كما بينَّا في المقال السابق، يمكن اعتبار بونتلاند وصوماليلاند محاولتين وحيدتين لإعادة بناء دولة في الصومال دون مشاركة كبيرة من الجهات الخارجية. على الأقل، هذا هو الرأي السائد في الكتابات المتعلقة بإعادة الإعمار السياسي في مرحلة ما بعد الصراعات العنيفة. إلى جانب المناقشة حول هذه النقطة المهمَّة، يوضّح كلا المسارين اختلافًا استراتيجيًّا في الطريقة التي ينبغي بها إعادة بناء “دولة صومالية”. كان هذا الجدل واضحًا جدًّا في جميع المناقشات المتعلّقة بالفيدرالية ولا سيما إشكالية الهوية والأصول العشائرية، ومدى اتساقها مع التوزيع الجغرافي.
“جروي” وخيار كردستان الصومال:
في المراجع التاريخية عُرِفَتْ بونتلاند باسم “بلاد البنط”، في إشارة إلى الصومال؛ حيث كانت مركزًا تجاريًّا مزدهرًا حرصت العديد من البلدان على الوصول إليه عبر البحر، ولا سيما قدماء المصريين.
تُشكّل قبيلة المجيرتين غالبية سكان الولاية، التي يقرب عدد سكانها من أربعة ملايين نسمة.
عاصمة الإقليم “جروي”، وتُقدّر مساحته بأكثر من 212 ألف كيلو متر مربع، وتشكل ثلث مساحة الصومال تقريبًا. كما يُشكّل ميناء بوصاصو عماد الاقتصاد ومصدرًا مهمًّا لدخلها المحلي.
وتختلف بونتلاند اختلافًا كبيرًا عن صوماليلاند فيما يتعلق بمسألة إعلان الاستقلال، لكنَّها تشترك في أوجه تشابه رئيسية.
بدون الحصول على المِنَح والقروض الدولية الكبيرة؛ فإنها تُواجه نقصًا حادًّا في الإيرادات؛ حيث تعتمد حكومة الإقليم بشكل شبه حصري على عائدات الموانئ (80%)، وتوجّه حوالي 90% من إيراداتها للجيش والشرطة والنفقات الإدارية الروتينية.
ولا شك أن الاستثمار غير المتناسب في الأجهزة الأمنية لم يساعد في تعزيز التحول الديمقراطي في بونتلاند؛ ففي سنواتها الأولى، تم تركيز السلطة في أيدي عبد الله يوسف، أول رئيس لبونتلاند والذي شكَّل الجبهة الوطنية الصومالية للإنقاذ. كانت حكومة بونتلاند بقيادة يوسف ذات طابع عسكري رغم أنها لم تواجه تهديدات من الدولة الأم التي كانت تسعى إلى إعادة الاندماج.
وعلى أيّ حال فقد عكس قرار إحياء قوات الجبهة الوطنية الصومالية للإنقاذ كمنظمة سياسية في عام 1991م مخاوف من قيام المؤتمر الصومالي الموحَّد في جنوب وسط الصومال، بغزو المنطقة، بالإضافة إلى الخوف من عمليات النهب والمضايقات المحلية واسعة النطاق مِن قِبَل عصابات الشباب المسلحة.
حاولت قوات الجبهة الوطنية الصومالية للإنقاذ بناء دولة كاملة، ولكنْ باعتبارها “مظلة سياسية غير رسمية”؛ حيث عالجت مظاهر الفوضى، وقامت بتسريح الجماعات المسلحة، ووفَّرت الحماية من التهديدات الخارجية.
خلال تسعينيات القرن الماضي، أثارت التهديدات الأمنية في شمال بونتلاند مِن قِبَل قوات التنظيمات السياسية في وسط وجنوب الصومال بما في ذلك الاتحاد الإسلامي اهتمامًا أكبر بإنشاء إدارة فعلية للإقليم. كما أدَّت محاولات صوماليلاند للسيطرة على منطقتي سول وسناج إلى الحاجة إلى حكومة قوية لديها جيش منظَّم في ولاية بونتلاند.
وافق قادة العشائر والسياسيون والعسكريون على إنشاء لجنة طوارئ لتوجيه قوات الجبهة الوطنية الصومالية للإنقاذ، وأذنوا للجنة بإدارة عائدات ميناء بوصاصو، والاستيلاء على الممتلكات والأصول من أجل مواجهة الهجمات المتكررة مِن قِبَل المؤتمر الصومالي في شمال مودغ.
ثم في عام 1998م، شكَّلوا رسميًّا حكومة ولاية بونتلاند. منذ ذلك الحين، استثمرت الحكومة معظم مواردها في الأجهزة الأمنية. ومع ذلك، فإنَّ وجود الشرطة في معظم المجتمعات محدود، وغالبًا ما تتم إدارة حلّ النزاعات من خلال الهياكل العشائرية. يتم استخدام 10% فقط من عائدات الحكومة للتنمية وتقديم الخدمات الأساسية.
إنَّ ما حدث من تطوير واستثمار تم تمويله إلى حدّ كبير من أموال المغتربين، أو من خلال المنظمات غير الحكومية، أو من خلال المشاريع التي تديرها الوكالات الدولية مباشرة. وعلى الرغم من تشابه بونتلاند مع صوماليلاند، فإن بناء الدولة في بونتلاند كان دائمًا مختلفًا؛ لأنه يخدم غرضين في آنٍ واحدٍ: الأمن المحلي والتنمية من جهة وحماية مصالح العشائر في الصومال الموحَّد من جهة أخرى.
أثَّرت المخاوف بشأن الوضع النهائي لعشيرة المجيرتين وأبناء عمومتهم من عشيرة هارتي، وارسنجيلي ودولبهانت، في دولة صومالية مستقبلية، دورًا رئيسيًا في إنشاء إقليم بونتلاند شبه المستقل. عندما تم نقل مؤتمر المصالحة لعام 1997م من بوصاصو، في شمال بونتلاند، إلى القاهرة؛ رأى السياسيون من بونتلاند أن هذه الخطوة بمثابة إذلال للمناطق الشمالية الشرقية، وهي محاولة لتقليل تأثير الشمال الشرقي في الشؤون الوطنية الصومالية.
ولذا يعتقد قادة بونتلاند، الحريصون على منع مثل هذا الإهمال في المستقبل، أن الإدارة المحلية القوية ستضمن أخذ نخبة الميجرتين على محمل الجد في المفاوضات المستقبلية، وتمثيلهم بشكل جيد في الدولة الصومالية المستقبلية.
ولا يخفى أن السيطرة الإقليمية الفاعلة على الإقليم سوف تكون ورقة مساومة قويَّة في أيّ مفاوضات لإعادة إنشاء سلطة وطنية مركزية في سياق نظام فيدرالي.
ولذلك، فإن قرار إعلان سلطة بونتلاند شبه المستقلة في الصومال في عام 1998م كان مدفوعًا بقَدْر كبير من المخاوف المتعلقة بوضع العشيرة والسلطة السياسية في الصومال المستقبلي، بالإضافة إلى الحاجة إلى توفير الاستقرار والأمن عبر المؤسسات الإقليمية.
تركزت محاولات قادة بونتلاند على أمرين متلازمين منذ ذلك الحين؛ أحدهما تأسيس دولة فيدرالية في الصومال، والآخر بناء حكومة مستدامة في بونتلاند. ولا يخفى أن خيار الفيدرالية بالنسبة لبونتلاند يعكس أهمية عاملين على الأقل:
أولاً: على عكس صوماليلاند، لا يُواجه قادة بونتلاند ضغوطًا شعبية قوية لإعطاء الأولوية للانفصال والاعتراف الدولي؛ حيث تشير المعلومات المستندة إلى العمل الميداني -والذي شاركنا فيه- إلى أن سكان بونتلاند ليس لديهم إحساس قوي بهوية بونتلاند، كما يفتقدون الرغبة في إقامة دولة مستقلة، على الرغم من أن الدستور الأخير يشير إلى حق المنطقة في تقرير المصير.
ويتصور سكان بونتلاند هويتهم السياسية من منظور العشيرة في المقام الأول، وقد يُعزى عدم وجود هوية وطنية موحدة في بونتلاند جزئيًّا إلى السلام النسبي في المنطقة منذ الثمانينيات، على الرغم من أن عشائر المنطقة واجهت الاضطهاد مِن قِبَل حكومة سياد بري، إلا أن حركتها المتمردة كانت ضعيفة مما يعني أن المنطقة تجنَّبت القصف الحكومي المكثف والهجمات الأخرى كتلك التي وحَّدت الناس في صوماليلاند.
ثانيًا: وربما هو الأهم، في حين أن عشائر صوماليلاند تتمركز بشكل شبه حصري في الجزء الشمالي الغربي من الصومال، فقد هاجر العديد من الميجرتين من بونتلاند إلى ميناء كيسمايو والأراضي المحيطة به في أقصى جنوب الصومال.
وعلى أيّ حال يمكن القول إجمالاً: بأن صوماليلاند وبونتلاند تشتركان في السمات الرئيسية مع دول الأمر الواقع الأخرى التي لا تَحْظى بالاعتراف الدولي. ولعل أبرز التحديات التي تواجههما تتمثل في: تأمين الإيرادات، والتركيز على الأمن، وجدلية العلاقة المتأزمة بين التحول الديمقراطي وأجندات الأمن.
ومع ذلك، فإن قرار بونتلاند عدم السعي إلى الاستقلال، والبقاء ضمن الرابطة الاتحادية؛ يميّزها في نواحي رئيسية عن صوماليلاند.
هذا، وباستخدام الأدبيات والمعلومات المستندة إلى مقابلات غير رسمية مع رجال الأعمال والمسؤولين الحكوميين وشيوخ العشائر ومسؤولي الإغاثة في كلٍّ من صوماليلاند وبونتلاند، يتضح أن مشاركة بونتلاند المستمرة في الجهود المتتالية لتشكيل حكومة الصومال قد عقَّد مساعيه لبناء الدولة المحلية؛ من خلال الحد من الدعم المستند على مجتمع الأعمال، كما أنه أثَّر سلبا على عملية التحول الديمقراطي.
في المقابل؛ فإن أجندة استقلال صوماليلاند كان لها تأثير موحَّد في عملية التعبئة الشعبية، مما يشجّع الدعم في مجتمع الأعمال، ويخلق ضغوطًا لإرساء الديمقراطية.
وعلى أيّ حال؛ فإن الصومال بحاجة إلى قيادة وطنية واعية تُعْلِي من المصلحة العامَّة، وتتخلَّص من المصالح السياسية الضيقة.
لقد آنَ للصومال أن تتبوأ مكانتها الصحيحة بين الأمم، وتُعيد أمجاد بلاد بونت وزيلع وعدل.
للاطلاع على المقال الأول: