عرض وتقديم : عبد الله الشباني – باحث بمجلة قراءات إفريقية.
تأليف: وانغاري ماثاي.
ترجمة: أشرف محمد كيلاني.
إصدارات: عالم المعرفة، عام ٢٠١٤م.
يقع هذا الكتاب في: ٢٦٦ صفحة، من دون الهوامش، ويتكوّن من عدة فصول، تجلّي فيها المؤلِّفة صوراً عميقة لأشكال التحديات التي تواجه إفريقيا وشعوبها.
حول المؤلفة:
قليلٌ جدّاً أن يكتب الإفريقيون عن قارتهم بوعيٍ رفيعٍ مثل الذي وجدتُه في هذا الكتاب، فالمؤلِّفة الراحلة «وانغاري ماثاي» (ت: 2011م) من كينيا، وتنتسب إلى عشيرة «الكيكويو» التي تضرّرت بفعل التوسّع الاستعماريّ وسطوته، وكان لها إسهامٌ في حركة التحرّر داخل كينيا ضدّ الاستعمار؛ بما أُطلق عليه: «حركة الماو ماو»، وكانت وانغاري ممّن استفاد من الفرص التي يقدّمها النموذج الغربيّ للتعليم الذي أتت به إدارة الاستعمار، فابتُعثت ضمن «حملة كينيدي» للدراسة في الولايات المتحدة، وعادت بعدها إلى كينيا لتتسلم عدداً من المناصب التعليمية والسياسية، وتؤسّس عدداً من الجمعيات والحركات نحو ترشيد الحياة في إفريقيا، واستعادة المواطن الإفريقي لوعيه ودَوْره.
وهي عالمة بيولوجيا، ولذلك كان الكتاب ثريّاً فيما يتعلق بالتحديات البيئية التي تواجه إفريقيا، تقول ماثاي: «قمت بالتدريس عدة سنوات في جامعة نيروبي، وخدمتُ لخمس سنوات بالبرلمان الكيني، وكذلك في حكومة «مواي كيباكي» كمساعدة لوزير البيئة والموارد الطبيعية، وظللتُ على مدى ما يزيد على ثلاثين عاماً عضواً في المجتمع المدني، خاصّةً من خلال عملي في حركة الحزام الأخضر التي أسّستُها».
وقد حازت المؤلِّفة جائزة نوبل للسلام لجهودها في مجال البيئة، وهو مرتبط بموضوع هذا الكتاب؛ مما يعطيه أهمية, وتعدّ وانغاري أول امرأة إفريقية تفوز بهذه الجائزة.
الكتاب في فكرته الرئيسة يبحث في إشكال عدم قدرة إفريقيا، برغم ما تمتلكه من ثروات مادية وبشرية، على مواجهة التحديات، فهي تعيش في خارج ذاتها، وتحت وطأة الوصاية الخارجية، فلا تزال مسيرة النهضة الإفريقية تتعثر المرة تلو الأخرى، ذلك لأنها- بحدّ وصف المؤلِّفة- تسير في الحافلة الخطأ, ولذا تسلّط المؤلِّفةُ الضوءَ على جذور هذا الإشكال.
وهي- كما يتبيّن من خلال هذا الكتاب الذي سنستعرضه- من خبراء الحركة الاستعمارية وآثارها على إفريقيا وشعوبها، وعلاقتها بالعالم، وعلى الشخصية الإفريقية نفسها.. ولذا نرى المؤلِّفة تحكي قصتها مع الاستعمار، حيث تغيّر اسمها الأصلي: «وانغاري ماثاي» عدّة مرات لكونها نشأت طفلةً لمسيحيَّيْن، فأُعطيت اسماً أجنبيّاً عن ثقافة القارة، وهو «مريام وانغاري»، وجُعل الاسم الأجنبيّ في الأول، والاسم السابق في الأخير، دون إدراج العائلة، وتُخبِر المؤلِّفة عن أسرار هذه الممارسة الاستعمارية فتقول: «وأصبح «مريام» اسمي الأول، و «وانغاري» اسمي الأخير، وهي ممارسة شجّعتها الإدارة الاستعمارية للحطّ من شأن أسماء العائلات الإفريقية؛ حتى يكون النداء على البريطانيين فقط بأسمائهم الأخيرة الرسمية، ومن الواضح أنّ هذه العملية قد سهّلت قبول السكان المحليّين لمرتبتهم الأدنى وهويتهم الاستعمارية».
ومما يميّز الكتاب: حجم الخبرات التي تمتلكها المؤلِّفة من خلال الوظائف التي تسلمتها- كما أوضحت آنفاً-، والتي مكّنتها من سَبْر الحالة الإفريقية في مرحلة الاستعمار وما بعد الاستعمار، وحتى نهاية الحرب الباردة ومرحلة تقرير الديمقراطية ذات المرجعية الغربية، وجَعْلها النموذج الأوحد للحكم في إفريقيا.. وكلّ ذلك أكسب الكتاب قيمةً معرفيةً عاليةً بالنسبة لما يُكتب حول الشأن الإفريقي.
والكتاب يستهدف عموم مَن يهتم بإفريقيا بوجهٍ عام، وعلى الخصوص صنّاع القرار في الحكومات، ومَن يقوم على مشروعاتٍ لتنمية إفريقيا، وعموم النُّخب الإفريقية المثقفة، والتي ربما انخدعت بوهج الثقافة الغربية.
وسأحاول فيما يأتي تسجيل أبرز تحليلات المؤلِّفة، عبر المرور على فصول الكتاب واحداً تلو الآخر، بشكلٍ مختصر.
المضامين الكلية لفصول الكتاب:
في المقدمة، بعنوان: (في الحافلة الخطأ)، أوضحت المؤلِّفة المضامين الكلية لفصول الكتاب، والتي تبيّن أنّ الأزمة لا تزال قائمةً حتى لحظة تدوين حروف هذا الكتاب، ذلك أنّ إفريقيا لا تزال تسير في الحافلة الخطأ، ولم تجد الحافلة الصحيحة التي توصلها إلى برّ الأمان؛ مما يستوجب إعادة النظر في كلّ شيء، (وبدلاً من اتباع وصفات الغير بصورةٍ عمياء؛ فإنّ الأفارقة في حاجةٍ إلى التفكير، والعمل لأنفسهم، والتعلّم من أخطائهم).
تنتقل بعد ذلك المؤلِّفة في الفصل الأول، بعنوان: (فلاّحة ياوندي)، للحديث عن فلاّحةٍ إفريقيةٍ شاهدَتْها في عاصمة الكاميرون، لتقتنص صورة إفريقية معبّرة، وتعيد تصوير المشكلة الإفريقية على ضوئها، فقد كانت «وانغاري» تقطن في أحد الفنادق الفارهة، وتشاهد من النافذة تلك المرأة التي تعدّ التربة للزراعة على منحدرٍ يسيل عند نزول الأمطار، وتوضح «وانغاري» ضرر مثل ذلك على التربة، ومشكلة فقر الوعي لدى الإنسان الإفريقي، وآثارها على مستقبل إفريقيا التنموي، وتوضح أطراف معادلة النهوض بإفريقيا؛ فتقول: (في الوقت الذي يجب فيه على الأفارقة الاستمرار في الترحيب بالمؤسّسات الدولية، والدول المانحة، والمشروعات الخاصّة التي أبدت اهتماماً بمساعدة القارة في التنمية بشكلٍ مستدامٍ وعادلٍ معاً، يتوقف مصير القارة في نهاية الأمر على مواطنيها).
فأهمية صرف الجهود المادية والمعنوية في توعية الإنسان الإفريقي، مهما كان عِرْقه أو مذهبه، يقف كأكبر التحديات الاستراتيجية في إفريقيا، تقول في ذلك: (لو أنّ خدمات التوعية الزراعية في الدول الإفريقية لم تُعان نقص التمويل أو الإهمال على مدى عقود، منذ أنّ نالت الدول الإفريقية استقلالها، لكان من الممكن لهذه الفلاّحة ليس فقط تعلّم الطريقة الصحيحة لإعداد التربة للزراعة، بل كان من الممكن لها أيضاً الحصول على المعلومات، والمعدات الحديثة، والدّعم الحكومي الذي يمكنها من الزراعة على نحوٍ أكثر كفاءة وأقلّ تدميراً… ولكان من الممكن للزارعة في القارة ألا تكون على تلك الحالة المتردية اليوم، وربما لم تقم تلك الفلاّحة بممارسة مثل هذه الزراعة المدمّرة…
وبدلاً من أن تكون فلاّحة كفاف؛ ربما أصبحت مديرةً لمزرعةٍ أكبر وأكثر كفاءة؛ كان من الممكن أن تحرّرها من الفقر الطاحن).
ولذا كانت إفريقيا بحاجةٍ إلى ثورةٍ في القيادة، تحتمل قيماً وسمات تنبع من أخلاق الفاعلية، ولا تقتصر على القيادة بمعنى الساسة، بل تشمل عموم المواطنين في كلّ بلدٍ بإفريقيا، تقول وانغاري: (أؤكد بشكلٍ أساسيٍّ على أنّ إفريقيا بحاجةٍ إلى ثورةٍ في القيادة، ليس فقط من الساسة الذين يحكمون؛ بل من المواطنين الفاعلين).
محدّدات تحقيق الثورة في القيادة الإفريقية:
١ – الثورة تتطلب وضع سياسات تعمل لمصلحة كلّ المواطنين.
٢ – يستتبع ذلك تنفيذ القرارات التي تشجّع دينامية وريادة أعمال الشعوب الإفريقية، وحمايتها من المنافسة غير العادلة.
٣ – تعزيز القيم، مثل النزاهة والعدالة، والعمل من أجل المصلحة العامّة؛ بدلاً من غضّ الطرف عن العنف، والاستغلال، أو إعلاء المصلحة الشخصية الضيقة الانتهازية.
٤ – وهذه أهمّ صفةٍ برأي المؤلِّفة، تقول: (يحتاج القادة الأفارقة إلى التحلّي بها، وهي: إحياء الحسّ الخدمي تجاه شعوبهم).
٥ – تغليب النظر نحو المصالح الاستراتيجية المستدامة على المصالح اللحظية المحدودة.
(فعلى الشعوب الإفريقية، أينما وُجدت في المجتمع، أن تعتبر نفسها مسؤولةً مع الساسة، وأن تُعلي قيمة الاستدامة طويلة الأجل؛ على الإشباع الفوريّ والمكاسب قصيرة الأجل، وأن تخطّط بحكمةٍ لمستقبلٍ غير مضمون؛ بدلاً من الركون لحاضرٍ نفعي، وبدلاً من حلب البقرة المسمّاة «إفريقيا» حتى الموت؛ يجب على الجميع تغذيتها، ورعايتها، وأن يحبوها حتى تنمو وتؤتي أُكلها).
٦ – يجب أن تكون البيئة في صميم كلّ القرارات التي تُتخذ، لا يمكن لإفريقيا أو العالم أن يحتمل استمرار القارة في أن تكون قاعدة الموارد الوحيدة للتصنيع والتنمية في البلدان الواقعة خارج حدودها.
٧ – صناعة «الكتلة الحرجة» الممتدة في أرجاء إفريقيا، والتي تساهم في إعادة تشكيل الهوية الإفريقية الممتدة في وعيها، ويكون اتجاه هذه الكتلة البشرية الحرجة نحو إعلاء المحافظة على الاستغلال، والمسؤولية الجماعية على المكسب الفردي، والشعور المشترك تجاه القارة بدلاً من القومية العِرقية الضيقة، وبذلك سنشهد (إحياء إفريقيا على نحو ما أعتقد أنّ «تابو مبيكي»، رئيس جنوب إفريقيا السابق، قد تخيّله عندما استحضر النهضة الإفريقية).
٨ – يجب اتخاذ القرار بشأن إدارة مواردهم الطبيعية على نحوٍ أكثر عدالة، والاستفادة منها لمصلحة الأفارقة، والحدّ من السماح للقوى الخارجية بإغراء أو إرهاب الحكومات للدخول في اتفاقات تتيح انتقال تلك الموارد من القارة بمقابلٍ زهيد.
٩ – (لا بد للأفارقة من بدء ثورة في الأخلاق التي تقدّم الجماعة على الفردية، والمصلحة العامّة على الجشع الشخصي، والالتزام بالعمل على السخرية واليأس).
١٠ – يجب أن تتجاوز إفريقيا ما يصحّ أن يُسمّى: «عقيدة الانتظار»، أي: ربط مسعى النهوض والقيام على شؤون التنمية الإفريقية بالارتباط الدائم بالمساعدات الخارجية، إلى عقيدة العمل والشعور بالقدرات الذاتية لحمل عبء نهضة القارة.
تدلف المؤلِّفة بعد ذلك إلى جذورٍ أعمق للظاهرة الإفريقية، لترسم لوحةً مؤلمة، وتضع لها عنواناً: (إرث الويلات):
(تعود أصول ما أدّى إلى تأخّر إفريقيا هو افتقارها إلى القيادة ذات المبادئ والأخلاق)، تضع هنا وانغاري تعليلاً عميقاً لمشكلة التأخّر الإفريقي، أظنّ أنها مشكلة ذات طابعٍ عالمي، يستبطنها النموذج السياسي المعاصر الذي يحيّد المبادئ والأخلاق، وخصوصاً أنّ أنظمة المستعمر الذي قام باحتلال القارة واستعباد أهلها وسرقة ثرواتها هو مَن وطّن نظامه اللاأخلاقي فيها في جانبه السياسيّ والاقتصاديّ والفكريّ والثقافي، (ولذلك كان عجز القيادة الإفريقية عن القيام بأدوارها المأمولة في النهوض بإفريقيا يرجع إلى عدّة عوامل، وهي:
١- إرث الاستعمار. ٢- الحرب الباردة. ٣- هياكل الحكم ما بعد الاستعمار. ٤- التدمير الثقافي).
لم تكن الإدارة الاستعمارية معنيّة بشكلٍ كبيرٍ بالتنمية الحقيقية للسكان الأصليين، وإنما كان سبب وجودهم ضمان تدفق المواد الخام إلى البلدان الحديثة، أو لتوفير التمثيل والقدرة التنظيمية للمستوطنين البيض الذين كان يجري تشجيعهم على استعمار الأراضي الجديدة؛ بدعوى تطويرها وتمدين السكان الأصليين وتنصيرهم.
تشكّلت القيادة الإفريقية بعد رحيل المستعمر، وكان أعضاؤها من المنبوذين في المجتمع سابقاً، والذين كانت لهم خصومات مع المؤسّسات المحلية، ولكي يجدوا لهم موضع اعتبار فقد قاموا بالإفصاح للإدارة الاستعمارية عن أسرار المجتمع، وأسلوب معيشته، وصاروا بذلك عيوناً للمستعمر، ولذا أسلمت إليهم القيادة الاستعمارية مناصب الرؤساء والقيادات.. إلخ.
وأدّت ترقية السلطات الاستعمارية لأولئك الأفراد، وفَرْضهم على مجتمعٍ رافض لهم، إلى تأسيس إدارةٍ إقليميةٍ ظالمة، عملت على تقويض النُّظم المحلية للحكم والعدالة، وأصبح أصحاب النفوذ الجدد يمثلون: «النُّخبة الإفريقية الجديدة»، كانت قوة البندقية الشكل الجديد لإقامة العدل، وبهذه الطريقة جرى تنشئة نظام حكمٍ ديكتاتوريٍّ وفَرْضه، وتزايد التسامح معه بمرور الوقت.
وقد عمد الاستعمار إلى تجهيل المجتمع وسحقه نفسيّاً لضمان تفوّقه، والإبقاء على نخبةٍ قليلةٍ متفوّقة نوعاً ما قد تمّ تأهيلها لترتهن بأمره بعد رحيله.
وقد أشارت المؤلِّفة إلى ممارسةٍ خطيرةٍ قام بها المستعمر ضدّ الشعوب الإفريقية، أطلقت عليها: «استعمار العقل»، بمعنى طمس الهوية، وتدمير الثقافة الإفريقية، وأن ينظر الإفريقيُّ إلى نفسه من مرآة شخصٍ آخر، هو الأوروبي أو الغربي بوجهٍ عام، بينما كان التاريخ الإفريقيّ في القرون الماضية يحفل بأطوارٍ حضاريةٍ جليلة، وإن كانت المؤلِّفة قد أغفلت العامل الإسلاميّ في صناعة تلك الحضارات والممالك العظيمة، تقول وانغاري في ذلك: (فمملكة الكونغو في وسط إفريقيا، التي امتدت لمسافة ١٣٠٠٠٠ ميل مربع، وكانت تضمّ ما يزيد على نصف مليون نسمة، عاشت قروناً، حتى حوّلتها تجارة الرقيق البرتغالية إلى دولةٍ تابعةٍ فعليّاً، وخلال القرن الرابع عشر كانت إمبراطورية مالي أكبر من أوروبا الغربية، وكانت طبقاً لما ذكره بعض المعاصرين واحدةً من أغنى دول العالم، وفي عصر خلفائها: إمبراطورية السنغاي، في القرنَيْن الخامس عشر والسادس عشر، بلغت جامعة سنكوري الشهيرة في تمبكتو، وهي أحد أقدم مراكز التعلّم في العالم، ذروة إنجازاتها)، وهذه الممالك كان الغالب عليها أنها إسلامية، بل كان الإسلام من صميم نسيجها التكويني، لكن المؤلِّفة لم تبيّن هذا الجذر في عمق الثقافة الإفريقية ما قبل الاستعمار، والسبب قد يرجع لتنشئتها المسيحية- لا أدري! -.
في ظلّ عملية «استعمار العقل» السابقة؛ جرى إخضاع المجتمعات الإفريقية من قِبل المستعمر وإدارته، عبر فَرْض نُظُمٍ قانونيةٍ واقتصاديةٍ أعادت هيكلة بِنْية الواقع الإفريقي من الجذور.
وكان المبشّرون ذراعاً متوغّلاً للاستعمار، وقد كرّسوا جهودهم لنشر نُسخٍ من الكتاب المقدّس، أدّت إلى إزراء الإفريقيّ بنفسه- كما تذكر المؤلِّفة-، من حيث أنه تصوّر أنّ ما كُتب في هذه النسخ هو كلام الله حرفيّاً، وليس من صنع البشر، مما اعتبر البداية لخلق مركّب النقص في تصوّر الإفريقي، حيث ظنّ أنّ الإله أقلّ محاباة لهم، وأنّ الله لم يكشف نفسه لهم، وإنما عَبْر الأوروبيين؛ مما يجعلهم- في وعيهم- أحرى بالتقليد والتأسّي في نهجهم الفكريّ والحياتي!
وتصل المؤلِّفة إلى أنّ الشخصية الإفريقية قد تشكّلت بفعل تجاذب تجارب عدّة: الغزو، تجارة الرقيق، التحرّر، التفرقة، التمييز العنصري، ووصول المعرفة بالقراءة والكتابة، والمسيحية، والإسلام؛ والمحو الثقافي، والنزوح.. وكان بعضها نافعاً، وأحدث ثورةً في طريقة العيش الإفريقية، وكان الآخر مدمّراً.
ومن الأمور الكارثية التي وُظّفت لتدمير الثقافة الإفريقية: تشويه التاريخ الإفريقي، فمعظم المصادر التي كُتب منها التاريخ الإفريقيّ هي مصادر غربية أوروبية!
ومن إرث الويلات كذلك: ثقافة عدم التمكين التي كرّسها الاستعمار في إفريقيا بتطبيع الجهل في الأوساط المختلفة والخوف والسلبية والطاعة العمياء، كما جرى تتفيه الثقافة الأصلية، كلّ ذلك يتمّ بممارسةٍ مستمرةٍ من النُّخب الإفريقية وريثة الاستعمار، والتي تسود الحكومات، وعلى سبيل المثال: يتم اختزال الثقافة الإفريقية في رقصات تراثية تُقدّم للساسة أثناء زياراتهم، وفقدان الجدية عند التعامل مع هذا التراث في تقييمه وإظهاره.
بعد ذلك تنتقل المؤلِّفة إلى فصلٍ جديد أسمته: (أعمدة الحكم الرشيد):
ابتدأت فيه ببيان أوجه الانحطاط الاقتصاديّ الذي يتصاعد بفعل فقدان الرّشد في البيئة الإفريقية ومَن يتعامل معها، فتشير المؤلِّفة إلى أنّ نسبة الفقراء في إفريقيا كانت 10% في الستينيات، ثم أصبحت ٥٠% في ٢٠٠٠م، برغم توالي المساعدات الدولية ومشروعات التنمية؛ مما يدلّ على أنّ الحافلة الإفريقية تسير في الطريق الخطأ، وقد أعجبني توصيف وانغاري لموقع التمويل الدوليّ في خارطة التنمية في إفريقيا، فقالت بأنه يمثّل: (جبهات للفساد الرسمي!).
وترى بأنّ استعادة حالة الرّشد في البيئة تقتضي من الأفارقة إعادة صنع الكرسيّ ثلاثيّ الأرجل، وهو بحسب رأي المؤلِّفة:
الرجْل الأولى: الحيّز الديمقراطي، حيث تُحترم الحقوق المختلفة.
الرجْل الثانية: الإدارة المستدامة، والمسؤولية تجاه الموارد الطبيعية لمن يعيشون اليوم ومَن في المستقبل معاً.
الرجْل الثالثة: ثقافات السلام، وتتخذ شكل النزاهة والاحترام والحنوّ والصفح والتعويض والعدالة الشاملة.
وتضيف وانغاري: (ومن المؤكد أنّ التحدي السياسيّ هو في تحديد هذه المسؤوليات التي تضطلع بها المؤسّسات الدولية المعنيّة بالتنمية وحقوق الإنسان والإدارة، سواء الإفريقية أو غيرها، تجاه تلك المجتمعات التي تتوازن على اثنتَيْن أو واحدة من الأرجل، أو ربما بلا أرجل!).
بحديثها عن الانحطاط الاقتصاديّ برغم وجود التمويل الدوليّ وتوالي المساعدات؛ أرادت وانغاري أن تكثف التحليل في فصول لاحقة، وابتدأته بفصل: (المساعدات ومتلازمة التبعية).
كانت الكاتبة دقيقةً في توصيفها بـ«متلازمة التبعية»، ففيه إشارة إلى كون ذلك يشكّل مرضاً مستطيراً، وليس أمراً عارضاً على المشهد الإفريقي.
وتطرح وانغاري ثلاث مشكلات محورية تكتنف المساعدات، وتؤدي إلى ضَعْف مفعولها:
١ – غالباً لا تكون الحكومات الإفريقية بل الأفراد أنفسهم شركاء نشطين في التنمية.
٢ – تؤدّي المساعدات مع استمراريتها بشكلها الحالي، وعَبْر أوقات زمنية متعاقبة، إلى تكريس ثقافة التبعية لدى الدول الإفريقية.
٣ – طغيان عقلية الأزمة التي تؤكد أنّ النتائج المباشرة أفضل من الوقاية طويلة الأجل.
ومن مشكلات ضعف مفعول هذه المساعدات: عدم إدراك الإفريقيّ لقيمتها، وذلك بعضه ناتجٌ بفعل اليأس الذي تسلّل إلى الداخل الإفريقيّ عن جدوى مثل هذه المساعدات؛ لأنه لم ير لها تأثيراً على واقعه، فالمساعدات يُعلن عنها ويجد الإفريقيّ نفسه يزداد فقراً، حتى لم يعد يعبأ بها، فضلاً عن أن يكون مسؤولاً عن حمايتها، والتأكد من إنفاقها على الوجه المستحق.
وبعد سيلٍ من التحليل حول معوقات التنمية في إفريقيا؛ تصل المؤلِّفة إلى أنّ إفريقيا بحاجةٍ إلى صناعة حلولٍ ذاتية، وهذا بدوره يقتضي إعادة النظر في صورة إفريقيا التي تتسلل ضمن الإدراك الإفريقي، وكيف يتمّ تشكيلها؟!
(لا تزال إفريقيا تُقدّم على أنها ضحية نفسها!): (التخلّف، التهميش، الافتقار إلى احترام الذات، الخوف، الارتياب، أماكن المجاعات، الموت، اليأس)؛ تُقولَب صورة إفريقيا حول ما سبق في عين العالم، ويستبطنها الإفريقيّ حينما يشاهد هذه الصورة الملتقطة له عبر التلفاز ووسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية، وهذه عملية نفسية خطيرة، تؤكد من دون وعيٍ في نفوس الإفريقيين أنهم عجزة!
ولأجل ذلك يصعب التحوّل في ثقافة المساعدات الدولية المقدمة للشعوب الإفريقية، إلى أن تصل نحو تطبيع مفهوم امتلاك الأفارقة لزمام الريادة في بلدانهم، نظراً للصور المستخدمة عبر وسائل الإعلام لتصوير إفريقيا وبلدانها، بينما هناك صورٌ أخرى لم يرصدها الإعلام حول واقع آخر تعيشه إفريقيا، ففي كلّ يومٍ يباشر عشرات الملايين من الأفارقة عملهم، ويعيشون حياتهم على نحوٍ مسؤولٍ وجاد، ويعتنون بأسرهم المباشرة والممتدة، حتى إن كانوا يفتقرون إلى ممتلكات مادّية معيّنة، أو تعليمٍ عال، هؤلاء هم: (أبطال إفريقيا الحقيقيون)، وهذه الصور هي التي يجب أن يرى العالم مزيداً منها.
وتفتقر إفريقيا إلى وعيٍ قوميٍّ ممتد؛ يدفع المواطن الإفريقيّ إلى أن يساعد أخاه المواطن الإفريقيّ في البلد الآخر قبل أن يساعده الآخرون من خارج القارة.
تنتقل وانغاري بعد ذلك إلى تحليل حالة العجز إلى عناصرها الرئيسة، وتضعها في عنوان للفصل الذي يليه: (العجز: المديونية والتجارة غير العادلة).
تعدّ مياه إفريقيا غنية بالثروة السمكية، وذلك يعطي الأفارقة فرصاً سانحة للاضطلاع في صناعة صيد الأسماك، لكن الحصيلة كانت عكس المأمول، ومن الأسباب: قلّة الوعي، وغياب نظام التجارة العادل، وضعف حماية المياه الإقليمية، فأجهزة خفر السواحل في السنغال ضعيفة، وعلى المثل بقية الدول الإفريقية التي تقع حدودها على البحر، ولذلك تشهد مياهها بشكلٍ متكرّر اعتداءات من قِبل السفن الأوروبية والأجنبية.
وبخصوص حالة المديونية التي ترزح فيها إفريقيا؛ تذكر وانغاري أنّ إفريقيا قد تسلّمت منذ عام ١٩٧٠م وحتى ٢٠٠٢م أكثر من نصف ترليون دولار، على هيئة قروضٍ من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وبحلول العام ٢٠٠٢م كان لا يزال هناك ٣٠٠ مليار دولار مستحقة، ومع الأسف! كان المجتمع الدوليّ يعلم بعدم قدرة تلك الدول على السداد، لكن أرادوا السيطرة على قادتها لمصلحة العالم الصناعي، ويتمّ ذلك عبر البنوك الأجنبية التي تمارس سياسات الإغواء لهؤلاء القادة الأفارقة لتحصل منهم على مزيدٍ من فرص الاستثمار والإقراض والرّشوة، وإيكال مهمّة إدارة هذه المصالح المالية إليهم، أو إعطائهم حظّاً من الأسهم المالية.. إلى آخره، (ولذا فإفريقيا ليست فقيرة؛ لكنها لم تتعلم بعد حماية ثروتها لنفسها!).
ومن العلل التي تجعل من العجز مادةً مستوطنةً في إفريقيا: اختلال التوازن التجاري، ويتجلّى ذلك في عددٍ من المظاهر:
١ – سياسات الإغراق: تعمد إليها الدول الصناعية، وعلى رأسها الدول الخمس الكبرى، وذلك بأن تُغرق أسواق العالم الثالث بمنتجاتها، وتقوم بتخفيض سعرها؛ حتى يكسد المنتج المحليّ الذي لا يمتلك قدرة على منافستها، وذلك نظراً لتكلفة الإنتاج العالية، فيصعب عليه تخفيض السعر أمام المنتجات المستوردة.
٢ – تهميش المشروعات المحلية: التي لا تسيطيع مجابهة شركات متعدّدة الجنسيات، والمبالغ الضخمة لرؤوس الأموال الأجنبية التي تتسلل إلى داخل البلاد وتسيطر على السوق؛ في ظلّ العولمة واتفاقيات منظمة التجارة العالمية، من أجل تسهيل انتقال رؤوس الأموال وتذليل العقبات أمام ذلك.
٣ – «لعنة الموارد»- بحسب المؤلِّفة-: وتقصد بها: اعتماد اقتصاد بلدٍ ما على مورد طبيعي من الموارد، خصوصاً عندما يفتقر البلد إلى الدراية التكنولوجية في استخدام تلك الموارد، وبدلاً من ذلك يعتمد على الآخرين لاستغلال المنتجات النهائية وتقاسمها.
وإن كان المورد ليس بالضرورة أن يكون «لعنة»، ولذا ذكرت المؤلِّفة أنّ هناك نماذج رائدة في استغلال الموارد حتى لا تكون لعنة، وتصير رادفاً مهمّاً للاقتصاد واستدامته، وذلك يكون بحفظ هذا المورد وعدم تبديده، وتمثّل لذلك بتجربة النرويج في التسعينيات وحتى الآن.
من المقترحات التي تقدّمها وانغاري لتحقيق التوازن في التجارة: أن يدرك الأفارقة بأنّ لديهم فرصاً لرفع مستوى معيشتهم عبر تفعيل التجارة البينية، وإنتاج منتجات من السلع تامّة الصنع؛ فيمكن- مثلاً- تحويل كاكاو غرب إفريقيا إلى شيكولاتة في ذلك الجزء من العالم؛ بدلاً من بلجيكا!
(ويمكن للاستثمار في البشر والتعليم المناسب أن يؤدّي إلى تكرير الذهب والنفط، وهذا ما أدركته النمور الاقتصادية الآسيوية التي جعلت التعليم في مجالات العلوم والتكنولوجيا أولويةً وطنية، في الوقت الذي راح فيه عددٌ كبيرٌ من الدول الإفريقية يستثمر في الأمن والحروب…
كما يعتمد سداد الديون، وإعادة تقويم التجارة، ورَسْملة الاقتصاديات الإفريقية، جميعها، على إعادة توزان العولمة… فمن الواضح أنّ الدول الإفريقية، بقدرتها المحدودة على المساومة، يمكن أن تظلّ مستغلة).
إنّ الاتحاد الإفريقي ضرورة اجتماعية وثقافية واقتصادية، يقود إلى تحقيق التوازن في النظام التجاري أمام العالم الصناعي.
ثم تشير المؤلِّفة إلى دَوْر الصين البارز والمتصاعد في إفريقيا، والذي أسمته: «تأثير الشرق»، حيث بدأ يظهر بعد الألفية الثانية ويتوسّع.
ثم أبانت المؤلِّفة عن قدرات المجتمعات المدنية عبر العالم في الحدّ من الكوارث، عندما تفعِّل وسائل التواصل فيما بينها، وذكرت عدداً من الأمثلة، منها: أنّ حكومة الصين تواطأت لتهريب كميات من الأسلحة داخل إفريقيا من أجل تحقيق مآرب سياسية، وقد أوقف ذلك حركة المجتمع المدني في إفريقيا، وتحديداً في زيمبابوي؛ عندما قامت بالتواصل مع المجتمع المدني في الصين لوقف هذه الشحنات من الأسلحة.
وتخصّص المؤلِّفة بعد ذلك فصلاً حول (القيادة)، وتقوم بمناقشتها بشكلٍ تفصيليٍّ أكثر، وتسلّط الضوء على أنماط الحكم وأنظمته التي كانت قبل الاستعمار، ومنها: نظام الكيكويو الإفريقي Kikuyu، وهو مثالٌ من تراث نُظُم الحكم في إفريقيا، يتيح التبّصر في كيفية ممارسة الأفارقة للعدالة وحماية حقوق الفرد والملكية.
لا يوجد- ويا للأسف- استفادة من خبرات الحكم الموروثة في إفريقيا بحسب رأي المؤلِّفة، فقد كتب المستعمرُ الدساتيرَ الإفريقية في الأغلب استناداً إلى العادات والتقاليد الأوروبية، وليس عادات وتقاليد السكان الأصليّين..!
وتقوم المؤلِّفة بإجراء مقارنة بين نظام الكيكويو وبين النُّظُم الديمقراطية، فتصل إلى أنّ المال هو المحرّك الأقوى في النُّظُم الحديثة، ويضعف فيها قيم البحث الجاد أو الخبرة أو المعتقدات الأخلاقية في تولّي المناصب الهرمية في الإدارة الإفريقية، والتي قد توجد في الأنظمة الموروثة بشكلٍ أكبر.
وفي كتاب (إفريقيا الحرّة) لجورج اييتي؛ يقسّم القيادات الإفريقية إلى نوعَيْن:
١ – الفهود الصيادة: وتتصف بخفّة الحركة النشاط، والاستعداد للمضي بإفريقيا قُدُماً.
٢ – أفراس النهر: وهي تمثل الجيل الأقدم الذي يتشبّث بالسلطة، ويحمون أرضهم بشراسةٍ عندما يدركون أنهم يتعرضون لهجوم.
ويبقى التحدي الإفريقيّ- عبر هذا المثال-: إقناع أفراس النهر بأن تترك حفرة الماء وتأوي إلى الظل، ولسوء الحظ فكثيرٌ من أفراس النهر كانت فهوداً صيادة ذات يوم!
تناولت بعد ذلك: (إدارة الآلة المجتمعية)، وكيف يمكن تجويدها؟! خصوصاً لو علمنا أنّ أعظم ثروات إفريقيا، برغم ما يحيق بأهلها من أمراض وبلايا، هي الكثافة البشرية، المعطّلة- مع الأسف-، ولذا تناقش المؤلِّفة هذا الإشكال وتخصّص له فصلاً.
(تشبه المجتمعات الآلات، فعندما يعمل كلّ شيءٍ بسلاسة؛ يمكن للمجتمع التحرك إلى الأمام..)، تقوم الآلية السليمة لإدارة المجتمع عن طريق إعادة الشعور بالذات الإفريقية، وذلك بتبنّي الطبقات الدنيا في المجتمع للمشروعات التنموية بأنفسهم.
تروي المؤلِّفة تجربةً لها في ذلك عبر تفعيل صندوق تنمية الدوائر الانتخابية، ووضع قانون له في كينيا، وهي تدعو لنشر تجربتها كحلٍّ إفريقيٍّ لمشكلةٍ إفريقية، وفيها تتجلّى مشاركة المجتمع المحليّ في التنمية، وهذا الصندوق يمثّل نواةً لمجتمعٍ مدنيٍّ إفريقيٍّ حقيقي، يقوم بأدواره التنموية، وقانون هذا الصندوق يقوم على فكرةٍ مستقاةٍ من التراث الإفريقيّ في إدارة الحياة العامّة؛ بما يُطلق عليه بالسواحيلية: «الهارامبي»، وهي كلمة تعني: التعاون.
فالبيئة التي تحتوي على حراكٍ إيجابيٍّ في التنمية والنزاهة؛ تَطْرد المعاملات الفاسدة والسلبية وتقلّصها.
(وكلما كانت هناك نُظُم أفضل، ومؤسّسات أفضل، في الموضع الصحيح، زاد احتمال انضمام ٥٠% من السكان إلى ٢٥% من الأمناء).
إنّ الثقافة ركيزةٌ مهمّة في البناء النهضويّ الإفريقي، ولذا تخصّص المؤلِّفة فصلاً لاستكشاف معالمها، وتضع له عنواناً: (الثقافة والحلقة المفقودة).
ترى وانغاري أنّ إعادة اكتشاف الثقافة ضرورةٌ سياسية واجتماعية، بحيث يرتبط الإنسان بجذوره، وذلك يعني محاولة تقبّل كلّ ما لها (أي الثقافة)، من ثراء وتناقضات وتحديات، في التوافق داخل العالم الحديث..
«الكيومينيا»: كلمة إفريقية تعني معرفة الذات، وهي مطلبٌ ضروريٌّ للأفارقة ليفارقوا الحافلة الخطأ- كما تصف وانغاري-، ويكون تفعيل معرفة الذات عبر: معرفة الكيفية التي يحكمون بها- أي: الأفارقة-، وكيفية حكمهم لأنفسهم، وكيفية إدارتهم لمواردهم، وكيفية توسعتهم للحيّز الديمقراطيّ بمرجعيتهم الثقافية.
وفقدان الشعب لثقافته يعني بالضرورة أن يكون معرّضاً للاستغلال من قِبل قادته، ولأن يصبح سلعةً مبتذلة.
وتطرح المؤلِّفة وجهة نظرها حول أفْرَقة المسيح، أو أفرقة الكنيسة، فالتبشير من مخلّفات الاستعمار وأدواته، فكيف يمكن تسكينه في الثقافة الإفريقية؟!، ونظراً لكون المؤلِّفة مسيحية؛ فإنّ أطروحتها جاءت بلغةٍ ناعمةٍ مع الأدوار التبشيرية، في إطار ما يُطلق عليه: «أفرقة المسيح»، أو إظهار المسيح بشكلٍ لا يُلغي الثقافة الإفريقية، وأنها تتقّبل مثل ذلك!
(أزمة الهوية الوطنية): هذا فصلٌ مهمٌّ من فصول الكتاب، تشرح فيه مظاهر الأزمة في الهوية الوطنية، فمعظم الأفارقة لم يرتبطوا بالدول القومية التي أُنشئت من قِبَل الاستعمار، وظلّوا مرتبطين بالحدود الطبيعية والنفسية لدولهم المجهرية.
وتضع المؤلِّفة مفهوم «الدول المجهرية» بوصفه مفهوماً سياسيّاً له سطوة كبيرة في تقرير مجريات العملية السياسية بإفريقيا، وتعني به: تلك العِرْقيات والعشائر الممتدة التي يتبع لها عموم الأفارقة. ومفهوم «الدولة المجهرية» يتمّ توظيفه من قِبَل النُّخب السياسية الحاكمة لإحكام السيطرة على إفريقيا عبر إدامة حالة الصراع لتحقيق مآرب سياسية، وقد أشار بعض دارسي إفريقيا الحديثة إلى أنّ الإبقاء على تركيز الناس العاديّين على مصالح دولتهم المجهرية، وإثارة الشكّ والمنافسة بينهم، يحول بينهم وبين إدراك التقسيمات الصارخة للطبقات، والثراء الذي يميّز المجتمعات الإفريقية؛ مع وجود نخبة صغيرة في القمّة، وأعداد كبيرة من الفقراء في القاع، وهذه الحقيقة تُحجب عن الشعب لمصلحة الزعماء السياسيين الذين يحرّضون على الكراهية والعنف بين «الدول المجهرية»، ويسهّلون العنف عن طريق المعدات الحربية والدّعم اللوجستي.
وفي الفصل الذي يعقبه بعنوان: (احتضان الدول المجهرية)؛ تطرح المؤلِّفة منظوراً للتعامل الأمثل مع هذه «الدول المجهرية» عبر تفعيل سياسة الاحتواء، ومنح جميع هذه «الدول المجهرية» تمثيلاً في وطنها الذي تعيش فيه تحت لواء الدولة المركزية القائمة، (فالديمقراطية لا تتعلق فقط بشخصٍ واحدٍ يحصل على صوتٍ واحد، فهي تتعلق بالتمثيل والاحتواء الفعّال).
وبعد ذلك؛ تتحدث المؤلِّفة في فصلٍ مستقلٍ عن ملكية الأرض، وضرورة توزيعها بشكلٍ عادل، وتنتقل إلى فصل: (التنمية والبيئة)، وفصل: (إنقاذ غابات الكونغو) لتحلّل من منظور تخصّصها في علم البيولوجيا ضرورة الاهتمام بالبيئة، وأنّ ذلك مؤثّرٌ في مستقبل القارة، ومن ذلك إنقاذ الغابات، ولا سيما غابات حوض الكونغو التي تعدّ ثاني أكبر غابات بالعالم، وذكرت أنّ دَوْر الغابات في تقليص نسبة الكربون في الجوّ أو زيادته؛ يعطي لإفريقيا قدرة أكبر على التفاوض مع الخارج.
وتختم المؤلِّفة كتابها بالحديث عن الأسرة الإفريقية، وتضع توصيات وتحليلات عامّة:
١ – إفريقيا تعيش في تناقض، فهي تمتلك خيرات عظيمة من الموارد الطبيعية والبشرية، وبرغم ذلك فهي عاجزة، وهنا يكمن التحدي أمام الأسرة الإفريقية لتكسر هذه المعادلة الجائرة.
٢ – ينبغي أن يكون المبتعثون الأفارقة سفراء لإفريقيا، ورأس مال يتراكم لصالحها، لينقلوا للعالم الصورة الحقيقية لإفريقيا غير الصورة التي يتلقاها يوميّاً عبر الإعلام، وتشيد المؤلِّفة بتجربة الهند في ذلك.
٣ – يجب تسهيل حركة التنقل داخل الأقطار الإفريقية بين الأفارقة، وإزالة العقبات التي تحول دون ذلك، ليساعد هذا الأمر على فَهْم الأفارقة بعضهم لبعضهم الآخر، ومعرفة القارة بشكلٍ أكبر، وإدراك المشكلات التي تواجهها.
٤ – لا بد أن تكون شعارات إفريقيا هي: المساءلة، والمسؤولية، والعدالة، والعمل.
تقييم الكتاب:
تقييمي لهذا الكتاب أنه عالج جانباً كبيراً من الإشكال، وتوصّل إلى نتائج جيدة، يستحق لأجلها الاطلاع عليه، إلا أنه أغفل- كما ذكرت- عنصر الإسلام وحجمه في الثقافة الإفريقية، سواء عن قصدٍ أو من غير قصد، مما يستوجب التنبيه على ذلك، فالإسلام يجب أن يُدرج ضمن خطط النهضة الإفريقية، وتُرسم أدواره الشاملة في مسار إفريقيا المستقبلي.
إنّ إفريقيا قارة معطاء، ومحطّ أنظار العالم، والمستقبل يشير بأصابعه إلى إفريقيا، والتحدي لا يزال قائماً، فهل يفوز أبناء القارة في هذا الرهان؟!