بول نانتوليا – أفريكا سنتر[1]
ترجمة: قراءات إفريقية
إن استراتيجية “الحزام والطريق” التي أطلقتها الصين في عام 2014م، تمثّل رؤية الصين لإعادة تشكيل انخراطها وتعاملها مع العالم. فهي خطة استراتيجية وشاملة في نطاقها وفي مكوناتها الأساسية للحزب الشيوعي الصيني CPC للوصول إلى كل من التجديد الوطني واستعادة القوة العظمى للصين. والآن تمتد تلك الاستراتيجية إلى ثلاث قارات، ووصلت إلى 60% من سكان العالم.
وحتى الآن فإن ما يقارب من الخمس وستين دولة التي وقعت حتى الآن على ذلك البرنامج (بما فيها حوالي 20 دولة في إفريقيا) تمثل 30% من إجمالي الناتج القومي العالمي، و75% من قطاعاته الطاقوية. وما يقرب من 50 شركة مملوكة للحكومة الصينية تقوم الآن بعمل 1700 مشروع بنية تحتية حول العالم، بقيمة تقارب 900 مليار دولار. فتلك المبادرة المعروفة باسم “حزام واحد وطريق واحد” One Belt One Road (OBOR) تم إدراجها في الدستور الصيني، وكذلك في ميثاق الحزب الحاكم باعتبارها تمثل الأولوية الأولى للصين للحصول على مكانة القوة العظمى بحلول منتصف القرن الحادي والعشرين. وقد عمل كل الزعماء الصينيين على تأييد ودعم تلك المبادرة منذ إنشاء جمهورية الصين الشعبية، ولكن ذلك السعي تسارع مؤخرًا تحت قيادة الرئيس “شي” جينبينج.
الأساس المنطقي الاستراتيجي
تتمثل الحالة النهائية لاستراتيجية الحزام والطريق في بناء “مجتمع المصير المشترك للبشرية” (“命运 共同体“)، الذي يُعرّف بأنه نظام عالمي جديد “للترابط” الاقتصادي والسياسي والأمني البديل مع وجود الصين في المركز ( تشونغ قوه، 中国). لهذا السبب، يصف القادة الصينيون تلك الخطة بأنها استراتيجية وطنية (zhanlüe، 战略)، مع عناصر اقتصادية وسياسية ودبلوماسية وعسكرية (综合 国力)، وليس مجرد سلسلة من المبادرات.
و”الحزام والطريق” تدعم مباشرة العديد من عناصر استراتيجية الأمن القومي للصين. على المستوى الكلي، يسعى إلى إعادة تشكيل النظام الاقتصادي العالمي بطرق تفضي إلى حملة بكين للحصول على مكانة القوة العظمى. فـ”الحزام والطريق” يحتوي على عنصرين؛ الأول: إنشاء طريق للحرير الاقتصادي يتكون من ستة ممرات برية تربط بين الصين الداخلية وآسيا الوسطى وأوروبا. ويشمل خطوط السكك الحديدية إلى أوروبا، وخطوط أنابيب النفط والغاز من بحر قزوين إلى الصين، وشبكة قطارات عالية السرعة تربط جنوب شرق آسيا بالساحل الشرقي للصين. ينشئ طريق الحرير البحري ثلاثة “ممرات اقتصادية زرقاء” متماسكة معًا عبر سلسلة من الموانئ البحرية من بحر الصين الجنوبي إلى إفريقيا وتوجه التجارة أيضًا من وإلى الصين.
يعزز “الحزام والطريق” أيضًا سيطرة بكين على سلاسل التوريد العالمية الحيوية وقدرتها على إعادة توجيه تدفق التجارة الدولية. وتكمن أهمية هذه الجهود في فتح خطوط اتصال بحرية جديدة وتوسيع الوصول إلى الموانئ الاستراتيجية حول العالم. في عام 2017، أعلنت الشركات الصينية المملوكة للدولة عن خطط لشراء أو تأمين حصص الأغلبية في تسعة موانئ خارجية، وكلها تقع في المناطق التي تخطط فيها الصين لتطوير خطوط بحرية جديدة. هذا بالإضافة إلى الموانئ الأربعين في إفريقيا وآسيا وأوروبا التي تمتلك فيها الشركات الصينية المملوكة للدولة حصصًا بقيمة 40 مليار دولار.
إن عائد الصين على الاستثمار من زيادة الوصول إلى الموانئ وسلاسل التوريد لا يتعلق بالاقتصاد فقط. ففي خمس حالات – في أعقاب عمليات الموانئ البحرية في جيبوتي ووالفيس باي (ناميبيا) وجوادار (باكستان) وهامبانتوتا (سري لانكا) وبيرايوس (اليونان) – فإن الصين تبعتها بعمليات النشر المنتظمة للبحرية التابعة للجيش الصيني، مع عقد اتفاقات عسكرية معززة. وبهذه الطريقة، تحولت الاستثمارات المالية إلى عوائد جيواستراتيجية.
الخطة الخمسية الثالثة عشرة للصين، وهي وثيقة تم تبنّيها في عام 2016 والتي توفّر إرشادات تنفيذية طويلة المدى بزيادات مدتها خمس سنوات، تدعو إلى “بناء مراكز بحرية” لحماية “الحقوق والمصالح البحرية” للصين لأنها تشرع في وضع “أساس للحصول على حالة القوة العظمى البحرية “بحلول عام 2020. تم تحديد الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية، 2049، باعتبارها السنة التي ستصبح فيها “القوة البحرية الرئيسية في العالم”(海洋 强国). تبعًا لذلك، من المرجَّح أن تتصاعد حملة الصين للحصول على منافذ الوصول وخطوط الإمداد الآمنة إلى جانب توسيع طريق الحرير البحري. في عام 2010، كان فقط خمس من أكبر 50 ميناء في العالم للمياه العميقة لديها أيّ استثمارات صينية. بحلول عام 2019، ارتفع إلى الثلثين. أصبحت شركة China Ocean Shipping Company، التي تسيطر على معظم حيازات الموانئ الصينية في الخارج، رابع أكبر أسطول شحن في العالم. تضاعفت قوة البحرية التجارية في بكين أربعة أضعاف منذ عام 2009م لتصبح ثاني أكبر أسطول بحري تجاري في العالم؛ حيث إنه ينقل الآن البضائع العالمية أكثر من أيّ بلد آخر في العالم.
كما تخطط بكين أيضًا لاستخدام شريان الطرق المخطَّطة في إطار “الحزام والطريق” للحد من اعتماد الصين على نقاط الطرق البحرية التي يمكن أن ينافسها فيها خصماؤها، كما أن جيش التحرير الشعبي الصيني يخوض نزاعات إقليمية مع اليابان وتايوان وفيتنام وكوريا الجنوبية وماليزيا وإندونيسيا والفلبين وبروناي فيما يسمى “بحار قريبة” (jinhai 近海). وهذا يزيد من خطر قيامهم بضرب حصار عليها في حالة نشوب أي أزمة، والتي من شأنها تعطيل الشحن. ولمواجهة ذلك التهديد، يتم وضع “الحزام والطريق” لإعادة توجيه حركة المرور البحرية إلى مجموعات الموانئ الصينية التي نصبتها في السودان وجيبوتي وجوادار وهامبانتوتا وكولومبو وميانمار لتجاوز نقاط المرور الضيقة في بحر الصين الجنوبي.
كأداة سياسية للحزب، فإن “الحزام والطريق” يعزّز سلطة الرئيس “شي” في الداخل؛ حيث إن تلك الاستراتيجية تقع في قلب فكر الرئيس الصيني، وهي مدرجة في دساتير الدولة والحزب كفلسفة توجيهية. يمكّن ذلك الرئيس “شي” أيضًا من حشد وتنظيم كل الموارد المتاحة له لتخصيصها لتلك الاستراتيجية.
يأتي التمويل من أجل “الحزام والطريق” من “المقرضين السياسيين” (政策 性 银行)، وقد سموا بذلك الاسم؛ لأن قرارات الإقراض الخاصة بهم تستجيب لتفضيلات الرئيس الجيوستراتيجية. وهي تشمل بنك الصين للتنمية وبنك التصدير والاستيراد الصيني (بنك إكسيم)، الذي تعهَّد بأكثر من تريليون دولار. يحتفظ صندوق طريق الحرير بمبلغ 40 مليار دولار في صناديق الاستثمار، ويخضع لإشراف البنك المركزي الصيني. يبلغ رأسمال بنك الاستثمار في البنية التحتية الآسيوية، الذي يضم الآن إفريقيا، 100 مليار دولار. تأتي أموال إضافية من احتياطيات الصين من النقد الأجنبي وصندوق الثروة السيادية، الذي يحتفظ بـ7 تريليونات دولار و220 مليار دولار، على التوالي.
لا شك أن استراتيجية “الحزام والطريق” تواجه العديد من المشكلات؛ أولاً: تشير النقاشات حول أدوات وسائل التواصل الاجتماعي الصينية مثل Weibo و Renren إلى أنها لا تتمتع بدعم محلي واسع النطاق. ثانيًا، تتزايد المخاوف بشأن الاستدامة الاقتصادية في البلدان التي يتم فيها تنفيذ مشاريع ضخمة للبنية التحتية الممولة من الصين؛ حيث تتحمل حكوماتها المزيد من الديون لسدادها. ثالثًا: العداء يتصاعد في العديد من البلدان تجاه السياسات التي تفضّل العمال الصينيين على السكان المحليين في عقود البناء والبنية التحتية. وكان هذا هو الأبرز في البلدان الإفريقية، مثل إثيوبيا وكينيا وتنزانيا وأوغندا وزامبيا، على سبيل المثال لا الحصر. رابعًا، يشعر بعض منافسي بكين في آسيا وحول العالم بعدم الارتياح بشكل متزايد إزاء ما يرون أنه محاولة لاستخدام برنامج “الحزام والطريق” لتوسيع موقف الصين العسكري ونفوذها السياسي.
ما هي مكانة إفريقيا في استراتيجية الحزام والطريق؟
يتم الترويج لإحياء طرق التجارة على طول طريق الحرير القديم في الصين الذي يربط الصين بشرق إفريقيا مِن قِبَل القادة الصينيين كرمز لالتزام الصين بإفريقيا. وفقًا للرئيس “شي”، ستستفيد إفريقيا من “الحزام والطريق”؛ لأن “البنية التحتية غير الكافية هي أكبر عقبة أمام تنمية إفريقيا”، وهي وجهة نظر يتقاسمها العديد من القادة الأفارقة. في حين يشير المدافعون عن “الحزام والطريق” أيضًا إلى احتمال حدوث تداعيات، مثل زيادة الاستثمارات الصينية الخاصة في السياحة والعقارات والزراعة، إلى جانب مشاريع البنية التحتية. كما يُنظَر إلى برنامج “الحزام والطريق” بشكل متزايد على أنه حافز للتكامل الاقتصادي الإقليمي الإفريقي والقدرة التنافسية. كشفت دراسة تُمَوّلها لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لإفريقيا أن صادرات شرق إفريقيا يمكن أن تزيد بما يصل إلى 192 مليون دولار سنويًّا إذا تم استخدام مشاريع جديدة في إطار هذا البرنامج بشكل مربح.
وباعتبارها نقطة التركيز الأولى لبرنامج “الحزام والطريق”، تطورت شرق إفريقيا لتصبح نقطة مركزية في طريق الحرير البحري، وكل ما يتصل بها مثل الموانئ التي تم إنشاؤها والمخطط لها مستقبلا كذلك، وخطوط الأنابيب، والسكك الحديدية، ومحطات الطاقة التي تُموّلها الشركات والمقرضون الصينيون.
ويُعدّ خط السكك الحديدية الذي يربط مومباسا بنيروبي -أكبر استثمار في كينيا منذ استقلالها- باعتباره أداة لقياس نجاح الحزام والطريق؛ حيث إنه أحد مشاريع “الحزام والطريق”الرائدة في شرق إفريقيا. كما أن السكك الحديدية الكهربائية من أديس أبابا إلى جيبوتي، والتي أنشأت فيها الصين أول قاعدة بحرية خارجية ولديها حصص في ميناء استراتيجي للمياه العميقة؛ نموذج آخر؛ فمن جيبوتي يربط طريق الحرير البحري مجموعات الموانئ الصينية المخطط لها والمكتملة في السودان وموريتانيا والسنغال وغانا ونيجيريا وغامبيا وغينيا وساو تومي وبرينسيبي والكاميرون وأنغولا وناميبيا. وهناك طريق آخر يربط جيبوتي بجوادر، هامبانتوتا، كولومبو، ميانمار، وهونج كونج. يربط القوس الأخير من هذا الممر خليج والفيس بمجموعات الموانئ الصينية في موزمبيق وتنزانيا وكينيا قبل أن يتصل أيضًا بجوادر.
تساعد طرق التجارة المُعاد إحياؤها هذه الصين على تنويع سلاسل الإمداد وإنشاء ممر اقتصادي بين الصين والمحيط الهندي وإفريقيا والبحر الأبيض المتوسط لربط إفريقيا بممرات بحرية جديدة في باكستان وبنغلاديش وسريلانكا وميانمار. يطابق الموقف العسكري لبكين انتشارها البحري التجاري والعسكري في ظل خطة” الحزام والطريق”. وهذا واضح بشكل خاص في المحيط الهندي؛ حيث تتركز الممرات البحرية الصينية المخطط لها وتتنافس فيها مع الهند.
وتنبع أهمية إفريقيا للصين في هذا الصدد من موقعها في منطقة بحرية تأمل بكين في توسيع وجودها واستشرافها لبسط قوتها المستقبلية.
في الواقع، قبل عقد من الزمان كان وصول الصين إلى المياه المجاورة لإفريقيا غير ممكن. لكن اليوم، تشير التقديرات إلى أن جيش التحرير الشعبى الصينى يحتفظ بخمس سفن حربية وعدة غواصات تقوم بعمل دوريات مستمرة في المحيط الهندي. ومن المتوقع أن يزداد هذا في العقود المقبلة؛ حيث تكثف الهند من وجودها في المنطقة.
وقد تطورت وحدات مكافحة القرصنة الصينية في إفريقيا، في أول انتشار لها خارج آسيا؛ من حيث النطاق والتعقيد منذ ظهورها لأول مرة في عام 2009. وتتميز الآن بفئات جديدة من فرقاطات الصواريخ الموجهة والمدمرات المتقدمة والقوات الخاصة التي تطورت أدوارها لتشمل تدريبات قتالية مشتركة ودوريات والدبلوماسية العسكرية وزيادة التعاون والتدريب البحري والبحري.
ويشير محللون عسكريون صينيون كبار إلى أن مشاركة جيش التحرير الشعبي الصيني في مهام مكافحة القرصنة الدولية في البحار الإفريقية قد عززت القدرات التي ستحتاج إليها الصين في دعم مشاريع “الحزام والطريق”. وتشمل هذه القواعد العمليات الاستكشافية، وحماية الممرات البحرية، وإجلاء المواطنين. كل هذه المهام تتماشى مع ما يسميه جيش التحرير الشعبى الصينى “المهام التاريخية” خارج محيطها البحري.
كما تعد إفريقيا أيضًا أحد المستخدمين النهائيين المهمين للإنتاج الصناعي المفرط في الصين، وخاصة الفحم والأسمنت والصلب والزجاج والطاقة الشمسية وبناء السفن والألمنيوم، لاستخدامها في مشاريع “الحزام والطريق”. وفي كينيا، زادت واردات الإسمنت الصيني عشرة أضعاف في عام 2016م بينما كان يتم بناء السكك الحديدية بين نيروبي مومباسا. في عام 2018م، ارتفعت الصادرات الصينية من الصلب إلى نيجيريا بنسبة 15 في المائة، وزادت الجزائر وارداتها بثلاثة أضعاف من المنتج ذاته، وفي عام 2019م، ارتفعت صادرات الألومنيوم العالمية في الصين بنسبة 20 في المائة؛ حيث بلغت الصادرات إلى مصر وغانا وكينيا ونيجيريا وجنوب إفريقيا حوالي 46 مليار دولار.
ولكن الإغراق الصيني لبضائعها الفائضة في إفريقيا لم يكن بدون مشاكل. ففي شرق إفريقيا، كانت كينيا هي الأشد تضررًا. وفي عام 2017م، انخفضت صادرات الإسمنت الكينية إلى المنطقة بنسبة 40 في المائة بسبب تدفق الأسمنت الصيني إلى البلاد. في ذلك العام، حذَّر البنك الدولي من أن القدرة التنافسية الاقتصادية في كينيا آخِذة في الانخفاض بسبب تدفق المنتج الصيني الفائض في تنزانيا وأوغندا، وجهات التصدير الرئيسية فيها. في العقد الماضي، زادت واردات تنزانيا وأوغندا من الصين بنسبة تصل إلى 60 في المائة، بينما نمت واردات كينيا بنسبة 4 و 6 في المائة، على التوالي، خلال نفس الفترة الزمنية. وقد ألقى المصنِّعون الكينيون باللوم على الشركات الصينية حيث تتهمها باستيراد المواد الخام من الصين وتوظيف العمالة الصينية؛ مما أدَّى إلى انخفاض حصتها السوقية من المنتجات الصناعية في بلادهم.
(يتبع)
[1] على الرابط التالي: https://africacenter.org/spotlight/implications-for-africa-china-one-belt-one-road-strategy