأخ التوأم لتيمان إرديمي، زعيم “اتحاد قوى المقاومة” -إحدى المجموعات المسلحة التشادية-، الذي تم الإفراج عنه في سبتمبر 2022م بعفو رئاسي مصريّ بعدما أمضى أشهرًا في السجن، كشرط رئيسي لانضمام “اتحاد قوى المقاومة” إلى الحوار الوطني الشامل([10]).
كما أن الحوار الوطني أتاح أجواء إيجابية حفَّزت عددًا من قادة التمرد والناشطين السياسيين التشاديين في الخارج على العودة إلى تشاد عقب سنوات من المنفى، مثل المعارضين التشاديين: ماكيلا نغيبلا، وأبيل ماينا، اللذين أصبحا فيما بعد مستشارين للسلطات الانتقالية.
ومع بَدْء الحوار في أغسطس، وعقد الجلسات التي ناقشت عددًا من القضايا محل اهتمام كافة الأطراف المشاركة، بدأت إرهاصات المسار الثاني من المرحلة الانتقالية في التبلور مع مرور الوقت، والتي اتسمت بمساعي الفريق محمد ديبي لفرض رؤيته لإدارة وحكم البلاد، وتقييد الحريات وسلب الحقوق؛ فعقب بدء جلسات الحوار بنحو أسبوع واحد، أعلن نحو 12 حزبًا وحركة مسلحة انسحابها من الحوار، لم يتراجع عنها سوى 4 أحزاب فقط، كما علقت الكنيستان البروتستانتية والكاثوليكية مشاركتهما، كما شككت عدد من القوى السياسية والمسلحة المعارضة في جدوى إطلاق الحوار، معلنةً عن رفضها المشاركة فيه، كان على رأسها جبهة الوفاق من أجل التغيير “فاكت” التي قادت الهجوم الذي أسفر عن مقتل الرئيس إدريس ديبي في أبريل 2021م([11]).
علاوةً على ذلك، قاطعت بعض القوى المعارضة المدنية الحوار، أبرزها تجمُّع أمة للجميع، وائتلاف أحزاب المعارضة، وقوى المجتمع المدني “واكت تاما”، في خضم ما وجَّهته هذه القوى من اتهامات للمجلس العسكري الانتقالي حول القيام بممارسات تنتهك حقوق الإنسان، وأن الهدف الرئيسي من إطلاق الحوار الوطني ليس لتحقيق المصالحة الوطنية، وإنما بهدف التحايل على المجتمع التشادي والقوى المعارضة في الداخل، والمجتمع الدولي في الخارج؛ من أجل تهيئة الأجواء العامة لقبول ترشح محمد ديبي في الانتخابات المقبلة، وبالتالي إعادة تكرار سيناريو والده في ترسيخ نظام حكم قائم على المركزية والتفرد في السلطة، على الرغم من أن الفريق محمد ديبي سبق وأن تعهَّد عقب توليه رئاسة المجلس العسكري الانتقالي بعدم الترشح في الانتخابات القادمة([12]).
ومع انتهاء جلسات الحوار الوطني والإعلان عن مخرجاته التي كان أبرزها؛ تمديد المرحلة الانتقالية لمدة عامين على أن يتولى محمد ديبي رئاسة المرحلة الانتقالية، مع قبول ترشحه في الانتخابات الرئاسية القادمة، وحل المجلس العسكري، واتساع عدد مقاعد المجلس التشريعي مع تخصيص 45 مقعدًا فيه للحركات المسلحة التي وقَّعت اتفاقية الدوحة للسلام([13])؛ وهنا ثارت موجة انتقادات واسعة في الشارع التشادي أشعلتها القوى المعارضة التي اعتبرت مخرجات الحوار الوطني ما هو إلا محاولة لإضفاء الشرعية على توريث الحكم([14])، تشكل على إثرها المسار الثاني للمرحلة الانتقالية.
2- المسار الثاني للمرحلة الانتقالية:
والذي سجَّل اتجاه المرحلة الانتقالية إلى وضعٍ حرجٍ، برز خلاله محاولة الرئيس محمد ديبي، الاستحواذ على السلطة، وفرض مركزية اتخاذ القرار، وتهميش القوى المعارضة، بل ومطاردتهم، مع تقييد حرية الرأي والتعبير وقمع التظاهرات، مع العمل على إعادة ترتيب الوضع السياسي والأمني بما يضمن رئاسته للبلاد، وهو ما حدث بفوز محمد ديبي برئاسة تشاد لولاية مدتها 5 سنوات، أعقبها تشكيل حكومة جديدة برئاسة رئيس الوزراء ألاماي هالينا، تم خلالها إنهاء مرحلة انتقالية امتدت لأكثر من 3 سنوات.
ولقد بدأت هذه المرحلة في البروز على نحو واضح عقب خروج مظاهرات يوم 20 أكتوبر 2022م -بالتزامن مع موعد انتهاء الفترة الانتقالية قبل تمديدها- في عدة مدن تشادية منها العاصمة إنجامينا ومدينتي موندو وكومرا؛ للإعراب عن رفضها لنتائج الحوار الوطني الشامل والمرحلة الانتقالية الجديدة، قادتها فئة الشباب التي تعاني بالفعل من ارتفاع معدل البطالة، ردت عليها القوات التشادية باستخدام العنف وتنفيذ حملة اعتقالات([15])، وأسفرت عن مقتل 50 شخصًا، وإصابة أكثر من 300 آخرين، واعتقال نحو 600 شخص، كما لجأت خلالها الحكومة التشادية لفرض حظر تجوال جزئي لفترة مؤقتة، وقطع خدمة الإنترنت لعدة أيام لحين استعادة الوضع الأمني للبلاد.
كما انتهجت الحكومة الانتقالية التشادية أربع آليات للتعامل مع قوى المعارضة؛ هي: تقييد تحركاتهم، واحتواؤهم، ثم تحييدهم عن المشهد السياسي، وقتلهم أو اعتقالهم. فعلى سبيل المثال، قامت الحكومة الانتقالية بالقبض على 6 من زعماء المعارضة وقادة حركة “واكت تاما”، والحكم عليهم بالسجن لمدة عام مع وقف التنفيذ وغرامة قدرها 15000 يورو، وذلك لقيادة احتجاجات ضد الوجود الفرنسي في البلاد في مايو 2022م سرعان ما تحولت لأعمال شغب أُصيب خلالها 12 ضابط شرطة([16]).
كما قام محمد ديبي بتحييد واحتواء بعض خصومه السياسيين الذين كانوا قادة للمعارضة مثل صالح كيبزابو الذي تولى رئاسة الحكومة الانتقالية خلال الفترة (12 أكتوبر 2022- 31 ديسمبر 2023م)، ثم أعقبه المعارض لنظام ديبي سيكسيه ماسرا، الذي سرعان ما تحوَّل من فئة المعارض الشرس إلى الداعم القوي للرئيس الانتقالي محمد ديبي والداعم لكافة سياساته، وهو ما جعل ماسرا محل انتقاد شديد مِن قِبَل أعضاء حزبه وباقي قوى المعارضة([17]).
وفي فبراير 2024م، اعتقلت السلطات التشادية الجنرال سيلي ديبي إيتنو، عم الرئيس محمد إدريس ديبي، كما تم مقتل زعيم “الحزب الاشتراكي بلا حدود” التشادي المعارض يحيى ديلو، وهو ابن عم الرئيس التشادي محمد إدريس ديبي، وذلك بعدما ادعت القوات التشادية والحكومة أن الحزب نفَّذ هجومًا على مبنى مديرية الأمن الوطني التشادية أسفر عن مقتل عدة أشخاص، لذا اقتحمت القوات التشادية مقر الحزب مما أسفر عن مقتل يحيى ديلو([18])، المُتَّهم بالتحريض على “محاولة اغتيال” رئيس المحكمة العليا قبل 10 أيام من مقتله -رغم نفي ديلو التهمة- ليخرج في أعقابها محمد ديبي، وتحديدًا في 2 مارس، للإعلان عن اعتزامه الترشح في الانتخابات الرئاسية المقررة خلال هذا العام؛ حيث كان ديلو أشد المعارضين الذين يخشاهم محمد ديبي؛ وذلك لقرابته به ولانتمائهما إلى جماعة الزغاوة([19]) التي تحتكر أعلى المناصب في الجيش وأجهزة الدولة منذ أكثر من 33 عامًا([20])، فكان ديبي يخشي من أن يقود ديلو انقلابًا ذاتيًّا على محمد ديبي من داخل قبيلة الزغاوة.
ولقد أخفق الرئيس محمد ديبي في محاولات استقطاب ديلو الذي تحوَّل مع مرور الوقت لأكبر مُهدِّد لمستقبل محمد ديبي بعدما نجح ديلو في استقطاب صالح ديبي إتنو الأخ الأصغر للرئيس التشادي الراحل إدريس ديبي، إلى عضوية حزبه “الحزب الاشتراكي بلا حدود” عقب انشقاقه عن الحزب الحاكم (الحركة الوطنية للإنقاذ)، وما لذلك من دلالة تكشف عن تمدد واتساع نفوذ ديلو لتشمل الدائرة المقربة لمحمد ديبي، وتكشف كذلك عن اتساع الطبقة المعارضة من قبيلة الزغاوة الحاكمة للبلاد، مما يعزّز من احتمالية وقوع انقلاب ذاتي من داخل القبيلة الحاكمة (الزغاوة) للإطاحة به، وذلك لسببين رئيسيين؛ أولهما: أن هناك تشكيكًا إلى حد ما في شرعية محمد ديبي، وأحقية حصوله على هذا المنصب داخل قبيلة الزغاوة؛ لكونه لا ينتمي للزغاوة بشكل خالص، حيث إن والدته وزوجته الثالثة الحالية والتي تحمل لقب السيدة الأولى “دهبايا عمر سوني” تنتميان إلى مجموعة القرعان الإثنية -المنافس الأبرز لقبيلة الزغاوة على السلطة، وهي ذات القبيلة التي تنتمي إليها جبهة “فاكت المعارضة المسلحة، التي قادت التمرد في العام 2021م، وتسببت في مقتل الرئيس التشادي “إدريس ديبي”([21]).
أما بالنسبة لثاني الأسباب فيتمثل في أن تحالف المعارض الأبرز في تشاد “ديلو” مع صالح ديبي قوَّى من شوكة ديلو أمام محمد ديبي، خاصةً أن شخصية صالح ديبي تتمتع بأهمية واحترام لدى الزغاوة، كما أنه قدم تمويلًا غير محدود لديلو خلال مرحلة الاستعداد للانتخابات، وهو ما عكس خطورة التحالف بين ديلو وصالح على مستقبل محمد ديبي؛ في ظل مخاوف الأخير من انعكاس هذا التحالف على تأليب الزغاوة وتنفيذ انقلاب ذاتي على محمد ديبي، لذا لجأ الأخير إلى اعتقال صالح ديبي في نفس يوم مقتل يحيى ديلو، ناهيك عن اعتقال عشرات الأعضاء من الحزب الاشتراكي بلا حدود، ونقلهم إلى سجن كوروتورر عقب تدمير مبنى الحزب([22]).
ورغم ذلك، حاول الرئيس محمد ديبي إضفاء صبغة ديمقراطية على ما يتخذه من سياسات قمعية وسُلطوية، كان من بين مؤشراتها: عودة رئيس حزب “ترانسفورمرز” سوكسيه ماسرا، المعارض المعروف لعائلة ديبي، إلى البلاد في 3 نوفمبر 2023م بعدما اضطر لمغادرة البلاد عقب احتجاجات 20 أكتوبر 2022م ضد النظام العسكري، وذلك بعد اتفاق مصالحة تم التوقيع عليه في كينشاسا خلال أكتوبر 2023م ضمن له حرية مزاولة العمل السياسي([23])، عُيِّن على إثرها رئيسًا للوزراء في يناير2024م؛ ليخرج ماسرا فيما بعد وتحديدًا عقب مقتل ديلو المعارض الأقوى والمنافس الأبرز لمحمد ديبي في 10 مارس، ليعلن عن ترشحه في الانتخابات الرئاسية([24])، في محاولة من قبل قادة المرحلة الانتقالية لإضفاء الشرعية على الانتخابات المقررة، وعلى ما يتخذه القادة من سياسات قمعية، وبالتالي احتواء أيّ انتقادات محتملة من المجتمع الدولي.
علاوة على ذلك، أجرى الرئيس محمد ديبي تعديلات دستورية صوَّت التشاديون عليها في ديسمبر 2023م، ضمت عددًا من التغيرات التي تُشير للوهلة الأولى إلى أنها تُعبِّر عن التغيير نحو الأفضل ومساعي التطوير والإصلاح الداخلي، مثل إنشاء مجالس محلية لترسيخ اللامركزية، وتخفيض الحد الأقصى لفترة الولاية الرئاسية من ست إلى خمس سنوات، إلى جانب تخفيض الحد الأدنى لسن الرئيس من 40 إلى 35 عامًا، ودعم استقلال الهيئة الانتخابية. لكن على الرغم من ذلك، وصف العديد من أعضاء المعارضة الاستفتاء بأنه مزيف، معتبرين أن خطوة الاستفتاء وما تتضمنه من تغييرات ليس الهدف منها سوى إضفاء الشرعية على سياسات محمد ديبي القمعية خلال السنوات القادمة([25])، لا سيما أن إدخال تعديلات دستورية إضافية لضمان بقاء محمد ديبي في السلطة بما يُعزّز السلطوية والمركزية وحكم الفرد خيار ليس بمستحيل أو صعب يُمكن تطبيقه في الفترة القادمة عقب تجاوز المرحلة الانتقالية التشادية وضمان فوزه برئاسة تشاد.
وما زاد من تعقيد المشهد في البلاد، أنه بالتزامن مع تدهور الوضع الأمني في البلاد لاعتبارات سياسية، شهدت البلاد تصاعدًا في أعمال العنف على أسس اجتماعية عرقية طوال عام 2022م؛ فعلى سبيل المثال، أدى نزاع حول تعيين زعيم تقليدي جديد في مدينة أبيشي الواقعة في منطقة واداي الشمالية، إلى مقتل ما لا يقل عن 13 مدنيًّا بعد تدخل القوات الأمنية، وعقب شهر قُتِلَ ما لا يقل عن 13 شخصًا في قرية ساندانا الواقعة في منطقة موين شاري الجنوبية، إثر اشتباك بين الرعاة والمزارعين أدى إلى إحياء التوترات بين الشمال والجنوب([26]).
في ضوء هذه التطورات والتحولات، فرضت حالة التحول في المرحلة الانتقالية من الانفتاح إلى المركزية والتفرد في إدارة المرحلة الانتقالية وتهيئة الوضع نحو إعادة الحكم السُلطوي، حزمة من التحديات الأمنية المهددة لأمن وسيادة واستقرار الدولة التشادية، أبرزها؛ ارتفاع فرص حدوث انقلاب عسكري. فمن الجدير بالذكر، أنه في 12 يناير 2024م، أعلنت القيادة العامة للجيش التشادي إحباط محاولة انقلاب ضد الرئيس محمد ديبي مِن قِبَل مجموعة تُدعى ” M3M” يقودها أحد القادة العسكريين، وهو الضابط “كورومتا ليفانا غليمي”، الذي قُدِّم وهو ومجموعته إلى العدالة، وذلك في ثاني محاولة انقلاب يتعرّض لها الرئيس محمد ديبي عقب محاولة أولى في ديسمبر 2022م تم خلالها اعتقال مجموعة من الضباط ومدنيّ، والحكم عليهم بالسجن 20 عامًا، قبل أن يصدر الجنرال محمد ديبي أمرًا بالعفو عنهم في مايو 2023م([27]).
أما بالنسبة لثاني التحديات/ المخاطر الأمنية، فتشمل اتساع نطاق الطبقة المعارضة للرئيس الانتقالي من قبيلة الزغاوة الحاكمة والتحامها مع القوى المعارضة من القبائل الأُخرى؛ حيث إن مقتل ديلو واعتقال صالح ديبي عقب انضمامه إلى حزب ديلو قبل مقتل الأخير يكشف عن اتساع دائرة الطبقة المعارضة من قبيلة الزغاوة وانقسامها ذاتيًّا إلى تيار داعم للرئيس الانتقالي محمد ديبي وآخر معارض له في كل أجهزة الدولة ومؤسساتها، لا سيما الجيش التشادي؛ حيث أثار مقتل ديلو غضب القبيلة، وهو ما يُفسِّر حرص الرئيس محمد ديبي على إعادة ترتيب الجيش وهيكلته مع ترقية من يدينون بالولاء له وضمّ عدد من أبناء قبيلته الزغاوة إلى التسلسل الهرمي للجيش، إلى جانب عدد قليل من الغوريين والعرب؛ حيث قام الرئيس محمد ديبي بإنشاء وحدات عسكرية جديدة موالية له لضمان حمايته وتعزيز سلطته على الأجهزة الأمنية والعسكرية([28])، كـ”قوة التدخل السريع” بقيادة عثمان آدم ديك التي تحتل موقع “الإدارة العامة للمصالح الأمنية لمؤسسات الدولة” التي يقودها الجنرال الطاهر أردا([29]).
كما قام محمد ديبي خلال العامين الماضيين بترقية ما لا يقل عن 300 ضابط إلى رتبة جنرال في غضون أسابيع قليلة، ليبلغ إجمالي عدد من تم ترقيتهم ما يقرب من 600 ضابط من أصل جيش يقدر بنحو 45 ألف رجل([30]).
وما يزيد الطين بلة في خضم الأزمة الاقتصادية التشادية، وتصاعد الأصوات المعارضة للرئيس الانتقالي محمد ديبي، أن العديد من المنضمين إلى التسلسل الهرمي للجيش ليس لديهم منصب حقيقي أو وحدة قيادية، وأن التعيين مجرد لقب يمنحه العديد من المزايا، مقابل ربطه بالسلطة وضمان ولائه للنظام، فمن بين هذه المزايا: تمتعه برعاية صحية مجانية، والحصول على الكهرباء والماء والوقود، إلى جانب تمتعه بحراسة شخصية، وراتب شهري يبلغ حوالي مليوني فرنك إفريقي (3,259 دولارًا)، وما لذلك من تأثير على ميزانية الدولة في ظل وجود تقديرات تُشير إلى أن رواتب الجنرالات تكلف الدولة حوالي 10 مليارات فرنك إفريقي على أقل تقدير، وهو ما يُفسر زيادة ميزانية وزارة القوات المسلحة بنسبة 245% أخرى بين عامي 2022 و2023م، بينما تم تخفيض ميزانية التربية المدنية بنسبة 18%([31]).
ثانيًا: حدود التشابك… أبعاد التفاعل بين الداخل التشادي وأزمات دول الجوار
تحتل تشاد مكانة وأهمية جيوستراتيجية بالغة في محيطها الإقليمي، لا سيما دول الجوار التشادي، جعلتها في محط أنظار العديد من القوى الإقليمية والدولية، لا سيما فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك روسيا والصين في ضوء حالة التنافس الدولي المنعكسة في منطقة الساحل الإفريقي. ومِن ثَم، فإن أي أزمات يشهدها الداخل التشادي، أو أزمات تواجهها دول الجوار كالحرب السودانية، وتنامي أنشطة الجماعات الإرهابية وجماعات الجريمة المنظّمة، ستلقي كل منها بظلالها على الآخر بقدر كبير من التفاعل يفرز مزيدًا من التعقيد.
1- انعكاسات الحرب السودانية على الداخل التشادي
منذ اندلاع الحرب السودانية في 15 أبريل 2023م، وبالتزامن مع تأزم الوضع في ليبيا، وتحوُّل الجنوب الليبي لحاضنة رئيسية للجماعات الإفريقية المسلحة المعارضة؛ تحوَّلت الحدود الثلاثية السودانية الليبية التشادية لحدود ملتهبة محفوفة بالمخاطر الأمنية، ألقت بظلالها على الأمن القومي التشادي، وذلك في ظل تعدد المسارات الرابطة بين تشاد والسودان كالمسار الرابط بين منطقة وداي ومدينة أشي إلى منطقة أدري، ثم إلى ولاية غرب دارفور بالسودان، وطريق يتجه شمالًا من الصحراء التشادية إلى ولاية شمال دارفور السودانية، ومسار آخر من جنوب شرق تشاد عبر إفريقيا الوسطى([32])، باتت على إثرها إنجامينا دولة عبور ومصدرًا رئيسيًّا للإمداد بالأسلحة والمرتزقة.
فمع اندلاع الحرب السودانية، كانت تشاد ولا تزال من أبرز البلدان التي تعاني من تبعات الحرب، مثلما باتت أراضيها امتدادًا لساحة الصراع بين قوات الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. فبخلاف إثقال كاهل تشاد بنحو 547 ألف لاجئ سوداني -وفقًا لآخر إحصاءات صادرة عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في شهر فبراير 2024م- اتخذوا من شرق تشاد قبلة رئيسية للجوء هربًا من الاقتتال الدائر في السودان([33])؛ فإن حدود تشاد أصبحت خط الإمداد الأول لقوات الدعم السريع بالسلاح والمؤن والمرتزقة لتعزيز وضعها في ساحة القتال، في خضم حرب مدعومة من عدة دول مثل الإمارات وروسيا وليبيا؛ حيث قوات المشير خليفة حفتر قائد الجيش الليبي، ومن مقاتلين ومرتزقة من مختلف البلدان الإفريقية، بما في ذلك دول الجوار السوداني، وهو ما يفرض مزيدًا من الضغوط على الأمن القومي التشادي، لا سيما المعبر الحدودي الغربي بين دارفور وتشاد، مثلما جاء في حديث مندوب السودان الدائم في الأمم المتحدة الحارث إدريس في كلمته أمام جلسة مجلس الأمن في مارس 2024م([34]).
وقد أوضح الفريق إبراهيم جابر، عضو مجلس السيادة في السودان في مارس 2024م، أن المساعدات التي تدخل عبر تشاد كأحد المسارات المحددة لدخول المساعدات الإنسانية، قد تتضمن تهريب أسلحة لقوات الدعم السريع، لافتًا بأن الأخيرة تتلقى دعمًا عسكريًّا عبر الحدود التشادية منذ يونيو 2022م، وأن قوات الجيش لا تزال ترصد حتى الآن المسارات المختلفة لإمداد قوات الدعم السريع بالأسلحة إما عبر البحر المتوسط ثم ليبيا ثم غرب السودان، أو عبر أوغندا ثم تشاد ثم المناطق الخاضعة لسيطرة قوات حميدتي([35]).
كما حدد فريق الخبراء المعنيّ بالملف السوداني في تقريره الأممي الصادر في يناير 2024م ثلاث طرق إمداد جديدة لقوات الدعم السريع لا تزال نشطة حتى الآن؛ أبرزها الطريق الرئيسي عبر شرق تشاد؛ حيث لاحظ فريق الخبراء منذ يونيو 2023م رحلات جوية مكثفة لطائرات شحن قادمة من مطار أبوظبي الدولي إلى مطار أم جاراس في شرق تشاد، مع توقفها في عدة دول إقليمية مثل كينيا ورواندا وأوغندا، بالإضافة إلى طريق إمداد آخر من جنوب ليبيا إلى دارفور، لعب خلالها القوات المسلحة الدارفورية المتمركزة في جنوب ليبيا دورًا في تسهيل صفقات السلاح والوقود بأسعار أرخص بفضل علاقاتها مع الجيش الوطني الليبي، دورًا رائدًا في هذا التهريب المارّ عبر منطقة الحدود الثلاثية بين ليبيا وتشاد والسودان، لا سيما عبر أم جاراس التشادية([36]).
يُضاف إلى ذلك، تعدّدت التقارير التي تناولت الدعم الإماراتي العسكري لقوات حميدتي عبر تشاد، من بينها تقرير صادر عن صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية يؤكد أن أبو ظبي تقدّم دعمًا عسكريًّا لقوات الدعم السريع عبر المنطقة الشرقية لتشاد، مستدلةً في ذلك على رصد هبوط طائرة شحن إماراتية كانت تحمل أسلحة وذخيرة في مطار أوغندي في يونيو 2023م، سُمح لها بعد ذلك بمواصلة رحلتها إلى مطار أم جرس شرق تشاد، في الوقت الذي كانت تُظهر فيه وثائق رسمية أن الطائرة تحمل مساعدات إنسانية إماراتية إلى اللاجئين السودانيين([37])، وهي المعلومات التي تمكّن فريق الخبراء الأممي المعنيّ بالسودان من التأكد منها في التقرير السابق ذِكْره، مع الإشارة إلى أن شحنات الأسلحة تراوحت ما بين أسلحة صغيرة وخفيفة وطائرات غير مأهولة وصواريخ مضادة للطائرات ومدافع هاون وأنواع مختلفة من الذخيرة، وصلت إلى قاعدة زروك في دارفور، وتم نقل معظمها إلى الخرطوم عبر طرق صحراوية يستخدمها المهربون عادة في اتجاه الشمال الشرقي([38]).
كما أكدت الخارجية السودانية في مايو 2024م امتلاكها أدلة بشأن استقبال مطارات تشاد، لأكثر من 400 رحلة طيران تحمل عتادًا حربيًّا لقوات الدعم السريع من الإمارات، وأن إنجامينا خصَّصت مطاري أم جرس وأبشي لاستقبال الرحلات الجوية([39]). وترمي الإمارات من وراء دعم قوات حميدتي إلى حفاظ أبو ظبي على استثماراتها في الذهب، باعتبار أن عائلة حميدتي تُسيطر على غالبية مصادر الذهب في السودان، إلى جانب الاستفادة من موقع السودان الجيوستراتيجي، بما في ذلك الحصول على حصة في ميناء مخطط على البحر الأحمر بتكلفة 6 مليارات دولار، ورد الجميل لقوات الدعم السريع التي شاركت إلى جانب القوات الإماراتية في اليمن، وهو ما كان سببًا في توتر العلاقات السودانية الإماراتية، مثلما أوضحت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية في تقريرها السابق الإشارة إليه([40]).
وعقب أشهر من غضّ الطرف السوداني عن الدعم الإماراتي لقوات حميدتي عبر تشاد، كانت تصريحات الفريق ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة السودانية في 28 نوفمبر 2023م، بمثابة نقطة تحول في العلاقات بين البلدين عندما اتهم الإمارات بأنها “دولة مافيا “سلكت “طريق الشر” بدعمها قوات الدعم السريع من خلال إرسال الأسلحة عبر أوغندا وإفريقيا الوسطى إما عبر مجموعة فاغنر الروسية قبل تراجع نفوذها، أو عبر الأراضي التشادية، دخلت على إثرها العلاقات في منعطف خطير، دفع الخرطوم بتقديم طلب في مجلس الأمن لعقد جلسة طارئة يوم 28 أبريل 2024م للبحث في “عدوان الإمارات على الشعب السوداني”، ومساندتها قوات الدعم السريع في الحرب التي تخوضها مع الجيش([41]).
وبخلاف ما تم رصده من تعاون إماراتي مع قوات الدعم السريع عبر الحدود التشادية، تعددت التقارير التي أكدت دعم مجموعة فاغنر العسكرية المتمركزة في ليبيا لقوات حميدتي؛ حيث نشرت شبكة “سي إن إن” CNN تحقيقًا مفصلاً في يونيو 2023، يكشف عن مد مجموعة “فاغنر” الروسية قوات حميدتي بالأسلحة عبر طرق الإمداد في منطقة دارفور، كما أشار التحقيق إلى أن إمدادات فاغنر العسكرية لقوات الدعم بدأت قبل اندلاع الأزمة السودانية([42]).
هذا إلى جانب ما رصده موقع “ميدل إيست آي”(Middle East Eye) البريطاني في 11 يوليو 2023م نقلًا عن مصادر استخباراتية، بشأن تورط المشير خليفة حفتر قائد الجيش الليبي، في توريد السلاح والوقود لقوات الدعم السريع عبر الحدود إلى السودان، من خلال ما لا يقل عن 10 قواعد جوية وبرية في ليبيا مخصصة لتوفير الدعم العسكري اللازم لقوات حميدتي، منها قاعدة الجفرة، وقاعدة تمنهنت، وقاعدة براك الشاطئ، وقاعدة الخادم، وقاعدة جمال عبد الناصر، وقاعدة الأبرق جنوبي البلاد، وأنه مع مرور الوقت لجأ حفتر إلى تغيير طرق الإمداد لتكون من القواعد الليبية إلى إفريقيا الوسطى، ثم منها إلى السودان([43]).
يُضاف إلى ذلك، تعددت الشواهد الدالة على انخراط مرتزقة أفارقة من وسط وغرب إفريقيا في الحرب السودانية، لا سيما من تشاد والنيجر وإفريقيا الوسطى إلى جانب قوات الدعم السريع في الحرب، في ظل تعدد المسارات الرابطة بين تشاد والسودان السالف الإشارة إليها؛ ومنها: إعلان الجيش السوداني في أبريل 2024م عن إلقاء القبض على مقاتلين من دولتي تشاد وجنوب السودان، ضمن قوات الدعم السريع في مقر قيادة وسيطرة قوات الدعم السريع بمقر الإذاعة والتلفزيون بأم درمان([44])، إلى جانب تصريح قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان بقوله: إن “مرتزقة جاءوا من تشاد وإفريقيا الوسطى والنيجر” يقاتلون مع قوات الدعم السريع، مؤكدًا أن الجيش قتل قناصًا أجنبيًّا، كما تداولت قوات حميدتي مقاطع فيديو على شبكات التواصل الاجتماعي لمقاتلين في تشاد أو النيجر يعلنون دعمهم له.([45])
هذا بخلاف تداول مقاطع فيديو تضم اعترافات لمرتزقة يرتدون زيّ الدعم السريع، قادمين من إفريقيا الوسطى، وتشاد، وجنوب السودان، وإثيوبيا، يدعمون حميدتي، ويتحركون عبر ولايات غرب ووسط السودان، مثل اعتراف زعيم حركة “نضال مظلوم” التشادية حسين الأمين جوجو بدعم قوات حميدتي؛ حيث إن العديد من العناصر التشادية المعارضة والمنحدرة من أصول عربية تقاتل إلى جانب قوات حميدتي، وذلك على أمل أن هزيمة قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان، يعني بدء مرحلة جديدة لإسقاط النظام التشادي برئاسة محمد ديبي بدعم من قوات حميدتي([46])، وذلك على الرغم من أحد نقاط الخلاف الرئيسية بين المعارض الأبرز ديلو والرئيس محمد ديبي تتمثل في رفض الأول دعم الثاني لقوات حميدتي، وبمقتل ديلو، تمكّن ديبي من إضعاف الجبهة المعارضة لدعم قبيلة الزغاوة قوات الدعم السريع، والتي قد تُعدّ أحد محفزات حدوث انقلاب ذاتي داخل قبيلة الزغاوة.([47])
ومِن ثَم، تسبَّبت الحرب السودانية في توتر العلاقات التشادية السودانية؛ حيث أعلنت الخارجية السودانية في ديسمبر 2023م عن طرد 4 دبلوماسيين تشاديين، ردًّا على خطوة مماثلة اتخذتها تشاد بطرد 4 دبلوماسيين سودانيين، وذلك عقب تصريحات نائب رئيس هيئة الأركان للقوات المسلحة السودانية ياسر العطا التي اتهم فيها إنجامينا بالتدخل في الصراع السوداني الداخلي، مُضيفة بأن هذه الاتهامات تكررت وهو ما تصفه إنجامينا بأنه أمر غير مقبول وعدائيّ([48])، بل تتجاوز خطورة الوضع في حقيقته أي توتر في العلاقات الدبلوماسية، ليشمل المخاطر السياسية والأمنية التي قد تنجم عن الاشتباك الميداني والامتداد العرقي وسيولة الحدود بين تشاد وباقي دول الجوار، لا سيما في خضم ما تعانيه من صراعات وحروب تكون بيئة حاضنة لكمون المعارضة التشادية.
في هذا الصدد، من المهم بمكان الإشارة إلى دعوة الجنرال عثمان ديلو -شقيق المعارض التشادي ديلو والمتمركز بقواته في دارفور- لحزبه وللمعارضة التشادية إلى مواصلة الكفاح([49])، مما يزيد من عدد المتربصين بالرئيس محمد ديبي، بل إن هناك احتمالية حدوث تحالف مشترك بين الحركة المسلحة “الوفاق من أجل التغيير في تشاد FACT” التي يتمركز أغلب قواتها ما بين ليبيا ودارفور، وبين قوات الجنرال عثمان ديلو، من أجل القيام بهجوم مشترك للإطاحة بالرئيس محمد ديبي، وهذا قد يلقى دعمًا من الجماعات المسلحة الأخرى الموجودة في إفريقيا الوسطى، كما قد يلقى التحالف المحتمل دعمًا من قوى معارضة سابقة في الداخل، تجد فيه فرصة لتصحيح المسار السياسي للبلاد عبر الانقلاب، وذلك في إشارة إلى المعارض السابق تيمان إرديمي؛ حيث من اللافت أن الأخير هو من استلم جثمان يحيى ديلو وقام بتجهيزه في منزله، وهو ما يحمل في طياته دلالة رمزية تُشير إلى عدم رضاه عن عملية اغتيال ديلو([50])، ويُفسر في المجمل سبب زيادة إنجامينا لحجم قواتها في شرق تشاد.
ومن الجدير بالذكر، أن العناصر المعارضة التشادية والمسلحة، تتَّخذ من جنوب ليبيا، وشمال إفريقيا الوسطى مناطق تمركز لها، إلى جانب غرب السودان، وهو ما يجعل أغلب الحدود التشادية ملتهبة ومحددًا رئيسيًّا لأمن تشاد القومي، ولاستقرار النظام التشادي، مع وجود احتمالية تنفيذ الحركات المسلحة التشادية المعارضة هجومًا من مواقع تمركزها لداخل الأراضي التشادية بهدف إسقاط النظام التشادي، على غرار هجوم حركة فاكت في العام 2021م.
2- الحدود الليبية التشادية الملتهبة
ومن الحدود الشرقية إلى الحدود الشمالية التشادية؛ حيث الأزمة الليبية وتعثر المسار الانتقالي الليبي وإخفاقه في إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وتنامي الميلشيات المسلحة، واحتضان الجنوب الليبي العديد من الجماعات المسلحة المعارضة التشادية، وانخراطها في الصراع الليبي إما إلى جانب الجناح الشرقي تارة أو الجناح الغربي تارة أُخرى؛ بحسب ما تقتضيه المصلحة الوقتية لهذه الجماعات، وما لذلك من ارتباط بتطور المسارين السياسي والأمني في الداخل التشادي.
فمن أبرز الجماعات المسلحة المعارضة التشادية المتمركزة في الجنوب الليبي والتي تُعدّ بمثابة مُهدِّدات لأمن تشاد القومي: جبهة الوفاق من أجل التغيير في تشاد، وهي التي تصدرت قائمة الجماعات المعارضة التشادية المسلحة بعدما اشتبكت مع القوات التشادية في محاولتها للزحف إلى العاصمة التشادية، وتعرض خلالها الرئيس التشادي الراحل لإصابات خطيرة عقب انضمامه إلى جبهة القتال أسفرت عن مقتله في نهاية المطاف. وفي منطقة أم الأرانب في جنوب شرق مدينة سبها، تتمركز قوات الجبهة الذي يتراوح عددهم ما بين 1500 إلى 2000 عنصر، بعتاد يبلغ أقل من 150 آلية مسلحة، إلى جانب تمركزاتها في بعض المناطق الأخرى الجنوبية بشكل غير ظاهر وغير علني([51]).
يلي جبهة الوفاق من أجل التغيير في تشاد: المجلس العسكري لإنقاذ الجمهورية في تشاد (CCMSER) المنشق عن الأول في العام 2016م، والمتمركز في معسكر الكتيبة العاشرة، والكتيبة التاسعة في مدينة سبها، وانتقل بعض أفرادها إلى حدود منطقتي حميرة والقطرون في أقصي الجنوب الغربي. كما تتمركز جبهة الأمة (UFNDJT) في مناطق الجنوب الليبي، خاصةً في محيط جبال تيبيستي، ويبلغ عدد قواتها نحو 200 عنصر بعتاد عسكري يبلغ حوالي 30 آلية مسلحة. أما بالنسبة لحركة النهضة التشادية فيتمركز عدد قواتها البالغ نحو 150 عنصرًا بعتاد عسكري يبلغ 10 آليات مسلحة، في نطاق مناجم الذهب في أقصى الجنوب الغربي. أما بالنسبة لحركة التجمع من أجل الديمقراطية والتغيير فتتمركز قواتها البالغ عددهم نحو 200 عنصر، بعتاد يقل عن 20 آلية مسلحة في منطقة الجفرة، ولديها ارتباط مباشر مع أحد أذرع المشير خليفة حفتر “معتوق الزادمة”، الذي يعتمد عليها حفتر اعتمادًا كبيرًا في تأدية بعض المهام الأمنية في المنطقة([52]).
ومِن ثَم، يُعدّ تمركز الجماعات المسلحة المعارضة التشادية في الجنوب الليبي، نتيجة لما تعانيه ليبيا من أزمات سياسية وأمنية، أحد المهددات الرئيسية لأمن تشاد القومي، وأحد المعضلات البارزة للنظام التشادي على مدار ثلاثة عقود وربما أكثر، والتي عجز عن معالجتها حتى مع إطلاق محمد ديبي للحوار الوطني رغبة منه في احتواء هذه الجماعات وضمّها إلى حكومته أو صفوف داعميه، مثلما نجح بالفعل في استقطاب عدد من الرموز المعارضة.
فعلى سبيل المثال، ووفقًا لتقرير أممي صادر في نوفمبر 2023م بشأن الحالة في وسط إفريقيا، تصاعدت التوترات بين القوات التشادية وجماعتي القيادة العسكرية لجبهة إنفاذ الجمهورية، وجبهة الوفاق من أجل التغير في تشاد خلال الفترة (مايو – نوفمبر ) 2023م، عقب هجوم عسكري في 10 أغسطس في مقاطعة تيبيستي في شمال تشاد على الحدود الليبية، أسفر عن مقتل عدد من الجنود التشاديين، دفعت الرئيس محمد ديبي للسفر إلى تيبستي، والتمركز في مقاطعة برداي وقيادة العمليات العسكرية ضد الجماعتين المسلحتين في 17 أغسطس 2023م، نجم عنها إلغاء وقف إطلاق النار الأحادي الجانب المعلن منذ العام 2021م([53]).
وبالتزامن مع الضربات التشادية، وكسبيل لتضييق الخناق على الجماعات المسلحة التشادية المعارضة المتمركزة على الحدود الليبية التشادية؛ شنّ الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر ضربات جوية ضد جماعات تشادية معارضة مسلحة، قام خلالها بقصف مواقع المتمردين التشاديين على الجانب الليبي من الحدود قبل أن يشن هجومًا جويًّا، استهدف مجمعًا سكنيًّا غير مكتمل في موقع أم الأرانب النائي في منطقة مرزق؛ حيث استولى المقاتلون المتمردون وعائلاتهم على أكثر من 2000 منزل قيد الإنشاء([54])، وهو ما يعكس المخاطر التي تواجهها تشاد عبر حدودها الشمالية، الناجمة عن تدهور الوضعين الأمني والسياسي في ليبيا، وتعقيد المشهد الداخلي التشادي.
3- التهديدات الأمنية المشتركة العابرة للحدود
لطالما تُعدّ تشاد بمثابة حائط الصدّ المنيع لدول الجوار وإقليم الساحل الإفريقي في مواجهة التحديات الأمنية المشتركة، والتي يأتي على رأسها: الإرهاب، وتنامي الجريمة المنظّمة العابرة للحدود؛ فعلى الرغم من تسجيل جماعة بوكو حرام وولاية داعش في غرب إفريقيا، اللذان ينشطان في إقليم الساحل الإفريقي تراجعًا في عدد العمليات الإرهابية خلال الربع الأول من العام ٢٠٢٤م، مقارنةً بنفس الفترة من العام 2023م، وذلك بواقع تسجيل 12 عملية إرهابية، مقسمة إلى 5 علميات في نيجيريا، و5 عمليات في النيجر، إضافة إلى عمليتين في الكاميرون([55])، إلا أن الإرهاب يُعدّ بمثابة خطر ومهدد أمني رئيسي للإقليم.
كما أنه على الرغم من عدم تسجيل تشاد وقوع أيّ عملية إرهابية خلال هذه الفترة، إلا أن زعزعة الاستقرار السياسي التشادي وتراجع الوضع الأمني، لاعتبارات تتعلق بالانتخابات الرئاسية المقرر انعقادها في الفترة القادمة، وما قد ينجم عنها من تصاعد الأصوات المعارضة لترشح الرئيس محمد ديبي، لا سيما عقب احتواء وتصفية العديد من الرموز المعارضة؛ قد تخلق بيئة محفّزة للجماعات الإرهابية على التمدد والانتشار في الداخل التشادي مع انشغال القوات الأمنية التشادية بضبط الوضع الأمني الداخلي.
وما يزيد من تعقيد الوضع، هو أن المسار الانتقالي التشادي، وما شهده من تطورات تزامنت مع ما يُمكن وصفه بفترة تحولات أمنية وسياسية في إقليم الساحل الإفريقي، سواء على مستوى البلدان أو على مستوى التحالفات الإقليمية الفرعية، وهو ما يُفرز بطبيعته مزيدًا من التحديات الأمنية والسياسية قد تنتقل إلى الداخل التشادي في خضم حالة التشابك والتقارب الجغرافي والسياسي والأمني، يتمثل أبرزها فيما شهدته المنطقة من موجة انقلابات عسكرية كانت أحد نماذجها تشاد ساهمت في إعادة تشكيل شبكة التحالفات الإقليمية والدولية في ضوء الانسحاب الفرنسي من عددٍ من مناطق نفوذها التقليدية (مالي وبوركينا فاسو والنيجر)، وحل الشريك الروسي عبر ما يُعْرَف بالفيلق الإفريقي محل الشريك الفرنسي والأوروبي، إلى جانب ما يسجّله الإقليم من تراجع محدود للنفوذ الأمريكي في الإقليم إثر موافقة واشنطن على سحب قواتها من النيجر، البالغ عددهم نحو ألف جندي، بناء على طلب النظام العسكري في نيامي في أبريل 2024م([56]).
بل إنه عقب أيام من القرار الأمريكي الخاص بالنيجر، أعلنت واشنطن سحبًا مؤقتًا لجنودها من تشاد في إطار ما وصفته بإعادة تمركز لبعض قواتها ضمن مراجعتها المستمرة لتعاونها الأمني، الذي سيُستأنف عقب الانتخابات الرئاسية، والذي من المقرر أن يضم بالفعل انسحاب جزء من قواتها البالغ عددهم نحو 100 جندي([57]).
علاوة على ذلك، فإن ما يشهده الداخل التشادي من تطورات تتزامن مع تفكك تحالف مجموعة الساحل الخمس لمكافحة الإرهاب المكون من بلدان (بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر)، إثر انسحاب مالي من كل أجهزة التحالف وهيئاته بما فيها قوة مكافحة الإرهاب في مايو 2022م؛ احتجاجًا على رفض توليها رئاسة المنظمة، إثر توتر العلاقات المالية الفرنسية وانسحاب القوات الفرنسية من باماكو([58])، لتتجمد أنشطة التحالف، وتبع ذلك اتخاذ كل من بوركينا فاسو والنيجر قرارًا بالانسحاب من التحالف إثر موجة الانقلابات العسكرية التي شهدتها الدولتان، ليفقد التحالف ميزة الترابط الجغرافي التي أتاحت للدول الخمس تنفيذ عمليات عسكرية لمكافحة الإرهاب عبر الحدود المشتركة، وهو ما قوَّض من دور التحالف في مواجهة الإرهاب، ودفع تشاد وموريتانيا لحله في ديسمبر 2023م([59]).
بل إن توتر العلاقات الفرنسية مع عدد من دول إقليم الساحل، أدَّى إلى توتر العلاقات الأوروبية مع دول الساحل الإفريقي، وهو ما انعكس في إعلان حل قوة “تاكوبا” التابعة للاتحاد الأوروبي رسميًّا في 30 يونيو 2022م، والتي كانت تضم إلى جانب القوات الفرنسية، قوات من 10 دول أوروبية يتراوح عددهم ما بين 800-900 من القوات الخاصة، من بينهم بلجيكا والتشيك والدنمارك وإيطاليا وهولندا والسويد([60]).
على الجانب الآخر، وكآلية لطرح بديل إقليمي للتحالفات الأمنية المنحلة، أعلنت دول مالي وبوركينا فاسو والنيجر عن توقيع ميثاق ليبتاكو-غورما لإنشاء تحالف جديد تحت اسم “دول الساحل” يُعدّ إطارًا دفاعيًّا جماعيًّا مشتركًا، يهدف للتصدي إلى التحديات الأمنية المشتركة، تم النص فيه على أن “أيّ اعتداء على سيادة وسلامة أراضي طرف أو أكثر من الأطراف المُوقِّعَة سيعتبر عدوانًا على الأطراف الأخرى، وأن الدولتين الأخرين ستُقدِّمان المساعدة بشكل فردي أو جماعي بما في ذلك استخدام القوة العسكرية”([61]).
كما أن هناك حراكًا إفريقيًّا من أجل التوصل إلى إطار إقليمي لمكافحة الإرهاب يضم قوات عسكرية مشتركة، انعكس في ما تم الاتفاق عليه خلال قمة أبوجا الأمنية الإفريقية المنعقدة خلال الفترة (22- 23) أبريل 2024م في العاصمة النيجيرية أبوجا([62]).
أما فيما يتعلق بانتشار جماعات الجريمة المنظّمة العابرة للحدود؛ فإن ما تعانيه دول الساحل بما في ذلك تشاد، من تحديات أمنية وسياسية واقتصادية جعلت منها بيئة مثالية لتنامي نشاط جماعات الجريمة المنظمة العابر للحدود، لا سيما في خضم التعاون والاختلاط بين أنشطة الجماعات الإرهابية وأنشطة جماعات الجريمة المنظمة في منطقة الساحل الإفريقي؛ حيث أوضح مؤشر الإرهاب العالمي لعام 2024م أن الجماعات الإرهابية المنتشرة في منطقة الساحل تدير مجموعة متنوعة من الأنشطة الاقتصادية غير المشروعة كالاتجار بالبشر وتعدين الذهب وسرقة الماشية وتهريب المخدرات وعمليات الاختطاف والفدية، وذلك باعتبارها أنشطة مُربحة اقتصاديًّا، تعظم من موارد الجماعات الإرهابية([63]).
وما يزيد من تعقيد المشهد الأمني في منطقة الساحل، بما في ذلك تشاد، هو أن تمدد الجماعات الإرهابية وانتشار جماعات الجريمة المنظمة العابرة للحدود، يرتبطان بارتفاع معدل الطلب على الأسلحة الصغيرة والخفيفة؛ حيث أوضحت تقديرات مستقلة صادرة في نهاية عام 2023م، أن هناك نحو 30 مليون قطعة سلاح صغيرة وخفيفة في منطقة الساحل، من إجمالي ما يُقدر بنحو 100 مليون قطعة سلاح منتشرة على مستوى إفريقيا، بما يُعادل نحو سُدس العدد الإجمالي على مستوى العالم البالغ نحو 640 مليونًا([64])، وهو يُعدّ قنبلة موقوتة في حد ذاتها قادرة على تفاقم خطورة الوضع الأمني في المنطقة، بما في ذلك تشاد، لا سيما مع تعدد النزاعات العرقية والصراع على الموارد انطلاقًا من أن منطقة الساحل الإفريقي تُعدّ من أكثر المناطق تأثرًا بالتقلبات المناخية حول العالم، ناهيك عن ارتفاع معدلي الفقر والبطالة اللذين يجعلان من الاتجار في السلاح أحد مصادر الرزق الرئيسية لمواطني القارة.
خلاصة القول: منذ إعلان مقتل الرئيس التشادي السابق إدريس ديبي، وتولي ابنه رئاسة المجلس العسكري في أبريل 2021م، وانتهاءً برئاسته لتشاد، وبدء عهد جديد ومرحلة سياسية جديدة للبلاد؛ فقد مرت المرحلة الانتقالية التشادية بمرحلتين؛ تراوحت ما بين الانفتاح والديكتاتورية، كشفت عما اتسم به محمد ديبي من مراوغة وفطنة لاحتواء المعارضة التشادية والمجتمع الدولي، وكسب دعم الأخير فيما يتخذه من خطوات لترسيخ نظام حكمه، الذي يبدو في مجمله أنه لن يختلف كثيرًا عن نظام حكم والده الممتد على مدار ثلاثة عقود.
ولكون الساحة التشادية تتقاطع جغرافيًّا وعرقيًّا وتاريخيًّا مع دول جوارها، بل ويتشاركان معًا في العديد من التحديات العابرة للحدود؛ فإن ما تواجهه دول الجوار التشادي من تحديات أمنية وأزمات يأتي على رأسها الحرب في السودان، وتنامي أنشطة الجماعات الإرهابية وجماعات الجريمة المنظّمة، تُثقل كاهل تشاد بالعديد من التحديات، بل وتجعلها في خطر التعرض لاضطرابات سياسية وأمنية.
——————————————————
[1] – تشكيل حكومة انتقالية تشمل معارضين في تشاد، الأهرام، 3 مايو 2021. https://gate.ahram.org.eg/News/2707791.aspx
[2] – الشيخ ابن عمر.. متمرد سابق يقود المصالحة الوطنية في تشاد، سكاي نيوز، 4 مايو 2021. https://2u.pw/4fcYTY2O
[3]– أبرز معارض اعترف بسلطته.. المجلس العسكري في تشاد يشكل حكومة انتقالية، العربية، 2 مايو 2021. https://2u.pw/BJBvFXP
[4] – المرجع السابق.
[5] – تشاد: المجلس العسكري يصدر عفوًا عامًّا عن المتمردين والمعارضين لحثهم على المشاركة في حوار وطني، فرانس 24، 29 نوفمبر 2021.
[6] – قطر ترعى توقيع الأطراف التشادية على اتفاقية الدوحة للسلام ومشاركة الحركات السياسية العسكرية في الحوار الوطني الشامل السيادي، وزارة الخارجية القطرية، 8 أغسطس 2022. https://2u.pw/nJlIKBy
[7] – محمد صالح عمر، تاريخ من الحروب والصراعات.. اتفاقية السلام التشادية في الدوحة النتائج والمآلات، الجزيرة، 8 أغسطس 2022.
[8] – شيماء البكش، حوار الفرقاء: مستقبل التوافق الوطني في تشاد بعد “إدريس ديبي”، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 31 مارس 2022. https://ecss.com.eg/19042/
[9] – محمد صالح عمر، تاريخ من الحروب والصراعات.. اتفاقية السلام التشادية في الدوحة النتائج والمآلات، الجزيرة، 8 أغسطس 2022.
[10] – مصر تفرج عن متمرد تشادي كان من أركان حكم الرئيس إدريس ديبي في التسعينيات، مونت كارلو الدولية، 15 سبتمبر 2022.
[11] – مسار متعثر: تراجع فرص نجاح جلسات الحوار الشامل في تشاد، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 21 سبتمبر 2022.
[12] – المرجع السابق.
[13] – قراءة في مُخرجات الحوار الوطني الشامل في تشاد، الشارع السياسي، 3 نوفمبر 2022. https://politicalstreet.org/5560/
[14] – ضياء غنيم، هل يمهد رئيس تشاد الانتقالي لاستعادة إرث والده؟، رؤية الإخبارية، 13 أكتوبر 2022. https://2u.pw/2v4jll9X
[15] – تظاهرات في تشاد ترفض نتائج الحوار الوطني الشامل والقوات الحكومية تطلق النيران على المتظاهرين، سبوتنيك عربي، 20 أكتوبر 2022.
[16] – تشاد… الحكم على ستة زعماء من المعارضة بالسجن لمدة عام مع وقف التنفيذ، الوكالة الموريتانية للصحافة، 7 يونيو 2022.
https://amp.mr/?q=node/3933
[17] – محمد الجزار، سيناريوهات ما بعد مقتل زعيم المعارضة التشادية يحيى ديلو، قراءات إفريقية، 10 مارس 2024.https://2u.pw/ObbRLogH
[18] السلطات التشادية تعتقل عم رئيس البلاد، روسيا اليوم، 29 فبراير 2024.
[19] – جماعة الزغاوة العرقية، وهي أقلية صغيرة جدًّا في البلاد، تحتكر المناصب الإدارية والعسكرية والحكم منذ وصولها إلى السلطة في عام 1990 على يد الرئيس الراحل إدريس ديبي.
Tchad : que sait-on des violences qui ont conduit à la mort du principal opposant du régime ?, tv5monde , 29 February 2024. https://information.tv5monde.com/afrique/tchad-que-sait-des-violences-qui-ont-conduit-la-mort-du-principal-opposant-du-regime
[20] – تشاد: ديبي يعلن ترشحه للانتخابات الرئاسية، الشرق الأوسط، 2 مارس 2024.https://2u.pw/X1uj3x0
[21] – محمد الجزار، مرجع سبق ذكره.
[22] – المرجع السابق.
[23] – المعارض السابق سوكسيه ماسرا رئيسًا للوزراء في تشاد، الشرق، 1 يناير 2024.
[24] Chadian PM Announces Bid for Presidency, All Africa, 10 March 2024.
https://allafrica.com/view/group/main/main/id/00088717.html
[25] Shola Lawal , Why is Chad boiling over ahead of long-awaited elections — and what’s next?, Aljazeera, 29 Feb 2024.
[26] Chad’s Transition: Easing Tensions Online , crisis group, 13 DECEMBER 2022.
https://www.crisisgroup.org/africa/central-africa/chad/b183-chads-transition-easing-tensions-online /
[27] – تشاد تعلن عن إحباط محاولة انقلاب على الجنرال محمد ديبي، قراءات إفريقية، 22 يناير 2024. https://2u.pw/EBMGDJ68
[28] – محمد الجزار، مرجع سبق ذكره.
[29] – ديبي ومُناوئوه: الوضع السياسي في تشاد بعد مقتل زعيم المعارضة يحيى ديلو، مركز الإمارات للسياسات، 8 مارس 2024.
[30] Au Tchad, une nouvelle vague de généraux pour consolider le pouvoir de Mahamat Déby, la-croix , 7 July 2023. https://www.la-croix.com/Monde/Au-Tchad-nouvelle-vague-generaux-consolider-pouvoir-Mahamat-Deby-2023-07-07-1201274611
[31] Mathieu Olivier, Chad, Mahamat Idriss Déby Itno and the 600 generals, the Africa report, 1 June 2023.
https://www.theafricareport.com/311141/chad-mahamat-idriss-deby-itno-and-the-600-generals/
[32] – الصادق الرزيقي، منابع ومسارات المرتزقة الأفارقة نحو السودان (2)، الجزيرة، 14 مايو 2023. https://2u.pw/Wg792y2E
[33] – تشاد تعلن حالة طوارئ غذائية مع تدفق اللاجئين من السودان، الجزيرة، 16 فبراير 2024. https://2h.ae/kzfV
[34] – السودان: حدود تشاد أصبحت الخط الأول لإمداد الدعم السريع بالسلاح والمرتزقة، سودان تربيون، 7 مارس 2024.
https://sudantribune.net/article283030/
[35] – محمد إبراهيم، السيادة السوداني: لا نزال نرصد إمدادات السلاح من الإمارات لقوات حميدتي عبر تشاد وليبيا، بي بي سي عربي، 4 مارس 2024. https://2u.pw/dr0TSlgu
[36] Final report of the Panel of Experts on the Sudan, Security Council, 15 January 2024.
file:///C:/Users/HP/Downloads/S_2024_65-EN.pdf
[37] وول ستريت جورنال: الإمارات أرسلت أسلحة إلى الدعم السريع بدلا من المساعدات إلى السودانيين، الجزيرة، 10 أغسطس 2023.
[38] Final report of the Panel of Experts on the Sudan, OP.CIT. file:///C:/Users/HP/Downloads/S_2024_65-EN.pdf
[39] – السودان تؤكد تورط الإمارات في دعم قوات الدعم السريع، الخبر، 5 مايو 2023. https://2h.ae/HaTg
[40] – وول ستريت جورنال: الإمارات أرسلت أسلحة إلى الدعم السريع بدلا من المساعدات إلى السودانيين، مرجع سبق ذكره.
[41] – لبحث “عدوان الإمارات”.. السودان يطلب عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن، الحرة، 28 أبريل 2024. https://2u.pw/9B3tJ2w3
[42] – تقرير أميركي: مجموعة فاغنر الروسية تدعم قوات الدعم السريع، العربية، 17 يونيو 2024. https://2u.pw/2H8oqWX8
[43] – عبر 10 قواعد عسكرية ليبية.. موقع بريطاني: هكذا يزوّد حفتر الدعم السريع بالسلاح، الجزيرة، 11 يوليو 2023.
[44] – الجيش السوداني يعلن القبض على “مرتزقة” من تشاد وجنوب السودان، الجزيرة، 7 أبريل 2024. https://2u.pw/56MHnHYn
[45] – الحرب في السودان… منجم ذهب للميليشيات والمرتزقة، سويس إنفو، 14 مايو 2023. https://2u.pw/7tJxpjFW
[46] – النور أحمد النور، فاغنر والدعم السريع والمعارضة التشادية.. هل تعيد معركة الخرطوم تشكيل التحالفات الإقليمية؟، الجزيرة، 18 يونيو 2023.
[47] David Lewis, Yaya Dillo: What does killing mean for Chad and its ruling elite?
[48] – السودان وتشاد يتبادلان طرد الدبلوماسيين.. والخرطوم: لن نعتذر، الشرق، 17 ديسمبر 2023. https://2u.pw/ST4TWRKB
[49] – محمد الجزار، مرجع سبق ذكره.
[50] – المرجع السابق.
[51] – المعارضة التشادية في ليبيا: تواجد وانحسار، المركز الليبي للدراسات الأمنية والعسكرية، 1 سبتمبر 2023م:
https://lcsms.info/the-chadian-opposition-in-libya-presence-and-decline/
[52] – المرجع السابق.
[53] – الحالة في وسط إفريقيا وأنشطة مكتب الأمم المتحدة الإقليمي لوسط إفريقيا، مجلس الأمن، 30 نوفمبر 2023.
https://documents.un.org/doc/undoc/gen/n23/367/51/pdf/n2336751.pdf?token=zefvgV6bkuYP0YvO69&fe=true
[54] Libya’s LNA launches operations against Chad rebels along border, aljazeera , 25 Aug 2023.
[55] – قراءة في مؤشر الإرهاب في القارة الإفريقية خلال الربع الأول من عام 2024، مرصد الأزهر لمكافحة التطرف، 29 أبريل 2024.
[56] – الولايات المتحدة توافق على سحب قواتها من النيجر، الشرق الأوسط، 20 أبريل 2024. https://2u.pw/KPPQwDFL
[57] – بعد النيجر.. الولايات المتحدة ستسحب جنودها من تشاد، سكاي نيوز، 26 أبريل 2024. https://2u.pw/2Rc2kpk1
[58] – مالي انسحبت منها.. تعرف على مجموعة دول الساحل الخمس، الجزيرة، 18 مايو 2022. https://2u.pw/2io1XeAd
[59] – مجموعة دول الساحل على حافة التفكك، صحيفة العرب، 6 ديسمبر 2023. https://2u.pw/aRajwbXq
[60] – قوة “تاكوبا” التابعة للاتحاد الأوروبي تنسحب من مالي، روسيا اليوم، 1 يوليو 2022. https://2u.pw/47JM7Vk
[61] – إعلان تحالف عسكري ثلاثي بين النيجر وبوركينا فاسو ومالي، سكاي نيوز، 17 سبتمبر 2023. https://2u.pw/gwytEbY
[62] – تقدير موقف مرصد الأزهر: قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب في إفريقيا.. فرصة جديدة للوقوف على واقع الإرهاب في القارة، وتحديد متطلبات المرحلة المقبلة، مرصد الأزهر لمكافحة التطرف، 28 أبريل 2024. https://2u.pw/Iyf0QUEL
[63]– منى قشطة، قراءة في مؤشر الإرهاب العالمي 2024م (4).. الإرهاب والجريمة المنظمة في الساحل الإفريقي، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 12 مارس 2024. https://2u.pw/zoDEwf05
[64] – دينا محمود، انتشار الأسلحة الصغيرة يؤجج التوترات بالساحل الإفريقي، مركز الاتحاد للأخبار، 5 ديسمبر 2023.