روضة علي عبد الغفار
صحفية متخصصة بالشأن الإفريقي
للوهلة الأولى قد تشعر أنك تحضر مباراة لكرة القدم، فهذا الملعب الرياضي الضخم والحشود الهائلة لا تُوحي أنها مسابقة للقرآن الكريم!
في شرق القارة الإفريقية تميزت دولة تنزانيا لأكثر من 20 عامًا بإقامة مسابقات قرآنية فريدة، لكنَّ المدهش هو ذلك الاقبال الجماهيري غير المعهود، والحماس الشعبي والحكومي لهذه المسابقة السنوية، فكان يحضرها الرئيس الراحل “ماجوفولي” الذي قال عنها: “أنا لا أعرف ماذا يقولون، لكن لو كنت مُحكِّمًا لأعطيت كل واحد منهم الدرجة النهائيَّة؛ لأنني أرى أنهم يعملون شيئًا عظيمًا”.
فما سر المسابقة القرآنية الإفريقية في تنزانيا؟ وكيف يتم تنظيمها بهذا الشكل؟ وما هي الجوائز القيِّمة التي يحصل عليها الفائزون؟ وكيف تطورت المسابقة لتصل إلى هذا المستوى الفريد؟ هذا وأكثر نتناوله في هذا التحقيق.
أول مسابقة قرآنية في الاستاد الرياضي!
تُقام هذه المسابقة القرآنية على مستوى إفريقيا كل عام، في شهر رمضان المبارك، تحت إشراف مؤسسة “الحكمة” بتنزانيا؛ حيث بدأ تنظيم المسابقة أول مرة في عام 2000م، على مستوى مدرسة “الحكمة” التابعة للمؤسسة، ثم انضمت المدارس المجاورة، ثم مدارس مدينة دار السلام، وبعد أعوام قليلة انضمت زنجبار، وصارت المنافسة بين تنزانيا وزنجبار، ثم تطوَّر الأمر وانضمت دول شرق إفريقيا ودول إفريقيا الوسطى، والآن يتقدم المتسابقون من كل الدول الإفريقية.
في حديثه مع “قراءات إفريقية” قال الأمين العام للمسابقات القرآنية بمؤسسة الحكمة بتنزانيا، سالم حسين: إن المؤسسة لديها سفراء متخصصون في كثير من دول إفريقيا، للبحث عن متسابقين، وترشيح الأفضل من بينهم الذي سيمثّل دولته بصورة جيدة، ثم يرسلون بيانات المرشحين إلى مؤسسة الحكمة بتنزانيا، التي تختار بدورها المؤهَّلين للانضمام للمسابقة.
وأردف “حسين” أن المنافسة بين المتسابقين تكون في حفظ القرآن، وكلهم حافظون لكتاب الله، كما يتنافسون في مهارات الصوت وحُسْن الأداء، بينما تترك لجنة التنسيق مجال القراءات حسب اختيار المتسابق، فمنهم مَن يختار قراءة حفص عن عاصم، أو قالون عن نافع، أو الدوري عن الكسائي.
وأكد “حسين” أن مسابقة مؤسسة “الحكمة” هي أول مسابقة قرآنية أُقيمت في الاستاد الرياضي، استاد “بنجامين مكابا”، الذي يتسع لـ60 ألف متفرج، ومع ذلك فإن يوم المسابقة يحضر 60 ألف متفرج جالس، وأكثر من 40 ألفًا آخرين يقفون على أرجلهم، وفي مسابقة هذا العام اضطرت الإدارة لإغلاق الاستاد لكثرة توافد الجماهير وامتلاء الاستاد على آخره.
الكونغو تحصد المركز الأول
أقيمت المسابقة الإفريقية الكبرى للقرآن الكريم بـتنزانيا في 17 من أبريل الحالي، في دورتها الـ22، وتقدمت 30 دولة إفريقية للمشاركة بالمسابقة، فتم ترشيح 22 دولة فقط، هم: بوركينا فاسو، بوروندي، كينيا، رواندا، أوغندا، مالي، بنين، ساحل العاج، السنغال، موريتانيا، إثيوبيا، إفريقيا الوسطى، نيجيريا، الصومال، مصر، تشاد، غينيا كوناكري، غينيا بيساو، جنوب إفريقيا، كونغو برازافيل، كاميرون، تنزانيا.
وتم التنافس بينهم، حتى تمت التصفية على الخمسة مراكز الأولى، وحصدت دولة الكونغو برازافيل المركز الأول للمتسابق “ثيامي بونا”، والمركز الثاني لـأوغندا، بينما تأتي نيجيريا في المركز الثالث، ورواندا في المركز الرابع، والمركز الخامس لـموريتانيا.
وتُقدم المسابقة جوائز مالية قيّمة للمراكز الخمسة الأولى؛ حيث يحصل المركز الأول على 20 مليون شلن تنزاني بما يعادل 8500 دولار أمريكي، والمركز الثاني 12 مليون شلن تنزاني، والمركز الثالث 7 ملايين ونصف شلن تنزاني، والمركز الرابع 5 ملايين شلن تنزاني، والمركز الخامس 3 ملايين شلن تنزاني.
تفاعل رسمي وشعبي
وذَكَر الأمين العام للمسابقات القرآنية، سالم حسين، أنَّ هناك اهتمامًا كبيرًا من الشعب التنزاني بهذه المسابقة، والمسابقات القرآنية الأخرى، وذلك لـحُبّهم لكتاب الله، وعدل لجنة التحكيم التي تُعطي الحق لصاحبه، كما أن الجوائز تساهم في تشجيع جيل الحُفَّاظ والأُمَّة كلها.
وأضاف “حسين” أن هناك تفاعلاً رسميًّا كذلك مع المسابقة؛ فـمؤسسة الحِكمة لها علاقة قوية ومتينة مع الحكومة التنزانية؛ حيث إن راعيها هو الرئيس التنزاني الأسبق “علي حسن مويني”، الذي حَرص دائمًا على حضور هذه المسابقة في كلّ دوراتها كضيف شرف، عدا الدورتين الأخيرتين 2021، 2022م، لظروف مرضه.
كما حضر رئيس الوزراء التنزاني في أكثر من مرة، وكذلك كان يحضر الرئيس الراحل ماغوفولي. وفي الدورة الأخيرة 2022م كان ضيف الشرف هو رئيس زنجبار الحالي د/ حسين علي موينيي، بالإضافة إلى حضور مفتي تنزانيا، ومفتي زنجبار، ومفتي دولة رواندا، ومفتي دولة أوغندا، ومفتي دولة بوروندي، وغيرهم من الشخصيات الرسمية، كما حضر رئيس مؤسسة الحكمة؛ فضيلة الشيخ عبد القادر الأهدل، والمدير العام للمؤسسة الشيخ نور الدين الأهدل.
من مدرسة صغيرة إلى مسابقة دولية.. ما السر؟
يروي لنا الأمين العام بمؤسسة الحكمة؛ كيف نشأت فكرة هذه المسابقة المتميزة؛ حيث بدأ الأمر عندما كان المدير العام الحالي لمؤسسة الحكمة -الشيخ نور الدين الأهدل- طالبًا من طلاب المركز الإسلامي المصري في تنزانيا، وكان حافظًا لكتاب الله، وسافر إلى دول كثيرة للمشاركة في مسابقات قرآنية عديدة، مثل السعودية ومصر، وغيرهم.
وعندما تقدَّم عُمره ولم يستطع حضور المسابقات، رجع إلى تنزانيا، وفكَّر في إنشاء مدرسة لتحفيظ القرآن للأولاد، فأنشأها في بيت صغير، وبدأ يُدرّس بنفسه للأولاد ويُحَفّظهم القرآن، حتى توسَّعت المدرسة وبدأ التفكير في تدريس العلوم الشرعية بجانب دروس القرآن.
ومن خلال ذلك التطور تم إنشاء مؤسسة “الحكمة” فيما بعد، ونظرًا لتقدُّم المدرسة رأوا أنه من الضروري إقامة مسابقة قرآنية، وتمت إقامتها أول مرة عام 2000م، واستقبلها الشعب التنزاني وشعوب شرق إفريقيا بفرحٍ وحماسةٍ، مما ساهم في نجاحها واستمرارها.
والجدير بالذكر أن هناك في تنزانيا ثلاث مسابقات كبرى؛ واحدة منهم على مستوى إفريقيا، وهذه تحت إشراف مؤسسة “الحكمة”، وهي موضوع التقرير، وأخرى على مستوى تنزانيا فقط، وثالثة دولية يشترك بها متسابقون من جميع أنحاء العالم، تُشرف عليها هيئات ومؤسسات أخرى.
وختامًا:
فإن إفريقيا تحمل في أحضانها ما لن تجده في أيّ مكان آخر؛ فالشعوب الإفريقية جنوب الصحراء معظمها لا يتحدث اللغة العربية، وتنزانيا بلد غير عربي، إلا أن ذلك لم يمنع حبّهم وتقديرهم لكتاب الله، مع صعوبة التعلُّم والحفظ والتلاوة، بل وأقاموا مسابقات متميزة، احتفى بها العالم، وأشادت بها الأمة الإسلامية.. هكذا هي إفريقيا.. وهؤلاء هم الأفارقة.