تراجع الاهتمام الدولي بقضايا الإرهاب وتداعياته في القارة الإفريقية على خلفية توجه الانظار إلى أوكرانيا وغيرها من مناطق تقاطع التنافس/ الصراع الدولي الراهن من بحر الصين الجنوبي إلى المدخل الجنوبي للبحر الأحمر إلى قطاع غزة وحتى إلى كوبا على مقربة من سواحل الولايات المتحدة الأمريكية؛ لكن الظاهرة نفسها أخذت في الصعود مجددًا منذ نهاية العام 2023 لتمثل تهديدًا خطيرًا يصعب السيطرة عليه فيما بات مراقبون يصفونها بالموجة الجديدة من الصعود الإرهابي في إفريقيا.
يتناول المقال الأول موضوعًا موسعًا أفردت له صحيفة النيويورك تايمز مساحة ملفتة حول فشل سياسات الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب في إفريقيا ضمن فشل أوسع لسياسات واشنطن الإفريقية. وحاول المقال تتبع أسباب الفشل في ملف مواجهة الإرهاب بطرح مجموعة من العوامل تبدو في مجملها سطحية للغاية (مثل عدم فهم واشنطن لطبيعة الصراع في الساحل وما يتفرع عنه من أزمة الإرهاب أو وضع أولويات مكافحته طوال أكثر من عقد في ظل حكومات فاسدة ومستبدة، وهو ما يبني عليه المقال تفسيره لاستمرار الإرهاب في الإقليم).
ويستكمل المقال الثالث، الذي كتبه نفس كاتب المقال الأول، هذه الفرضيات بتناوله بالتحليل زيارة مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكي إلى كينيا ونيجيريا لإطلاق عملية تعاون شرطي لمواجهة الإرهاب في البلدين ومنهما إلى تجارب أخرى مرتقبة في القارة، مع إعادة تكرار مدير المكتب نفس التفسيرات الرسمية الأمريكية لفشل واشنطن في جهود مكافحة الإرهاب، بل ومنح الإرهاب والجماعات الإرهابية قبلة حياة للصعود مجددًا في أجزاء متفرقة من القارة كما يفهم ضمنيًا من نتائج هذا الفشل.
بينما تناول المقال الثاني مثالًا عمليًا على تحسن بيئة تمدد الجماعات الإرهابية في إفريقيا في حالة موزمبيق بعد خروج بعثة جماعة التنمية الجنوب إفريقية منها حسبما متوقع في منتصف شهر يوليو المقبل لأسباب تتعلق بضعف التمويل وتراجع التنسيق بين القوات المشاركة فيها، وتلك التي تنشرها رواندا بشكل منفصل في موزمبيق؛ على نحو يكشف عن عوار مذهل في ترتيبات مواجهة الإرهاب في إفريقيا.
الولايات المتحدة تواجه الفشل مع انتشار الإرهاب في غرب إفريقيا([1]):
بادرت الولايات المتحدة في أعقاب أحداث 11 سبتمبر من عام 2001بالإسراع في إرسال قوات ومساعدات عسكرية لغرب إفريقيا من أجل مساعدة القوات الفرنسية في جهود وقف انتشار القاعدة والجماعات الإرهابية الأخرى. وبعد أكثر من عقد، ومع إنفاق مئات الملايين من الدولارات في شكل مساعدات أمنية يبدو أن الجهد الإقليمي لمكافحة الإرهاب قد فشل بشكل ملموس فيما تواصل المجموعات التي أعلنت تحالفها مع القاعدة وداعش تقدمها الميداني في الإقليم. كما أسقطت الانقلابات العسكرية الحكومات المدنية في مالي وغينيا وبوركينا فاسو والنيجر. وأصدر القادة الجدد أوامرهم للقوات الأمريكية والفرنسية بالخروج من أراضيهم، ودعوا في بعض الحالات المرتزقة الروس لأن يحلوا محل تلك القوات. ومع سحب الولايات المتحدة 1000 جندي من النيجر وإغلاقها قاعدة جوية أسست بتكلفة 110 مليون دولار هناك بحلول سبتمبر فإن المسئولين الأمريكيين يهرولون للعمل مع مجموعة جديدة من الدول الساحلية في غرب إفريقيا لمواجهة التطرف العنيف الذي يرون أنه يتسلل سريعًا (من الساحل) نحو الجنوب.
وأكد كريستوفر ب. ماير C. P. Maier كبير مسئولي البنتاجون عن سياسة العمليات الخاصة في مقابلة أخيرة له “بالطبع الأمر مثير للاستياء، إن رغبتنا العامة تقوم على دعم الحكومات الديمقراطية ووجود حكم قويم هناك لم تمض على النحو المقرر.” وأكد ماير نجاح الجيش الأمريكي في تدريب قوات مواجهة الإرهاب المحلية رغم مشاركة بعضها لاحقًا في الانقلابات العسكرية الأخيرة. لكنه أضاف “يبدو محبطَا أن نكون قد استثمرنا في هذا الصدد ثم يطلب منا المغادرة”.
ويقول المسئولون الأمريكيون أنهم يعيدون صياغة مقاربتهم لمواجهة العنف الذي يمثل مخاوف محلية، لاسيما أن التنافس على الأراضي، والاقصاء من السياسة والشكاوى المحلية الأخرى قد غذت صفوف المسلحين أكثر من عامل الالتزام بالأيديولوجيا المتطرفة. ويقول المسئولون (الأمريكيون) أنه بدلًا من الاعتماد على قواعد كبيرة ووجود عسكري دائم فإن الاستراتيجية (الجديدة) ستركز على المبادرات ذات التمويل الأفضل وتشمل الأمن والحوكمة والتنمية ودفع مقابل لتدريب الجنود ومشروعات الكهربة الجديدة أو مشروعات المياه. وكانت مثل هذه المقاربة قد جربت في السابق بنجاح محدود ويقول مسئولون أمريكيون ومحللون مستقلون من غرب إفريقيا أن هذه المقاربة تواجه عقبات متزايدة الآن.
وقال دبلوماسي أمريكي في الإقليم أنه على حكومات غرب إفريقيا تحمل قدر من اللوم؛ لأن بعض هؤلاء الشركاء كانوا أكثر اهتمامًا بالبقاء في السلطة من محاربة الإرهاب. وقال الدبلوماسي: “من الواضح أن ذلك لم ينجح، ومن ثم فإن الأمر هو خطؤنا”. ويقول البعض أن الأجانب لم يفهموا بالمرة الصراع (في غرب إفريقيا) على حقيقته؛ لأنه كي يمكنك المساعدة فإنه يجب أن تعرف على وجه الحقيقة جذور المشكلة.” فقد انتشر الجنود في كل مكان تقريبًا على الأراضي المالية (حسب ديمبا كانتي Demba Kante، وهو محام في باماكو) واستمروا يحصلون رواتبهم ولا زلنا نواجه المشكلات.
وفيما يقوم المسئولون الأمريكيون بتقييم تراجعهم وإعادة النظر في استراتيجيتهم، فإنهم يبقون أعينهم مفتوحة على منافسين عالميين وهما الصين وروسيا. فقد احتلت الصين مكان الولايات المتحدة كأكبر شريك تجاري ثنائي مع إفريقيا طوال العقد الماضي، وركزت استثماراتها بشكل كبير على المعادن كأداة رئيسة في الانتقال الطاقوي العالمي. وباتت روسيا الشريك الأمني المفضل لعدد من الدول الإفريقية التي سبق لها الترحيب بالمساعدات الأمريكية، مما خلق حسب ملاحظ عدد من المحللين منافسات على نمط الحرب الباردة.
ولاحظ ج. بيتر فام، وهو مبعوث أمريكي خاص سابق للساحل، أن الولايات المتحدة قامت “بالكثير من الأمور على نحو جيد على المستوى التكتيكي بما في ذلك تدريب القوات الخاصة، لكنها لم تكن مرتبطة باستراتيجية أكبر. وأشار “فام” إلى خطة أمريكية طموحة بقيمة 450 مليون دولار لتوصيل الكهرباء في بوركينا فاسو سبق أن توقفت في العام 2022 بعدما شهدت البلاد انقلابًا عسكريا. لافتًا النظر إلى حاجة واشنطن “لاستراتيجية متكاملة وإلا فإنها تقوم ببناء قواعد رملية على حافة الشاطئ”.
لكن تطوير استراتيجية “أمريكية” سيكون أمرًا صعبًا. فقد استنفدت الأزمات صناع السياسات في واشنطن لاسيما في غزة وأوكرانيا. وفي الوقت نفسه فإن فروع القاعدة وداعش في إفريقيا تكتسب قوة جديدة في الإقليم بشكل غير مسبوق وفق تقييمات الأمم المتحدة الاستخباراتية.
صعود الإرهاب مع تراجع بعثة سادك في موزمبيق([2]):
مع خفض بعثة جماعة التنمية الجنوب إفريقية في موزمبيق Southern African Development Community Mission in Mozambique لأنشطتها في إقليم كابو ديلجادو بدأ الإرهابيون في الصعود مجددًا في المجتمعات المنتشرة على الساحل. ومنذ نشرها في العام 2021 ساعدت بعثة جماعة التنمية الجنوب إفريقيا في موزمبيق outhern African Development Community (SADC) Mission in Mozambique (SAMIM) على خفض وجود الإرهابيين التابعين لداعش في إقليم كابو ديلجادو من عدة آلاف إلى بضع مئات. بأي حال فإن النهاية المرتقبة للبعثة منتصف يوليو المقبل قد أثارت قلق بعض المراقبين بخصوص تجدد صعود الإرهاب في الإقليم.
وفي الشهور الأخيرة بدأت البعثة المكونة من قوات من 16 دولة في الانكماش بعد سحب بوتسوانا وليسوتو قواتهما في أبريل 2024، فيما بدأت أنجولا وناميبيا في ترك البعثة حاليًا. وقد انتهز إرهابيون في جماعة تعرف “بتنظيم الدولة في موزمبيق” الفرصة لإعادة إرساء مواطئ أقدامهم في الجزء الشمالي من البلاد. وهاجمت المجموعات المسلحة المجتمعات الساحلية والمقيمين في جزر قوريمباس Quirimbas قبالة الساحل مباشرة. كما نصب الإرهابيون كمائن لعناصر الجيش الموزمبيق وأعدموا أعدادًا من المدنيين بوحشية ونهبوا المناطق السكنية. وفي منتصف مايو الماضي نهب المسلحون سكان منطقة ماسوميا Macomia في كابو ديلجادو عند الفجر. وذكرت وسائل الإعلام المحلية مقتل أكثر من 20 جنديًا في الهجوم. وكتب أحد المحللين مؤخرًا أن “خطر استعادة هؤلاء المتطرفين زمام المبادرة مرة أخرى واستيلاءهم على مواقع أكثر تحصينًا يكمن في عدم معالجة القضايا التي أدت إلى الصراع في المقام الأول”.
وقد ألهم تصاعد الأنشطة الإرهابية كل من جنوب إفريقيا ورواندا لتغيير استراتيجيات نشر قواتهما. وستبقي جنوب إفريقيا، التي تقدم وحدها نحو 1500 جندي من قوة البعثة البالغ إجمالها 2200، بعض من قواتها على الأرض حتى نهاية العام الجاري، بالأساس من أجل مراقبة عملية مغادرة القوات الجنوب إفريقية. وبعدها ستترك بريتوريا 200 جندي في موزمبيق حتى مارس 2025 لمراقبة الأنشطة البحرية غير القانونية. وقدمت جنوب إفريقيا 45 مليون دولار سنويًا للبعثة والتي تعمل حاليًا في ظل نقص التمويل الكامل. وكانت مشكلة موازنة جنوب إفريقيا نفسها قد تركت طائراتها الهليكوبتر على الأرض وحرمت قوات البعثة من الدعم الجوي. ونشرت رواندا 1000 جندي على نحو منفصل عن البعثة في العام 2021. وأعلنت موزمبيق في مايو الماضي عزم رواندا إضافة 2500 جندي لمحاربة المسلحين. وواجهت قوات البعثة والقوات الرواندية مشكلات تتعلق بتنسيق جهودها بسبب عوائق اللغة واختلافات المعدات المستخدمة.
ورغم هذه المشكلات مكنت قوات الأمن أكثر من 570 ألف فرد ممن خرجوا من بيوتهم على يد الإرهابيين من العودة في العام 2023. لكن بعض أولئك الذين عادوا بدئوا مؤخرًا في الفرار من بيوتهم مرة أخرى مع انتشار موجات جديدة من النشاط الإرهابي.
مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية في زيارة نادرة لإفريقيا مع نمو التهديد الإرهابي([3]):
قام كريستوفر أ. راي C. A. Wray، مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية، بزيارة نادرة إلى إفريقيا جنوب الصحراء في منتصف يونيو لمناقشة استراتيجيات مكافحة الإرهاب مع شركاء إقليميين في وقت تحقق فيه داعش والقاعدة اختراقات في القارة. وكرر راي، الذي التقى مسئولين في كينيا ونيجيريا، تحذيره من أن الولايات المتحدة وحلفائها في أرجاء العالم “يعملون في بيئة تهديدات مستعرة” غذته الحرب بين إسرائيل وحماس في غزة لافتًا إلى أن السبب الرئيس لزيارته للبلدين الإفريقيين “هو إثارة الوعي إزاء التهديدات في القارة ذات التداعيات الخطيرة على الولايات المتحدة لكنها لا تحظى بالاهتمام المستحق… وقد اعتبرت جماعات مثل داعش والقاعدة لسنوات عدة إفريقيا أرضًا بالغة الخصوبة لأنشطتها”.
وفي الواقع يقدر مسئولون استخباراتيون أن عناصر الشباب في الصومال باتت تبلغ ما بين 7 إلى 12 ألف مسلح وبدخل سنوي (من الضرائب أو ابتزاز المدنيين) إلى حوالي 120 مليون دولار مما يجعلها أكبر وأغنى جماعة تابعة للقاعدة في العالم. وقال راي أن “الشباب من عدة أوجه أحد أخطر التنظيمات الإرهابية هناك”. وفي الوقت نفسه فإن المجموعات الإرهابية في غرب إفريقيا التي أعلنت تحالفها مع القاعدة وداعش تحقق تقدمًا.
ودارت محادثات راي في كينيا ونيجيريا حول تداخل المصالح وسبل مواجهة التهديدات المشتركة ولفت إلى أن “مواجهة التهديدات التي تفرضها جماعات مثل الشباب وداعش أكبر من أن تكون مهمة جهة واحدة أو حتى أنه يمكن لحكومة واحدة القيام بها وحدها”. وكانت زيارة راي إلى كيينا – الأولى من نوعها لمدير مكتب التحقيقات في غضون 15 عامًا- تالية بعد استضافة الرئيس بايدن قبل نحو شهر للرئيس الكيني وليام روتو في زيارة دولة وتعهد الأول خلال الزيارة بتصنيف كينيا “حليفًا رئيسًا من خارج الناتو”. وتعكس تلك الخطوة تصميم البيت الأبيض على تعميق العلاقات مع كينيا مع تسابق دولًا أخرى -بما فيها روسيا والصين- على نفس المسار.
وقد عمل مكتب التحقيقات الفيدرالية عن كثب مع كينيا منذ أحداث 11 سبتمبر 2001. وفي العام 2020 ساعد المكتب ووزارة الخارجية الأمريكية كينيا على تكوين “قوة مهام لمواجهة الإرهاب” على نمط الوحدات المماثلة التي يعتمد عليها المكتب في المدن الأمريكية. وتعد تلك أول وحدة مشتركة لمكافحة الإرهاب يكونها المكتب خارج الولايات المتحدة حسب بيانه. كما عين المكتب عملاء له في السفارة الأمريكية في نيروبي للتحقيق في قضايا الإرهاب والجرائم الأخرى.
وفي إقليم الساحل بغرب إفريقيا يقول المسئولون الأمريكيون أنهم يغيرون من مقاربتهم في مواجهة الإرهاب. وأكد راي خلال زيارته لنيجيريا، وهي الأولى من نوعها لمدير المكتب لنيجيريا منذ بدء عمله، أنه “عندما تنظر للإقليم، غرب إفريقيا بمعنى أكثر اتساعًا، فإننا لا نزال قلقون إزاء عدم الاستقرار وكيف يمكن أن يؤثر على قدرة الجماعات الإرهابية على استغلال الواقع. ورأى أن هذا يفسر جزئيًا سبب عمل المكتب عن كثب مع شركائه في نيجيريا وفي دول أخرى.
وقد ركزت الجماعات التابعة لداعش والقاعدة هجماتها في الإقليم أكثر من أنشطتها في أوروبا أو الولايات المتحدة. ولاحظ راي حالة عنصر جماعة الشباب الذي اتهم قبل سنوات مضت بالتآمر لاختطاف طائرة وتحطيمها في مبنى بالولايات المتحدة على نمط هجوم 11 سبتمبر. ولاحظ راي أنه فيما يتجاوز تهديد الجماعات الإرهابية للغربيين “ومصالحنا هنا في إفريقيا” فإن الولايات المتحدة متخوفة للغاية من أن خطط ونوايا تلك الجماعات يمكن أن تتغير عند أي مرحلة ما. مؤكدًا “لذا فإنه بينما توجد تهديدات “أجنبية”، فإن المواطنين الأمريكيين عليهم ألا يعتقدوا أن تلك التهديدات مسائل تخص أطراف نائية من العالم بعيدًا عنهم.
……………………………………………..
[1] Eric Schmitt and Ruth Maclean, U.S. Confronts Failures as Terrorism Spreads in West Africa, The New York Times, June 7, 2024 https://www.nytimes.com/2024/06/07/us/politics/us-terrorism-west-africa.html
[2] Africa Defense Forum, As SADC Mission in Mozambique winds down, terrorism resurges, Defence Web, June 11, 2014 https://www.defenceweb.co.za/featured/as-sadc-mission-in-mozambique-winds-down-terrorism-resurges/