تمتاز سياسة إيران الخارجيّة تجاه إفريقيا ببنية مُتعددة الطبقات، تهدف في مجموعها إلى تعزيز موقعها الجيوسياسي ودعم أهدافها الإستراتيجية، والتي يُعدّ أبرزها إظهار إيران كقوة تتجاوز كونها قوة إقليمية، وبالتالي الضّغط على مُنافسيها خاصّةً الولايات المتحدة في مناطق جغرافية أخرى للحصول على مزايا سياسيّة واقتصادية، والتخفيف ما أمكن من تأثير العقوبات المفروضة عليها، وتحييد استراتيجيَّة العُزلة السياسيّة الموجّهة إليها من خلال محاولتها بناء تحالفات.([1])
في ضوء ذلك، كانت مروحية الرئيس الإيراني إبراهيم “رئيسي” قد تعرَّضت يوم الأحد 19 مايو 2024م لحادثة تحطّم أودت بحياته وجميع مَن كانوا معه على متنها، وهو ما يطرح العديد من التساؤلات حول تداعيات هذه الواقعة على عدة ملفات إيرانية، من بينها ملف السياسة الخارجيّة الإيرانية تجاه إفريقيا؛ الثابت فيها والمُتغيّر. حيث تنبع أهمية تسليط الضوء على هذا الملف من كونه أحد الملفات المحوريّة لإيران. ففي نهاية أبريل الماضي، عُقدت القمة الإيرانية-الإفريقية للمرة الثانية في طهران، في محاولةٍ للخروج بالعلاقات بين الجانبين من دائرة الجمود. لذا، تحاول الورقة الإجابة عن تساؤل “رئيسي” هو: إلى أيّ مدى ستتأثر السياسة الخارجيّة الإيرانية تجاه إفريقيا في حقبة ما بعد رئيسي؟ ما هو الثابت في هذه الحالة؟ وما هو المُتغيّر؟
مفاتيح أساسيّة من واقعة تحطُّم المروحيّة:
كان الرئيس الإيراني قد وصل إلى مطار تبريز للمشاركة في مراسم تدشين سد “قيز قلعة سي” الحدودي المشترك بين إيران وأذربيجان، وهو ما يُعتَبر أكبر مشروع للمياه في المناطق الحدودية الشمالية الغربيّة لإيران.([2]) وبعد ساعات فقط من مشاركته في مراسم التدشين، وقعت حادثة تحطُّم المروحية في منطقة جبليّة وعرة قرب الحدود مع أذربيجان، وتم الإعلان رسميًّا بعدها بساعات عن مصرعه رُفقة جميع من كانوا معه.
الأسماء التي كانت برفقة الرئيس الإيراني الراحل على متن المروحية هم: حسين أمير عبداللهيان وزير الخارجيّة، آل هاشم إمام جمعة تبريز، ومالك رحمتي مُحافظ أذربيجان الشرقيّة، وسيّد مهدي موسوي رئيس وحدة حماية الرئيس، وعنصر من الحرس الثوري، إضافة إلى الطيّار ومُساعد الطيّار ومسؤول فنّي.([3]) وبإمعان النظر في الأسماء المذكورة، سنجد أنّ ثلاثة أسماء على الأقل كان لهم أدوار رئيسة في ملفات إيران الخارجية بصفة عامة، وتجاه إفريقيا بصفة خاصة، يأتي على رأسهم الرئيس الراحل ووزير خارجيته.
عبداللّهيان على سبيل المثال، كان قد حصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة طهران، وأمضى خمس سنوات نائبًا لوزير الخارجيّة للشؤون العربيّة والإفريقيّة من 2011م وحتى 2016م، وهي الفترة التي شهدت الكثير من التفاعلات العربيّة والإفريقية على حد سواء، قبل أن يتقلّد منصبه الأخير وزيرًا للخارجية في أغسطس من عام 2021م حتى وفاته.
اللّهيان كان طوال هذه السنوات يضع علاقة إيران بجوارها على رأس أولوياته، ومن بينهم العرب والأفارقة على وجه التحديد.([4]) وهو نهج مُغاير بدرجة معينة عن نهج سلفه، محمّد جواد ظريف؛ حيث شهدت فترة تولّيه وزارة الخارجيّة الإيرانية درجةً من الركود في سياسة إيران تجاه إفريقيا.
الثّابت في سياسة إيران ما بعد “رئيسي” تجاه إفريقيا:
على الرغم من صعوبة وجود ثوابت حاكمة في السياسة الخارجيّة بصفة عامة؛ إلا أنّ الجوانب التالية تعتبر بمثابة أركان أساسية في سياسة إيران الخارجيّة تجاه إفريقيا، حتى على الرغم من التوجّهات المختلفة نسبيًّا للإدارات المتعاقبة:
1- الحاجة المستمرة لتأمين موطئ قدم في قارة جاذبة للقوى الخارجيّة الكُبرى:
تُدرك إيران أنّ إفريقيا بالنسبة لها خيار رابح على المدى المتوسّط والبعيد. فهي محطّ أنظار قوى دولية كُبرى وصاعدة على حد سواء. لذا، قام الرئيس الراحل بمحاولة إنعاش العلاقات الإيرانية-الإفريقية، وإخراجها من حالة الركود التي كانت عليها، بعمل جولة ثلاثية في إفريقيا العام الماضي، وهي جولة أولى من نوعها لمسؤول إيراني رفيع منذ ما يقرب من 10 سنوات. الزيارة شملت كينيا وأوغندا وزيمبابوي؛ سعى من خلالها للبناء على جهود الرئيس الأسبق أحمدي نجاد في ولايتيه الأولى والثانية فيما يخص التقارب مع إفريقيا، وذلك ضمن إستراتيجية أعمّ وأوسع للمرشد الأعلى للثورة في إيران، علي خامنئي، والتي تدعو صراحةً إلى تنويع جذري في سياسة إيران الخارجيّة تجاه القوى الآسيوية الناشئة والمُستعمرات الأوروبية السابقة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، وعلى نطاق أوسع، بلدان الجنوب العالمي.([5])
2- إعادة إحياء وتفعيل دبلوماسيّة القمم المُشتركة:
قامت إيران بإعادة إحياء وتفعيل دبلوماسية القمم المشتركة مع إفريقيا، وأقامت خلال الفترة من 27 وحتى 29 أبريل 2024م قمة في طهران، استهدفت من خلالها توسيع مساحة التعاون الاقتصادي مع الدول الإفريقية. حضرها ممثلون عن 40 دولة إفريقية، أي ما يزيد عن ثلثي الدول الإفريقية، إلا أنّ الملاحظ في مستوى التمثيل، أنه لم يشارك في هذه القمة رؤساء الدول الإفريقية وإنما ممثلون عنهم، وذلك باستثناء نائب الرئيس الزيمبابوي تشيوينغا. هذه القمة سبقها بأقل من عام، تجمُّع اقتصادي آخر مع عدد من سفراء دول غرب إفريقيا في مارس 2023م، كان يهدف أيضًا إلى زيادة التعاون الاقتصادي مع تلك الدول.([6] ) فضلًا عن مسار علاقاتها الثنائية مع كلٍّ من جنوب إفريقيا، ونيجيريا، والسّودان وإريتريا، وغيرها من الدول.
وما يمكن ملاحظته في هذا الجانب، أن إيران لم تقتصر فقط على الأُطر المؤسسية الجامعة من خلال تفعيل آلية القمم المشتركة مع إفريقيا بصفة عامة، وإنما سارت كذلك في مسارات متوازية ثنائية وثلاثية مع دول إفريقية محورية في مختلف الأقاليم الإفريقية الفرعية، من شرق إفريقيا وغربها، ووسطها وجنوبها على حد سواء، وهو ما يُبرهن على رغبتها الأكيدة في عمل تقارب يتَّسم بقَدْر من الثبات مع إفريقيا ككُتلة ومع إفريقيا كدول محورية في مُحيط أقاليمها الفرعية على حد سواء.
3- التقدُّم ولو خُطوة واحدة للأمام في طريق إنشاء أول قاعدة عسكريّة لها في إفريقيا:
تُتابع إيران عن كثب مجمل التفاعلات الجارية في مختلف الأقاليم الفرعيّة الإفريقيّة، والتي يغلب عليها الطّابع الصّراعي على حساب الطّابع التعاوني، بما فيها تلك المناطق شديدة الاضطراب والتي تعتبر بمثابة بيئة مواتية للاختراق، ومِن ثَم السماح بإنشاء قواعد عسكريّة أجنبية على أراضيها مقابل حصولها على ميزات مالية وأخرى مادية. جيبوتي على سبيل المثال، بها ست قواعد عسكريّة قابلة للزيادة، قد لا تطمح إيران حاليًا في الظّفر بقاعدة عسكريّة في جيبوتي؛ إلا إنّها تطمح ولو على المدى المتوسط إلى إنشاء قاعدة عسكريّة لها في أيٍّ من المناطق الإستراتيجية المُطلّة بلدانها على البحر الأحمر.
إريتريا كانت هدفًا لها قبل نحو عشرة أعوام، والآن السّودان هي الأقرب من وجهة نظرها بسبب الحرب الأهلية الجارية بين الجيش الوطني السّوداني بقيادة عبدالفتاح البُرهان وقوات الدعم السّريع السّودانية بقيادة محمّد حمدان دقلو- حميدتي. لا تتعجّل إيران في الإفصاح عن هذه الرغبة، ولا تبذل خُطوات مُتسارعة قد تجرّ لها بعض المشكلات؛ بالنظر لحساسية النطاق الجيوستراتيجي الذي تستهدف إنشاء قاعدتها في مُحيطه؛ إلا أنّ فكرة إنشاء قاعدة عسكريّة لها في إفريقيا تظلّ حُلمًا يُراود إداراتها المتعاقبة، حتى وإن دخل على هذا الملف قدر من التقديم والتأخير. وللتدليل على ذلك، كانت إيران قد حاولت في أكثر من مناسبة عرض خدمات معينة مقابل السماح لها بإنشاء قاعدة عسكرية، كان آخرها أثناء الحرب الأهليّة الجارية في السّودان، بتقديم المزيد من الأسلحة النوعية مثل المُسيّرات وسفينة حربية تحمل مروحيّات إذا ما سمحت لها السودان بإقامة قاعدة عسكرية على ضفاف البحر الأحمر؛ وهو الأمر الذي قُوبِلَ بالرفض من الجانب السُّوداني.[7]))
4- كسب الكُتلة التصويتية الإفريقية لصالحها في المحافل الدوليّة المُختلفة:
تُدرك إيران أنّه على الرغم من أنّ إفريقيا ليست كُتلة فاعلة في مجموعها في التفاعلات الدولية الجارية تجاه القضايا الكُبرى والحيوية، ومن بينها قضية إعادة تشكيل النظام العالمي والخروج شيئًا فشيئًا من الأحادية القطبية للولايات المتحدة إلى ما يُشبه توازن القوى؛ إلا أنّها في الوقت نفسه تعي الأهمية الإستراتيجيّة للأصوات الإفريقيّة في المحافل الدوليّة المختلفة.
ومما يُساعد إيران على ذلك: وجود عضويات إفريقية في مختلف الكيانات الدولية، ووجود مُشاركة إفريقيّة دؤوبة في عملية التصويت في مجمل المحافل الدولية، وهو وإن لم يُغيِّر في واقع ما يتم التصويت عليه؛ إلا أنه يُساعد من ناحيةٍ أخرى في خلق حالة من الزّخم تجاه قضايا ذات اهتمام مُشترك بين الجانبين، ومن بينها القضايا المرتبطة بدعم محور المقاومة في منطقة الشّرق الأوسط بصفة عامة، والقضية الفلسطينية منها على وجه التحديد؛ حيث تجد إيران مصلحةً مُباشرةً على سبيل المثال في تقدير ودعم دعوى جنوب إفريقيا في اتهامها إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بخرق اتفاقية منع الإبادة الجماعية، وتكييف ما تقوم به إسرائيل في غزّة منذ السّابع من أكتوبر 2023م وحتى الآن باعتباره ضربًا من ضروب الإبادة الجماعية.
5- فتح آفاق جديدة لصفقات السّلاح الإيراني في المناطق الأكثر اضطرابًا في إفريقيا:
تستطيع إيران قراءة الواقع الإفريقي المُضطرب بصورة جيدة؛ حيث يستقر لديها الانطباع العام بأنّ إفريقيا يصعب أن تنعم بالاستقرار قريبًا، ومِن ثَمَّ فهي بيئة خصبة لكافّة أشكال الاضطراب، ومن بينها: أنماط متعددة من الصّراعات الداخليّة مثل التغييرات غير الدستورية للحكومات، والحروب الأهلية، والصّراعات البينية، والنزاعات الحدوديّة، والتدخّلات الأجنبية المباشرة وغير المباشرة، فضلًا عن دور شركات الأمن الخاصّة والشركات العسكريّة الخاصّة في مناحي مختلفة من إفريقيا؛ وهو ما يدفع إيران للاستفادة من حالة الاضطراب العام الذي تمر به إفريقيا، وتحاول بناءً على ذلك عقد صفقات أسلحة سرية ومُعلَنة في بعض تلك المناطق، لم تكن أولها حرب تيجراي، ولن يكون آخرها الحرب الأهلية الجارية في السّودان؛ حيث قامت مؤخرًا بتزويد الجيش الوطني السّوداني بمُسيّرات من أجل حسم بعض المعارك في الخُرطوم، العاصمة.
المُتغيّر في سياسة إيران ما بعد “رئيسي” تجاه إفريقيا:
على الرغم من وجود سقف لا يمكن للإدارات الإيرانية المتعاقبة أن تخرج عنه بسبب نظام الحكم المعمول به، إلا أنّه ورغم ذلك هناك قدر من التباين النسبي في توجُّه كل إدارة حاكمة على حدة، تبعًا لترتيب مصالحها والتحديات التي يفرضها الواقع في كُلّ سياق على حدة.
يكفي للتدليل على ذلك أنّ القضية الأكثر جوهريّة في سياسة إيران الخارجيّة في عهد الرئيس الأسبق حسن روحاني كانت هي قضية الاتفاق النووي، وهو ما استدعى تكريس مُعظم جهودها في هذا التوقيت على إحراز تقدُّم ملموس في هذا الاتجاه؛ الأمر الذي لم يَعُد يحظى حاليًّا بنفس الدرجة من الأسبقية، خاصّةً بعد التصعيد الأخير وغير المسبوق في صراعها مع إسرائيل.
ومن بين الملفات والأوضاع ذات المساس بإفريقيا، والتي يمكن أن تشهد تغيُّرًا من الإدارات الإيرانيّة المُتعاقبة:
1- التقديم والتأخير في ترتيب المصالح الإيرانية في إفريقيا:
تنحصر ملامح الملفات التي يُمكن أن تشهد تغيرًا في السياسة الخارجية الإيرانية تجاه إفريقيا، سواءٌ بالتقديم أو التأخير بحسب أولويات كل إدارة، في ثلاث مصالح هي: المصالح الأمنية والعسكريّة، والمصالح الاقتصادية، والمصالح الدينية. المصالح الأمنية والعسكريّة تتمثّل في صفقات السّلاح المعلنة والسرية في المناطق الأكثر اضطرابًا في إفريقيا، وعلى رأس تلك المناطق السّودان في الحرب الأهلية الجارية هناك منذ مارس 2023م. أمّا المصالح الاقتصادية فتتمثّل في سعيها لزيادة حجم تجارتها مع إفريقيا إلى 12 مليار دولار، أي عشرة أضعاف تجارتها في بداية عهد “رئيسي” عام 2021م، والتي سجّلت في ذلك الوقت 1.28 مليار دولار فقط.([8]) أمّا المصالح الدينية فتتمثّل في مواصلة المدّ الشيعي في بعض المناطق الإفريقية، والذي سيُمكِّنها من إضفاء بُعْد جديد في علاقتها مع بعض دول الشرق والغرب الإفريقيَّين.
2- موقع المدّ الشيعي في أجندة إيران الخارجية تجاه إفريقيا:
على الرغم من وجود مصلحة إيرانية ورغبة مستمرة في عمل مدّ شيعي في أنحاء من القارة الإفريقية المُكتسية في بلدانها الإسلامية بالمذهب السُّنيّ، إلا أنّ إداراتها المتعاقبة لا تنظر لهذه القضية باعتبارها أمرًا يأتي في مُقدمة سُلّم الأولويات. ودليل ذلك، فتحها لعلاقات ثنائية وثلاثية مع دُوَل لا يمثل الإسلام فيها غالبية، مثل: كينيا وغانا وأوغندا، حتى ولو كان بها تمثيل شيعي طفيف؛ حيث كانت إيران قد افتتحت فرعًا في كينيا للبيت الإيراني للابتكار والتكنولوجيا، وهي شركة لا تزال ناشئة في طهران، وكليّة الطب في جامعة طهران هي الأخرى بدأت تعاونًا مع مركز التنمية الصحية الإفريقي في غانا، كما أُنشئ مكتب متخصص لتصدير منتجات التكنولوجيا الحيويّة الإيرانية في العاصمة الأوغندية كمبالا.([9])
يأتي ذلك في ضوء رغبة إيران في مواصلة سياسة التشيّع، مُستغلةً تصاعد حدة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في عدد من البلدان الإفريقية. لذا، تمارس بعض المؤسسات الدينية والخيرية الإيرانية دورًا رئيسيًّا في هذا الصّدد، على غرار الهلال الأحمر الإيراني في دول مثل ساحل العاج وغيرها من دول منطقة غرب إفريقيا.([10])
3- طبيعة وحُدود شراكاتها الإفريقية بما في ذلك دعم مشروعات مُشتركة وأنشطة خارج الغِطاء الدولاري:
لا تغفل الإدارات المتعاقبة على إيران، مسألة إبرام شراكات ثنائية وجماعية مع إفريقيا، غير أنّ حدود هذه الشراكات هي ما تتباين من إدارة لأخرى. على سبيل المثال، شهدت فترة حُكم “رئيسي” تقاربًا كبيرًا في علاقة إيران بدولة جنوب إفريقيا، مستندةً في ذلك على سياستها الخارجيّة القائمة على تعزيز الشّراكات مع دول الجنوب لمواجهة النفوذ الدولي الغربي، كما شهدت علاقاتها الدفاعية معها تطورًا كبيرًا في ذات الفترة، خاصّةً بعد أن وقّعت إيران وجنوب إفريقيا اتفاقات تعاون عسكري مُشترك.[11]))
وبالإضافة لذلك، تعمل إيران على بناء علاقات مع دول إفريقية تواجه عقوبات غربيّة، وذلك من خلال مشروعات مشتركة وأنشطة تجاريّة تتم خارج الغِطاء الدولاري؛ حيث حصلت على سبيل المثال على اليورانيوم من زيمبابوي مقابل البترول، وقد ظهر التقارب بينهما في زيارة “رئيسي” لزيمبابوي فور تولّيه السُّلطة، فيما كان التمثيل السياسي لزيمبابوي هو الأعلى إفريقيًّا في القمّة الإيرانية-الإفريقية التي عُقدت في طهران مع نهاية شهر أبريل الماضي.([12])
يقول وزير الصّناعة الإيراني، علي عباس آبادي: “إنّ معدّل النمو الاقتصادي في إفريقيا أعلى من المتوسّط العالمي، وهو ما نعتبره فرصة علينا استغلالها، فبحلول نهاية هذا العام (ينتهي العام الإيراني الجاري، في 20 مارس 2025م)، سنحاول توفير معارض دائمة للسّلع الإيرانية في جميع البلدان الإفريقية المحوريّة، أو على الأقل جزء منها. إنّ ميزاننا التجاري مع إفريقيا إيجابي للغاية، وبالتالي يتركّز نهجنا على زيادة وارداتنا أيضًا من إفريقيا. بحلول نهاية هذا العام، ستصل عدد مؤسساتنا الثقافية في إفريقيا إلى 12 مؤسسة، وسيصل عدد مراكزنا التجارية في إفريقيا إلى 15 مركزًا”.([13])
4- طبيعة وحُدود تنافسها مع دول الخليج وتركيا في إفريقيا:
تسعى إيران لتعزيز الشعور بالتضامن مع الشعوب الإفريقية، مُنطلقةً في ذلك من عدم وجود إرث استعماري لها في إفريقيا. إلا أنّ الميزة ذاتها، تتحقق بالنسبة لدول الخليج العربي، بل إنّ هناك ميزة أخرى إضافية لدى دول الخليج في مسألة الوفورات المالية التي هي ليست ذاتها بالنسبة لإيران. لذا، تضع إيران نُصب أعينها أيّ تقارب خليجي-إفريقي وتحاول في مقابل ذلك تقديم بعض المزايا التنافسية للأفارقة؛ من حيث الموارد البشريّة والشّركات القائمة على المعرفة والخبرة التقنية زهيدة الثمن، لا سيّما في مجالات الطّاقة والطّب والدفاع وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات.([14])
وكان “رئيسي” قد أشاد بمخرجات القمّة الإيرانية-الإفريقية الثانية، ووصفها بأنها ترمز إلى التصميم على توسيع دائرة العلاقات بين الجانبين، وأنّ حوالي 10 آلاف شركة إيرانية تعمل بالفعل في القطاعات التكنولوجية والعلميّة؛ رفعت إجمالي تجارة إيران مع الدول الإفريقية إلى مستوى 2 مليار دولار سنويًّا، مؤكّدًا بأنّ الشراكة مع إفريقيا تسعى إلى تعاون حقيقي من أجل تقدُّم إفريقيا لا من أجل نهب الثروة الإفريقيّة كما يفعل الغرب.([15])
من ناحية أخرى، تحاول إيران تقديم نموذجها للأفارقة بصورة مُغايرة عن النموذج التركي، باعتبار أنّ إيران تشترك معهم في التصدي للإمبرياليّة الغربيّة خلافًا للموقف التركي المُتردّد في هذا الصّدد. فضلًا عن إسهام إيران قديمًا في الجهود الإفريقية التي استهدفت التخلص من الاستعمار الأوروبي أثناء الحرب الباردة، ممّا ترى بأنه خلق رابطة مُشتركة بينها وإفريقيا؛ القاسم المُشترك في هذه الرابطة هو مواجهة السياسات الإمبريالية التي يقوم بها الغرب بأشكالٍ عديدة داخل وخارج إفريقيا.([16])
5- شكل وطبيعة الدعم الإيراني لبعض القضايا الإفريقيّة:
أثناء زيارة “رئيسي” لأوغندا ضمن جولة إفريقية أجراها في يوليو 2023م، قام بدعم أوغندا في القانون الذي أصدرته لمناهضة الشذوذ الجنسي ورتّب السّجن مدى الحياة كعقوبة لهذه الجريمة. استنكر “رئيسي” في هذه الزيارة الإدانات الغربيّة الواسعة للقانون الأوغندي، وقال: “تُحاول الدول الغربيّة تعريف المثليّة بأنّها ضربٌ من ضُروب الحضارة، على الرغم من أنّها من أقذر التصرُّفات التي تمّ القيام بها في تاريخ البشريّة”.([17])
وعلى الرغم من موقف إيران الداعم لأوغندا في هذه القضية؛ إلا أنّ لإيران مواقف أخرى يُنظَر إليها باعتبارها مُساهمة في إحداث حالة من الاضطراب وعدم الاستقرار في مناطق وملفات أخرى إفريقية. المغرب على سبيل المثال قطع علاقاته معها في عام 2018م معلّلًا ذلك بأنه اكتشف “أدلّة دامغة” على توفير إيران تدريب عسكري وإمداد وتموين لجبهة البوليساريو المُنادية بالانفصال عن المغرب وإعلان دولة الصحراء الغربية دولة مستقلة ذات سيادة. الأمر نفسه بالنسبة لشحنات أسلحة إيرانية وصلت إلى جهات غير حكومية عبر وكلاء في الصومال، فضلًا عن إلقاء الأجهزة الأمنية في غانا والسنغال وتنزانيا القبض على أشخاص يُشتبه في تبعيتهم لفيلق القُدس، أحد أفرع الحرس الثوري الإيراني.([18])
ختامًا، يترك نظام الحُكم المعمول به في إيران مساحة محدودة من التغيير بصفة عامة أمام أيّ من الإدارات المتعاقبة على الحُكم، قد تتسع الدائرة قليلًا فيما يخص السياسة الخارجيّة لإيران؛ إلا إنّها لا يُتصوَّر أن تشهد تغيُّرًا جذريًّا من إدارة لأخرى. وذلك بشرط ثبات المُتغيّرات بطبيعة الحال في ظل القيادة الحالية. من ناحيةٍ أخرى، يمكن القول بأنّ الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي، على الرغم من سنوات حُكمه القصيرة؛ إلا أنه نجح في تحريك المياه الراكدة بين إيران وإفريقيا، ولعلّ أمارة ذلك على سبيل المثال، ردود الأفعال الإفريقية([19]) إثر تحطم مروحيته والإعلان رسميًّا عن وفاته.
لذا، وبغضّ النظر عن اسم الرئيس الإيراني المُقبل بعد إتمام المرحلة الانتقالية الجارية، واحتمالية أن يكون من بين الأسماء التالية: محمّد مُخبر، محمّد باقر قاليباف، علي لاريجاني، علي أكبر صالحي أو جميلة علم الهُدى، زوجة الرئيس الراحل رئيسي([20])؛ فإنّ تغييرًا في سياسة إيران الخارجيّة تجاه إفريقيا يُتصوَّر أن يطال الأفرع فقط فيما يخص طبيعة وحدود شراكاتها مع إفريقيا، وأيّ من الدول الإفريقية تعتبرها دولًا محوريَّة، لكن من المُستبعَد أن يَطال هذا التغيير الجذور؛ كما لو باتت أكثر انخراطًا في إفريقيا، وأصبحت تمارس علانيةً أدوارًا لصالح أيٍّ من الأطراف المتصارعة كما تفعل روسيا أو فرنسا على سبيل المثال. وفي كلتا الحالتين، تبقى إفريقيا بالنسبة لإيران لاعبًا لا يمكن الاستغناء عنه في مُعادلتها الصَّعبة والممتدة مع الولايات المتحدة والغرب.
……………………………..
[1]– Oral Toğa, Iran’s Approach to the African Continent and Its Strategic Objectives (IRAM Center for Iranian Studies: March 14, 2024) https://iramcenter.org/en/irans-approach-to-the-african-continent-and-its-strategic-objectives_en-2470
[2]– سارة ربيع، «قيز قلعة سي» السد الذي «تسبّب» في مقتل رئيسي (الشّرق الأوسط: 20 مايو 2024) https://aawsat.com/شؤون-إقليمية/5022552-قيز-قلعة-سي-السد-الذي-تسبّب-في-مقتل-رئيسي
[3]– إيران تنتشل جثامين رئيسي ومرافقيه من حطام المروحية (الشّرق الأوسط: 19 مايو 2024) https://aawsat.com/شؤون-إقليمية/5022271-إيران-تنتشل-جثامين-رئيسي-ومرافقيه-من-حطام-المروحية
[4] Anushka Patil, Who Was Iran’s Foreign Minister, Hossein Amir Abdollahian? (The New York Times: May 20, 2024) https://www.nytimes.com/2024/05/20/world/middleeast/iran-foreign-minister-amir-abdollahian.html
[5] Nima Khorrami, The Limits to Iran’s Trade Push in Africa (Middle East Council on Global Affairs: August17, 2023) https://mecouncil.org/blog_posts/the-limits-to-irans-trade-push-in-africa/
[6]– حُدود النفوذ الإيراني في إفريقيا (أسباب: مايو 2024) https://www.asbab.com/حدود-النفوذ-الإيراني-في-أفريقيا/
[7]– WSJ: الخرطوم رفضت طلبًا لبناء قاعدة عسكرية إيرانية على الأحمر، ومسؤول استخباراتي يكشف الأسباب (موقع قناة روسيا الناطقة بالعربية-RT: 3 مارس 2024) https://arabic.rt.com/middle_east/1543792-وول-ستريد-جورنال-إيران-طلبت-من-الجيش-السوداني-السماح-لها-ببناء-قاعدة-على-البحر-الأحمر/#
[8]– حُدود النفوذ الإيراني في إفريقيا، مرجع أُشير إليه سابقًا.
[9] Nima Kharromi, Op.cit.
[10]– المسار الثاني: لماذا تهتم إيران بتطوير علاقاتها مع الدول الإفريقيّة؟ (إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجيّة: 29 أُغسطس 2022) https://www.interregional.com/article/المسار-الثاني:/1436/Ar
[11]– حُدود النفوذ الإيراني في إفريقيا، مرجع أُشير إليه سابقًا.
[12]– المرجع السّابق مُباشرةً.
[13]– وزير الصناعة الإيراني: إفريقيا تحظى بالكثير من الفرص للصناعيين ورجال الأعمال الإيرانيين (وكالة الأنباء الإيرانيّة: 27 أبريل 2024) https://ar.irna.ir/news/85457780/وزير-الصناعة-الايراني-أفريقيا-تحظى-بالكثير-من-الفرص-للصناعيين
[14] Nima Kharromi, Op.cit.
[15] What’s behind Iran’s Ambitious Push for influence in Africa? (Al-Monitor: April 28, 2024) https://www.al-monitor.com/originals/2024/04/whats-behind-irans-ambitious-push-influence-africa
[16] Arman Sidhu, A New Beginning in Iran-Africa Relations (Geopolitical Monitor: July 26, 2023) https://www.geopoliticalmonitor.com/a-new-beginning-in-iran-africa-relations/
[17] Carra Anna and Rodney Muhumuza, Iran’s leader, Visiting Africa, Attacks Western Support for Homosexuality as among ‘Dirtiest’ Things (Associated Press: July 12, 2023) https://apnews.com/article/kenya-iran-africa-president-visit-3ee4f376b66442cfe1c734a5a429aea2
[18] Iranian Efforts to Deepen Ties in Africa Draw Skeptical Response (African Defense Forum: November 14, 2023) https://adf-magazine.com/2023/11/iranian-efforts-to-deepen-ties-in-africa-draw-skeptical-response/
[19] Sherrif Bojang Jnr, Iran President Raisi was building a strategic foothold in Africa (The Africa Report: May 20, 2024) https://www.theafricareport.com/348863/iran-president-raisi-was-building-a-strategic-foothold-in-africa/
[20] Fereshteh Sadeghi. Iran after Raisi: what comes next? (Italian Institute for International Political Studies- ISPI: May 20, 2024) https://www.ispionline.it/en/publication/iran-after-raisi-what-comes-next-174409