مختار حسين هلولي (*)
تحررت كينيا من الاستعمار البريطاني في العام 1963م، وأصبحت جمهورية مستقلة في العام التالي 1964م. وقد مرَّت بكينيا أنظمة حكم مختلفة أطولها فترة النظام الشمولي الذي استمر قرابة 30 عامًا، وطُوِيَتْ صفحته بعودة التعدُّدية الحزبية، وإلغاء نظام الحزب الواحد في 1992م، وأعقبها شيء مِن احترام الحقوق والحريات؛ أهمها حرية التعبير.
وقد شكَّل انتهاء حكم حزب كانو -وهو من الأحزاب التقليدية التي تأسَّست إِثْر جلاء الاستعمار- منعطفًا تاريخيًّا في المسيرة السياسية للدولة؛ حيث توسَّعت المشاركة السياسية وممارسة الحُرِّيات على مختلف الأصعدة، رغم كل ذلك لا تزال كينيا تعاني من اضطرابات سياسية موسمية تعقب الانتخابات العامة، يسببها التنافس القَبَلِيّ على السلطة، ضمن أسبابٍ أخرى من أهمها: التوزيع المُسَيَّس للأراضي الزراعية.
وقد شهدت انتخابات 2007م و2013م و2017م اضطرابات أمْنِيَّة أدَّت إلى زهوق أرواح وأضرار على الممتلكات الخاصة والعامة، لم تهدأ إلا بتدخُّل المجتمع الدولي.
وقد ساهمت جهودٌ محلية في التخفيف من حِدَّة الصراع السياسي في 2017م، وذلك عبر إنشاء المحكمة العليا المختصة بفضِّ النزاعات المتعلِّقة بانتخابات الرئاسة. رغم ذلك تبقى احتمالات عودة الصراع مستقبلاً أمرًا واردًا.
في هذا المقال أحاول تسليط الضوء على نشأت الصراع السياسي والحالة التي تمر بها البلاد عقب أحداث 2017م.
كينيا وهواجس الحكم
يظل التداول السلمي للسلطة أهم مبادئ الحكم في الدول الحديثة، يُقاس به المدى الحضاري لشعبٍ ما، ومدَى رسوخ وعيه لمفهوم الحق عمومًا، وما يتفرع منه ليجري في مختلف مجالات الحياة مجرى الروح في الجسد، هذه قاعدةٌ لها استثناءاتها؛ إذ تظهر انحرافات عن ذلك المبدأ هنا وهناك، بدافع الغريزة الإنسانية المتمثلة في حب التملك، طاغية على النُّظُم الدولية والمحلية المعنية بِكَبْحِ ذلك التعنُّت الإنساني، ودولة كينيا، باعتبارها من دول العالم الثالث التي لم تستقر فيها مبادئ الحكم الحديث ليست مستثناةً من تلك المسالك الاستثنائية في ممارسة مبدأ التداول السلمي للسلطة(1).
ظهرت دولة كينيا الحديثة إلى العالم في 12 ديسمبر 1963م، إِثْرَ إعلان استقلالها عن المستعمر الإنجليزي الذي ارتحل -ولو جزئيًّا- عن أرضٍ تحتضن أخلاطًا من البشر، تسود فيهم الانتماءات القَبَلِيَّة والتعصُّب لها في بيئة ينقصها الإنسان الواعي المتسلح بالمعارف الضرورية لإعمارها، الأمر الذي حصَر الحُكْمَ في طبقةٍ من المثقفين لم تتمكن فيما بعدُ من تجاوز فكرة الانتماء للقبيلة على حساب الوطن، بل كرَّسَت فكرة القبائل السياسية وفتحت بذلك بابًا لصراعات قبلية على السلطة لم يَنْسَدّ بعد مرور 55 عامًا على الاستقلال السياسي.
بدأ الصراع القَبَلِيّ على السلطة مع الجيل الأول الذي خلَف المستعمر البريطاني؛ حيث أفرزت انتخابات 1963م “جومو كيناتا” أول رئيس وزراء للبلاد في 1/6/1963م، ثم رئيسًا لها في 12/12/1964م إِثْرَ تعديل دستوري ألغى منصب رئيس الوزراء، واتخذ كيناتا “جراموغي أوطنغا” نائبًا له، لدوره الفعَّال في نجاح الحزب الحاكم، وتقاسمًا للسلطة بين القبيلتين ذواتي الثِّقَل السياسي في البلاد، “كيكويو”، و “جلوو”.
وقد كرَّس جراموغي ثروته في سبيل فوز كينياتا الذي اشتهر من بين مناضلي الاستعمار، وكان على رأس حركة “ماوماو” التي تصدَّت لمناضلة الاستعمار في وسط البلاد.
نشأت علاقة حميمة بين الرجلين حتى بدأ كينياتا يشعر بأن عين زميله على كرسي الحكم، وأن الصين والاتحاد السوفييتي تعاونانه على ذلك رغم احتجاجات كيناتا المتكررة على تمويل القوى الدولية للساسة الكينيين دون علمه؛ رعايةً لمصالحهم، وللوقوف في وجه النفوذ الأمريكي والبريطاني في البلاد، ونكايةً في كينياتا المنتمي إلى المعسكر الأمريكي، ولم يكن الأخير على غفلةٍ مما يجري بل كلَّف بعض مقرَّبيه لمتابعة تحرُّكات أوطنغا بالتنسيق مع وكالة الاستخبارات الأمريكية التي كانت حريصة على تزويد كيناتا بما يجري وراء الكواليس بين أوطنغا ومموليه(2).
بعد ست سنوات من الاستقلال لم يعد الخلاف بين الرجلين سرًّا، ففي لقاء جماهيري في مدينة كيسومو حدثت بينهما مواجهة علنية، مما أدَّى إلى سجن أوطنغا لسنتين، واشتعال الشَّغَب في منطقة نيانزا؛ حيث غالبية أنصاره، انتهى بقتل عشرات في مواجهات مع الشرطة. وهكذا تمكَّن كينياتا من تغييب خَصْمه عن المشهد السياسي فلم يظهر إلا بعد وفاته عام 1978م (3).
لم ينتهِ الصراع الْقَبَلِيّ على السلطة برحيل كيناتا وجراموغي، بل وَرِثَ الأبناء الصراع السياسي عن الآباء.
لم يكن انتخاب أوهورو كيناتا -الابن البكر للرحيل جومو كيناتا- عام 2013م بالصدفة، بل كان مما جاد به المطبخ السياسي في كينيا، تم التخطيط له مسبقًا مِن قِبَل قادة حزب (كانو) الذي ظل على حكم البلاد منذ الاستقلال، لتكريس توريث الحكم حسب المحللين، ويُعَدُّ انتخاب أوهورو بمباركة الرئيس الأسبق دانيل أرب مووي نواة لانطلاق ذلك التوريث.
“دانيل أرب موي” من قبيلة “كلينجين” من منطقة “رفت فالي”، لم يَغِبْ يومًا عن السياسة الكينية منذ أن ترك التدريس في مدرسة ابتدائية، والتحق برجال كيناتا. كان نائبًا للرئيس لحظة وفاة كينياتا فقَفَزَ إلى كرسي الرئاسة تلقائيًّا وفقًا للدستور، وكان عام 1978م بداية حكم موي الذي سيستمر حتى عام 2002م، وما إن استقر حكمه حتى أسرع للتخلُّص من أعدائه المحتملين من رجال كيناتا، مما أدَّى إلى تذمُّر قبيلة كيكويو-التي ينتمي إليها كيناتا- من التغيير السياسي في البلاد، وكان اعتقادهم أن لا يحكم البلاد إلا أحدُ أبنائها، لسابقتها التي لا تُنْكَر في مناضلة الاستعمار وإجلائه عن أرض الوطن، لكنَّ الحِنْكَة السياسية التي تمتَّع بها موي حالت دون كيكويو والحكم لفترة 26 عامًا، واستبدلها بالأقليات من قبائل الجنوب والغرب، وهمَّشها حتى جاءت انتخابات 2002م، فأعلن عدم ترشحه للرئاسة، وتنفست كيكويو الصُّعَداء.
وجاءت انتخابات 2002م وترشح أوهورو كيناتا للرئاسة عن حزب “كانو” العريق، فلاحت بوادر التوريث في آفاق السياسة الكينية لأول مرة، لكن رايلا أوطنغا -ابن جراموغي السالف الذكر- كان له بالمرصاد، فتحالف مع سياسي مخضرم هو مواي كيباكي الذي سيدخل في تاريخ السياسة الكينية كثالث رؤساء الجمهورية، وتمكن من إلحاق الهزيمة بابن خصم أبيه، وما هزيمة أهورو كينياتا إلا لانتمائه إلى حزب كانو سيئ السمعة (4).
هكذا ظل دانيل أرب موي يوجِّه سياسة البلاد من خلف الكواليس، حريصًا على ردِّ الحكم إلى ابن كيناتا، حتى جاءت انتخابات 2007م، وعاد الصراع الْقَبَلِيّ في أقوى صُوَره ليحول العملية الانتخابية إلى كابوس يلاحق المواطن الكيني.
كانت التوقعات تشير إلى فوز رايلا أوطنغا حينها، نظرًا لدعمه مواي كيباكي في انتخابات 2002م، الذي ينتمي إلى قبيلة كيكويو، لكنَّ تمسُّك الأول بحقِّه في الترشح للرئاسة لفترة ثانية أيقظ النَّعْرَة الْقَبَلِيّة لدى القبائل الأخرى المنافسة لكيكويو، فتحالفت قبيلتا كلنجين وجالو تحت قيادة رايلا أوطنغا ووليام روتو -نائب الرئيس حاليًا-، وشكَّلَت تحالفًا قويًّا باسم “حركة البرتقال الديمقراطية” -إشارة إلى رمز رافضي الدستور في الاستفتاء عليه عام 2005م- وأعلنت نتائج الانتخابات في ديسمبر 2007م بفوز مرشح “حزب الوحدة الوطنية”، مواي كباكي.
رفضت المعارضة نتائج الانتخابات فبدأت حربٌ أهلية راح ضحيتها قتلى وجرحى، وأدَّت إلى نزوح كبير في مناطق نيازا ورفتفالي، أغلبهم من قبيلة كيكويو. ولم يَنْتَهِ العنف إلا بوساطة دولية وتشكيل حكومة وحدة وطنية شارك فيها رايلا أوطنغا رئيسًا للوزراء، وكان للأمين العام للأمم المتحدة السابق كوفي أنان دور كبير في تهدئة الوضع المتأزم بعد مفاوضات استمرت لأكثر من شهر(5).
هكذا مرت البلاد في جلّ انتخاباتها بمخاض صَعْب لم تخرج منه إلا بتدخل المجتمعين الدولي والإقليمي.
قبيل الانتخابات
ما إن تعافت البلاد من الآثار المصاحِبَة لانتخابات 2013م التي شغلت المهتمين بالشأن الكيني، وأصابت متابعي المشهد السياسي فيها بالرعب، حتى بدأ التحضير للمعركة السياسية القادمة في 2017م، فالحديث عن السياسة والتحضيرات للاتخابات المقبلة لا تخلو منه الساحة الاعلامية، الأمر الذي أضعف أداء الحكومات المتعاقبة، لانشغالها عن المشاكل الكثيرة التي يعاني منها المواطن العادي، بدءًا من الفساد المتفشي، وتراكم الديون الخارجية، وانتهاءً بغلاء الأسعار. ومرَّت الأيام والشهور وكالعادة لم يَرِد على لسان الحزب الحاكم ما يشير إلى استعداده للوفاء بالعهود التي التزمها في لقاءاته الجماهيرية في مختلف مراكز المحافظات حتى وقفت البلاد على أبواب العام 2017م، وصارت على موعد مع الانتخابات، فارتفع الضغط السياسي، وعمَّ معه الخوف الدائم مما تؤول إليه البلاد بعد الانتخابات.
تُعتبر انتخابات عام 2017م ثاني انتخابات تم إجراؤها في ظل دستور 2010م الذي أسَّس للامركزية السياسية في كينيا؛ حيث قسَّم البلاد إلى 47 مديرية كان الاستعمار الإنجليزي قد صَنَعَها قبل العودة إلى النظام المركزي بموجب دستور 1963م، الذي قضى على أصوات المنادين بالحكم اللامركزي.
ونظرًا لشكل الدولة الجديد؛ فقد كانت البلاد على موعد مع انتخابات معقَّدة؛ إذ للمحافظات انتخابات تخصها لم تعهدها البلاد من قبل، ونظرًا لبُعد المسافة بين نيروبي وكثير من مراكز الفيدراليات، بالإضافة إلى تدنّي مستوى البِنَى التحتية كان الخوف مضاعفًا على قدرة المفوضية الوطنية للانتخابات والحدود في إجراء انتخابات حُرَّة ونزيهة في كل أرجاء البلاد، وفقًا لما تتطلبه نص المادة 81 من الدستور الكيني، المبيِّنَة للمعايير الدستورية لأية انتخابات تُجْرَى في البلاد، إضافةً إلى أن أحداث العنف التي تبعت انتخابات 2007م لم تزل ذكرياتها حَيَّة في أذهان الكينيين؛ تلك الصراعات الْقَبَلِيّة التي أَوْدَتْ بحياةِ ما يربو على ألف قتيل ونزوح مئات الآلاف. ولم تكن انتخابات 2013م أخفّ صدمةً وإن كان عدد ضحاياها أقل بالمقارنة مع سابقتها.
تحدثت بعض المراكز الدولية التي أرسلت مراقبيها عن الأجواء التي سبقت الانتخابات؛ فمركز كارتر المهتم بحقوق الإنسان، لاحظ أن المفوضية الوطنية للانتخابات أجرت عملية تسجيل الناخبين بشكل فعَّال، على خَلَل طفيف لا يؤثِّر في مصداقيتها، كما اتخذت خطوات ضرورية لتحديث نظام الانتخابات؛ كما استعانت بأجهزة حديثة للحيلولة دون أية محاولات للتزوير، وتميزت العملية بارتفاع مستوى التنافس؛ حيث زاد عدد المستقلين بشكل ملحوظ.
واستشاطت المعارضة غضبًا من تصريحات مركز كارتر، واعتبرته انحيازًا للحكومة التي -بحسب رواية المعارضة- جيَّشَت أجهزة الدولة لحشد أنصارها في مختلف المناطق، ما يُشَكِّل خرقًا لقانون الانتخابات(6).
صيحات معارضة
التحالف المُعَارِض تَشَكَّل من أحزابٍ عريقةٍ سجَّلت على مدى تاريخ البلد السياسي نضالات متعدِّدة مع الأنظمة السابقة، ماجعله يميل إلى التشاؤم وعدم الثقة في العملية الانتخابية بِرُمَّتِها، ومما زاد الطين بِلَّة كون رايلا أطنغا، الخصم التاريخي لعائلة كيناتا، على رأس التحالف، وهو سياسي اشتهر بصلابة مواقفه، واعتراضه على سياسات دانيل موي الذي استقبل عهده خارج القصر الجمهوري في ربيع 2002م، وكان عهدًا مشحونًا بالخلافات السياسية، والفساد الإداري على أوسع نطاق شهدته البلاد.
ظل اوطنغا في حملاته الانتخابية على رأس تحالف “ناسا”، واستقطب عددًا كبيرًا من الأحزاب التقليدية، وظل يحذِّر الجمهور من عودة البلاد إلى أيام موي، أيام الحزب الواحد وغياب التعددية الحزبية، والسجون السرية التي كان هو نفسه أحد ضحاياها.
وأثارت المعارضة قضايا في المحاكم بمنع شركة الغرير الإماراتية للطابعة من طباعة أوراق التصويت، واتهمت الحكومة بالوقوف وراء التعاقد، مما شكَّل أساسًا للطعن في استقلالية الشركة في عملها.
وأصدرت المحكمة الابتدائية قرارًا لصالح المعارضة، بإيقاف العقد مع الشركة، واستبدالها بشركة أخرى بشرط أن تُجرَى الانتخابات في مواعيدها، ولكن لم يَدُمْ ابتهاج المعاضة بالقرار طويلاً؛ إذ أبطلته محكمة الاستئناف بقرار سبَّبته بعدم إمكانية إجراء الانتخابات في موعدها الدستوري لو حصل إيقاف العقد(7).
واتهمت المعارضة الأجهزة الأمنية بتعمُّد إطلاق إشاعات لتنفير المواطنين من الذهاب الاقتراع في مناطق الغرب المعارضة، بدعوى عدم الاستقرار التي ستشهدها تلك المناطق في يوم الانتخابات.
وناشدت المعارضة أنصارها للخروج بأعدادٍ كبيرة في جميع أرجاء البلاد؛ لممارسة حقهم الدستوري في اختيار حُكَّامهم، وعدم الإصغاء إلى إشاعات الجهات المدفوعة مِن قِبَل الحكومة؛ حسب تعبيرها.
مطالب المعارضة لتحقيق انتخابات حُرَّة ونزيهة
وفي اجتماعها الأول بأعضاء المفوَّضية الانتقالية الوطنية للانتخابات والحدود في 2/8/2017م، كشفت المعارضة عن مطالبها لتحقيق انتخابات حُرَّة ونزيهة، ويمكن تلخيصها كالآتي:
أولاً: أن تُجْرِي المفوضية الوطنية انتخابات حرَّة ونزيهة بالمعايير المنصوص عليها في دستور 2010م.
ثانيًا: قيامها بالتحقيق في تدنِّي مستوى الإقبال على مراكز الاقتراع في المناطق ذات غالبية أنصار المعارضة.
ثالثًا: التحقيق في مدى ضلوع بعض أجهزة الدولة في حثِّ المواطنين على المشاركة في عملية التسجيل لصالح الحزب الحاكم.
رابعًا: أن تعلن النتائج في مراكز الدوائر الانتخابية أولاً، ثم الإعلان عنها بمقر المفوضية في نيروبي دون التعرُّض لها بتعديل.
خامسًا: تشكيل لجنة مستقلة يُنَاط بها تولّي الجانب الفني في العملية الانتخابية، وأن تمثل المعارضة فيها بعضوين على الأقل.
سادسًا: الكشف عن التفاصيل الخاصة بالناخبين في الخارج، مع السماح لهم بالتسجيل بأية وثيقة أخرى تُثْبِت هويتهم الكينية دون التقيُّد بجواز السفر(8).
ما بعد النتائج
في حدثٍ تاريخي يُعَدُّ الأول من نوعه، ألغت المحكمة العليا نتائج انتخابات الرئاسة، وأمرت المفوضية بضرب موعد لانتخابات الإعادة في غضون ستين يومًا، حسب متطلبات الدستور.
وللحيلولة دون تكرار أحداث 2007م التي أعقبت الانتخابات، وأشعلت حربًا أهلية سبقت الإشارة إليها؛ أنشأت المحكمة العليا بموجب المادة 163 من الدستور محكمة ذات اختصاص حَصْرِي بالنظر في النزاعات الناشئة عن انتخابات الرئاسة ضمن اختصاصات أخرى منصوص عليها في فقرات المادة السالفة الذِّكْر.
ورغم أن الحزب الحاكم وعَد في وقت سابق باحترام قرار المحكمة مهما كانت آثاره، إلا أن أوهور كيناتا سجَّلت انتقادات لاذعة لأعضاء المحكمة، مُتَّهِمَةً إياهم بعدم الكفاءة، والانحياز إلى المعارضة ومجاملتها، عكس ما تمليه عليهم أخلاقيات مهنة القضاء.
المعارضة هي الأخرى لم تكن سعيدةً بالقرار؛ لأنها توقَّعت أن تُعلن المحكمة مرشحها فائزًا في الانتخابات محل النزاع، وإن لم يُخَوِّل للمحكمة سندُ إنشائها اختصاصًا كهذا.
ولذا نقلت المعارضة معركتها إلى ميدان جديد، وسجَّلت اعتراضات على المفوضية؛ باعتبارها غير مؤهَّلة لإجراء انتخابات الإعادة؛ كونها طرفًا في المشكلة حسب رأي المعارضة. ولجأت المعارضة إلى مقاطعة الانتخابات كخيار أخير، كما نادت عبر كل منافذها الإعلامية أنصارها إلى مقاطعتها، مما أدَّى إلى تدني مستوى الإقبال عليها، خاصةً في مناطق المعارضة.
ورفضت المعارضة المشاركة في انتخابات الإعادة بدعوى أنها محسومة النتائج، وأن المفوضية لم تستجب لمطالبها الاثني عشر لضمان نزاهة الانتخابات، ما أدَّى إلى تعقيد الوضع المتأزم وإرباك المفوضية التي ظلت تَئِنّ بين مطرقة الحكومة وسندان المعارضة(9).
واستمرت المفوضية في إجراء الانتخابات في موعدها، وأدرجت اسم مرشَّح المعارضة في قائمة المرشحين، ثم أعلنت النتائج بفوز أوهورو كينياتا فائزًا وتم تنصيبه لاحقًا لفترة رئاسية ثانية بحضور عددٍ من رؤساء الدول الإقليمية في 28 نوفمبر 2017م (10).
وتأجَّجت المعارك الكلامية بين الساسة في المنابر الإعلامية، وازداد قَلَق المواطن على مستقبله المجهول، وتأثرت الحركة التجارية في نيروبي، بسبب نزوح سكانها إلى المحافظات؛ خوفًا من تكرار سيناريو 2007م.
ولم يكن أمام المعارضة إلا اللجوء إلى الشعب، والضغط على الحكومة من خلال مظاهرات شعبية وعصيان مدني شامل، لكنها لم تَلْقَ الاستجابة الكافية؛ حيث التزمت معظم المناطق الحياد، ونظرت إلى الصراع على أنه ينحصر بين قبيلتي جلوو وكيكيو المعروفتين منذ الاستقلال بالتنافس البَيْنِيّ الشديد على حكم البلاد.
وعلى الرغم من ذلك؛ فقد انتفضت مدن الغرب استجابةً لنداء المعارضة؛ انتفاضةً كانت الأجهزة الأمنية لها بالمرصاد، فبعد أيام قليلة هدأت الشوارع، وعاد المواطنون لممارسة حياتهم الطبيعية، واستخدمت المعارضة آخر ورقة ضغط في حوزتها.
تآكل التحالف المُعارِض
لم يَعُدْ للتحالف المُعارِض تأثير يُذْكَر؛ طالما تمكَّنت الحكومة من السيطرة على الأوضاع، وإقناع المواطن بالعودة إلى حياته الطبيعية واعتزال السياسة، وذلك عبر منافذ إعلامية لم تتوفر للمعارضة، فبدأ الخلاف يدبُّ في التحالف المعارض بسبب تمكُّن الحكومة من اختراقه واصطياد شخصيات تنتمي إليه، ونما إلى علم رايلا -رئيس المعارضة- حدوث لقاءات سرية بين أعضاء التحالف وقيادات من الحكومة، فبادر هو الآخر بلقاء مع الرئيس، وصافحه علنًا في حَدَثٍ أذهل بقية أعضاء التحالف، لقاء طي صفحة العداء بين الرجلين ولو مرحليًّا، لكن رايلا أمسك العصا من الوسط، وأكَّد على أنه لا يزال متمسكًا بمطالبه التي ظل يناضل من أجلها طيلة السنوات، ومن أهمها مراجعة نظام الانتخابات، وترسيخ نظام اللامركزية السياسية، والعمل على رفع فاعليته.
وبدأت أدوار المعارضة تتلاشى بعد تلك المصافحة، ومرَّت أحداث كثيرة دون أدنى تعليق من المعارضة، بعضها تتعلق بالفساد في بعض الدوائر الحكومية، وكان رايلا معهودًا بتسليط الأضواء على الكثير من الفضائح المالية في مختلف الوزارات، وبانتقاداته المتكررة للحكومة على دورها السلبي في التعامل مع الفضائح المالية والفاسدين.
وتنبأت الصحف المحلية بالإعلان عن موت المعارضة، كما حمَّلت رايلا مسؤولية تفكيك المعارضة، وإضعاف دورها في الرقابة على أداء الحكومة (11)، وطالبت البرلمان بتغليب مصالح الشعب على المصالح الحزبية الضيِّقة.
رغم ما سبق ذكره من الأحداث، فإن مستقبل رايلا السياسي يبقى غامضًا، حتى في لقاءاته الأخيرة مع الرؤساء السابقين لم تتمكن وسائل الإعلام من التوصل إلى فحوى ما جرى فيها.
ولكن ثَمَّة تنبؤات باعتزاله السياسة، وعدم ترشحه في انتخابات 2022م، وبأنه سيتم تعيينه المبعوث الخاص لدى الاتحاد الإفريقي ليلتحق بقادة إفريقيا المرموقين؛ أمثال أوبسنجو وثابو مبيكي، ومع ذلك كله لا يمكن الجزم بما ينويه رايلا، فالرجل معروف طيلة حياته السياسية بالاستعانة على الحوائج بالكتمان، فاحتمال خوضه انتخابات 2022م واردٌ؛ إذ ليس في الدستور ما يُثْنِيه من ذلك رغم دخوله في عقده الثامن؛ كما تردَّد مؤخرًا على ألسنة بعض البرلمانيين المقربين منه(12).
ولم تكن الزعامات الْقَبَلِيّة بعيدة عما يجري في البلاد من الصراع السياسي، لقد ظهر مؤخرًا دورها في تصدُّع التحالف المعارض بعد إعلان نتائج انتخابات الإعادة. فكالنزو مسيوكا -الرجل الثاني في التحالف المعارض- تخلَّف عن حدثِ تنصيبِ رايلا رئيسًا للشعب، في خطوةٍ أقدمت عليها المعارضة بعد تمكُّن السلطات من احتواء المظاهرات التي نادت بها، وكان لزعماء قبيلة كامبا -وهي من قبائل البانتو ذات ثقل سياسي- دور في إقناعه بعدم حضور حفل التنصيب المذكور، بل نصحته بترك المعارضة والانضمام إلى الحكومة لضمان مستقبله السياسي (13).
ومن الواضح أن الحزب الحاكم -وخاصة نائب الرئيس الحالي- بدأ يصطاد أصوات الناخبين في المناطق المؤيدة للمعارضة، فقد شهد الساحل الكيني ذي الأغلبية المسلمة زيارات لنائب الرئيس الذي يُنتظر أن يخلف الرئيس الحالي في الترشح للرئاسة، مع أن حظَّه في أصوات كيكويو- مؤيدي الرئيس الحالي- غير مضمون. وقد انتقد رايلا تحركات نائب الرئيس، واعتبرها سابقةً لأوانها، بل خلطًا للأوراق وتضييعًا لأولويات المواطن، وذلك في مقابلة أجرتها معه قناة “ستيزن” الخاصة (14).
ملفات عالقة
إنَّ الحكومة مسؤولة أمام الشعب باحترام وعودها، ووضعها موضع التنفيذ في أسرع وقت ممكن، بدل تضييع الأوقات في خلافات جانبية حول ميراث العرش في انتخابات 2022م. وفعلاً هناك قضايا تستدعي من السلطة الحاكمة التدخل المناسب والسريع لكي تثبت جدارتها أمام الشعب الكيني، نتحدث عنها في الصفحات التالية.
أولاً: الحرب على الفساد
يُقال عن كينيا: إنها بلدٌ لا تغيب عنه شمس الانتخابات، لا تنتهي انتخابات إلا وقد بدأ التحضير للاحقتها. فور حدوث التصالح بين الزعيمين، رايلا وأوهورو، بدأت الأحزاب تفكِّر في مواضعها من انتخابات 2022م، وضجَّت وسائل الإعلام المحلية بخطابات سياسية لم يحن أوانها بعدُ، ومثل هذه التصرفات من الساسة لا يمكن تصنيفها في إطار حرية التعبير، بَلْه أن تُصنَّف ضمن سلوكيات الدول الناضجة ديمقراطيًّا؛ فالانتخابات وسيلة وليست غاية تستحق ابتلاع وقت بهذا الحجم، والمطلوب وضع حدّ للساسة لإجبارهم على التركيز على مهامهم الدستورية، وإن تطلَّب الأمر وضع تشريع بهذا الخصوص، والذي يهمنا هو غياب الحديث عن تنفيذ برامج تنموية إلا في لقطات عابرة خلال فيضان من خطب سياسية لا تَمُتُّ إلى الواقع بِصِلَةٍ، مما أدَّى إلى تذمُّر المواطن وفَقْده للثقة في النظام الحاكم.
وعند ذِكْر الملفات العالقة في كينيا، تتصدر القائمةَ: الحربُ على الفساد ويصبح خطاب الساسة، خاصةً عند اقتراب مواعيد الانتخابات العامة؛ وذلك لكون الفساد أكبر كابوس يؤرِّق المواطن العادي ويلقي مزيدًا من الأعباء على كاهله.
إن وعود الحكومات المتعاقبة بشنِّ الحرب على الفساد والقضاء عليه، باءت كلها بالفشل، بل أصبحت هي الأخرى عبئًا إضافيًّا على دافع الضريبة الذي يدفع رواتب وعلاوات أعضاء المفوضيات المعنية بمحاربة الفساد.
ولكينيا تاريخ طويل في محاولة محاربة الفساد، من عهد كينياتا إلى الوقت الراهن. ففي عهد الرئيس الأسبق دانيل أرب موي، تشكَّلت الهيئة الكينية ضد الفساد ولم تحقق نتائج ملموسة بل ازدادت وتيرة الفساد فتجاوز الدوائر الرسمية ليعم جميع مفاصل الدولة، ثم في عهد الرئيس السابق مواي كباكي صدر قانون المفوضية الكينية للأخلاق ومحاربة الفساد، كخطوة أولية لمجابهة الفساد في مؤسسات الدولة، لكن بعد ظهور فضائح جديدة(15) خابت آمال المواطن الكيني.
ومع تعيين مدير النيابة العامة الجديد مؤخرًا السيد نور الدين حاجي، بدأت تحركات جادة في ملاحقة الفاسدين من كبار المسؤولين في الدولة؛ حيث أصدرت المفوضية الوطنية لمحاربة الفساد أمرًا باعتقال والي نيروبي السابق، وتقديمه للمحاكمة بتاريخ 9/8/2018م، بتُهَمٍ منها إساءة استغلال السلطة، والرشوة، والفشل في حماية المال العام، في خطوةٍ هي الأولى من نوعها في التعامل مع المتهمين بالفساد(16).
ويمكن تلخيص أسباب اتشار الفساد في؛ عدم وجود إرادة رسمية جادة في محاربته، إذ كبار المسؤولين في مختلف الوزارات متورطون في قضايا فساد مما يجبرهم على الوقوف في وجه أيّ جهد لإيقاف الفساد بل والتستر على الفاسدين.
وإن الإجراءات البيروقراطية شديدة التعقيد في الجهات الرسمية المقدِّمة للخدمات من العوامل التي ساهمت في انتشار الفساد؛ إذ يتسارع مراجعو تلك الجهات إلى دفع الرشاوي مقابل حصولهم على الخدمات أو تفاديًا للإجراءات الطويلة ذات التكلفة الباهظة (17).
وقد طُرِحَتْ حلولٌ كثيرة للخروج من حالة الفساد المزرية في طول البلاد وعرضها على الصعيدين المحلي والدولي، وفيها من المفيد الكثير لو تبنَّتها الحكومة الحالية ونفَّذتها بطريقة سليمة، ويرى الأكثرون أن الحلَّ يكمن في تعديل المناهج التعليمية، بإضافة مقرَّرات تخدم هذا الاتجاه، ولو في إطار مواد الدراسات الاجتماعية في المدارس الابتدائية؛ حيث تتم تنشئة الأطفال على بُغْض الفساد بتعليمهم آثاره السيئة على حاضر البلاد ومستقبلها، ومنها الانتقال إلى نظام لامركزي في تقديم الخدمات بنقل المكاتب المهمة إلى مراكز المحافظات، والتفكير في إنشاء مراكز تُقدِّم الخدمات المختلفة تحت سقف واحد، وفعلاً هناك تجربة فيما يخص هذا الحل الأخير؛ حيث حوَّلت الحكومة مكاتب البريد قديمًا إلى مراكز تقديم الخدمات في المدن الكبرى (18).
ثانيًا: التعليم
نظام التعليم في كينيا يُعَدُّ من أرقى النُّظُم جودةً في إفريقيا، هذا من حيث المبدأ، لكن ثَمَّة مشكلات تواجه قطاع التعليم بمختلف مستوياته لم تَلُحْ بوادر حلولها في الأفق حتى لحظة كتابة هذه السطور.
فلا تزال وزارة التعليم في اشتباك مع نقابة المعلمين حول زيادة رواتبهم وتحسين ظروف أعمالهم، وكلما وعدت الحكومة عادت وأخلفت، وذهبت التفاهمات بين الطرفين حبرًا على ورق.
ولقد سجَّل عام 2017م إضرابات متكررة في التعليم العالي، مما أدَّى إلى توقُّف التعليم في الجامعات الحكومية لشهور، حتى قام مجلس مدراء الجامعات العامة بإطلاق مبادرة ناشد فيها الأساتذة بالعودة إلى أعمالهم رعايةً لمصالح الطلاب، وإتاحةً للفرصة لمزيد من المفاوضات مع الجهات الرسمية المعنية، بشرط أن لا يُلَاحَق الأساتذةُ وتُصْرَفُ رواتبهم كاملة لفترة الشهرين التي استغرقها الإضراب. ومن الواضح أن دور الحكومة في إيجاد الحل كان محدودًا، وكان الأجدر بها أن تبدأ مفاوضات جادة مع نقابة المُعَلِّمين لإيجاد حلٍّ دائم (19).
وتحدثت الصحف المحلية عن تهديدات بالإضراب، أطلقتها نقابة المعلمين الوطنية، لا طلبًا لزيادة الرواتب هذه المرة، بل احتجاجًا على سياسات حكومية جديدة؛ مِن ضِمْنِها قرارات بنقل المعلمين بشكل غير مسبوق مما أثَّر على حياتهم الاجتماعية، وناشدت النقابة الحكومة أن تتوقف عن الإضرار بالتعليم من حيث لا تدري(20).
صحيح أن للحكومة الحق في وضع سياسات تراها مناسبة لتسيير قطاعاتها المختلفة، ولكن يجب عليها في نفس الوقت أن تركِّز على المشكلات الأساسية، ومن الواضح أن تحسين معيشة المُعَلِّم وتحفيزه ماديًّا ومعنويًّا أوْلَى من القفز لاتخاذ قرارات هامشية لن تغير من الواقع المرير شيئًا(21).
ثالثًا: قطاع الصحة
إنَّ القطاع الصحي في كينيا ليس بأحسن حالاً من نظيره التعليمي؛ فالمعركة بين وزارة الخدمات الصحية لا تعرف طريقها إلى الانتهاء، وكلما هدأت كلما اشتعلت من جديد، لتقع على المواطن البسيط بآثارها الكارثية.
ويمكن تلخيص مشكلات هذا القطاع في إهمال أطباء القطاع العام، وفتح الباب على مصراعيه أمام القطاع الخاص ليتاجر على حساب صحة المواطن البسيط.
وقد نظَّمت نقابة الأطباء إضرابات متكررة؛ كان آخرها الإضراب الذي امتد إلى 100 يوم، وانتهى باتفاق مع الحكومة في 15 مايو 2017م، بعد معاناة شديدة في كثير من المستشفيات العامة، ولم يكن ضروريًّا ذلك الانتظار الطويل، وترك صحة المواطن على المِحَكِّ، خاصةً وأن المليارات تذهب إلى جيوب الفاسدين من أبناء الطبقة الحاكمة، بينما يُلْزَم الطبيبُ بالعمل بلا حدود في ظل ظروف معيشية لا تُحْتَمَل.
ومن إيجابيات الاتفاق: تحديد ساعات العمل للطبيب بـ40 ساعة أسبوعيًّا، مع إمكان عمله ساعات إضافية مدفوعة الأجر(22) ، والمأمول من الحكومة الحالية أن تحترم الاتفاق ولا تتراجع عنه بدعوى العجز في الموازنة العامة، تفاديًا لحصول مشكلات مشابهة في المستقبل القريب(23).
جدير بالذكر أن التفاهمات التي سبَق أن أشرنا إليها لم تشمل الممرضين ومساعدي الأطباء حاملي الدبلومات الصحية، رغم أن هذه الفئة هي الأكثر مسئولية في المستشفيات الحكومية، وبعضها يعاني من عدم وجود نقابة مهنية تطالب بحقوقهم وتحميها.
إن قرار الحكومة باستقدام أطباء من كوبا أثار انتقادات مِن قِبَل المعنيين بالقطاع الصحي؛ حيث اتهموا الحكومة بتفويت فُرَص العمل على الخريجين العاطلين لصالح الأجانب، ورغم أن لكوبا وجودًا ملحوظًا في كثير من الدول الإفريقية، في تحرُّك منها لكسر الحصار الاقتصادي المفروض عليها والخروج من العزلة الدولية، إلا أن كينيا لم تفكر في التعاون معها إلا مؤخرًا، فقد أرسلت كوبا 100 طبيب متخصص للعمل في أرياف كينيا، ونشر خبراتهم الطبية خاصةً فيما يتعلق بأمراض المناطق المدارية(24).
رابعًا: حماية المستهلك
على الحكومة الحالية التحرُّك السريع لحماية المستهلك الكيني من جَشَع التجار، بإزالة الفساد الإداري في المنافذ البرية والبحرية، وتأمينها من الخروقات التي تؤدِّي إلى غرق الأسواق المحلية ببضائع لا تستوفي شروط المكتب الوطني للمعايير، كما أنَّ عليها متابعة الفضائح المتعلقة بهذا الشأن مما ضجَّ به البرلمان بمستوييه مؤخرًا.
السكر الملوث
تناقلت وسائل الإعلام خبرًا بوصول أطنان من السكر الملوث بالنحاس الزائد إلى الأسواق المحلية. فوجدت الحكومة نفسها تحت ضغط شديد من النشطاء على كافة المنابر الإعلامية المتاحة مما أجبرها على فتح نقاش حول القضية، لكنَّ التناقضات في تصريحات الإدارات المعنية لَفَتت انتباه كثير من وسائل الإعلام المحلية والدولية؛ إذ خرَج وزير الداخلية ليعلن عن ضبط كمية 1000 جوال من السكر الملوث ببعض مخازن نيروبي وغيرها من المدن، ليأتي وزير الصناعة آدم محمد وينفي صحة ما صرَّح به نظيره، كما اضطربت مواقف المكتب الكيني للمعايير، حين أكَّد مديره الخبر بعد أن نفاه المكتب سابقًا. كما أشار رئيس الأغلبية في البرلمان السيد آدم بري دعالي إلى علمه ببعض المخازن التي تحتضن السكر المذكور(25).
وتكوَّنت لجنة مشتركة من البرلمان ومجلس الشيوخ، وأجرت تحقيقات مع المسؤولين المعنيين ومجموعة من المستوردين، ولكن بقيت الحقيقة مطوية ربما لأن بقائمة المستوردين أسماء لا يمكن المساس بها.
ووفقًا لبعض التحليلات قد تكون القضية مصطنعة أصلاً لإلهاء الرأي العام الذي انصبت اهتماماته حينها على قضية اختلاس قرابة نصف مليار شلن كيني من صندوق الشباب الوطني، في شكل عقود مقاولات ضخمة تورطت فيها جهات رسمية بالمشاركة مع بعض الشركات، وتمَّ تقديم بعضهم للمحاكمات بعد تحرُّك مدير النيابة العامة الجديد الذي لم تستبشر بعض الأوساط الرسمية بتعيينه.
وفي 9 من أغسطس 2018م قدمت اللجنة المشتركة من البرلمان ومجلس الشيوخ تقريرها حول السكر الملوث، وردت فيه أسماء كبار المسؤولين في الدولة، وبعد ضجة شديدة تم رفض التقرير بدعوى أنه تم التلاعب به(26).
على أية حال تظل إخفاقات الحكومة في ضبط الموانئ البحرية والبرية تُشَكِّل خطرًا على حياة المواطن، ويجب أن يكون هذا الموضوع في دائرة اهتمامات الحكومة الجديدة.
خامسًا: حقوق الإنسان
إن دولة كينيا طرفٌ في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وسائر المواثيق والبروتوكولات المنبثقة منه، ما يُلْزِمها باحترام الحقوق والحريات الواردة بها، وبدستورها الذي ينصُّ على الحقوق الأساسية للمواطن في الفصل الرابع منه.
ويَمُرُّ ملف حقوق الإنسان في كينيا بانتكاسة لا تُحْمَد عقباها، قد تمتد آثارها لتتخذ بُعدًا إقليميًّا لتؤثر على علاقتها بدول الجوار.
وقد حدثت مؤخرًا انتهاكات شديدة بحق علماء دين مسلمين في مناطق الشمال والساحل الجنوبي تمثَّلت في القتل خارج إطار القانون والاختفاء القسري؛ حيث سجَّلت منظمات حقوقية دولية 31 حالة تصفية جسدية خارج إطار القانون، و11 حالة اختفاء قسري في 2017م فقط.
وتحدثت كذلك عن 2500 حالة قتل خارج إطار القانون منذ سنة 2013م.
إنَّ هذه أرقام مذهلة لا يمكن السكوت عنها في ظل دولة حديثة خاصةً مع التطور الهائل في مجال الاتصالات، لكنَّ منظمات المجتمع المدني مقصرة في وظائفها أو متورطة مع مرتكبي تلك الانتهاكات في التزام الصمت، وعدم تغطيتها بشكل تتطلبه أخلاقيات مِهَنهم، وما كان من اهتمام منها بهذه القضايا كان على استحياء، في منشورات إخبارية على الشبكة العنكبوتية بعيدًا عن الإعلام المرئي والمسموع(27).
لا يخفى ربط النظام الكيني بين ظاهرة حركة الشباب في الصومال وحملاته البشعة على من يسميه أعوانها في كينيا، بل تعتبر الحكومة حركة الشباب “حيوانًا كبيرًا ذيله في الصومال ورأسه في مركز إسلي التجاري”، في إشارة إلى منطقة في شرق نيروبي تؤوي عددًا كبيرًا من الصوماليين، ممن نقلوا إليها مشاريعهم التجارية بعد انهيار النظام في الصومال عام 1991م.
على هذا الأساس جيَّشَت كل آلياتها التشريعة والتنفيذية للقضاء على حركة الشباب وأنصارها في كينيا، واستعانت بتمرير قانون الأمن لسنة 2014م سيئ السمعة وسط انتقادات كثير من منظمات حقوق الإنسان التي أكَّدت على خطورته على الحريات الأساسية الواردة بالمواثيق الأممية والدستور الكيني.
ومن أخطر ما ورد بالقانون تمديد مدة السجن الاحتياطي إلى 90 يومًا في القضايا الماسَّة بالأمن الوطني، كما منَح المخابرات الوطنية صلاحيات واسعة في السيطرة على المتهمين وممتلكاتهم وخصوصياتهم(28).
إن تدخل كينيا العسكري في الصومال لحقته عمليات انتحارية انتقامية تبنَّتها حركة الشباب في أكثر من موقع، خاصةً في الحدود المتاخمة مع كينيا؛ حيث استهدفت الحركة قوات الحرس الحدود ونقاط الشرطة، وتُوِّجَتْ تلك العمليات باقتحام مركز “وستغد” التجاري في 21 سبتمبر 2013م راح ضحيته 71 قتيلاً، وجرح 200 آخرين. ثم في 2 أبريل 2015م شنَّت الحركة هجومًا آخر على جامعة غاريسا بمدينة غاريسا من كبريات مدن الشمال، وتسببت في مقتل 148 وإصابة 79.
هذه وغيرها من الأحداث جعلت الحكومة تستشيط غيظا على حركة الشباب وأنصارها في البلاد، وأدَّت إلى تصفية بعض أئمة المساجد في الشوارع بتهمة التحريض ضد الوطن عبر خطب الجمعة التي تَحُثُّ الشباب للانضمام إلى حركة الشباب المجاهدين في الصومال.
إن أحقية كينيا في الدفاع عن أمنها القومي ضد التهديدات الخارجية تَكْفُلها المواثيق الدولية، بَيْدَ أنَّ تدخُّلها العسكري في الصومال خطوة غير مُوفَّقة في نظر كثير من المحللين، ذلك أن الخسائر التي تتكبدها كينيا في قواتها، والأثر السيئ الذي تركه هذا التدخل على العلاقة بين الشعبين تجعله من باب إزالة الضرر الأخف بالأشد منه.
ولكن لا تزال الفرصة متاحة أمام الحكومة الجديدة لتتخذ قرارًا بسحب القوات والاكتفاء بتقوية الحرس الحدودي لتنظيم حركة التجارة بين البلدين عبر المعابر البرية المشتركة، ولإخراج المسألة من الحسابات السياسية التي تم إقحامها فيها؛ كما يراها المحللون.
الخلاصة :
رغم ما مرَّت به البلاد من الاضطرابات السياسية إثر انتخابات 2017م، إلا أن الهدوء الذي صاحب حدَث المصافحة بين الرئيس وزعيم المعارضة أمرٌ إيجابي يجب على الحكومة استغلاله لصالح الشعب؛ وذلك بتنفيذ وعودها الانتخابية مراعية في ذلك الأولوية والمساواة بين جميع المناطق.
وإن كيان المعارضة السياسية في كينيا قابل للترميم بعد ما حصل له من هِزَّات أفقدته الاتجاه الصحيح، وأضعفت دوره في الساحة السياسية، ومع ذلك يمكنها التماسك من جديد وتأجيل الصراعات السياسية لتتمكن من مراقبة أداء الحكومة.
وإن الجدير بالحكومة أن تستثمر حدَث المصافحة في التقريب بين فُرقاء السياسة، والتوصل إلى حلِّ نهائي بشأن العنف السياسي وسائر القضايا التي تثير القلق في مواسم الانتخابات، لكي يطمئن الشعب على مستقبله.
الإحالات والهوامش:
(*) باحث كيني متخصص في شؤون شرق إفريقيا .
(1) https://africacenter.org/spotlight/ghanas-peaceful-transition-power-effect-building-trust-accountability/
(2) https://www.cia.gov/library/publications/the-world-factbook/geos/print_ke.html
(3) https://www.standardmedia.co.ke/article/2001229148/exposed-power-struggles-that-set-jaramogi-oginga-odinga-and-jomo-kenyatta-on-warpath
(4) https://www.nytimes.com/2002/12/30/world/kenya-s-ruling-party-is-defeated-after-39-years.html
(5) Elizabeth lindenmayer and josie liana kaye, the story of forty one days of mediation in kenya,p:5
(6) The Carter center, the final report on Kenya 2017 presidential and parliamentary elections, pg:1
(7) https://www.standardmedia.co.ke/article/2001248476/al-ghurair-to-print-presidential-ballot-papers-after-iebc-wins-appeal
(8) www.tuko.co.ke
(9) https://www.nation.co.ke/news/politics/Why-Nasa-quit-presidential-race/1064-4133624-y97ub3/index.html
(10) https://www.capitalfm.co.ke/news/2017/11/uhuru-kenyatta-sworn-kenyas-president-second-term/
(11) https://www.nation.co.ke/news/politics/Famous-Uhuru-Raila-handshake-leaves-opposition-in-limbo/1064-4570644-n1itws/index.html
(12) https://www.the-star.co.ke/news/2018/07/08/raila-will-be-on-ballot-in-2022-mp-atandi_c1783604
(13) https://www.the-star.co.ke/news/2018/02/21/ditch-nasa-for-jubilee-to-save-your-political-future-machakos-elders_c1718391
(14) حوار أجرته قناة “ستزن” المحلية مع زعيم المعارضة، رايلا أودنغا بتاريخ 31/7/2018م.
(15) https://en.wikipedia.org/wiki/Corruption_in_Kenya
(16) https://www.nation.co.ke/news/Kidero-arrested-over-graft-claims/1056-4703876-10f42irz/index.html
(17) Sir kempe ronald hope, kenyas corruption problem causes and consiquences,2014, p:496
(18) Mutia mamu mutinda- dr josphat kaswira, strategic role of huduma centre initiatives on public service delivery among residents of nakuru town, p: 35
(19) https://www.nation.co.ke/news/education/Lecturers-call-off-strike-/2643604-4567220-fmqsdv/index.html
(20) https://www.nation.co.ke/news/education/Teachers-strike-threat-over-transfers–appraisals/2643604-4379408-4sr2wkz/index.html
(21) https://www.standardmedia.co.ke/article/2001288297/strike-looms-as-teachers-plan-protests-over-transfers
(22) https://www.aljazeera.com/news/2017/03/kenya-doctors-strike-deal-government-170314084246054.html
(23) https://www.the-star.co.ke/news/2018/02/15/doctors-union-suspends-strike-notice-for-dialogue_c1715142
(24) https://www.voanews.com/a/cuban-doctors-arrive-in-kenya-to-chagrin-of-doctors-union/4426943.html
(25) https://www.standardmedia.co.ke/article/2001284008/matiangi-seized-contraband-sugar-contain-mercury-copper
(26) https://www.standardmedia.co.ke/ktnnews/video/2000159649/-national-assembly-rejected-a-report-by-joint-committee-probing-contraband-sugar
(27) https://www.hrw.org/world-report/2017/county-chapter/kenya
(28) https://www.hrw.org/news/2014/12/13/kenya-security-bill-tramples-basic-rights