أ. عبد القادر محمد علي
باحث اريتري ومحلل سياسي مختص بالشؤون الإفريقية
أعادت تصريحات سيرجي لافروف في ختام زيارته إلى إريتريا أواخر يناير الماضي الجدل حول الطموح الروسي في إنشاء قاعدة أو مركز دعم لوجستي على شاطئ البحر الأحمر.
المكان الذي عُقد فيه المؤتمر الصحفي للافروف ونظيره الإرتيري عثمان صالح كان يحمل الكثير من الدلالات؛ فعلى غير المعتاد تم عقد لقاءات لافروف مع الرئيس الإرتيري أسياس أفورقي في مدينة مصوع على ساحل البحر الأحمر لا في العاصمة أسمرة.
ومن هذا الميناء العتيق أعلن لافروف أن “من الضروري العمل بالتفصيل على إمكانيات استخدام الإمكانات اللوجستية لميناء ومطار مصوع”، واصفاً الأخير بأنه هام “من حيث قدراته في الترانزيت”، قبل أن يضيف “لقد أكدنا الخطط التي يتم تنفيذها في مجال التعاون العسكري والعسكري-التقني”، ليعلن أخيراً عن توقيع التوأمة بين مدينة مصوع وسيفاستوبول التي تضم مقر أسطول البحر الأسود الروسي في القرم.
وهكذا يفرض السؤال نفسه حول إمكانية احتواء إريتريا لمركز دعم لوجستي روسي سيكون الأول في إفريقيا وعلى شاطئ البحر الأحمر، ولا سيما بالنظر إلى العلاقات المتينة بين الطرفين حيث كانت إريتريا الدولة الإفريقية الوحيدة التي عارضت قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا في جلستها المنعقدة في فبراير من العام الماضي، قبل أن تنضم إليها مالي هذا العام.
طموح روسي:
في إطار بناء روسيا لنظرتها الجديدة للعالم ولدورها فيه في عهد الرئيس فلاديمير بوتين برزت طموحات موسكو لتوسيع نفوذها الجيوسياسي خارج حدودها، وهكذا مثّل ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014 نقلة استراتيجية في الانتقال بسياستها الخارجية خطوة إلى الأمام نحو إثبات وجودها كأحد اللاعبين الأساسيين على الساحة الدولية، تلا ذلك تدخلها العسكري في سوريا 2015 الذي غيّر بشكل جذري مسار الحرب في البلاد وأبرز قوة روسيا في الشرق الأوسط.
هذه المحاولة الروسية للانتقال من دور القوة الإقليمية إلى التمظهر كقوة عالمية تجلَّت بشكل واضح في توجه موسكو نحو إفريقيا، الذي بلغ ذروته في القمة الإفريقية الروسية الأولى في سوتشي، أكتوبر/تشرين الأول 2019، ومن أصل 54 دولة إفريقية شاركت في القمة، وهي كل دول القارة، مثَّل 43 منها قادتُها.
ونتيجة محدودية قدرات موسكو الاقتصادية قياساً بمنافسيها الرئيسيين الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقد مثّل سوق الخدمات الأمنية العسكرية أبرز أوجه حضورها إفريقياً، ومدخلاً لتوسيع نفوذها الجيوسياسي ومكاسبها الاقتصادية من القارة السمراء، وضمن هذا السياق يندرج الحديث عن محاولات موسكو بناء قاعدة عسكرية في إفريقيا وعلى شاطئ البحر الأحمر تحديداً.
وذكر مقال نشرته الناشيونال انتيرست عام 2020 بالاعتماد على تقرير مسرب عن وزارة الخارجية الألمانية، معلومات عن نية روسيا بناء 6 قواعد عسكرية في دول إفريقية هي مصر وجمهورية إفريقيا الوسطى وإريتريا ومدغشقر وموزمبيق والسودان، في حين لم تكلل محاولات موسكو بالنجاح مع عدد من الدول، منها جيبوتي، نتيجة الضغوط الأمريكية.
تظل أنجح الخطوات الروسية في هذا السياق اتفاق الخرطوم وموسكو على بناء مركز دعم لوجستي على الساحل السوداني، والذي تم طرحه من قبل الرئيس السوداني السابق عمر البشير عام 2017، ثم تم تفعيله في ديسمبر 2020 من قبل الرئيس فلاديمير بوتين ليزيد في حرارة التنافس بين موسكو واشنطن على السودان حيث مارست إدارة جو بايدن ضغوطها التي أفضت إلى تجميد المشروع في حينه.
الخيار الإرتيري:
وهكذا بعد هذه الرحلة الطويلة من الفشل حمل الخيار الإرتيري بعضاً من الأمل في تحقيق حلم الكرملين، حيث سبق للافروف نفسه أن أعلن عام 2018 عن خطط لبناء مركز لوجستي عسكري في إريتريا، وهو ما أعيد إحياؤه مرة أخرى 2021 بتصريحات السفير الإرتيري في موسكو بيتروس تسغاي التي أعلن فيها أن بلاده لا تعارض استضافة هذا المركز على أراضيها.
الخيار الإرتيري يتمتع بالعديد من الميزات فالشاطئ الإرتيري شديد القرب من باب المندب المدخل الجنوبي للبحر الأحمر أحد أهم الممرات المائية في العالم، كما أنه بداية الطريق إلى المحيط الهندي، وهذا الموقع الحساس سيساهم في دعم العمليات الروسية في أماكن أخرى من المنطقة، وبناء منصة لجمع المعلومات الاستخباراتية لمراقبة أنشطة القوات الأميركية أو الصينية أو الفرنسية أو اليابانية، وكذلك السعودية والإماراتية، في البحر الأحمر وشبه الجزيرة العربية وحولها والوضع الأمني في جميع أنحاء القرن الإفريقي.
من جهة أخرى النظام الحاكم في إرتريا قادر على تنفيذ أو فرض أي اتفاقية نتيجة غياب أي نوع من المعارضة السياسية أو قوى المجتمع المدني القادرة على مساءلة الحكومة حول هذا النوع من القرارات.
وأخيراً فالعلاقات بين موسكو وأسمرة تمتد عبر مروحة واسعة من القطاعات تبدأ من التسليح ولا تنتهي بالسياسة الدولية والرؤية المشتركة لعالم جديد متعدد الأقطاب والإيمان بوجود مؤامرة غربية تستهدف البلدين، وتستدعي تاريخاً طويلاً من العداء والمكائد.
أسمرة وتفكيك سياسة الغموض:
في ظل كل ما سبق يظل الموقف الإرتيري هو الغامض في هذه المعادلة، فلم تورد وزارة الخارجية الإرتيرية في بيانها في ختام زيارة لافروف أي إشارة إلى ملف المركز اللوجستي الروسي، في حين يظل تصريح السفير الإرتيري في موسكو الوحيد الصادر عن مسؤول حكومي إرتيري حول الموضوع.
فكيف نفكك هذا الغموض؟ ربما يكون النظر في تجارب سابقة مفيداً في فهم سلوك أسمرا.
إنّ استضافة قواعد عسكرية في إرتيريا هو “تكتيك” استخدمته إرتيريا سابقًا لنسج علاقات تحالف مع قوى دولية، أو إقليمية، تتجاوز الدور الوظيفي للقاعدة إلى تأمين نوع من الحماية في بيئة القرن الأفريقي المضطربة، ولا سيما من الجارة الكبرى إثيوبيا في مرحلة ما قبل توقيع اتفاقيات السلام عام 2018. فبعد الحرب الحدودية 1998-2000 بين إرتيريا وإثيوبيا، عرضت إرتيريا على الولايات المتحدة إقامة قاعدة على أراضيها في إطار “الحرب على الإرهاب” لكن المحاولة لم تنجح.
الوضع كان مغايراً في الحالة الإماراتية حيث عقدت أسمرا اتفاقاً معها عام 2015 بشأن استضافة قاعدة عسكرية قرب ميناء عصب الإرتيري؛ وذلك لانطلاق طائرات التحالف العربي لقصف اليمن ضمن عملية عاصفة الحزم من جهة، وفي إطار الاستراتيجية الإماراتية للتوسع في القرن الإفريقي والبحر الأحمر من جهة أخرى.
بالنسبة للجانب الإرتيري، قدّم هذا الاتفاق حزمة من الفوائد، حيث منحت العائدات المالية لتأجير أرض القاعدة وانخراط إريتريا في تحالف إقليمي قبلة الحياة، إثر فترة من الإنهاك الاقتصادي والعزلة السياسية اللذين عانتهما أسمرة عقب سنوات من العقوبات الدولية، بالإضافة إلى ما سبق استخدم الرئيس أفورقي هذا الاتفاق ليبعث برسالة إلى الجوار المعادي، ولا سيما إثيوبيا التي كانت تترقب تآكل النظام وانهياره من الداخل في تلك المرحلة، مفادها أن أسمرة لديها القدرة على نسج تحالفات مع قوى إقليمية نافذة ما وفر نوعاً من الحماية للنظام الإرتيري.
وبالنظر إلى ما سبق فإن نجاح هذا الاتفاق يمكن تفسيره جزئياً في ضوء ما يصفه البروفيسور أليكس دي وال بأنه تحوّل للقرن الأفريقي إلى “سوق سياسية” Political Market.
وبالعودة إلى الحالة الروسية فقد تزامن تصريح السفير الإرتيري في موسكو مع تزايد الضغوط الأمريكية الأوروبية على أسمرة وأديس أبابا على خلفية موقف البلدين من الحرب في تيغراي، وهو تصريح يتناغم مع الاستراتيجية الروسية القائمة على نسج علاقات تعاون وثيقة مع “الدول المحاصَرة”، في رسالة تقول: “إذا تعرضت لانتقادات بسبب سجلك في مجال حقوق الإنسان، وإذا تعرضت للنقد بسبب أي من الأشياء التي يتمسك بها الغرب، فهناك دائماً خيار آخر”.
وهكذا فإن مشروع الحلم الروسي بموطئ قدم على البحر الأحمر سيظل ورقة و”خياراً آخر” تناور به أسمرة واشنطن وحلفاءها لتضمن به الحفاظ على ما تراه المصالح العليا للبلاد وعلى رأسها استمرارية نظام الرئيس أسياس أفورقي، وعند شعور الأخير بالتهديد الجدي للمصالح المذكورة ستأخذ مطامح الكرملين الروسية طريقها إلى التحقق على شواطئ المياه الحارة.