مقدمة:
أضحت القوة الناعمة من أهمّ القضايا المحوريَّة التي تشغل القادة وصُنّاع القرار في دول العالم كافة، لا سيَّما في ظل التغيُّرات المُتسارعة التي يشهدها المُجتمع الدولي مُنذ انتهاء الحرب الباردة، والتي أفضت إلى تراجع دور القوة بمفهومها التقليدي القائم على استخدام الأدوات الاقتصاديَّة والوسائل العسكريَّة، فالقوة الناعمة، كما يصفها «جوزيف ناي» -الذي يُعزَى إليه صياغة هذا المصطلح-؛ أصبحت وسيلة النجاح في السياسة الدوليَّة، وعاملًا مُهمًّا للارتقاء بمكانة الدولة وتحقيق أهدافها؛ اعتمادًا على ما تمتلكه من الأصول والموارد غير المُدركة للقوة، كالقِيَم الثقافيَّة والأيديولوجيَّة، والإعلام، والدبلوماسيَّة، والابتكار والتفرد، بما يسمح لها بتعزيز جاذبيتها وإظهار تأثيرها وقدرتها على بناء علاقات من الثقة والاحترام المُتبادل مع الدول الأخرى دون الحاجة إلى الإكراه أو الالتجاء إلى أدوات القوة الصلبة.
وفي هذا السياق تبرُز جنوب إفريقيا بوصفها نموذجًا للدول الإفريقيَّة جنوب الصحراء الكبرى، والتي تمكَّنت من توطيد مكانتها ودورها الإقليميين وتعزيز جاذبيتها وسُمعتها الدوليَّة من خلال توظيفها لأدوات ومصادر القوة الناعمة المُختلفة على النحو الأمثل، ويُدلل على ذلك ترتيبها المُتقدم نسبيًّا في المؤشر العالمي للقوة الناعمة الصادر عن مؤسسة براند فاينانس Brand Finesse البريطانيَّة هذا العام.
تأسيسًا على ما تقدّم، يسعى هذا التقرير إلى التعريف بالقوة الناعمة في أدبيات العلاقات الدوليَّة وإبراز أهميتها ومصادرها، واستعراض أهم المؤشرات العالميَّة المُستخدَمة في قياس القوة الناعمة للدول، ولا سيَّما مؤشر القوة الناعمة العالمي الصادر عن مؤسسة براند فاينانس البريطانيَّة بوصفه أكثر تلك المؤشرات شهرةً وأكثرها شمولاً، ومِن ثَمَّ الوقوف على أداء جنوب إفريقيا وترتيبها عالميًّا تبعًا لهذا المؤشر.
أولًا: القوة الناعمة… قراءة في المفهوم والمصادر والأهمية
يرجع ابتكار مصطلح القوة الناعمة Soft Power في أدبيات السياسة الخارجيَّة إلى عالم السياسة الأمريكي جوزيف ناي Joseph Nye الذي صاغ هذا المفهوم، واستخدمه في مقالاته لأول مرة قبل ثلاثة عقود ونصف العقد. وقد عرَّف “ناي” القوة الناعمة بأنها “قدرة الدولة على التأثير على الآخرين دون اللجوء إلى الضغط القسري؛ من خلال إبراز قِيَمها ومُثُلها وثقافتها عبر الحدود لتعزيز حسن النية وتوطيد الشراكات”([1]). وهي أيضًا “أحد أشكال القوة التي تَستهدف التأثير على تفضيلات الآخرين وسلوكهم في إطار العلاقات الدوليَّة؛ بغرض تحقيق المصالح والأهداف المرجوَّة؛ من خلال الإقناع والجاذبية لا عن طريق القوة والإكراه”([2]).
أمَّا المؤرخ البريطاني نيل فيرجسون Neil Ferguson، فيُعرِّف القوة الناعمة بوصفها “التأثير في السياسة الدوليَّة من خلال قوى غير تقليديَّة كالسلع الثقافيَّة والتجاريَّة”، مُدعيًا أنَّ هذه السلع تُولِّد تأثيرات مُتناقضة تتراوح بين الإعجاب والانجذاب أو الرفض والمُقاومة، ومِن ثمَّ فإنَّ توظيف مثل هذه السلع، كما يرى فيرجسون، كأدواتٍ للقوة الناعمة في تحقيق المصالح القوميَّة للدولة يظل أمرًا شديد المحدودية([3]).
يتضح من خلال عرضنا لمفهوم القوة الناعمة أنها تتناقض تمامًا مع القوة الصلبة التي تُشير إلى توظيف الترغيب والترهيب كأدواتٍ لتحقيق المصالح في العلاقات الدوليَّة، فعلى سبيل المثال، تشمل القوة الناعمة التبادلات الثقافيَّة ومُبادرات الدبلوماسيَّة العامة للمُساعدة في تشكيل السُلوك، بينما قد تتضمَّن القوة الصلبة وُعُودًا صريحة بحوافز تجاريَّة، أو تهديداتٍ بفرض عقوبات اقتصاديَّة، أو عمل عسكري([4]). ومع ذلك، فإنَّ استخدام القوة الناعمة في السياسة الخارجيَّة لا يعني تجاهل القوة الصلبة؛ إذ إنَّ القوة الصلبة والناعمة مترابطتان ولا يمكن الفصل بينهما، كما أنهما تُشكلان معًا ما يُعرف بالقوة الشاملة للدولة.
ويؤكد “ناي” أنَّ القوة الناعمة لأيّ دولة تُستمَد من ثلاثة مصادر أساسيَّة؛ هي: الثقافة، والقِيَم السياسيَّة، والسياسات الحكوميَّة. حيث تُشير الثقافة إلى العناصر الثقافيَّة العُليا كالأدب والفن والتعليم، وهي تختلف عن الثقافة الشعبيَّة أو الجماهيريَّة التي تُعنَى في الغالب بالترفيه الجماهيري، بينما تُشير القِيَم السياسيَّة إلى المبادئ والسياسات المحليَّة للدولة أو أيديولوجيتها([5]). أمَّا السياسات الحكوميَّة، باعتبارها المصدر الثالث للقوة الناعمة، فيرى “ناي” أنَّ السياسات الحكوميَّة، المحليَّة أو الخارجيَّة، لدولةٍ ما يُمكن أن تُعزّز أو تُضْعِف قوتها الناعمة؛ حيث أدَّى تطبيق الفصل العنصري في الولايات المُتحدة في خمسينيَّات القرن العشرين إلى تدهور جاذبيتها لدى الدول الإفريقيَّة، وبالمثل فإنَّ السياسات الخارجيَّة التي تُشجِّع على الديمقراطيَّة وحقوق الإنسان من شأنها أن تُعزِّز جاذبية الدولة وقوتها الناعمة([6]). كما يعتقد “ناي” أنَّ الثقافة والقِيَم والسياسات لا تُمثِّل المصادر الوحيدة التي تتبلور من خلالها القوة الناعمة؛ حيث تستطيع الموارد الاقتصاديَّة بدَوْرها أن تُولِّد سُلوكًا للقوة الناعمة والصلبة في آنٍ واحدٍ؛ إذ يُمكن أن تُستخدم كوسيلة للجذب كما يُمكن توظيفها كأداة للقهر والقسر([7]).
شكل-1: مصادر القوة الناعمة وفقًا لجوزيف ناي
المصدر: الشكل من إعداد الباحث
وفي هذا السياق، يرفض جوزيف ناي تصوير المصالح والقِيَم السياسيَّة والأخلاقيَّة بوصفها فئات مُتعارضة في السياسة الخارجيَّة، وبدلًا من ذلك، يعتقد “ناي” أنَّ القِيَم تُمثل نوعًا من المصالح كونها تسهم في تعريف الشعوب بهوية بعضها، وبالتالي يُمكن اعتبارها مصدرًا مهمًّا للقوة الناعمة، ومن هذا المنطلق يرى “ناي” أنَّ على القادة أن يُقرّروا كيفية الجمع بين القوة الصلبة المُتمثلة في الإغراءات والتهديدات، والقوة الناعمة المُتمثلة في القِيَم والثقافة والسياسات الحكوميَّة التي تجذب الناس إلى أهدافهم([8]).
ولعلَّ السؤال الذي يثور الآن بعد أن استعرضنا مفهوم القوة الناعمة ومصادرها يتعلق بما يُمكن للقوة الناعمة أن تفعله أو تحققه للدول، أو بصيغة أخرى: ما أهمية القوة الناعمة بالنسبة للحكومات وشعوبها؟ يتفق الخبراء على أنَّ القوة الناعمة تُحقق فوائد جمَّة للدول وشعوبها وشركاتها ومنظماتها بمختلف أشكالها وأحجامها؛ حيث إنَّ امتلاك الدولة لسُمعة طيبة في مجال القوة الناعمة يُساعدها في التسويق لصورتها كوجهة جذابة للسياحة والاستثمار، والترويج لجودة سلعها وخدماتها، كما يُمكّنها أيضًا من تعزيز مكانتها لدى جيرانها وتعظيم نفوذها على المسرح الدولي، فضلًا عن ذلك، تُساعد القوة الناعمة على تعزيز شعور الناس بالرضا عن بلدانهم وحكوماتهم حتى وإن كان ذلك بشكل غير ملموس([9]).
ولقد زاد التطوُّر التكنولوجي والتقدم المُذهل في وسائل التواصل من أهمية القوة الناعمة كأداة لتعزيز نفوذ الدول إقليميًّا ودوليًّا؛ حيث أتاحت المنصات الرقميَّة للحكومات والجهات الفاعلة غير الحكوميَّة قنوات اتصال جديدة للتواصل مع الجماهير الخارجيَّة والتفاعل معها خارج حدود وسائل الإعلام التقليديَّة، ومن هنا أصبح للقوة الناعمة دور أكبر في الترويج للدولة وشركاتها وخدماتها، وكذلك تغيير التصوُّرات الأجنبيَّة لمُثُلها السياسيَّة وثقافتها على نطاق واسع من خلال توظيف الأدوات الجديدة للقوة الناعمة التي استحدثتها التكنولوجيا الرقميَّة في مجالات الاقتصاد والتبادلات التعليميَّة والثقافيَّة والدبلوماسية العامة([10]).
ثانيًا: مؤشر القوة الناعمة العالمي: المفهوم والمنهجية
خلافًا للقوة الصلبة؛ فإنَّ مسألة قياس القوة الناعمة كميًّا تُعدّ غاية في الصعوبة والتعقيد، ففي حين أنَّ القوة الصلبة تُركز بشكل أكبر على الموارد القابلة للقياس، كالجنود والآليات العسكريَّة والموارد الماليَّة، نجد أنَّ القوة الناعمة، على النقيض من ذلك، تُركّز على الموارد والمصادر غير الملموسة للقوة، وهو أمر يصعب قياسه أو صوغه كميًّا في صورة أرقام أو مُعادلات رياضيَّة. بالرغم من ذلك، تمكَّن الباحثون وبعض المؤسسات المعنية من ابتكار وتطوير مؤشرات لقياس القوة الناعمة للدول وترتيبها وفقًا لها.
من أهم تلك المؤشرات العالميَّة المُستخدَمة في قياس القوة الناعمة ما يُعْرَف بمؤشر القوة الناعمة الـ 30، والذي سُمِّي بذلك لكونه يقتصر في تصنيفه على 30 دولة فقط، منها ثلاث دول في تكتل البريكس (روسيا والصين والبرازيل)، إضافةً إلى الدول الصناعيَّة السبع، وبعض الدول الأخرى في آسيا وأوروبا، فيما استبعد المؤشر كافة الدول الإفريقيَّة والعربيَّة من التصنيف. وقد صدر أول تقرير عن هذا المؤشر في يوليو 2015م، ويعتمد في قياسه للقوة الناعمة على ستة مؤشرات؛ تشمل: الدبلوماسيَّة الرقميَّة، المُبادرة، التعليم وجاذبية الطلاب الدوليين، التفاعل وقوة المنظومة الدبلوماسيَّة، إضافةً إلى الحوكمة، ومدى الالتزام بالديمقراطيَّة وحكم القانون وحقوق الإنسان.
أمَّا المؤشر الأكثر شمولًا والأوسع انتشارًا، والذي سنعتمده في هذا التقرير لتقييم أداء جنوب إفريقيا وترتيبها عالميًّا في مجال القوة الناعمة، فهو المؤشر العالمي للقوة الناعمة الذي تُصدره مؤسسة براند فاينانس البريطانيَّة -وهي مؤسسة عالميَّة رائدة في مجال تقييم العلامات التجاريَّة ومقرها لندن-، بشكل سنوي مُنذ عام 2020م، ويعتمد هذا المؤشر في تقييمه على استطلاعات رأي لأكثر من 170 ألف مشارك ينتمون إلى أكثر من 100 دولة، ومُنذ عام 2024م أصبح المؤشر يضم جميع الدول الأطراف في الأمم المُتحدة البالغ عددها 193 دولة، في حين تضمَّنت النسخة الأولى 59 دولة فقط، ولا يقتصر المؤشر على تقييم الجوانب غير العسكريَّة للدول؛ السياسيَّة والاقتصاديَّة والثقافيَّة، بل يُقيِّم أيضًا قدرة الدولة على جذب الاستثمار والتجارة والمواهب والسياحة.
يرتكز مؤشر القوة الناعمة في تقييمه المنهجي والشامل للدول في مجال القوة الناعمة على مجموعة من المؤشرات؛ يأتي في مقدمتها: مؤشرات الأداء الرئيسيَّة، وتضم الأُلفة والسمعة والتأثير؛ حيث تقيس الألفة مدى شهرة الدولة عالميًّا، وتقيس السمعة درجة تمتع الدولة بصورةٍ إيجابية على المُستوى العالمي، بينما يستهدف التأثير حجم ما تملكه الدولة من نفوذ في مُحيطها الإقليمي والدولي، كما يستند مؤشر القوة الناعمة في تقييمه للدول، إلى جانب مؤشرات الأداء الرئيسيَّة السالفة، إلى ركيزة رابعة تتعلق بتصوُّرات العلامة التجاريَّة الوطنيَّة، والتي تنقسم إلى ثمانية محاور فرعيَّة، تضم الثقافة والتراث، الناس والقيم، العلاقات الدوليَّة، التجارة والأعمال، التعليم والعلوم، الحوكمة، الإعلام والاتصال، بالإضافة إلى المُستقبل المُستدام، ومِن ثمَّ فإنَّ تقييم القوة الناعمة مِن قبل براند فاينانس يتم من خلال أحد عشر مؤشرًا عامًّا، مما يسمح للدول الصغيرة بتعويض ضعفها الديموغرافي والجغرافي والاقتصادي اعتمادًا على جوانب أخرى قد تُساعدها على الارتقاء في سلم الترتيب العام لمؤشر القوة الناعمة على حساب الدول المتوسطة أو الكبرى.
شكل-2: المؤشرات العامة لقياس القوة الناعمة كما تُحددها مؤسسة براند فاينانس
Source: Kevin Woods, Understanding the Global Soft Power Index 2025, Brand Finance, 20 February 2025, at: https://2u.pw/ssJWe
وفي إطار تحليلاته العميقة والموضوعيَّة لتلك المؤشرات وتقييم الدول بناءً عليها، يعتمد مؤشر القوة الناعمة على إجراء مُشاورات ومقابلات نوعيَّة مكثّفة مع ممارسي وباحثي القوة الناعمة حول العالم، فضلًا عن القيام باستطلاعات للرأي مع فئات مختلفة كالأكاديميين ومحللي مراكز الأبحاث، وفي حين شمل الاستطلاع، خلال العامين الأولين (2020 و2021م)، آراء كلٍّ من الجمهور العام والجمهور المُتخصص مثل محللي السوق وصانعي السياسات وقادة الفكر، فقد اتجهت مؤسسة “براند فاينانس” ابتداءً من 2022م نحو التركيز على الجمهور العام بصفة حصرية؛ بهدف زيادة أحجام العينات وزيادة قابلية المُقارنة بين الأسواق التي يستهدفها التقييم([11]).
وبحسب ما ورد في تقرير النُّسخة السادسة من مؤشر القوة الناعمة لعام 2025م، فقد حافظت الولايات المُتحدة الأمريكيَّة على صدارة الترتيب بمجموع 79.5 نقطة، متبوعة بجمهورية الصين الشعبيَّة (72.8) نقطة، بينما تراجعت المملكة المُتحدة للمركز الثالث بإجمالي 72.4 نقطة، أما إفريقيا، فقد تصدَّرت مصر دول القارة في تأثير القوة الناعمة عالميًّا، تليها جنوب إفريقيا، ثم المملكة المغربية ثالثًا، فنيجيريا، أمَّا جمهورية إريتريا فقد حلت في المرتبة الأخيرة بين دول القارة؛ حيث جاءت في المركز الـ85 بعد المائة عالميًّا.
ثالثًا: موقع جنوب إفريقيا في مؤشر القوة الناعمة العالمي لعام 2025م
بعد سقوط نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد) وترسيخ الحكم الديمُقراطي، تحوَّلت جنوب إفريقيا من كونها دولةً منبوذةً إلى دولةٍ تحظى بالقبول والاعتراف الدوليين على نطاق واسع، كما إنَّ إعادة اندماج جنوب إفريقيا في المُجتمع الدولي سمح لها بالانخراط في منظومة الاقتصاد العالمي وتوسيع علاقاتها السياسيَّة وشراكتها الاقتصاديَّة مع الأقطاب الدوليَّة الأخرى، سواء تعلق الأمر بالدول الأطراف في تكتل البريكس BRICS الذي انضمت لعضويته مُنذ عام 2010م، أو الدول الأعضاء في مجموعة العشرين G-20؛ حيث تُعدّ بريتوريا البلد الإفريقي الوحيد الذي يتمتع بعضوية هذه المجموعة.
وفي إطار سعيها لترسيخ مكانتها ودورها كقائد إقليمي؛ فقد دأبت جنوب إفريقيا على تعزيز قوتها الناعمة وتنويع مصادرها كأداة لتحقيق أهدافها الوطنيَّة، ويتضح ذلك من خلال دعم بريتوريا للدبلوماسيَّة متعددة الأطراف وانخراطها في العديد من بعثات السلام، وسعيها إلى إيجاد حلول للمُشكلات التنمويَّة والسياسيَّة في إفريقيا، فضلًا عن مُشاركتها في خارطة الطريق لعمليات التحوُّل الديمقراطي في زيمبابوي وسوازيلاند ومدغشقر من خلال آليات مجموعة تنمية الجنوب الإفريقي (SADC) والاتحاد الإفريقي (AU)، علاوةً على ذلك، سخَّرت جنوب إفريقيا جهودها لاستضافة مؤتمرات رائدة واجتماعات رفيعة المستوى، كان من بينها مؤتمر القمة العالمي للتنمية المُستدامة الذي تضمَّن وضع خطة عمل جوهانسبرغ التي أولت اهتمامًا بالقضايا المُلِحَّة كالسلام والأمن والاستقرار واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسيَّة والحق في التنمية والتنوع الثقافي([12]).
وبالإمكان القول: إنَّ قوة جنوب إفريقيا الناعمة وجاذبيتها العالميَّة قد تبلورت بعد حقبة الفصل العنصري نتيجة لعدة عوامل؛ نذكر منها: التحوَّل نحو الديمقراطيَّة، وتحقيق المُصالحة الوطنيَّة بعيدًا عن الوساطة أو التدخلات الخارجيَّة، ووجود قادة لديهم سجل حافل في النضال الوطني ضد العنصرية، بالإضافة إلى التخلي الطوعي عن الأسلحة النوويَّة، والسعي إلى بناء علاقات خارجيَّة متوازنة مع القوى الكبرى، والاضطلاع بدور الوساطة في النزاعات الإقليميَّة([13]).
ولقد شهدت السنوات الماضية، تقدمًا ملحوظًا لجنوب إفريقيا في العديد من المقاييس الرئيسيَّة والفرعية للقوة الناعمة، مما يعكس جهودها المُستمرة في تعزيز صورتها وسمعتها العالميَّة، مستفيدةً في ذلك من عدة عناصر أساسيَّة لتأكيد جاذبيتها، أهمها تاريخها النضالي ضد الاستبداد، ومُجتمعها المدني النشط، وسمعة جامعاتها وقطاعها الخاص، إضافةً إلى هويتها الجنوبيَّة العالميَّة، وقيمها السياسيَّة في مجالات الديمقراطيَّة وحقوق الإنسان.
تجلى هذا التقدم المُحْرَز مِن قِبَل جنوب إفريقيا في تحسُّن مركزها في مؤشر القوة الناعمة العالمي لعام 2025م الصادر عن مؤسسة براند فاينانس البريطانيَّة، استنادًا إلى استطلاع رأي شمل أكثر من 170 ألف مشارك ينتمون إلى أكثر من 100 دولة لجمع بيانات حول الانطباعات العالميَّة عن جميع الدول الأطراف في الأمم المُتحدة؛ حيث تقدمت بريتوريا مركزين على سُلّم الترتيب، متجاوزةً الأرجنتين والمكسيك، لتصل إلى المركز الـ41 عالميًّا، بمجموع 44.9 نقطة وبزيادة قدرها 1.2 نقطة، مقارنةً بعام 2024م عندما حلت في المركز الـ43، في حين أنها تراجعت مركزًا واحدًا مقارنةً بمؤشر عام 2023م حيث احتلت المرتبة الـ40 في هذا العام بإجمالي 42.5 نقطة.
وبصفتها قائدًا إقليميًّا في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، فقد شهدت جنوب إفريقيا تقدمًا كبيرًا في خمسة من أصل ثمانية ركائز أساسيَّة في مؤشر القوة الناعمة لعام 2025م، بما في ذلك الأعمال والتجارة والأفراد والقِيَم، ويؤكد هذا المسار التصاعدي الجهود الإستراتيجيَّة المبذولة لتعزيز مكانة جنوب إفريقيا العالميَّة وبناء حضور عالمي أقوى وأكثر تنافسيَّة([14]). وكذلك، تقدمت جنوب إفريقيا ستة مراكز لتحتل المرتبة 50 فيما يتعلق بالأعمال والتجارة الدوليَّة، كما تحتل المرتبة التاسعة عالميًّا من حيث «إمكانات النمو المُستقبلية» المُتصوَّرة، وذلك بفضل عضويتها في مجموعة البريكس، بالإضافة إلى ذلك تقدمت جنوب إفريقيا 24 مركزًا في محور «الناس والقيم»، و22 مركزًا في محور «الثقة»، وأحد عشر مركزًا في مؤشر قوة نظامها التعليمي.
كما أظهر تقرير براند فايننس لعام 2025م، بوصفها المؤسسة الرائدة عالميًّا في تقييم العلامات التجاريَّة، قوة العلامة التجاريَّة لجنوب إفريقيا؛ حيث إنَّ أفضل عشر علامات تجاريَّة في هذا البلد تُصنّف من بين أقوى العلامات التجاريَّة في العالم، وتبلغ قيمة هذه العلامات مجتمعة حوالي 295.2 مليار راند، كما يُلاحَظ أنَّ جميع هذه العلامات قد حصلت على تصنيف AAA+، وهو الأعلى الذي تمنحه مؤسسة براند فاينانس، متفوقةً على نظيراتها العالميَّة مثل «وول مارت» في الولايات المُتحدة، و«ماركس آند سبنسر» في المملكة المُتحدة، و«كولز» في أستراليا، مدفوعةً في ذلك بآراء المستهلكين المتميزة ورضاهم عن نظام التسعير الخاص بها([15]).
ومما تجدُر ملاحظته في هذا السياق أنَّ الحوكمة والسلامة العامة لطالما شكَّلت تاريخيًّا تحديًا لسمعة جنوب إفريقيا، ومع ذلك، أظهر مؤشر القوة الناعمة هذا العام تقدُّمًا ملحوظًا في ركيزة الحوكمة، وكذلك ارتقت البلاد ثماني مراتب في مؤشر «احترام القانون وحقوق الإنسان»، و17 مركزًا في مؤشر المعايير الأخلاقيَّة العالية وانخفاض الفساد، و31 مركزًا في تصنيفها كدولة آمنة ومُستقرَّة، مما يُعزّز سُمعتها، ليس فقط كقوة إقليميَّة، بل كقوة ناعمة ناشئة على الساحة العالميَّة([16]).
ويوضح الجدول التالي المؤشرات العامة لتصنيف جنوب إفريقيا في مؤشر القوة الناعمة العالمي لعام 2025م، كما ورد في التقرير الأخير لمؤسسة براند فاينانس.
ويبقى لنا أن نُشير إلى أنَّ هناك عدة عوامل ساهمت في توطيد قوة جنوب إفريقيا الناعمة وتعزيز سُمعتها وجاذبيتها عالميًّا، يبرز في مقدمة تلك العوامل: الأداء القوي الذي شهدته البلاد خلال السنوات الأخيرة في قطاعات مُختلفة، كالرياضة والسياحة والثقافة والتراث والعلاقات الدبلوماسيَّة والاقتصاديَّة؛ حيث أصبح الكثير من الناس حول العالم على دراية جيدة بجنوب إفريقيا من خلال هذه المجالات، يُضاف إلى ذلك ما حققته جنوب إفريقيا من نجاحات متتالية في مجال الفنون الإبداعية، وهو ما تجلَّى في فوز جنوب إفريقيين بجوائز على منصات عالميَّة، وأيضًا الالتزام بالدفاع عن قضايا حقوق الإنسان، والإصلاحات الاقتصاديَّة الهيكلية المُتمثلة في استقرار قطاع الطاقة وتنويع الإمدادات، واتباع سياسات مُحفِّزة للاستثمار وتطوير البنية التحتية([17]).
فضلًا عن ذلك، فقد عزَّزت الخلفيات العرقيَّة والثقافيَّة المتنوعة جاذبية جنوب إفريقيا الثقافيَّة؛ حيث يُعدّ هذا البلد نموذجًا يُحتَذى به في دول أخرى، كما أنَّ ماضيها العرقي وانتقالها السلمي إلى ديمقراطيَّة ليبراليَّة يُسهّل التماهي مع التحديات السياسيَّة والعرقيَّة التي تُشكّل دائمًا تحديًا لإيجاد حلول عالميَّة للقضايا ذات الصلة، من ناحية أخرى نجد أنَّ التراث الثقافي لجنوب إفريقيا يتغلغل بشكلٍ واضح في أجزاءٍ كثيرة من إفريقيا الجنوبيَّة. على سبيل المثال: تتميز مُمارسات الزولو الثقافيَّة بقِيَمٍ عالميَّة كالإنسانيَّة والرعاية والمشاركة والاحترام والتعاطف والعطاء والالتزام والرعاية والاهتمام باحتياجات الآخرين، وهو ما يُشكِّل مصدرًا مُهمًّا لقوة جنوب إفريقيا؛ لأن الثقافة -كما يرى جوزيف ناي-، أكثر قدرةً على جذب الناس وإنتاج القوة الناعمة في المواقف التي تكون فيها الثقافات متشابهة إلى حدّ ما بدلاً من الاختلافات الواسعة([18]).
بالرغم من ذلك، تُواجه جنوب إفريقيا عددًا من التحديات، داخليَّا وخارجيًّا، من شأنها أن تَحُدّ من تقدُّمها مراكز أخرى ضمن ترتيب مؤشر القوة الناعمة في المُستقبل. وتتمثل أبرز التحديات الداخليَّة في تفشي الفساد في أوساط النخب السياسيَّة، ولا سيَّما قادة حزب المؤتمر الوطني الحاكم، وانشغال أفراده بتحقيق المصالح الشخصيَّة، عوضًا عن المصلحة العامة، إضافة إلى الصعوبات الاقتصاديَّة المتمثلة في عجز الدولة وعدم قدرتها على الاستفادة من الموارد الطبيعية والمعدنية والزراعية الهائلة وتصديرها إلى الخارج، يُضاف إلى ذلك ما تعانيه البلاد من إشكاليات إداريَّة في شركات القطاع العام، والتي تحول دون تحقيقها للعوائد والأرباح المرجوة، ولا سيَّما شركات الخدمات والمرافق العامة، كالمياه والكهرباء والسكك الحديديَّة، والسبب في ذلك يُعزَى إلى استشراء الفساد في هذه القطاعات وسوء التخطيط مِن قِبَل الدولة([19]).
أمَّا التحديات الخارجيَّة التي تواجه جنوب إفريقيا، والتي قد تنعكس سلبًا على قوتها الناعمة، فيبرُز في مقدمتها تدهور علاقاتها بالولايات المُتحدة الأمريكيَّة والقوى الغربيَّة عمومًا، نتيجة لتقارب بريتوريا مع روسيا والصين، باعتبارهما شريكين لها في مجموعة البريكس، ودعمها لتعامل المجموعة بالعملات المحليَّة عوضًا عن الدولار، فضلًا عن استمرار جنوب إفريقيا في موقفها المُناهض للحرب الإسرائيليَّة على غزة وانخراطها في المُلاحقة القضائية للقادة الإسرائيليين بدعوى ارتكابهم لجرائم حرب بحق المدنيين في القطاع الفلسطيني.
تعقيب أخير:
تُدرك جنوب إفريقيا أنَّ الاهتمام بتطوير مصادر قوتها الناعمة، بما يتماشى مع أولويات سياستها الخارجيَّة، هو السبيل الوحيد الذي يُمكِّنها من تعزيز مكانتها وقبولها عالميًّا، سواء كدولة ممثلة للجنوب العالمي والبلدان النامية، أو كقوةٍ طامحة لانتزاع أحد المقاعد الدائمة في مجلس الأمن عن القارة الإفريقيَّة، كما تدرك كذلك أنَّ تاريخها النضالي وديمقراطيتها الليبراليَّة وسُمعتها الأخلاقيَّة تمنحها ميزةً قياديَّة نسبية مقارنة بمنافسيها المُحتملين مثل نيجيريا.
ولعلَّ ما حققته جنوب إفريقيا حتى اليوم من تقدُّم ملحوظ في مضمار القوة الناعمة، والذي تجلَّى في ترتيبها المُتقدم نسبيًّا في مؤشر القوة الناعمة العالمي، يعكس بجلاء الجهود المتضافرة التي بُذلت على مدار السنوات الماضية مِن قِبَل المؤسسات الحكوميَّة وغير الحكوميَّة على السواء، ومع ذلك لا يزال يتعين على حكومة جنوب إفريقيا مُضاعفة جهودها، وأنْ تُولي اهتمامًا أكبر للقطاع الخاص والهيئات غير الحكوميَّة والمُجتمع المدني باعتبارها عوامل حاسمة في إبراز قوتها الناعمة، وأن تعمل على مواجهة التحديات الناشئة، على الصعيدين الداخلي والخارجي، والتي قد تُكلّفها الكثير وتُلحق الضرر بسُمعتها الدوليَّة وقوتها الناعمة.
……………………………………………
([1]) What Is Soft Power?, Council on Foreign Relations, May 16, 2023, Available at: https://2u.pw/MlZiJ
([2]) هشام قدري أحمد، توظيف القوة الناعمة في سياسة الصين الخارجيَّة تجاه القرن الإفريقي، قراءات إفريقيَّة، 11 ديسمبر 2024م، متاح على: https://2u.pw/xU4urRva
([3]) علي جلال معوض، مفهوم القوة الناعمة وتحليل السياسة الخارجيَّة (مكتبة الإسكندرية، 2019م)، ص18.
([4])Margaret Seymour, The problem with soft power, Foreign Policy Research Institute, 14 September 2020, Available at: https://2u.pw/aSA1t
([5]) Mario De Martino, Soft Power: theoretical framework and political foundations, Przegląd Europejski, vol. 2020, no. 4, 2020. P.18.
([6]) جوزيف إس. ناي، القوة الناعمة: وسيلة النجاح في السياسة الدوليَّة، ترجمة: محمد توفيق البجيرمي (الرياض، مكتبة العبيكان، 2007م)، ص35- 36.
([7]) جوزيف إس. ناي، مُستقبل القوة، ترجمة: أحمد عبد الحميد نافع (القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2015م)، ص111.
([8]) Joseph S. Nye, Soft Power and Morality in U.S. Foreign Policy, Sasakawa Peace Foundation USA, June 8, 2021, Available at: https://2u.pw/nTZSi
([9]) Soft Power: Why it Matters to Governments, People, and Brands, Brand Finance, 25 February 2020, Available at: https://2u.pw/0IUbB
([10]) Shahla Ahmed, The Role of Soft Power in the Digital Age, The SAIS Review of International Affairs, 7 March 2025, Available at: https://2u.pw/wNw3d
([11]) Global Soft Power Index 2025 (Brand Finance, London, 2025), Available at: https://2u.pw/tPTLu
([12]) Bertha Chiroro, South Africa: Optimising the Currency of Soft Power in the International Arena, Policy brief, Africa Institute of South Africa, No. 79, August 2012, PP. 4-6.
([13]) خالد حنفي علي (محررًا)، دور القوة الناعمة في السياسة الخارجية للقوى المتوسطة، أبو ظبي، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 2024م، ص14.
([14]) Jeremy Sampson, Soft Power, media, and their impact on Africa and South Africa, Brand Finance, 6 March 2025, Available at: https://2u.pw/yajEX
([15]) South Africa’s brand power: Resilience, growth, and global recognition, Brand Finance, 6 March 2025, Available at: https://2u.pw/NbmFt
([17])Global Soft Power Index 2025, Brand Finance, P.78. Available at: https://2u.pw/tPTLu
([18]) Olusola Ogunnubia, and Ufo Okeke-Uzodike, South Africa’s foreign policy and the strategy of soft power, South African Journal of International Affairs, 2015, P.7.
[19]– دينا فتحي جمعة عبد العظيم، قراءة لموقع إفريقيا جنوب الصحراء في المؤشر العالمي للقوة الناعمة 2023م، قراءات إفريقيَّة، 6 يوليو 2023م، متاح على: https://2u.pw/CU9WBgr