عندما اندلعت التظاهرات في تونس, في الأسابيع الأخيرة من عام 2010م, لم ينتبه أحد من خارج المنطقة لهذه الأحداث التي كانت تُعد شأناً تونسياً محلياً، ونتجت عن بعض المظالم التي أحاطت بشاب جامعي عاطل عن العمل بمؤهله، فاضطر إلى أن يعمل بائعاً للخضروات، وتعرض في أثناء كسب رزقه لإهانة جارحة من شرطية.
ولم يكن أحد يتوقع مطلقاً أن تنتشر تلك التظاهرات إلى دول شمال إفريقيا كافة, وتستمر حتى تصل إلى سوريا والبحرين واليمن أيضاً, ففي غضون أسابيع انهار نظام زين العابدين بن علي، والذي كان يبدو أنه من أقوى الأنظمة في المنطقة، وانتشرت الثورة التونسية في أرجاء المنطقة كافة، وسرعان ما أطاحت موجة الثورة بنظام حسني مبارك الذي كان يعد هو الآخر من أقوى الأنظمة في المنطقة, ومن أطولها عمراً، وتدحرجت كرة اللهب لتصل إلى جماهيرية القذافي لتهدم أركان حكمه في غضون أشهر, بعدما تدخلت القوى الدولية للإطاحة به, ومساعدة الثوار على نيل حريتهم التي انتفضوا من أجلها.
وقد صدمت تلك الأحداث صنّاع السياسات والمخططين الاستراتيجيين حول العالم، ولم يكن أحد يتوقع أن تنتقل الأحداث بهذه السرعة وبتلك النتيجة، مما جعل الجميع يعيد النظر في قوة الأنظمة السياسية واستقرارها في مناطق أخرى من العالم، وبخاصة جنوب الصحراء الإفريقية التي ليست ببعيدة عن أحداث الشمال الإفريقي.
لذا كان من المهم الدخول في تفاصيل تلك الأحداث اليومية, والتظاهرات الاجتماعية, والأزمات السياسية والمواجهات العنيفة, من أجل محاولة رصد أية تحولات في منطقة جنوب الصحراء؛ فلم يكن حرق البوعزيزي لنفسه في ديسمبر 2010م هو الذي قلب نظام بن علي، ولكن عوامل كثيرة أثرت في المجتمعات العربية: كالبطالة, وإحباط الشباب المتعلم, وفرصهم المحدودة في الحياة، والجمود السياسي, وانتهاكات الأجهزة الأمنية, والغضب من فساد البطانة المحيطة بالحكم، لذا لم تكن حادثة البوعزيزي (إحراق البوعزيزي لنفسه) إلا رمزاً وحافزاً لانطلاق كل تلك الأحداث بخلفياتها الاجتماعية والاقتصادية.
لذا فإن فهم العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يمكن أن تؤدي إلى التغيير لا تضمن وحدها توقع الأحداث المستقبلية، ولكنها تساعد في معرفة الأحداث المحفّزة، أو التي يمكن أن تؤدي إلى اشتعال الأوضاع في أي لحظة.
وحتى الآن؛ فإن عدوى الربيع العربي لم تتجاوز جنوب الصحراء، ولكن يبدو أن المواطنين في السودان وأوغندا وبوركينا فاسو وجيبوتي وموريتانيا أُلهموا من تلك الظاهرة, وأطلقوا عدة تظاهرات ضد حكوماتهم، بالإضافة إلى عدة دول إفريقية أخرى(1) ولا جدال أن الزعماء الأفارقة ومواطنيهم كانوا يراقبون من كثب الأحداث التي تفجرت على حدود المنطقة الشمالية للقارة، وفهموا الدروس المستفادة، وقاموا بإعادة تقويم لديناميكيات السلطة في بلدانهم، وقاموا بحساباتهم فيما يمكن أن يتوقعوه ويستخلصه بعضهم من بعض، حكاماً ومحكومين.
وبنظرة فاحصة على تلك الدول الواقعة جنوب الصحراء, والمعرضة لقلاقل اقتصادية, يمكننا أن نرصد بعضاً من المؤشرات التي تدل على حدوث توترات مستقبلية في تلك المنطقة.
هناك عنصران أساسيان يحددان مدى هشاشة الدول أمام الأزمات:
العنصر الأول: هو عمق الأثر التراكمي للضعف البنيوي وكثافته, وحدود الانقسام في تلك الدول.