يثير التقارب الإثيوبي من إسرائيل في الساحة الأفريقية حالة من الغموض والقلق حول طبيعة المصالح المشتركة بين الطرفين ، وتأثيرها علي مصالح الدول الإسلامية ، وجاء حث وزير الخارجية الإثيوبي تيدروس أدهانوم، الشركات الإسرائيلية على المشاركة في مشروعات استثمارية بإثيوبيا خلال لقاء وزير الخارجية الإثيوبي مع رئيس شركة «ألانا بوستاش» الإسرائيلية لإنتاج «البوتاس» نجيب أبا الذي يمثل أيضا شركة «إسرائيل كيميكال» للكيماويات .
ومن هذا قيام إثيوبيا بعرض السندات الخاصة بتمويل سد النهضة على شركات إسرائيلية، للمساهمة في تمويله بفوائد أكبر من الفوائد البنكية ، وكذا توزيع السندات علي يهود اثيوبيا (الفلاشا) في إسرائيل .
وكذا إعلان جيمال بيكر مدير إدارة شئون الشرق الأوسط بوزارة الخارجية الإثيوبية ترحيب بلاده بعرض قدمه وزير الزراعة الإسرائيلي يائير شامير للوساطة بين مصر وإثيوبيا بشأن سد النهضة الإثيوبي ، بجانب التزام الحكومة الإثيوبية بدعم وتشجيع جميع مساعي الشركات الإسرائيلية الراغبة في الاستثمار بإثيوبيا .
خرافات وأسس تاريخية
والحقيقة أن هذا التعاون المشترك له أصل وتاريخ ، فهناك خرافة صهيونية انتشرت مؤخرا تقول إن الدم اليهودي يسري في عروق “منليك” وهو أول حاكم إثيوبي، واعتبارهم – على حد زعم الأسطورة – ينحدر من صلب نبي الله سليمان عليه السلام .. وقد استغلت إسرائيل تلك الأسطورة، في توطيد العلاقات مع إثيوبيا التي تناصب مصر والعرب العداء منذ تولي الشيوعي الراحل منجستو هيلامريام قيادة أثيوبيا .
والمصادر الإسرائيلية تزعم أيضا أن العلاقة بين إثيوبيا وإسرائيل بدأت كما تقول الأساطير الإفريقية منذ عهد النبي سليمان عليه السلام أي القرن الثالث قبل الميلاد، وحسب تلك الأساطير فإن للنبي سليمان ابنا من الملكة سبأ التي يسميها الأحباش “ماكدا” وهو جد الأحباش كما أنه هو مؤسس الإمبراطورية الحبشية، واسمه “منليك الأول” هو ابن ملكة سبأ .
بالمقابل يقولون أن قومية (أمهرا) التي ينتمي إليها الأباطرة الذين حكموا إثيوبيا وآخرهم الإمبراطور ” هيلا سيلاسى” ينتمون إلى سلالة سيدنا سليمان ، وتشير الأساطير الحبشية إلى أن الوصايا العشر مخبأة في جبال الحبشة وهذا ما أكده الكاتب البريطاني “غيرهام غرين”، إلى احتمال وجودها في أثيوبيا وعليه تخرج جميع كنائس الحبشة التابوت (المزيف) الذين يدعون أنه لسيدنا سليمان ، ويطاف به حول المدن الرئيسية وهي طقوس تمارس حتى اليوم .
وقد اعتبر إمبراطور إثيوبيا “هيلا سيلاسى” نفسه بأنه “أسد يهوذا” وكان يفتخر أنه ينحدر من الملك سليمان الذي تربط الأساطير به سلالة “الفلاشا” أيضا” .
ولهذا أيضا استغلت إسرائيل قصية الفلاشا أو يهود أثيوبيا ، وهم أقلية يهودية تدعى “يهود إثيوبيا” معروفين باسم “الفلاشا مورا” والتي تعني بالعبرية “الهائم على وجهه” أو “المهاجر”، ومركزهم الرئيسي في إثيوبيا في إقليم أمهرا وتحديداً في مدينة “غوندار” في شمال شرق أثيوبيا حيث تم اكتشافهم في القرن التاسع عشر ولكنهم لا يتكلمون العبرية، وتطلق هذه المجموعة على نفسها “أبناء إبراهيم” و “بيت إسرائيل”
كسر الطوق العربي في البحر الأحمر
وكان الدافع الأكبر للصهاينة لتعظيم هذه العلاقات التاريخية هو أن إسرائيل فشلت في الوصول لمياه النيل في أسفل النهر من مصر، من خلال مشروع ترعة السلام التي كانت تصل مياه النيل إلى صحراء النقب عقب توقيع معاهدة كامب ديفيد بعد رفض الشعب المصري لذلك ، فقامت بالالتفاف من جهة المنابع، حيث اندفعت تجاه إثيوبيا بهدف توثيق علاقاتها مع إسرائيل بغية تحقيق هدف مشترك بين الدولتين، وهو كسر الطوق العربي في البحر الأحمر، ونزع الصفة القومية عن هذا البحر .
ومنذ ذلك الحين راحت تل أبيب ترسل شركاتها لإقامة استثمارات ضخمة هناك ، وانتقلت إسرائيل إلى العمل المباشر هناك خلال الثمانينات بوصول خبراء إسرائيليين لكل من إثيوبيا وأوغندا لإجراء أبحاث تستهدف إقامة مشروعات للري على النيل تستنزف 7 مليار متر مكعب أو 20%من وارد النيل إلى مصر، وذلك على الرغم من انتفاء الحاجة إلى مشاريع ري مائية في أوغندا التي تتلقى أمطارا استوائية تبلغ سنويا 114مليار متر مكعب .
ولم يقتصر التعاون الإسرائيلي الإثيوبي علي أنشطة الكهرباء والاتصالات فقط وبناء السدود ، وإنما أمدت إسرائيل إثيوبيا بالأسلحة والمعدات العسكرية والذخائر، وقدمت لها دعمًا في المجال الأمني وحرب العصابات، فضلا عن تدريب الطيارين الإثيوبيين بالقوات الجوية الإسرائيلية، وتطوير نظم الاتصالات بين القيادة الجوية في البلدين، إضافة إلى تبادل الزيارات بينهما على المستويين السياسي والأمني .
التعاون لتعطيش مصر
وعندما اكتملت التخطيط الصهيوني مع حكام إثيوبيا بدأ اللعب بورقة مياه النيل مع مصر وبدأ الدور الصهيوني يلعب بهذه الورقة الخطيرة عبر سلسلة نشطة من الاتصالات الصهيونية مع دول منابع النيل خصوصا أثيوبيا ( رئيس وزراءها زيناوي السابق زار تل أبيب أوائل يونيه 2004) ، وأوغندا لتحريضها علي اتفاقية مياه النيل القديمة المبرمة عام 1929 بين الحكومة البريطانية – بصفتها الاستعمارية – نيابة عن عدد من دول حوض النيل (أوغندا وتنزانيا وكينيا) والحكومة المصرية يتضمن إقرار دول الحوض بحصة مصر المكتسبة من مياه النيل، وإن لمصر الحق في الاعتراض (الفيتو) في حالة إنشاء هذه الدول أي سدود علي النيل .
ومع أن هناك مطالبات منذ استقلال دول حوض النيل بإعادة النظر في هذه الاتفاقيات القديمة، بدعوى أن الحكومات القومية لم تبرمها ولكن أبرمها الاحتلال نيابة عنها، وأن هناك حاجة لدى بعض هذه الدول خصوصًا كينيا وتنزانيا لموارد مائية متزايدة؛ فقد لوحظ أن هذه النبرة المتزايدة للمطالبة بتغيير حصص مياه النيل تعاظمت في وقت واحد مع تزايد التقارب الصهيوني من هذه الدول وتنامي العلاقات الأفريقية مع الصهاينة .
ولهذا عادت المناوشات بين دول حوض النيل (عشر دول) للظهور مرة أخرى بعد التدخل الصهيوني الكثيف في إفريقيا بزعم إن الاتفاقيات المائية المبرمة في عهد الاستعمار (اتفاق 1929 بين مصر وبريطانيا لتنظيم استفادة مصر من بحيرة فكتوريا) التي تعطي الحق لمصر أن توافق أو لا توافق على أي مشروع يقترحه أي طرف من أطراف دول حوض النيل للاستفادة من المياه لم تعد ملزمه لدول منابع النيل .
ولم تكن أثيوبيا بحاجة لهذا التدخل الصهيوني فهي رفضت اتفاقية 1929 واتفاقية 1959 في جميع عهودها السياسية منذ حكم الإمبراطور ثم النظام الماركسي “منجستو” وحتى النظام الحالي، بل وسعت عام 1981 لاستصلاح 227 ألف فدان في حوض النيل الأزرق بدعوى “عدم وجود اتفاقيات بينها وبين الدول النيلية الأخرى”، كما قامت بالفعل عام 1984 بتنفيذ مشروع سد “فيشا” – أحد روافد النيل الأزرق- بتمويل من بنك التنمية الأفريقي، وهو مشروع يؤثر على حصة مصر من مياه النيل بحوالي 0.5 مليار متر مكعب، ثم بدأت ثلاثة مشروعات أخرى أخطرها سد النهضة التي يفترض أنها سوف تؤثر على مصر بمقدار 7 مليارات متر مكعب سنويًّا من حصتها البالغة 55 مليار لا تكفي المصريين .
لماذا أثيوبيا؟
وقد حظيت أثيوبيا باهتمام خاص من إسرائيل، لأنها تمتاز بميزات سياسية وجغرافية وعسكرية وأمنية فريدة في نوعها؛ إضافة إلى كونها تعتبر نفسها قلعة في محيط إسلامي لا زال يموج بالصراعات، والأزمات، ولا يزال يواجه أنماطاً عديدة من العنف والأزمات المتعددة مما يجعلها المفتاح للتغلغل في إفريقيا وتطعن فيها الأمن القومي العربي .
ولان من الأهداف الإستراتيجية الخفية لإسرائيل في القارة الإفريقية، تطويق عدد من البلدان العربية من بينها مصر والسعودية واليمن والسودان ، فقد كانت ورقة مياه النيل، هي الأفضل للضغط علي مصر والسودان خصوصا ان إثيوبيا تسيطر على أكثر من 80% من مياه النيل التي تنبع من إثيوبيا .
أيضا إثيوبيا غنية بالموارد المعدنية التي تخدم الصناعات الإسرائيلية خاصة العسكرية منها، بالإضافة إلى معادن الذهب والماس والفضة.