د. رتيبة برد (*)
لقد عرف النظام العالميّ الجديد منذ فترة التسعينيات مرحلةً جديدة، يميّزها بزوغُ بيئةٍ جديدةٍ من الخصائص والمستجدات والتفاعلات الدولية والإقليمية، أدّت إلى توفير الظروف الملائمة لاسترداد علاقات الهيمنة الأوروبية، إذ وجدت الدول الأوروبية- التي طالما احتفظت بسيطرتها وهيمنتها على القارة الإفريقية- أنها أصبحت في مواجهة تحدياتٍ جديدة، أهمّها تنامي الهيمنة الأمريكية، والمنافسة الشديدة من جانب القوى الاقتصادية الجديدة، كاليابان (1) والصين (2)، لذلك يعمل الاتحاد الأوروبي على استرداد علاقاته (الاستغلالية) بالقارة الإفريقية وتدعيمها (3)، بعد أنّ قلّ اهتمامه بها في فترةٍ سابقة.
ننطلق في هذا المقال من إشكاليةٍ تتمحور عموماً حول: ما أهمّ المحاور والأطر التي تجمع الاتحاد الأوروبي بالقارة الإفريقية؟ وما فحوى الاستراتيجية الأوروبية الجديدة؟ وما الذي قدّمته لإفريقيا التي لا تزال رهن وضعها؟
سنستعين في تحليل موضوعنا والإجابة عن إشكاليته باستخدام المنهج الوصفيّ التحليليّ؛ بالتركيز على أبعاد العلاقات الأورو-إفريقية، وتعميق المعرفة بها، من خلال دراسة الظاهرة كما توجد في الواقع بوصفها وصفاً دقيقاً، كيفيّاً أو كميّاً، سنتطرّق عموماً إلى كلّ الأمور المتعلقة بتاريخ هذه العلاقات، ومراحلها وأطرها وطبيعتها؛ في ظلّ التنافس الكبير على القارة بعد انتهاء الحرب الباردة.
أولاً: ملامح الاهتمام المتبادل.. والتباين الإدراكي:
يمكننا التركيز على مفهوم (المصلحة الوطنية) بوصفها دافعاً وهدفاً مباشرٍ للسلوك السياسي، والاهتمام المتبادل بين الطرفين؛ برغم الاختلاف الإدراكي المسجّل بينهما، وهذا على النحو الآتي:
بالنسبة للاتحاد الأوروبي: تكمن مصلحته في التصدي ومواجهة التنافس الآسيوي، وبخاصّة الصيني (4) ، فالصين تمثّل ثالث أكبر شريكٍ لإفريقيا، أضف إلى ذلك الرغبة في فتح الأسواق الإفريقية أمام المنتجات الأوروبية، خصوصاً أنّ حجم السوق الإفريقية يبلغ 20% من إجمالي السوق العالمية، كذلك التصدي للاهتمام الأمريكي بإفريقيا (5).
نجد من جهةٍ أخرى: أنّ إقرار الاتحاد الأوروبي بناءَ سياسةٍ خارجيةٍ وأمنيةٍ مشتركة ودعمها؛ لا يمكن تحقيقه إلا من خلال الربط بين القوة الاقتصادية الأوروبية والبعد السياسي لهذه التجربة الوحدوية الرائدة، مما يساعد في معرفة المصالح الأوروبية في القارة الإفريقية وفَهْمها، والتي تتلخص في: البحث عن أسواق لتصريف المنتجات الأوروبية، والحصول على المواد الأولية، وكذا الوصول إلى الموارد الطبيعية الاستراتيجية التي تمتلكها إفريقيا، واستغلال المواد الخامّ التي تزخر بها، ولاسيما: (النفط، اليورانيوم، الذهب، الماس).
أما بالنسبة للطرف الإفريقي: فتكمن مصلحته في سعي الدول الإفريقية، بعد استقلالها، إلى البحث عن المعونة والخبرة الأوروبية للقيام بإصلاحات اقتصادية واجتماعية وسياسية، ومطالبة الأوروبيين بإلغاء ديوﻧﻬا الخارجية أو إلغاء جزء منها، هذه الأخيرة كونها العائق أمام تحقيق تنمية شاملة، وحلّ النزاعات القائمة، وكذا محاربة الفقر والبطالة والأمراض الفتاكة.
فنجد من بين دوافع اهتمام الطرف الإفريقي بالاتحاد الأوروبي: الرغبة في جذب الاستثمارات الأوروبية إلى أراضيه، وعدم اقتصارها على قطاع التعدين، والرغبة في فتح الأسواق الأوروبية الكبيرة أمام المنتجات الإفريقية، عن طريق الحصول على تسهيلات تجارية واقتصادية، وتنويع علاقات الدول الإفريقية الخارجية وتوسيعها؛ بالرغم من تأكيد خبراء الاقتصاد لاتهاماتهم الموجهة للاتحاد الأوروبي: بأنه لا يمضي قُدماً في علاقاته الاقتصادية بإفريقيا نحو علاقات متكافئة، وذلك حتى تستمر القارة الإفريقية منتجاً للمواد الأولية، ومجرّد سوقٍ لتصريف المنتجات الأوروبية المصنّعة، بالرغم من كون الاتحاد الأوروبي الشريك التجاريّ الرئيس لإفريقيا.
إنّ التباين الإدراكي الإفريقي-الأوروبي مرشّح للازدياد لأسباب عدة، لعلّ أبرزها: تشدّد الطرف الأوروبي في الحصول على المزايا التي تتيح له توسيع التجارة غير المتكافئة مع الطرف الإفريقي؛ في مواجهة تشدّد الطرف الإفريقي في أنّ توسيع التجارة يجب أن يتمّ في ظلّ اعتماد عملية تنموية شاملة؛ تتيح لشعوب القارتين تحقيق التكامل الاقتصادي والتجاري العادل.
لعلّ فشل الاتحاد الأوروبي في استغلال فرصة القمة الأورو-إفريقية (29-30 تشرين الثاني–نوفمبر 2010م)، لإغراء الأطراف الإفريقية، يُعدّ داعماً لاشتداد التنافس حول إفريقيا، من خلال جهود تنشيط مبادرة شراكة الولايات المتحدة-دول شمال إفريقيا (مصر، ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب وموريتانيا)، ويتيح أيضاً العمل بوتائر أسرع في برنامج التعاون الاقتصادي الصيني مع الدول الإفريقية الرئيسة (جنوب إفريقيا، السودان، الكونغو الديمقراطية، أنجولا، موزنبيق، إثيوبيا، غينيا)، وهي الدول التي لو ارتبطت بالشراكة مع الصين؛ فإنّ موارد القارة الإفريقية سوف تكون قد أصبحت عمليّاً في يد الصين، والتي قطعت شوطاً كبيراً في مشروع التعاون الصيني-الإفريقي؛ من خلال انتقائها للتعاون مع الدول الإفريقية ذات الوزن والتأثير في بقية دول القارة الإفريقية.
ثانياً: أُطر الشراكة (الأوروبية – الإفريقية).. وهل تزيد من أزمات القارة:
أ) اتفاقيات لـومي:
يمثّل إطار اتفاقيات لومي (Traités de Lomé) (6) أحد أهمّ القنوات المتعددة الأطراف للعلاقات الأوروبية مع دول إفريقيا (7) في ظلّ مجموعة (ACP).
لقد جاءت اتفاقيات لومي بصفةٍ متجددةٍ ومتتاليةٍ عبر عدة أجيال:
الجيل الأول: عُرف باسم: (سياسات الارتباط)، إذ سمحت معاهدة روما المنشِئة للسوق الأوروبية بتوقيع بعض البلدان من الـ ACP على المعاهدة المذكورة، حيث استفادت تجاريّاً، وكذلك من حيث المساعدات التي أقرتها الدول الستّ المكوّنة للسوق الأوروبية.
الجيل الثاني: تمثّل في اتفاقيات ياوندي (الأولى والثانية)، فيما بين عامي: (1963م / 1973م)، وكانت أغلبية المستفيدين (الأفارقة وغيرهم) من هذه الاتفاقيات من الدول الناطقة بالفرنسية.
الجيل الثالث: تمثّل في اتفاقيات لومي، أُطلقت لومي الأولى في 28 فبراير 1975م، وضمّت 46 دولة من دول الـ ACP، وارتفع العدد ليبلغ نحو 69 دولةً موقّعةً على معاهدة (لومي الرابعة) (1995م / 2000م)، والتي اشتملت على مضمونٍ سياسيٍّ للحوار في (المادة الخامسة) التي تشير لضرورة احترام حقوق الإنسان وتطبيق الديمقراطية وحكم القانون.
وما يزال الحوار جارياً بين الطرفين (8) حول نمطٍ جديدٍ من اتفاقيات ما بعد (لومي الرابعة)، التي خصّصت مبالغ مالية فعلية لدعم برامج التكيّف الهيكليّ؛ وصلت لنحو 1150 مليون يورو، أي بنسبة 14% من جملة المخصّصات المالية.
لقد وفّرت اتفاقيات لومي المتجددة، منذ 1975م، إطاراً استفادت منه الدول الإفريقية، سواء في النظام التجاريّ المعمول به، أو المعونات المالية الممنوحة لأغراض التنمية، وقد مثّلت هذه المساعدات نسبةً تصل إلى ما بين (10% – 15%) من إجمالي المعونات المالية المتدفقة على إفريقيا السوداء؛ في ظلّ لومي الثالثة (9) .
كما أصدرت المفوضية الأوروبية: (الورقة الخضراء) (10) بتاريخ 20 نوفمبر 1996م، وطالبت الورقة دول الـACP بضرورة تحسين سياساتها الداخلية وأسلوب إدارتها للاقتصاد، وتحسين شروط التنمية، وتهيئة المجال أمام القطاع الخاصّ لجذب الاستثمارات، كما طالبت الورقة دول الـACP بضرورة الأخذ في الحسبان نموّ الاقتصاد العالميّ، وتوسيع دائرة العلاقات الاقتصادية الخارجية، كما طالبت بتطوير دعم الحوار السياسيّ بين الجانبين من أجل تحقيق مستقبلٍ أفضل للشراكة بين دول الاتحاد الأوروبي ودول الـACP .
لعلّ أهمّ النقاط المتعلقة بهذه الورقة، والتي أثارت الجدل حولها، ما يأتي:
– استمرارية المزايا التفضيلية: المزايا الأوروبية التفضيلية للدول الإفريقية تلاشى أثرها الإيجابي بعد 2004م، على ضوء قواعد منظمة التجارة العالمية (11) ، مما شكّل فراغاً للفترة التي تلت (لومي الرابعة) المنتهية في 2000م، مما أدى بالطرف الأوروبي إلى المطالبة بتقسيم دول الـ ACP إلى فئاتٍ حسب ظروفها الاقتصادية، والتعامل معها كفئات مختلفة، الأمر الذي عارضته دول الـ ACP (12).
وعلى الرغم من المزايا التجارية في (اتفاق لومي)؛ فإنها لم تطبَّق كثيراً، وليس أدلّ على ذلك من أنّ نصيب إفريقيا والكاريبي والباسيفيكي من التجارة الأوروبية قد انخفض من (7%) عام 1980م ليصل إلى (3%) فقط عام 1997م (13) .
– مبدأ الحوار السياسي: تُعدّ معاهدة لومي اتفاقية تنموية، لكن بعد أن طرحت (الورقة الخضراء) مبدأ دعم الحوار السياسي بين الدول الأطراف في الشراكة الجديدة، التي تحوّلت لاحقاً إلى «المشروطية السياسية» و «المشروطية الاقتصادية» (15)، إذ أنّ بعد (لومي الرابعة)، وفي ظلّ التفويض الممنوح للاتحاد الأوروبي بخصوص الشراكة المستقبلية، فإنه يتحدث عن العناصر التقليدية للحوار السياسيّ والحكم الجيد، ويتجاوز ذلك ليشمل الحوار أموراً أخرى، كحلّ الصراعات والمسائل الإنسانية.. إلخ، بذلك أصبحت الدول الأوروبية تُجري عملية مساومة سياسية تجعل من الاتحاد الأوروبي الشريك الدوليّ الأول والأكبر لإفريقيا، وهذا مقابل قضية المشروطية، الأمر الذي دفع بدول القارة السمراء إلى قبول الدخول في حوارٍ سياسيٍّ مع دول الاتحاد (15) ، الأمر الذي يشكّل تقسيماً محققّاً لدول (ACP) بصفةٍ عامّة، والإفريقية خصوصاً، بعد انسلاخ دول جماعة التنمية لدول الجنوب الإفريقي (SADC).
لعل أبرز ما تهدف إليه الاتفاقية الجديدة (16) ما يأتي:
– إحداث تغييرٍ جذريٍّ في تنظيم العلاقة بين أوروبا وإفريقيا؛ إذ تمّ إلغاء نظام تفضيلات لإفريقيا من جانبٍ واحد، كما كان في اتفاقية لومي القديمة، ليحلّ محلّه اتفاقٌ إقليميٌّ للتجارة الحرّة بين الجانبين؛ بعد فترة انتقالية مدتها 8 سنوات.
– القضاء على الفقر في إفريقيا، ومساعدتها على الاندماج في الاقتصاد العالمي، من خلال التحرير التدريجي لتجارتها مع أوروبا، مع مراعاة الظروف الاقتصادية في هذه الدول.
– تقديم منحٍ مالية لإفريقيا ودول بحر الكاريبيّ والمحيط الهادئ، قدرها 13.5 مليار يورو، خلال الفترة من 2000م إلى 2007م، إلى جانب 9 مليارات منح سابقة لم تستفد منها هذه الدول. كما نسجّل قرار المجلس الأوروبي، في اجتماعه لسنة 2005م، التزامه بزيادة حجم المساعدات بـ 20 مليار يورو سنويّاً حتى عام 2010م، ثم يرتفع بـ 46 مليار يورو سنويّاً حتى عام 2015م، لكن هذه المساعدات التي يقدّمها لا تسير بشكلٍ عادي، بل يجب على تلك الدول لكي تستمر في تلقيها: احترام مجموعة من التوصيات، وتحقيق مستويات معينة من الأداء الاقتصاديّ والسياسي، وهو ما يؤسّس في حقيقة الأمر لاستعمارٍ جديد (17) .
أما أبرز المبادئ المكرّسة في إطار (لومي): فهي تلك المتعلقة بضرورة إرساء مبدأ المشروعية في تنصيب الحكومات الدستورية في بلدان الـ ACP؛ كأساسٍ للاعتراف بهذه الحكومات؛ لأنّ الأمر يتعلق بضرورة توفير مناخ الاستقرار السياسيّ والاقتصاديّ الملائم للتنمية، مما من شأنه دعم هذه العلاقات الأورو-إفريقية، ومما يساهم في تحقيق المصالح المشتركة (18)، ومن شأنه المساعدة في معالجة ظاهرة النزاعات الإفريقية والتقاتل الناتج عن ظاهرة الانقلابات العسكرية، كما في مالي ونيجيريا، وغيرهما.
أما مطالب الدول الإفريقية من هذا الإطار الذي يربطها بالاتحاد الأوروبي؛ فنجدها تنحصر في نقطتَين أساسيتَين:
1- التخلّص من النظرة التقليدية والإطار القانوني الموروث عن عهد الاستعمار.
2- العمل على وضع قواعد أكثر إيجابية للقانون الدولي، لتدعيم العلاقات التعاونية بين الدول (19) .
ب) اتفاقية كوتونو:
تمّ التوقيع على اتفاقية شراكة جديدة، تربط بين الاتحاد الأوروبي ودول الـACP ، بتاريخ 23 يونيو 2000م، بمدينة كوتونو.
ولقد قام الاتحاد الأوروبي بتقديم بعض الدعم والمساعدة للقارة الإفريقية، برغم محدوديتها على أرض الواقع، في إطار اتفاقية (كوتونو) التي تغطّي الفترة من 2000م إلى 2020م (20)، وتضمّ الاتفاقيتان نحو 77 دولة، منها 48 دولة إفريقية، و 15 دولة من دول الكاريبي، و 14 دولة من دول المحيط الهادئ، والجزر التي يُطلق عليها: (أقاليم ما وراء البحار) (21) ، إلا أنّ وضع إفريقيا ضمن دائرة اهتمام واسعة لا تحظى باهتمامٍ خاصّ.
لقد جاء إطار كوتونو مخالفاً، أو بالأحرى أوسع من سابقه، ففي حين كانت اتفاقية لومي تخصّ باهتمامها الجانب الاقتصادي؛ جاءت اتفاقية كوتونو لتشمل إضافة إلى ذلك: الجانب السياسي، على النحو الآتي (22):
المحور السياسي:
استحدثت اتفاقية كوتونو إطاراً للحوار السياسي، الذي يعني: الدخول في حوارٍ شاملٍ عميقٍ ومتوازنٍ، أساسه تبادل الآراء والتفاهم المشترك، تترتب عليه التزامات على عاتق الطرفَيْن الأوروبي والإفريقي، إذ يضمّ هذا المحور جملة من الملفات المتمثلة عموماً في:
– الديمقراطية وحقوق الإنسان والحكم الراشد: يتضمّن الحوار على هذا المستوى تقييماً منتظماً لمبادئ الديمقراطية والحكم الراشد وحكم القانون، وكلّ ما يتعلق بقضايا دعم الاستقرار وتجاوز النزاعات، عبر دعم المشروعية السياسية وفق آليات المشاركة السياسية، مرفقة بضرورة دعم الإصلاحات المؤسسية (السياسية والقانونية التشريعية).
– تسوية النزاعات: نصّت الاتفاقية على ضرورة السعي لوضع سياسة متكاملة لبناء السلام، وتسوية النزاعات، ومنعها منذ بروز تداعياتها، من خلال تبنّي أساليب وقائية قائمة على دعم الفرص الاقتصادية والاجتماعية، وعبر المساعدات التنموية، وعبر مضاعفة جهود الوساطة والتفاوض، وغيرها.
المحور الاقتصادي:
وركزت اتفاقية كوتونو أيضاً على ميادين اقتصادية، تعكسها عدة ملفات، أبرزها ما يأتي:
– تقويم أساليب الحكم والإدارة: من خلال تبنّي الحكم الراشد المبني على الشفافية، ومحاربة كلّ المظاهر السلبية؛ كالرشوة والفساد بكلّ أنواعه.
– تصحيح إطار عمل التجارة الإقليمية الدولية، وتجاوز إخفاقات الإطار السابق لاتفاقيات لومي: مما يستوجب إعادة النظر في أطر العلاقات التجارية التي تربط دول الـACP ، من خلال تفعيل عمليات التكامل الإقليمي التي من شأنها تحسين الأساليب الإنتاجية والتنموية.
– تبنّي أدوات تمويلية جديدة، لدعم التنمية في إفريقيا: ولقد تمّ تقديم تصوّرٍ جديدٍ في ظلّ اتفاقية كوتونو لتجاوز عيوب الأدوات التقليدية، مثل نظام Stabex )يعدّ اختصاراً لنظام استقرار أرباح التصدير، أي نظام التعويض الماليّ لتحقيق الاستقرار في عائدات التصدير لدول ACP، طُرح في عام 1975م من قبل اتفاق لومي، وألغي عام 2000م عند توقيع اتفاق كوتونو(، أما نظام Sysmin فهو (يعمل على استقرار أرباح تصدير منتجات التعدين، اعتمد في الفترة ما بين 1980-1995)(23) ، إذ أصبحت موارد صندوق التنمية الأوروبي وبنك الاستثمار الأوروبي تُوجّه للدول الإفريقية المعنية حسب أغراض النظامَيْن وأهدافهما؛ المتمثلة في زيادة قدرة استيعاب الاستثمارات الأجنبية، وكذا لرفع الدخل القومي، ومعدلات الادخار القومي.
– محاربة ظاهرة الفقر: التي تمسّ فئةً كبيرةً من شعوب إفريقيا، إضافة لمظاهر التهميش الاجتماعي.
– ترشيد استغلال المساعدات والمعونات، مع ترشيد استخدام الموارد: من خلال وضع معايير للموافقة على استخدام المساعدات، تأخذ بعين الاعتبار الأداء الكليّ للاقتصاد.
– تعزيز التكامل الاقتصاديّ: إذ يسعى الاتحاد الأوروبيّ – ظاهريّاً – إلى تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية، من خلال تكامل التجارة والأسواق(24) .
– تخفيف عبء الديون المتعلقة بالدول الإفريقية في إطار مبادرة الدول الأكثر فقراً.
بصفةٍ عامّةٍ: تعدّ هذه الاتفاقية الجديدة بمثابة اتفاق شراكة بين الاتحاد الأوروبي والدول الإفريقية، تهدف – نظريّاً – إلى:
– إحداث تغييرٍ جذريٍّ في تنظيم العلاقة بين أوروبا وإفريقيا؛ حيث تمّ إلغاء النظام الذي يمنح تفضيلات لإفريقيا من جانبٍ واحدٍ- كما كان في اتفاقية لومي القديمة-، وذلك ليحلّ محلّها اتفاقٌ إقليميٌّ للتجارة الحرّة بين الجانبَيْن بعد فترة انتقالية مدتها 8 سنوات.
– المفترض أن تؤدي هذه الشراكة إلى انتعاش الاقتصاد الإفريقي والتنمية الاجتماعية، إلا أنّ العكس هو الذي حدث، ودخلت أغلب الدول الإفريقية في أزمات الغذاء والمديونية، التي كانت وراء نموّ العنف والإرهاب والجريمة المنظمة.
ثالثاً: طبيعة الشراكة (الأوروبية – الإفريقية):
انطلقت هذه الشراكة الاستراتيجية، في مؤتمر قمّة أوروبية إفريقية (25)، لتشكّل أول لقاءٍ على أعلى مستوى من الشمول جمَع الطرفين، بمبادرةٍ من الاتحاد الأوروبي، انعقد الاجتماع بالقاهرة على امتداد يومَي (3 ، 4) أفريل/أبريل 2000م، بهدف بحث أسس هذه الشراكة الجديدة واستراتيجيتها، وكانت القمّة برعاية جهاتٍ عدة، أبرزها منظمة الوحدة الإفريقية والاتحاد الأوروبي، ولم تخرج موضوعاتها عن المعتاد في المؤتمرات الدولية، مثل مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD) وغيره.
وتأتي هذه الشراكة بالموازاة مع (قمّة الأمم المتحدة للألفية) التي تضمّنت جملةً من الإجراءات، من أبرزها: الإعفاء من الديون، ومساعدات التنمية الرسمية، وحثّ الدول المانحة على الوفاء بالمستهدف المتفق عليه دوليّاً، وهو 7% من إجمالي الناتج المحلي، وأقرّت بالبدء خلال عام 2000م بعمليةٍ في التجارة الدولية تضمن وصول الدول الأقلّ نموّاً إلى السوق الحرّة بحلول عام 2005م، الأمر الذي ما زالت نتائجه لا تلوح في الأفق القريب.
لقد جاءت الشراكة الاستراتيجية الأوروبية الإفريقية للإجابة عن تساؤلات شتّى مشتركة بين الطرفَيْن، في ظلّ الانسداد الذي يعرفه إطار (لومي)، بعد الاتفاقية الرابعة المنتهية في عام 2000م، من جراء الجدل الدائر حول القضايا المذكورة أعلاه.
ولقد أقرت القمّة جملة من الاقتراحات، هي:
– تشجيع تدفّق الاستثمارات، ونقل التكنولوجيا والتقنية إلى الدول النامية.
– دفع تنمية التقنيات المحلية، وتطوير البيئة الأساسية الاجتماعية.
– تطوير وضع المرأة، وتعزيز دورها في الحياة الاقتصادية.
– الحاجة إلى إصلاح المؤسسات المتعددة الجنسيات.
– إقرار الدول النامية بأهمية تعزيز الديمقراطية والحكم الراشد لتحقيق السّلْم والاستقرار.
– تأكيد ضرورة التعاون الإقليمي (جنوب/جنوب)، والتعاون (جنوب/شمال).
كما استوجبت هذه الشراكة الاستراتيجية الجديدة مع الاتحاد الأوروبي على الدول الإفريقية: العمل لأجل الرقيّ والتنمية الذي يسمح لها بالتعامل مع التغيرات الدولية، لذلك جاءت حتمية التحوّل من (منظمة الوحدة الإفريقية) إلى (الاتحاد الإفريقي) في 2002م لتطوير التجربة الإفريقية بشكلٍ أكثر مما سبق؛ لأجل تحقيق أهداف الألفية الجديدة.
كما ظهرت في الفترة نفسها- عام 2001م- مبادرة إفريقية جديدة وجديرة بالتتبع والاهتمام، أُطلق عليها اسم: (النيباد) (26) ، تسعى إلى تحقيق أهدافٍ تنموية كبيرة، بما فيها ما يتعلق بجلب الاستثمارات للقارة الإفريقية، والعمل على جعل إفريقيا قارّةً خاليةً من النزاعات، في ظلّ استقرارٍ سياسيٍّ واحترامٍ لمبادئ القانون الدوليّ العام، وكذا القضاء على الفقر (27) ، وتعزيز دور المرأة، ووضع الدول الإفريقية على طريق التنمية المستديمة، وإخراجها من خندق التهميش الدولي.
لذلك دعت مبادرة (النيباد) شركاءها إلى إقامة «شراكة عالمية جديدة» بين إفريقيا وشركائها في التنمية، تقوم أساساً على مبدأ تقاسم المسؤولية (28) إزاء الأوضاع الإفريقية، فعلى الشركاء الوفاء بتعهّداتهم بتصحيح النظام التجاريّ الدوليّ؛ بشكلٍ يسمح بنفاذ المنتجات والصادرات الإفريقية للأسواق الأوروبية والعالمية، والوفاء بتقديم مساعدات التنمية، مع العمل على خفض عبء المديونية التي تُثقل كاهل الدول الإفريقية، وتعوق تنفيذ خطط التنمية بها، وتعرقل تحقيق أهدافها.
إنّ الأمر كفيلٌ بتحقيق المنافع للأطراف الدولية من شراكتها الجديدة مع إفريقيا، من خلال العمل معاً لتدعيم قواعد الأمن والسّلْم العالميّين، إلا أنّ هذه النتائج لا يمكنها التحقّق إلا في حال إقامة شراكة حقيقية، بين إفريقيا والدول المتقدمة، بما فيها دول أوروبا، تكون مبنيّة على أساس الاحترام المتبادل.
وفي إطار الشراكة الجديدة من أجل تنمية إفريقيا (النيباد) أُنشئت: «الآلية الإفريقية للتقييم من قبل النظراء» (APRM) (29) ، في قمّة الاتحاد الإفريقي المنعقدة في «دربان» في جويلية/يوليو 2002م – تحت قرار رقم (7/57) للجمعية العامة للأمم المتحدة، بهدف تحقيق فرصٍ لإنجاح (النيباد)، وتُعدّ هذه الآلية حجر الزاوية في الشراكة الجديدة، تسعى لتشجيع جميع الممارسات والسياسات والمعايير التي تؤدي لتحقيق الاستقرار السياسيّ والنموّ الاقتصاديّ والتنمية، تعزّز هذه الآلية: التعلّم من الأقران، وبناء القدرات، من خلال ممارسة الحوار البنّاء والإقناع بين الشركاء، فهذه الآلية ليس المقصود منها أن تكون جهة رقابة، بل الغرض منها تشجيع المشاركة بين الحكومة والمجتمع المدني في البلد المقيم (30).
وجاءت قمة (إفريقيا-الاتحاد الأوروبي) الثالثة، المنعقدة في العاصمة الليبية طرابلس يومَي (29 ، 30) نوفمبر 2010م، دفعة جديدة لمستقبل العلاقات الإفريقية-الأوروبية وطبيعة الصراع الدولي حول موارد القارة الإفريقية، حيث أدرجت القمة في جدول أعمالها ما يتعلق بالنقاط الحسّاسة المتعلقة بملفات: السلام والأمن، الحكم الديمقراطي وحقوق الإنسان، التجارة والتكامل الإقليمي، البنيات التحتية، أهداف التنمية في الألفية الثالثة، الطاقة، التغيّر المناخي، الهجرة، الحراك السكاني والتوظيف، العلم ومجتمع المعلومات والفضاء (31) .
وبرغم جرأة الطرح؛ فإنّ المؤشرات تفيد بأنّ الطرفَيْن لم يتوصّلا، إلى حدّ الآن، إلى تحقيق التوافق والتوازن المطلوبَيْن لتأسيس الشراكة الإفريقية-الأوروبية الحقّة.
جاءت بدورها القمة الأورو-إفريقية الرابعة في بروكسل يومَي (2 ، 3) أبريل 2014م، في ظلّ تحديات كبرى (32) ، دفعت الأوروبيين إلى أن يولّوا وجوههم شطر إفريقيا مرّة أخرى، مما دفع الرئيس الفرنسي هولاند إلى طرح مبادرة إقامة تحالف أوروبي-إفريقي لمواجهة الأخطار والتحديات المشتركة للجانبَيْن، إلا أنه على الرغم من حضور قمة بروكسل أكثر من ثمانين وفداً، بينهم }61{ من رؤساء الدول وكبار المسؤولين، والتزامهم بإعلان خريطة الطريق الممتدة بين (2014م – 2017م)، والتي تحدّد الأولويات الاستراتيجية في خمسة مجالات، هي: (الأمن والسلام، والديمقراطية والحكم الرشيد، وحقوق الإنسان، والتنمية البشرية والتنمية المستدامة، والنموّ والتكامل القاري)، فإنها سوف تظلّ شعارات لا يُرجى من ورائها نفع ما لم يتمّ التعامل مع التحديات والمعوّقات التي تعترض إقامة شراكة حقيقية بين أوروبا وإفريقيا، وذلك يبقى دوماً التحدّي الجوهريّ والحقيقي (33) .
دلالات الشراكة الاستراتيجية الجديدة:
تحمل هذه الشراكة الجديدة التي تجمع بين الجانبَيْن إطاراً جديداً للعلاقات، يحمل في طياته جملة من الدلالات، لعل أبرزها ما يأتي (34) :
– تعكس هذه الشراكة الجديدة نهاية زمن انفراد بعض الدول الأوروبية بالحركة والفعل على الساحة الإفريقية، كما هو الحال بالنسبة لفرنسا وعلاقتها الخصوصية بالقارة السمراء، ولا يعني هذا نهاية دور القوى الأوروبية بوصفها قوى منفردة.
– طالما اعتبرت الدول الأوروبية نفسها أَوْلى الأطراف الدولية الأخرى وأحقّها ارتباطاً بالقارة الإفريقية بحكم التاريخ والقرب الجغرافي، إلا أنّ التحوّل الذي يعرفه النظام الدولي منذ نهاية الحرب الباردة، ومنافسة الولايات المتحدة، وبعض القوى الأخرى كالصين، ستكون لصالح القارة نفسها في ظلّ هذه الظروف، إذ إنّ التنافس سيدفع الأوروبيين لتحمّل مسؤوليتهم التاريخية تجاه القارة، كما أنّ الرغبة في الحفاظ على مصالحهم ستجعلهم أكثر حرصاً على العمل المشترك مع الأفارقة لأجلها.
– الحركة الأوروبية في هذا الإطار الشامل جديرة بخلق منافسة كبيرة داخل إفريقيا على القطب الأمريكي، في ظلّ توفّر البديل للقطب الأوروبي الذي يثير في دول إفريقيا حيرة من جراء الماضي الاستعماري المرير الذي خلّفه منذ فترة ليست ببعيدة.
والمصلحة الإفريقية ينبغي لها أن تكون مع الطرف الذي يقدّم ضمانات أكثر على صعيد تحسين الوضع الإفريقي الأليم في النظام الدولي الجديد، ويحقّق بعض المطالب الإفريقية المهّمة، وبخاصّة مسألة الاستثناء من عملية التحرير الكامل للتجارة، حتى تتأهل إفريقيا لهذا الوضع، وكذلك الإعفاء من الديون التي تكبّل الاقتصاديات الإفريقية (35) ، وقد حان الوقت لاتخاذ خطوات أكبر إزاء عدة مسائل، مثل المتعلقة بحدود المنافسة بين الأوروبيين والأمريكيين في إفريقيا؛ إذ هناك ضرورة لتجاوز منطق تقسيم البؤر الإقليمية المتفق عليها وفقاً لمبدأ مونرو (36).
فرص نجاح الشراكة الاستراتيجية الجديدة:
بعد عشريةٍ كاملةٍ من طرح مبادرة الشراكة الجديدة، التي تربط الطرفين الأوروبي والإفريقي منذ 2000م، تبقى إنجازاتها ضئيلة، ولا ترقى إلى مستوى الآمال المرجوة منها، بنسبةٍ أكبر بالنسبة للطرف الإفريقي – خاصّة – الذي ما زال رهن مكانه في ظلّ تزايد حجم التنافس والوعود الغربية عامّة، إذ لا تزال إفريقيا تعاني التخلف الاقتصادي، الذي ينعكس أثره في مؤشرات عدّة، مثل: تدنّي معدلات النموّ الاقتصادي، المستويات العالية للفقر، تفاقم الديون، تدنّي متوسطات دخول الأفراد… إلخ.
ولعل نجاح هذه الصيغة الجديدة للشراكة الأورو-إفريقية يتوقّف على مراعاة بعض الاعتبارات الأساسية لكلا الجانبين، يمكن عرضها كما يأتي (37):
– يجب أن يظلّ الاتحاد الإفريقي هو الراعي والجامع لأعضائه، ويجب أن تحظى مبادئه بالاحترام والتقدير الجماعي؛ لأنّ الخروج عن الوفاق الجماعي يعني تضييع المكاسب والمصالح.
– هناك ضرورة لوضع استراتيجية شاملة بين الدول الإفريقية، وفق تصوّرٍ مشتركٍ وواعٍ للمفاهيم الجديدة المطروحة في هذه الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، كالتدخل لأغراض إنسانية، وفَهْم صلتها ومبتغاها من عمليات التدخّل، فضلاً عن الموقف من الثقافات الوطنية واحترامها في ظلّ العولمة.
– يُشترط توفّر جوٍّ من الحوار والتشاور الدائم والمستمر في إطار لقاءات على المستويات كافة، حول كيفية التعاون في المجالات الأمنية وحفظ السلام، بالتنسيق بين مجلس الأمن والاتحاد الإفريقي.
– يجب أن تقوم وتُبنى هذه الشراكة الجديدة على مبدأ توازن المصالح بين الطرفين لا توازن القوى، وليس على أساس خدمةٍ لطرفٍ قويٍّ على حساب الآخر.
– يجب على الدول الإفريقية ألا تتشبث بصفةٍ عمياء بهذه الشراكة الجديدة مع الاتحاد الأوروبي على حساب التضامن الداخليّ والقاريّ بين دول القارة الإفريقية، أو حتى على حساب التوازن السياسي والعسكريّ بين الدول والأقاليم.
– ينبغي لهذه الشراكة ألا تؤثّر سلباً في المصالح الرئيسة لبعض الدول، أو في حقوقها التاريخية وعلاقاتها الخاصّة.
– سوف ينجح الطرفان الأوروبي والإفريقي في بناء شراكة استراتيجية جديدة وجديرة بالثقة والدوام؛ في حال ما إذا تمخضت عن آليةٍ مستمرة تكفل الحوار المنتظم، والمراجعة الدورية للمصالح المشتركة والقضايا محلّ الاهتمام.
رابعاً: تقييم الاستراتيجية الإفريقية للاتحاد الأوروبي:
الاستراتيجية الإفريقية للاتحاد الأوروبي حلقةٌ من حلقات دعم صعود القطب الأوروبي لصالح دعم مكانته الإقليمية والدولية، وشكلٌ من أشكال الهيمنة الجديدة الممارسة على الجنوب الذي لا يزال في مراحل التبعية التي ما تزال تغيّر أثوابها.
ما زالت إفريقيا القرن الحادي والعشرين تُستنزف وتعاني الاستغلال بكلّ مظاهره، اقتصاديّاً: من خلال سيطرة الشركات الأجنبية المتنافسة على استغلال الثروات، سياسيّاً: عبر الأجندات الغربية التي تتعمد زرع اللاستقرار المبرمج الهادف إلى توسيع الأزمات وتعميقها، ثقافيّاً: اعتماداً على آليات العولمة.
العلاقات الأوروبية الإفريقية.. والعودة إلى الهيمنة الاستعمارية:
المنتظر من هذه الأطر الرقيّ بالعلاقات الأورو-إفريقية للمستوى المطلوب، والكفيل بتحقيق أهداف الطرفين ومصالحهما، ولو أنّ معادلة: (الكتلة الأوروبية الموحدة من جهة – في مواجهة أطراف انفرادية) هي التي تطرح نفسها في علاقات الاتحاد الأوروبي، حيث يعدّ الاتحاد الأوروبي مستفيداً بقوة في سياسة التعامل الانفراديّ هذه التي تعدّ عامل تجزئة لا توحيد على مستوى الجنوب.
يبقى التوصيف الصحيح لطبيعة العلاقات الأوروبية الإفريقية هو: أنها نوعٌ جديدٌ من الهيمنة مهما اتخذت من مسمّيات وأشكال جديدة.
يدفع ذلك إلى البحث في محدّدات العلاقة ومستقبلها، بحيث تتحول من حالة الهيمنة إلى حالة الشراكة المتكافئة، ولتحقيق ذلك لا بد من تحقيق ثلاث نقاط أساسية:
1- تجاوز مواريث التاريخ الاستعماري، ولن يتأتى ذلك إلا من خلال إعلان الدول الأوروبية عن مسؤوليتها الأخلاقية والمادية عن سنوات الاستعمار، وكيف أنها أسهمت- على حدّ تعبير والتر رودني- في: «تخلّف إفريقيا».
2- الكفّ عن السياسة التدخلية الأوروبية في الشؤون الإفريقية بحجّة الترويج لنموذج الليبرالية الجديدة، والتي قد تتعارض مع القيم والمواريث الإفريقية التقليدية.
3- السماح للأفارقة باستخدام قوتهم التفاوضية من أجل تحقيق التنازلات من قِبل الاتحاد الأوروبي؛ لأخذ الأولويات التنموية الإفريقية بعين الاعتبار(38) .
لعلّ أبرز الملاحظات الواجب تسجيلها، والمتعلقة بالعلاقات الأوروبية الإفريقية، والتي تستوجب إعادة النظر فيها، ما يأتي:
– محدودية الدور الأوروبي في تحقيق السلام والاستقرار، ومواجهة التهديدات الأمنية التي تعانيها إفريقيا، وهذا مقارنة باهتمامها المتزايد باتفاقيات الشراكة والتعاون، فهذه الأخيرة تهتم أكثر بالميادين الاقتصادية والتجارية والمساعدات المالية.
– المفترض عند الحديث عن علاقات التعاون أن يجمع التطبيق الفعّال لأي شراكة: مساهمة كلّ الدول الأعضاء، في الشمال أو الجنوب على حدٍّ سواء، إلا أنّ الواقع عكس ذلك، فالاتحاد الأوروبي يمارس سياسة الإقصاء كلّما ظهر طرفٌ أو سياسة إفريقية لا تخدم استراتيجيته والمصالح الأوروبية، فهذه النظرة الإقصائية من شأنها كبح جهود التعاون والشراكة الحقيقية.
– التناقض بين الخطابات الأوروبية حول الاستقرار، والممارسات الميدانية الأوروبية الزّارعة للانشقاقات والخلافات الداخلية.
– معضلة شحّ الاستثمارات، التي تعرفها منطقة الشرق الأوسط، وإفريقيا، إذ تُعدّ المنطقة التي لا تتمكن من جذب الاستثمارات الخارجية، بسبب عدم الاستقرار السياسي، وعدم وجود تشريعات مناسبة لجذب رؤوس الأموال، ولهذا تذهب أغلب الدراسات إلى أنّ هذه المنطقة تدور في حلقة مفرغة (فالاستثمارات لا تأتي إليها لأنها غير مستقرة، وغياب الاستثمارات يؤدي بدوره إلى تكريس عدم الاستقرار).
– محدودية الفائدة المحققة نتيجة غياب التكامل الإفريقي، فالتفاوض بين الاتحاد الأوروبي- بوصفه قوة- ومجموعة من الدول من ناحية، وبين كلّ دولة إفريقية على حدة من ناحية أخرى، لا يخدم مصالح الدول الإفريقية، فعدم التنسيق أدى إلى فقدان الدول الإفريقية للعديد من المزايا.
عموماً تمثّل العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي نموذجاً للعلاقات غير المتكافئة، فمن خلال المقارنة بين هاتَيْن الكتلتَيْن يتضح لنا أنّ القارة الإفريقية تفوق القارة الأوروبية من حيث الجغرافيا والديموغرافيا، ولكن حين النظر إلى الجانب الاقتصاديّ يبدو الاختلاف جليّاً تماماً، بشكلٍ يعكس حقيقة الخلل في العلاقات بينهما، حيث نجد أنّ الناتج القوميّ الإجماليّ الأوروبيّ يزيد تقريباً أو أكثر بسبع عشرة مرة عمّا هو عند نظيره الإفريقي، وهذا برغم أنّ مساحة إفريقيا تبلغ عشرة أضعاف مساحة الاتحاد الأوروبي، مع الأخذ في الاعتبار ما يزخر به الباطن الإفريقي من خيراتٍ وثروات، كما أنّ عدد سكان إفريقيا ضعف عدد سكان الاتحاد الأوروبي– تقريباً-، لكن الدول الإفريقية تضمّ أفقر دول العالم، بينما يضمّ الاتحاد الأوروبي دولاً ذات مستويات معيشة مرتفعة عالميّاً (39).
خاتمة:
المعروف أنّ طبيعة العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والجنوب، بمفهومها الواسع، غير عادلة، وغير متكافئة، وتصبّ في صالح الاتحاد الأوروبي، فهذه العلاقات تشكّل نوعاً من الامتداد للعلاقات ذات الطابع الاستعماري، مما جعل منها مانعاً لإحداث التطور والتنمية في القارة الإفريقية، وعرقل محاولات التكامل الأفقي.
وبناءً عليه؛ فإنّ ما يجب أن تسعى إليه إفريقيا عامّة، ليس فقط كيفية الحصول على أكبر قدرٍ من المكاسب والمنافع من هذه الشراكة، وإنما يجب أن تستهدف إيجاد كيفية تحقيق تقدّمٍ ملموس في أحوالها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، مما يساعدها على بلوغ المساواة الحقيقية التي يمكن أن تبني شراكة حقيقية.
من هذا المنطلق: نرى أنّ هناك حاجة ملحّة ومستعجلة إلى تجاوز الخلافات الداخلية الضيقة بين الدول الإفريقية، إذ وحده هذا الأمر من شأنه أن يؤسّس لعلاقات خارجية حقيقية، لا نقول علاقة الندّ بالند، بل على الأقلّ علاقة تحفظ لإفريقيا مصالحها، في ظلّ حالة اللاتوازن التي تعرفها العلاقات الأورو- إفريقية.
الاحالات والهوامش:
(*) أستاذة العلاقات الدولية – كلية الحقوق والعلوم السياسية / جامعة مولود معمري – تيزي وزو / الجزائر.
(1) انحصر دور اليابان في البداية على تقديم المساعدات، إلا أنها مع أواخر الثمانينيات أعلنت سياسة جديدة تقوم على محاور ثلاثة: المساعدات، والتبادل الثقافي، وحفظ السلام. وعملت اليابان على دعم التنمية في إفريقيا، وإثارة انتباه المجتمع الدولي تجاهها بعد تهميشها؛ وذلك بدعوتها لعقد مؤتمر طوكيو الدولي الأول لتنمية إفريقيا (تيكاد) في 1993م، ثم عقد المؤتمر الثاني في 1998م. وعموماً تركز اليابان في علاقتها بإفريقيا على الجانب الاقتصادي مستخدمةً في ذلك عدة أدوات، أهمها: المساعدات والاستثمارات والعلاقات التجارية. وتعدّ اليابان الدولة الأولى المانحة للمساعدات في إفريقيا منذ بداية التسعينيات.
(2) تحوّل اهتمام الصين بالقارة من دعم حركات التحرير في إفريقيا في الخمسينيات إلى تبنّي سياسةٍ ترتكز على المصالح العامّة والاستراتيجية بعيدة المدى لكلا الطرفين، كما تطورت العلاقات الاقتصادية بينهما من الاعتماد على المساعدات الصينية الحكومية إلى التعاون المتبادل في صورة مشروعات مشتركة، وقروض بفائدة منخفضة، بالإضافة إلى تطور العلاقات في مجالات الثقافة والتعليم.
(3) تتوفر القارة الإفريقية على حوالي 10% من احتياطيّ النفط العالمي، و 8% من احتياطيات الغاز الطبيعيّ العالمية، وتنتج 80% من بلاتين العالم، وأكثر من 40% من ألماس العالم، و 20% من الذهب والكوبالت. انظر: علي حسين باكير: «التنافس الدولي في إفريقيا: الدوافع والأهداف والسيناريوهات المستقبلية»، مركز الجزيرة للدراسات (2آب/أغسطس 2009م)، http://www.aljazeera.net/NR/sxeres/2117487C-497F–
(4) طبقاً للإحصاءات؛ وصل حجم التجارة بين الصين وإفريقيا إلى: 55. 5 مليارات دولار عام 2006م.
(5) ظهر ذلك بوضوح منذ 1996م عندما قام وزير الخارجية الأمريكي “وارين كريستوفر” بزيارة بعض الدول الإفريقية، ثم تلا ذلك زيارات متلاحقة لمسؤولين أمريكيين، أبرزها زيارة كلينتون في 1996م لستّ دولٍ إفريقية، تلاها انعقاد القمة الإفريقية-الأمريكية في الولايات المتحدة عام 2000م، التي دعا فيها كلينتون إلى إسقاط 70 مليار دولار عن الأفارقة.
(6) نسبة إلى (لومي – بالفرنسية: Lomé) عاصمة دولة توغو Togo؛ في غرب إفريقيا.
(7) تؤكد الدول الإفريقية، في ديباجة ميثاق الوحدة الإفريقية، وحول علاقاتها مع الآخر، مبدأ «الحفاظ على استقلالها، وسيادتها، والوحدة الإقليمية للدول الإفريقية، وأن تقاوم الاستعمار الجديد بكلّ صوره».
(8) انطلق الحوار بين الطرفين، وبدأت المفاوضات بشأن نمطٍ جديدٍ من لومي منذ 30 سبتمبر 1998م، بين الاتحاد الأوروبي ونحو 71 دولة من دول الـ ACP، وذلك في ظلّ بيئةٍ عالميةٍ جديدة، عبر مفاوضات متعدّدة المستويات داخل كلّ جانب على حدة، وعبر المؤسسات المشتركة بين الجانبين، وتمّ اختيار ست دول لتمثيل المجموعة، وهي: (باربادوس) عن الكاريبي، (الكاميرون) وسط إفريقيا، (مالي) غرب إفريقيا، (ناميبيا) الجنوب الإفريقي، غينيا الجديدة (بابوا) دول المحيط الهادئ، و (أوغندا) عن شرق إفريقيا.
(9) محمود أبو العينين: إمكانيات نجاح الحل الإفريقي الموحد لأزمة المديونية في ظلّ المتغيرات الراهنة في النظام الدولي، بحث قدّم لندوة مشكلة المديونية الخارجية للدول الإفريقية، 5/7 ماي/مايو 1990م، جامعة القاهرة – كلية الاقتصاد والعلوم السياسية مركز البحوث والدراسات الاقتصادية والمالية، ص 14.
(10) تعكس الوثيقة وجهة نظر دول الاتحاد الأوروبي في المخاطر المتوقعة من جراء المتغيرات السياسية والاقتصادية التي تطرحها البيئة العالمية الجديدة أو المضامين المستقبلية للشراكة على ضوء هذه المتغيرات.
(11) في ظلّ الاصطدام بالمنافسة الأمريكية وسياسات المؤسسات المالية الدولية (البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي).
(12) أعربت الدول الإفريقية عن موقفها في مجلس وزراء منظمة الوحدة الإفريقية في (9 /10 مارس 2000م)، حين دعت إلى ضمان عدم المساس بالتضامن الإفريقي والتعاون الإفريقي كما ورد في معاهدة (أبوجا).
(13) حمدي عبد الرحمن حسن: القمّة الأفروأوروبية الأولى.. صراع الأولويات، في: www.islamonline.net.
(14) ظلّ الجدل مستمراً منذ الستينيات حول ما إذا كانت العلاقة الأورو-إفريقية، والروابط الاقتصادية والعسكرية والثقافية التي أبقتها الدول الأوروبية مع إفريقيا بعد استقلالها، تعكس استعماراً جديداً للقارة (new Colonialisme).
(15) من بين القرارات التي توصّلت إليها دول ACP المجتمعة في 1997م في ليبرفيل (Libreville): قبول الحوار السياسي المطروح، وتمّ تحديد مفهومه بأنه: «ليس أحاديّ الجانب، ولا يمثّل شرطاً مسبقاً، وإنما هو أداة لتنظيم القيم المشتركة، كالديمقراطية،…»، بوجهٍ عامٍّ طبّق مبدأ الحوار السياسي، في سياق الحوار الدائر بين الاتحاد الأوروبي ودول جماعة التنمية لدول الجنوب الإفريقي (SADC)، ليكون أول حوار بين أحد أقاليم دول (ACP) وبين الاتحاد الأوروبي.
(16) كان الغرض من طرح الولايات المتحدة لقانون النموّ والفرص في إفريقيا منافسة إطار اتفاقيات لومي؛ مما يعدّ مظهراً من مظاهر التنافس الاقتصادي بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية في المنطقة.
(17) مجدى الشيمى: القارة الإفريقية استقلال تام أو استعمار أوروبي جديد، النيل اليوم، في: http://www.nile.today/%D9%
(18) حازم علتم: التعاون الاقتصادي لأغراض الإنماء: دراسة في القانون الدولي للإنماء، (دار النهضة العربية الطبعة الأولى، 2006)، ص 301.
(19) آمال يوسفي: بحوث في علاقات التعاون الدولي، (الجزائر: دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع، 2008م)، ص 17.
(20) مقسمة على أربع مراحل متساوية.
(21) المرجع نفسه، ص (199 ، 200).
(22) آمال يوسفي، مرجع سابق، ص (18 – 29).
(23) آليتين اعتمدتا منذ السبعينيات، في إطار اتفاقيات لومي، ولم تتمكنا من مواجهة طلبات الدول الإفريقية بالسرعة اللازمة.
(24) تنصّ المادة 23 على أنه: ينبغي على البلدان النامية، من أجل تعزيز التعبئة الفعلية لمواردها الذاتية، تقوية تعاونها الاقتصادي، وتوسيع المبادلات التجارية فيما بينها، بشكلٍ يؤدي إلى تعجيل تنميتها الاقتصادية والاجتماعية، وعلى جميع الدول، ولاسيما المتقدمة، تقديم الدعم والتعاون اللازمَيْن.
(25)جمع لأول مرة دول الاتحاد الأوروبي مع دول القارة الإفريقية.
(26) لقد تمّ اعتماد وثيقة (النيباد) الاستراتيجية الإطارية في القمّة 37 لمنظمة الوحدة الإفريقية المنعقدة في زامبيا في يوليو 2001م، وفي اجتماع أبوجا (نيجيريا)، في 23 أكتوبر 2001م، تمّ إعلان الصيغة النهائية للمبادرة، مع تغيير اسمها إلى: الشراكة الجديدة لتنمية إفريقيا (النيباد) New partnership for Africa Development(NEPAD)
(27) انخفضت نسبة السكان الذين يعيشون في حالة فقر مدقع إلى النصف خلال الفترة (1990م – 2015م).
(28) تدعو مبادرة (النيباد) الدول المتقدمة والمنظمات المتعددة الأطراف إلى تحمّل مسؤوليات وتنفيذ التزامات في مجالات معينة، عدّدت منها الوثيقة اثني عشر مجالاً، تضمّها الفقرة (185) من الوثيقة، في مقابل هذه المسؤوليات من الالتزامات؛ فإنّ القادة الأفارقة يتعهدون من جانبهم بتنفيذ الإجراءات التي وردت في الفصل الثالث من المبادرة (فقرة 49).
(29) African peer review mechanism.
(30) محمد المهدي شنين، عصام بن شيخ: الآلية الإفريقية للتقييم من قبل النظراء، في: http://bohothe.blogspot.com/2010/04/ blog-post _8316.html. – . 21 أفريل 2010م
(31) القمة الإفريقية-الأوروبية ومستقبل العلاقات بين دول القارتين، مرجع سابق.
(32) طرأت على المنطقة تحولات معتبرة؛ أبرزها: إعادة تشكيل بنية الشمال الإفريقي بفعل ثورات الربيع العربي، وتداعياتها الأمنية والجيواستراتيجية على منطقة الساحل والصحراء.
(33) حمدي عبد الرحمن: أوروبا وإفريقيا وجهاً لوجه نحو شراكة أم هيمنة جديدة؟، معهد العربية للدراسات، في: http://studies.alarabiya.net/hot، الأحد 06 أبريل 2014م.
(34) محمود أبو العينين: العلاقات الأوروبية الإفريقية بعد انتهاء الحرب الباردة، مرجع سابق.
(35) من جهته ألغى الاتحاد الأوروبي مبلغ يعادل 65 مليار دولار على الدول الأطراف في لومي.
(36) مبدأ مونرو: يعبّر عن الوفاق الأمريكي الأوروبي الذي أعلن منذ القرن التاسع عشر، في 23 ديسمبر 1823م، يرتكز على تقسيم العمل بين الولايات المتحدة (في أمريكا اللاتينية)، وأوروبا (في إفريقيا ومناطق أخرى)، وعلى حدّ رأي ”جورج بول”، أحد مسؤولي إدارة كيندي، اعتبرت الولايات المتحدة أنّ القارة الإفريقية مسؤولية خاصّة بالأوروبيين؛ نظير اعتراف الدول الأوروبية بمسؤوليتها الخاصّة في أمريكا اللاتينية.
(37) محمود أبو العينين: للعلاقات الأوروبية الإفريقية بعد انتهاء الحرب الباردة، مرجع سابق.
(38) حمدي عبد الرحمن: أوروبا وإفريقيا وجهاً لوجه…، مرجع سابق.
(39) محمود أبو العينين في: حمدي عبد الرحمن حسن (محرر)، إفريقيا والعولمة، (القاهرة: برنامج الدراسات المصرية الإفريقية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، 2004م، ص 197.