يمكن القول بأن حالة جنوب السودان, وما تطرحه من تدخّلات دولية وخارجية واضحة, تمثل صورة مصغّرة للمشهد الإفريقي العام في عصر الهيمنة الأمريكية؛ بيد أنها تضيف مع ذلك ملامح ودلالات أخر؛ نظراً لارتباطها المباشر بمنظومة الأمن القومي العربي والإسلامي، وكونها نقطة التقاء وتمازج بين عوالم حضارية متعددة: العروبة والأفريقانية والإسلام.
لقد اتسمت معظم سنوات ما بعد الاستقلال في السودان بعدم الاستقرار السياسي وانتشار الحروب الأهلية, ولم تتوقف الأعمال العدائية إلا في الفترة من 1972 – 1983م, وذلك نتيجة توقيع اتفاقية أديس أبابا بين الحكومة السودانية وحركات التمرد الجنوبية.
وفي خلال فترة الصراع الأولى 1955 – 1972م طالبت حركة التمرد الرئيسة «أنيانيا»، والتي تعني بلغة قبيلة «المادي»: (السم القاتل الذي ليس له علاج)، بالحكم الذاتي للجنوب, ومعارضة سياسات الأسلمة والتعريب التي انتهجتها الحكومات السودانية المتعاقبة بعد الاستقلال(1).
ويُلاحظ أن الدعوة لتحرير جنوب السودان قد اتخذت أبعاداً سياسية وعسكرية مهمة في مواجهة السياسات الحكومية, وهو ما أفضى إلى تأسيس أحزاب وحركات سياسية جنوبية متعددة، مثل: الاتحاد الوطني الإفريقي السوداني (سانو), وجبهة تحرير أزانيا (ألف) (Azania Liberation Front) ، وهي جبهة تكوّنت خارج السودان حين توحّدت جبهة التحرير الإفريقية (A.L.F) مع حزب (سانو) ليكوّنا ما سُمّي «أزانيا»، وحزب الوحدة السوداني، ورابطة السودان الجنوبي التي تأسست في لندن بتمويل من بعض رجال الأعمال البريطانيين، وأخيراً حركة تحرير جنوب السودان، وهي الجناح العسكري لـ «حركة أنيانيا»(2).
واندلعت أحداث المرحلة الثانية من الصراع في جنوب السودان عام 1983م بعد قيام الرئيس جعفر النميري بإعلان تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على عموم السودان، حيث أفضى ذلك إلى تنامي مشاعر الوطنية المعادية في أنحاء الجنوب ومناطق جبال النوبة؛ الأمر الذي قاد إلى تأسيس «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بزعامة جون قرنق، ولا يخفى أن الصراع في هذه المرحلة كان أشدّ قسوة؛ حيث خلّف وراءه ملايين القتلى والنازحين والمشردين، وقد ظل هدف تحرير الجنوب من هيمنة الشمال هدفاً قائماً في المرحلة الثانية من عمر الحرب الأهلية في جنوب السودان.
وقد دأبت أطراف الصراع الأساسية في جنوب السودان على كسب دعم الأطراف والقوى الخارجية وتأييدها بغية تحقيق مصالحها وأهدافها النهائية.
وعليه فإننا نحاول في هذا المقال توضيح العمليات والسياسات التي أفضت إلى تدويل الحرب الأهلية في الجنوب؛ من خلال إبراز الأدوار والسياسات الخارجية الفاعلة في مسار الصراع ومآلاته.
أولاً: حقيقة الصراع في جنوب السودان:
لفهم حقيقة الصراع في جنوب السودان, سواء في مرحلته الأولى أو الثانية, نشير إلى عدد من الاعتبارات المهمة:
أولها: أن معظم الأدبيات التي تناولت الحرب في جنوب السودان – ولا تزال – تضفي عليه بعداً إيديولوجياً وسياسياً، فكثيراً ما يتم تصويره في إطار ثنائيات جامدة، كالانقسام بين العروبة والإفريقية، أو بين الإسلام والمسيحية، أو بين الشمال والجنوب وهكذا، وفي هذا السياق يقول أحد الباحثين: «إن حرب السودان عادة ما توصف بأنها صدام بين الشمال العربي المسلم والجنوب الإفريقي الأسود ذو الاعتقاد المسيحي والوثني»(3).
أما المفكر الجنوبي السوداني «فرنسيس دنق» فإنه يؤكّد في كتابه عن حروب الرؤى على أهمية العوامل الدينية والإثنية في تشكيل الصراعات المختلفة التي شهدها المجتمع السوداني(4).
وثانياً: ثمة مجموعة من العوامل التاريخية تشكّل مدخلاً مهماً لفهم الصراع وتطوره ومآله في الجنوب، ولعل أبرزها المكونات الثقافية والحضارية التي شكّلت المجتمع السوداني قبل الاحتلال البريطاني, بالإضافة إلى السياسة البريطانية تجاه الجنوب تحديداً, والتي جعلت منه منطقة معزولة يحظر على الشماليين الوصول إليها إلا بإذن مسبق.
أي أن السياسة البريطانية التي كانت تقوم عموماً على الحكم غير المباشر كانت تهدف إلى تطوير هوية جنوبية منفصلة عن الشمال, وربما كانت تفكر في ضم هذا الكيان الجنوبي الهش إلى أوغندا أو الحبشة (إثيوبيا).
أما الاعتبار الثالث: فإنه يشير إلى إخفاق مشروع الدولة الوطنية في السودان بعد الاستقلال، وعدم قدرته على تحقيق الاندماج القومي بين مختلف مكونات الجسد الاجتماعي، وذلك من خلال تأكيد تقاليد المواطنة والهوية الوطنية الجامعة، وعدم انتهاج سياسات التهميش أو الإقصاء لأي طرف من الأطراف.