د. محمد فؤاد رشوان
يُعلّمنا التاريخ أن الحروب الكبرى تقود إلى نظام عالمي جديد، فما أن انتهت الحرب العالمية الأولى عام 1919م إلا وتبعها إعلان سقوط الإمبراطوريات، وإرساء مبدأ حق تقرير المصير للشعوب، وتبعها إنشاء عصبة الأمم، والتي فشلت بقيام الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي قاد العالم لإنشاء منظمة الأمم المتحدة عقب انتهائها عام 1945م، وتبعها نظام عالمي ثنائي القطبية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، واستمرت الحرب الباردة بينهما حتى سقوط حائط برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي مطلع التسعينيات من القرن الماضي.
ومن ثم اندلعت حرب الخليج لتعلن قيام نظام عالمي جديد تقوده الولايات المتحدة الأمريكية منفردة، مع محاولاتها الحثيثة لإقامة نظام عالمي يقوم على الديمقراطية الغربية، وإنشاء شرق أوسط جديد، ولكن ما لبث أن بدأ العملاق الصيني في صعوده القوي لقيادة الاقتصاد العالمي، وكذا عودة روسيا التي تسعى لفرض نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب بدأت أولى مؤشراته من خلال الحرب الأوكرانية.
ويشهد الواقع الدولي الحالي صراعات من أجل صياغة مستقبل النظام الدولي؛ حيث تسعى الولايات المتحدة الأمريكية للحفاظ على هيمنتها وقوتها، في حين أن هناك قوًى موزاية أخرى تسعى لإعادة تشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب، وقد ساهم في ذلك تنامي الدور الروسي، وكذلك الصعود الاقتصادي السلس والمتنامي للصين، ومحاولتها التغلغل في مفاصل المؤسسات والهيئات الدولية.
ويسعى هذا المقال إلى رصد مؤشرات تنامي الدور الروسي الصيني في إفريقيا، ومدى تأثرها بالنظام العالمي الجديد المراد تشكيله خلال الحقبة الراهنة، ومدى صمود نموذج الديمقراطية الغربية في القارة الإفريقية من عدمه.
أولاً: تنامي الدور الروسي في إفريقيا
أثارت نتائج التصويت بالجمعية العامة للأمم المتحدة في الرابع من مارس 2022م على قرار إدانة العملية العسكرية على أوكرانيا الانتباه إلى موقف إفريقي لافت تجاه روسيا، والتي باتت تعتبر إفريقيا ذات أهمية أكبر؛ كونها مخرجًا مهمًّا من العزلة الدولية التي يفرضها الغرب عليها؛ فقد امتنعت 17 دولة إفريقية عن التصويت على القرار، فيما اعترضت دولة واحدة هي إريتريا، وتغيبت 8 دول عن حضور الجلسة.
هذه الحصيلة تعني أن نصف دول القارة الإفريقية لم تساند القرار، وهو ما يعيد بالذاكرة لتصويت الدول الإفريقية على قرار عدم الاعتراف بالوضع المستجدّ في شبه جزيرة القرم عقب السيطرة الروسية عليها عام 2014م؛ حيث امتنعت 27 دولة إفريقية عن التصويت، وتغيبت 6 دول عن الحضور، واعترضت دولتان هما السودان وزيمبابوي، وهو ما يعني أن القرار حينها لم يجد سندًا من 35 دولة إفريقية([1]).
ويعكس تصويت الدول الإفريقية عددًا من الأسباب التي ربما تكون قد وجَّهت التصويت من قبل أغلب الدول الإفريقية في القرارين، والتي تعكس الحالة التي ستكون عليها أغلب تلك الدول في المرحلة القادمة؛ ومنها: معاناة الدول الإفريقية من الاستعمار، والذي لا تزال تبعاته مؤثرة على القارة الإفريقية حتى الآن، وهو ما يجعل الوجود الروسي والصيني مرحبًا به؛ حيث لم يسبق لهما احتلال أي من الدول الإفريقية، وكذلك نجاحهما في استغلال تلك المشاعر المعادية للاستعمار للاستفادة من ذلك سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا([2]).
كذلك تنامي حالة السخط لدى الشارع الإفريقي من الدول الغربية، ولعل ما حدث من مظاهرات في العديد من الدول؛ ومنها مالي وغينيا كوناكري وبوركينا فاسو وتشاد، وكذلك معاناة بعض الأفارقة من التمييز العنصري ضدهم عند إجلاء الأفارقة المقيمين في أوكرانيا؛ حيث لم تسمح أغلب الدول الأوروبية بدخولهم إلى بلادهم وحمايتهم من آثار القصف الروسي([3]).
فضًلا عن التقارب بين النظام الروسي (شمولي- غير ديمقراطي) مع العديد من الأنظمة الحاكمة في الدول الإفريقية، ولعل تزايد موجة الانقلابات العسكرية في الآونة الأخيرة في القارة الإفريقية تعكس هذا التقارب من ناحية، كما أن لشخصية الرئيس الروسي جاذبية على النطاق الشعبي الإفريقي؛ خاصةً بعد استطاعته استعادة القوة الروسية، والوقوف في وجه الغطرسة الأوروبية والأمريكية، ويعود بروسيا مرة أخرى لتشكيل نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب([4]).
وكذا تنامي التواجد الروسي في العديد من المناطق الإفريقية المؤثرة، سواء بتزايد مبيعات السلاح الروسي للدول الإفريقية، وهو ما جعل العديد من الأنظمة الحاكمة في إفريقيا تزيد من اعتمادها على السلاح الروسي؛ حيث لا تعتمد روسيا في المقابل على مفاهيم الديمقراطية والحكم الرشيد، فقد مثلت حجم صادرات روسيا من السلاح لإفريقيا خلال الفترة من 2016 – 2020م حوالى 18% من إجمالي صادرات روسيا من الأسلحة وفقًا لتقارير معهد ستوكهولم لأبحاث السلام، كذلك تعاظم دور التدريب الروسي للعديد من قوات الجيش في العديد من الدول الإفريقية، وكذلك تزايد أنشطة شركة فاجنر الروسية من أجل حماية العديد من الأنظمة في الدول الإفريقية([5]).
ثانيًا: تنامي الدور الاقتصادي الصيني في إفريقيا
باتت الصين تحتل مكانة مركزية في النظام العالمي؛ إذ إنها أكبر قوى تجارية في العالم وأكبر مركز للإقراض العالمي، وتضم أكبر عدد من السكان، وكذلك أصبحت مركزًا عالميًّا للابتكار؛ لذا يتوقع أغلب المحللين أن الناتج المحلي الإجمالي في الصين سيتجاوز الولايات المتحدة الأمريكية بحلول عام 2030م؛ مما سيجعلها أكبر قوة اقتصادية في العالم.
وتشير العديد من المؤشرات إلى اعتبار الصين أحد القوى الاقتصادية الكبرى الصاعدة للهيمنة الاقتصادية على العالم؛ حيث تحتل المرتبة الأولى عالميًّا من حيث معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي، والذي يتراوح معدله بين عامي 2004م إلى 2018م ما بين 6.11% إلى 11% سنويًّا، وهو أعلى معدل للنمو بين القوى الكبرى في العالم، في حين لم يشهد معدل النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من 3.8% منذ عام 2004م.
وفي عام 2019م ورغم تأثر الاقتصاد العالمي بجائحة كورونا، وقيام أغلب دول العالم بإغلاق تام لحدودها السياسية، وهو ما أدى إلى حالة من الركود والانكماش الاقتصادي في العالم بأثره؛ إلا أن الصين حافظت على معدل نمو بلغ 5.9%، فيما بلغ معدل النمو في ذات العام بالولايات المتحدة الأمريكية 2.2% فقط([6]).
وكذلك تمتلك الصين أكبر احتياطي نقد أجنبي في العالم يصل إلى 3.25 تريليون دولار أمريكي في ديسمبر 2021م، وهو أعلى مستوى منذ عام 2015م، وقد قدر قيمة احتياطي الذهب لديها بــ113 مليار دولار وهي الأكبر في العالم([7])، وفي المقابل بلع حجم الاحتياطي النقدي الأمريكي 2.51 تريليون دولار أمريكي في ديسمبر 2021م([8]).
وتسعى الصين لإثبات مركزيتها في النظام العالمي من خلال العديد من المبادرات الاقتصادية والسياسية؛ مثل مبادرة الحزام والطريق، والتي أطلقتها الصين في عام 2013م لتقدم مظهرًا ماديًّا لمركزية الصين عبر ربطها بقارات العالم الثلاث من خلال ثلاث ممرات بحرية ستربط الصين بآسيا وأوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا، والتي تُعيد إلى الأذهان ذكريات تاريخية عن طريق الحرير ومركزية الصين خلال العصر الإمبراطوري، وتعيد مباردة الحزام والطريق الصين في مركز النظام الدولي مع تدفق تأثيرها المادي والمالي والثقافي والسياسي إلى بقية العالم، وتعيد رسم التفاصيل الدقيقة لخريطة العالم مع إمكانية التوسع لوضع القواعد العسكرية الصينية([9]).
وتستخدم الصين القوة الناعمة كأداة لتعزيز دورها عالميًّا، وتتبع دبلوماسية مرنة في التعامل مع الدول الإفريقية عن طريق الإقناع بدلًا من الإكراه، وهو ما ميَّز سياستها الخارجية عن باقي الدول الكبرى التي تدخلت في القارة الإفريقية؛ فتعمل على جذب الآخرين عبر الثقافة والاقتصاد والمساعدات التنموية غير المشروطة، مما ساعد على حضورها الفعّال والمؤثّر في القارة الإفريقية.
ويتضح طبيعة الدور السياسي والدبلوماسي للصين من خلال الخطاب الذي ألقاه الرئيس الصيني شي جين بينج خلال منتدى التعاون الصيني الإفريقي عام 2018م، أو ما عُرف باللاءات الخمس في تعامل الصين مع الدول الإفريقية، وهي:
1- لا تتدخل بكين في جهود الدول الإفريقية لاستكشاف طرق التنمية التي تناسبها.
2- لا تتدخل الصين في الشؤون الداخلية للدول الإفريقية.
3- لا تفرض إرادتها على الآخرين.
4- لا تربط مساعدتها بأي شروط سياسية.
5- لا تسعى لتحقيق مصالح سياسية من خلال استثماراتها في إفريقيا.
ولعل ذلك ما يفسّر حالة التأني التي تنتهجها الصين لتأدية دور فاعل في النظام الدولي، وهي الاستراتيجية التي تستخدمها فيما يعرف بالغزو السلمي لإفريقيا، وذلك على الرغم من المقومات السياسية للصين مثل وجودها ضمن الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس السلم والأمن الدولي مما يسمح لها بممارسة تأثير كبير على مجريات الأحداث الجارية، ويُكْسِبها قدرًا من التأثير بين الدول الإفريقية وموازنة الدور الأمريكي في اتخاذ القرارات الدولية([10]).
أما من الناحية العسكرية، فعلى الرغم من تحفظ الصين من الناحية العسكرية، ولكن مع تضخم قدراتها الاقتصادية، والتي وضعتها في مصافّ القوى العظمى فلا بد أن تواكب القوة العسكرية الصينية الوضع الاقتصادي والسياسي للبلاد، لذا فقد شهد الإنفاق العسكري الصيني طفرة كبيرة منذ عام 2017م ليصل إلى8.1% من الناتج القومي الإجمالي للصين في عام 2018م؛ فأصبح الجيش الصيني يحتل المرتبة الثالثة عالميًّا من بين 140 دولة وفقًا لآخر تقييم في يناير الماضي بعد كلّ من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية التي تحتل صدارة التصنيف العالمي كأقوى الجيوش في العالم. وتسعى الصين لاحتلال المرتبة الثانية خلال الفترة القليلة المقبلة بدلًا من روسيا؛ حيث تمتلك الصين المقومات الاقتصادية والاحتياطي النقدي اللازم من أجل تطوير قدراتها العسكرية، وخاصةً القدرات البحرية والجوية والبرية، وهو ما سيجعلها المنافس العسكري الأقوى للولايات المتحدة الأمريكية([11]).
فمن الجدير بالذكر أن الصين نجحت في زيادة حجم إنفاقها العسكري بنحو 800% منذ عام 1992م؛ فقد بلغ حجم إنفاقها العسكري في عام 2020م حوالي 245 مليار دولار بنسبة 1.7% من الناتج المحلي الإجمالي، وبزيادة تُقدر بـ3.7 مرة ضعف الإنفاق الروسي الذي بلغ 67 مليار دولار بنسبة 4.3% من الناتج المحلي الإجمالي، وعلى الرغم من ذلك فلا تزال القوتان بعيدتين بشكل كبير عن حجم الإنفاق الأمريكي الذي بلغ 767 مليار دولار بنسبة 3.7% من الناتج المحلي الإجمالي في نهاية عام 2020م([12]).
وختامًا:
تسعى الدول الإفريقية، معتمدةً على ما تشكّل من وعي لدى أبنائها، إلى أن تكون فاعلًا مؤثرًا في ميزان القوى العالمي الذي يُعاد تشكيله الفترة الحالية، واستغلال مصادر قوتها للاستفادة من إمكانياتها الاقتصادية عبر توفر الموارد الطبيعية والاحتياطيات الكبيرة من البترول والغاز الطبيعي، فضلًا عن باقي العناصر الأخرى التي جعلها محورًا للتنافس بين القوى العالمية.
وتبقى إعادة تشكيل النظام الدولي الجديد مرهونة بحالة التنافس بين الولايات المتحدة الامريكية وكلّ من روسيا والصين، وقدرة كلّ منها على الصمود على المستويين الاقتصادي والعسكري، مع العمل على تعزيز العلاقات بين كل من روسيا والصين لخلق سياسة توازنات تقوّض الهيمنة الأمريكية، مما يسمح بخلق نظام دولي جديد، والذي سيصاحبه خَلْق مناطق للنفوذ والمجال الحيوي لكل منهم، وهو ما ستكون إفريقيا أحد ركائزه المهمة.
[6]– https://data.albankaldawli.org/indicator/NY.GDP.MKTP.KD.ZG?end=2019&locations=US-CN&start=1978
[7]– https://tradingeconomics.com/china/foreign-exchange-reserves
[8]– https://www.federalreserve.gov/data/intlsumm/current.htm
-[10] محمد محياوي، تأثير الصعود الصيني على النظام الدولي في ظل الهيمنة الأمريكية، في دفاتر السياسة والقانون، (الجزائر، جامعة قاصدي مرباح، المجلد 13 العدد 2 ، 2021م) ص .ص 467- 468
[11]– https://www.globalfirepower.com/country-military-strength-detail.php?country_id=china
[12]– https://www.statista.com/chart/16878/military-expenditure-by-the-us-china-and-russia/