الأزمة الدبلوماسية التي نشبت بين السودان وكينيا في فبراير الماضي؛ بسبب استضافة نيروبي لاجتماعات مجموعات المعارضة السودانية المتحالفة مع قوات الدعم السريع، لإعلان ما يسمى بـ”الحكومة الموازية”، وتوقيع ما سُمِّي بـ”ميثاق السودان التأسيسي”، أثارت موجة من الجدل، وتسببت في توتر العلاقات بين كينيا والحكومة السودانية التي تُدار مؤقتًا من مدينة بورتسودان الساحلية، ووصل الأمر إلى درجة التراشق المتبادل بالبيانات والبيانات المضادة.
واتهمت الخارجية السودانية الحكومة الكينية بالإضرار بالأمن القومي السوداني؛ من خلال احتضانها لاجتماعات تشكيل الحكومة الموازية، معتبرةً تلك الاستضافة تتويجًا للدعم المقدَّم من الحكومة الكينية لتمرُّد قوات الدعم السريع، وقالت: “إن الرئيس الكيني وليام روتو أصبح في نظر الشعب السوداني ضالعًا في العدوان عليه”.
من جانبها، ردّت الحكومة الكينية بأن استضافتها للمجموعات المعارضة السودانية، تأتي في إطار سعيها لإيجاد حلول تُوقف حرب السودان.
ويرى مراقبون للأوضاع السياسية في السودان أن العلاقة بين البلدين قد تعرضت بالفعل لضرر كبير يصعب إصلاحه الآن، خصوصًا في ظل تصاعد التوترات. ويفتح هذا الأمر الباب واسعًا لمراجعة ملف العلاقات الكينية السودانية، والدور الكيني في الصراعات السياسية والعسكرية في السودان.
ويهدف هذا المقال إلى مراجعة الخلفية التاريخية للعلاقات الكينية السودانية، التي يشوبها كثير من الغموض، والتنافس الخفي الذي يتأرجح وفقًا لتصاعد الخطوط السياسية، وهبوطها حينًا آخر، حتى يصل إلى الاستعلان بالعداء الظاهر. ويحاول أن يقدم سردًا تاريخيًّا مدعمًا بالوقائع يستكشف من خلاله مدى إيجابية الدور الكيني خلال الأزمات السياسية السودانية من عدمها، وما إذا كان هذا الدور يصبّ في خانة الوساطة الهادفة للمساعدة على حل الأزمات السودانية، أو كان تدخُّلًا في الشؤون الداخلية لخدمة مصالح خارجية؟
تاريخ العلاقات بين كينيا والسودان:
العلاقات الكينية السودانية علاقات عريقة تمتد إلى بداية القرن العشرين؛ حيث تقول الذاكرة التاريخية: إن المستعمر الإنجليزي عندما أراد أن يحتل كينيا، خلال الفترة من (1919 – 1920م) استعان على تحقيق ذلك بفرقة من المجندين السودانيين من أبناء جبال النوبة. وبعد ذلك كونت عناصر الجيش السوداني جالية صغيرة، واستقرت بأُسرها في كينيا، بعد أن رفضت الحكومة البريطانية طلبهم بإعادتهم إلى السودان، وقامت بمنحهم مستوطنة بالقرب من غابة تقع في أطراف نيروبي، التي كان البريطانيون قد أنشأوها لتكون محطة رئيسة في خط السكة الحديدي الرابط بين تنزانيا وأوغندا.
أطلق الجنود السودانيون على موطنهم الجديد اسم (كبيرا) بكسر الكاف، ويقولون: إنه يعني في لغة النوبة الغابة الصغيرة، وحُرّف الاسم فيما بعد إلى (كِبرا)، ونمت المدينة الجديدة بصورة كبيرة لتصبح اليوم أكبر مدينة عشوائية في إفريقيا، ويسكنها العديد من القبائل والأجناس، ولكن النوبة هم العنصر الغالب فيها([1]).
وخلال فترة الاحتلال البريطاني لكل من كينيا والسودان، ربطت بريطانيا مستعمرتيها بعلاقات تجارية تبادلية؛ حيث كان السودان يُصدِّر إلى كينيا القطن والحبوب الزيتية والذرة والكركدي، والمنسوجات والعطور والصابون، ويستورد منها الشاي والبن والعسل والتبغ([2]).
عقب استقلال كينيا في العام 1963م، أنشأت كينيا علاقات دبلوماسية مع السودان، الذي سبقها بتسع سنوات إلى الاستقلال؛ حيث تم افتتاح السفارات في كلا البلدين، وتم تبادل اعتماد السفراء ومندوبي الأمن.. وخلال اندلاع التمرد في جنوب السودان، الذي قادته حركة أنانيا، فرَّ كثير من قادة التمرد والناشطين الانفصاليين من جنوب السودان إلى كينيا، غير أن الحكومة الكينية كانت في كثير من الأحيان غير مرتاحة لنشاط المتمردين السودانيين على أراضيها، حتى أنه، في بعض الفترات، تمّ تفعيل اتفاقيات التعاون الأمني، فقدمت المخابرات الكينية المساعدة لجهاز الأمن السوداني في اعتقال بعض ناشطي التمرد وإرسالهم إلى الخرطوم، وذلك خلال السنوات الأولى من حكم نظام مايو 1969م في السودان، وقبيل توقيع اتفاقية أديس أبابا 1972م التي أنهت تمرد حركة أنانيا في جنوب السودان([3]).
وخلال عقد الثمانينيات نشبت أزمة سياسية بين الحكومة السودانية والحكومة الكينية؛ حيث اتهمت الخرطوم نيروبي بدعم الحركات الانفصالية في جنوب السودان، التي لا تطالب بعودة مثلث (إيلمي) الإستراتيجي المتنازَع عليه بين كينيا والسودان.. ويُعدّ مثلث إيلمي منطقة غنية بالمعادن، في مساحة تبلغ (3458) كيلو مترًا مربعًا، وكانت بريطانيا قد قامت بضمّه إلى كينيا إداريًّا أثناء فترة احتلالها للسودان وكينيا([4]).
وازدادت حدة التوتر بين البلدين في العام 1988م، عندما نشرت كينيا خريطة جديدة تضمنت مثلث إيلمي مع زيادة 2000 كيلو متر إضافية في مساحته على حساب السودان لتصبح مساحة المثلث 4225 كلم مربع، وأعلن السودان أنه سيلجأ إلى القانون الدولي للمطالبة بحقوقه، مؤكدًا أنه يملك الوثائق المؤيدة لذلك الحق([5]).
وخلال عقد التسعينيات من القرن الماضي، شهدت العلاقات الكينية السودانية ازدهارًا كبيرًا؛ حيث بدا الرئيس الكيني الراحل دانيال أراب موي، مهتمًّا إلى حد كبير بتنمية العلاقات بين كينيا والسودان في جميع المحالات، السياسية والاقتصادية، ونشَّط التبادل التجاري بين البلدين بشكل كبير، وفي كثير من الأحيان تدخَّلت كينيا للعب دور الوساطة لإطلاق سراح الأسرى السودانيين لدى الحركة الشعبية لتحرير السودان المتمردة آنذاك على حكومة السودان.
دور كينيا انفصال جنوب السودان:
الدور الأكبر الذي لعبته كينيا في الشأن السودان، كان هو دورها في مفاوضات السلام الشامل التي انتهت بانفصال جنوب السودان، وتقسيم السودان إلى دولتين. وفي كل مراحل التفاوض بين حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان، الذي كانت كينيا هي الدولة الراعية له والمستضيفة في آن واحد، كان دورها أساسيًّا بوصفها عضوًا في منظمة الإيغاد، التي هيَّأت هي وشركاؤها وأصدقاؤها للمحادثات التي اختُتمت بتوقيع اتفاقية في ضاحية نيفاشا الكينية في العام 2005م قضت بإيكال التقرير في أمر انفصال جنوب السودان عن السودان أو استمرار الوحدة بين شطري الوطن إلى استفتاء لسكان جنوب السودان يُجرَى بعد ست سنوات من توقيع الاتفاق، على أن يتم تكوين حكومة وحدة وطنية تشارك فيها الحركة الشعبية، وتعمل على جعل الوحدة خيارًا جاذبًا للجنوبيين.
وكان الأساس الذي مهَّد الطريق للوصول إلى اتفاق السلام الشامل، هو البروتوكول الإطاري الذي وُقِّع في 20 يوليو 2002م في (مشاكوس) الكينية، وعُرف باسمها، وقد ألزم البروتوكول الطرفين بانتهاج التفاوض سبيلًا للوصول إلى حلّ سلمي وشامل للصراع في إطار وحدة السودان وليس في إطار تكريس هياكل انفصالية، كما نص بشكل واضح لا لبس فيه على صياغة وتنفيذ اتفاقية السلام بطريقة تجعل خيار الوحدة جاذبًا، غير أن توقيع البروتوكول، لم يفلح في الوصول إلى تفاهمات تسهم في سرعة البتّ في القضايا محل التفاوض كما كان مأمولًا، فبرزت الكثير من العقبات التي ينجح التفاوض في اجتيازها.
وبدا واضحًا، في تلك الفترة أيضًا، مَيْل الدول المسهلة للتفاوض إلى تدعيم جانب الحركة الشعبية، في كثير من القضايا، وفي حالة كينيا الراعية للتفاوض كان هذا الانحياز واضحًا؛ لما لها من مصالح مرتبطة بتحقيق حلم الحركة الشعبية في الوصول إلى سدة الحكم بجنوب السودان.
واتضح بجلاء ذلك الميل الكيني، في (وثيقة ناكورو) التي قدّمها الوسيط الكيني الجنرال لازارس سيمبويا، نيابةَ عن الوسطاء، في نهاية جولة التفاوض التي عُقدت يوليو 2003م بمدينة ناكورو الكينية؛ حيث رأى الوسطاء أن تقديم بعض التصورات المكتوبة لحلول وسط مقترحة إلى الطرفين، من جانب سكرتارية الإيجاد، يمكن أن يساعد في تسريع الوصول إلى اتفاق.
وفي هذا الإطار جاءت وثيقة ناكورو التي قُدِّمت كمقترح لحل الأزمة السودانية. وبدا للكثيرين آنذاك، وللحكومة السودانية بصفة خاصة، أن هذا المقترح يهدف إلى جعل الفترة الانتقالية مرحلة إعداد وتهيئة لدولة منفصلة في الجنوب، وإحكام سيطرتها وبناء مؤسساتها ووضع البنية الأساسية لأجهزتها. وفوق ذلك جعلت هذه الوثيقة الجنوب كله تحت السيطرة المنفردة للحركة الشعبية التي يقودها جون قرنق متجاهلة القبائل والمجموعات الجنوبية الأخرى السياسية والعسكرية التي تمثل باقي الجنوبيين من غير المنضوين تحت لواء الحركة الشعبية.
ورفضت الحكومة السودانية الوثيقة، وكان رأيها بأنها ضربت عرض الحائض بروح بروتوكول مشاكوس الإطاري الذي نص على التفاوض وصولًا لحل سلمي في إطار وحدة السودان وليس الانفصال، كما تجاوزت سقف مطالب الحركة الشعبية في بعض النقاط. اتفقت مع الحكومة السودانية في هذا الرفض القوى السياسية الجنوبية المتحالفة معها، وكذلك القوى السياسية الأساسية المعارضة في الشمال ممثلة في الصادق المهدي ومعظم القادة الأساسيين في الحزب الاتحادي في الداخل، وأيضًا تحفظت مصر على الوثيقة، بينما لقيت تأييدًا خافتًا من الرئيسين الإريتري والكيني([6]).
كادت وثيقة ناكورو أن تؤدي إلى انهيار عملية التفاوض برُمّتها، خاصةً مع إصرار الحركة الشعبية على التمسك بها، في مقابل رفض الحكومة السودانية لها وتهديدها بالانسحاب من التفاوض، وكان موقف رئيس وفد الوساطة الجنرال الكيني سيمبويا هو إعلان تمسكه بالوثيقة، ودعا الطرفين إلى تقديم ردودهما في الجولة الختامية، رغم تلك الملابسات ورغم قيام 60 شخصية من جنوب السودان بتقديم مذكرة إلى الوسيط الكيني أعلنت فيها رفضها لوثيقة الإيغاد واعتبرت أن الوثيقة أعطت جون قرنق الانفراد بحكم الجنوب دون القوى السياسية الأخرى. وحذرت الوثيقة من أن الصراع سيتحول من صراع شمالي-جنوبي إلى جنوبي-جنوبي، وأن ذلك سيؤثر على دول الجوار وأن كينيا لن تكون استثناء في هذا المجال… وبحسب ما لاحظ المراقبون آنذاك، أن الجنرال سيمبويا بدا يتجه للعمل كأنه قائم بالتحكيم وليس بالوساطة.
الوسيط الكيني ومفاوضات نيفاشا وأزمة منطقة أبيي:
فشلت جولة ناكورو في التوصل إلى اتفاق، وكادت أن تطيح بكامل عملية السلام؛ بسبب ما قام به الوسيط الكيني آنذاك، غير أن الحراك الإقليمي تمكَّن من تجديد عملية التفاوض، الذي انتقل هذه المرة إلى ضاحية نيفاشا الكينية في مطلع نوفمبر 2003م؛ حيث استمرت جولات هذه المفاوضات إلى مايو 2004م؛ حيث انتقلت إلى نيروبي ليتم التوقيع في مايو من نفس العام على إعلان نيروبي للسلام.
في تلك الفترة، وفي وقت قطعت فيه مفاوضات السلام شوطًا كبيرًا، دفع الوسيط الكيني سيمبويا ببروتوكول جديد يتعلق بمنطقة أبيي، وهي إحدى المناطق الثلاث المتنازع عليها (أبيي، جبال النوبة، جنوب النيل الأزرق)، وهي منطقة كان أمرها قد حُسم في بروتوكول مشاكوس 2002م الإطاري، الذي جعل ضمن المبادئ الحاكمة لعملية التفاوض، أن الحدود بين السودان وجنوب السودان هي الحدود التي كانت موجودة عقب خروج المستعمر الإنجليزي في الأول من يناير 1956م، ووفقًا لها، فإن منطقة أبيي كانت تقع ضمن حدود شمال السودان… ولكنّ البروتوكول الذي دفَع به الوسيط الكيني جعل أبيي منطقة جنوبية نسبة لاستقرار مجموعة قبلية جنوبية بها، وهم (دينكا نقوك) بجانب العرب الرُّحَّل الموسميين الذين يرتحلون إليها في فصل الجفاف من مناطقهم في الشمال! وبناء على ذلك اعتبر البروتوكول أبيي منطقة متنازعًا عليها، رغم أنها ظلت تتبع إداريًّا لشمال السودان منذ العام 1905م طبقًا للوثائق البريطانية، وفي العام 1930م حاولت الإدارة البريطانية ضمّ المنطقة التي تقع فيها مشيخات دينكا نقوك، إلى مديرية بحر الغزال، ولكنهم رفضوا ذلك على لسان سلطانهم (كوال أروب)، وأصرُّوا على تبعيتهم لشمال السودان، وتكرر الأمر مرة أخرة في العام 1952م في عهد السلطان (دينق مجوك) الذي رفض ذلك مرة ثانية وفضَّل أن تظل تبعية المنطقة لكردفان. هذا بالإضافة إلى استفتاء تم إجراؤه في ثمانينيات القرن العشرين في عهد الرئيس جعفر نميري، وكانت نتيجته لصالح تبعية المنطقة لكردفان.
وتسبب الدفع بالبروتوكول الخاص بمنطقة أبيي، رغم أنه تم التوقيع عليه مِن قِبَل الحكومة في يونيو 2004م، في تعقيدات تتعلق بتفسير ما ورد فيه من تفاصيل، وظلت تلك التعقيدات قائمة إلى يومنا هذا، وتسببت في صراع دموي راح ضحيته المئات، وحوّل المنطقة إلى بؤرة توتر دائمة، لم تفلح حتى محكمة العدل الدولية في إنهاء ما ارتبط بها من نزاع.
في 31 ديسمبر 2004م جرى التوقيع في نيفاشا، على جميع القضايا العالقة بين الطرفين، وبعد سبعة أشهر من ذلك التاريخ، تم التوقيع على اتفاق السلام الشامل في صورته النهائية في احتفال كبير أُقيم بنيروبي، في التاسع من يونيو 2005م. وهو الاتفاق الذي حدَّد فترة انتقالية مدتها ستة سنوات من تاريخ التوقيع لإجراء استفتاء على تقرير مصير جنوب السودان، بين الوحدة مع السودان أو الانفصال عنه، وأسّس لما سُمِّي بحكومة الوحدة الوطنية، أو ما اصطُلِحَ على تسميتها إعلاميًّا بحكومة الشريكين، والبعض يضيف وصف (المتشاكسين).
وعلى عكس ما تم النص عليه في الاتفاق، من مبدأ (عمل الطرفين على جعل الوحدة خيارًا جاذبًا للجنوبيين)؛ إلّا أن العكس تمامًا هو الذي شهدته الفترة الانتقالية، من صراع مرير بين شريكي الحكم في السودان، وجرى نوع من الاستقطاب العنيف لحشد التأييد لخيار الانفصال، خاصة بعد مصرع زعيم الحركة الشعبية د. جون قرنق ديمبيور. ولم تكن دول أخرى، من بينها كينيا، ببعيد عن ذلك الصراع والتشاكس؛ حيث كانت مصالحها السياسية والاقتصادية ترجح جانب خيار انفصال الجنوب وتكوين دول مستقلة؛ فقد ظلت كينيا تُقدِّم لحكام جنوب السودان مقترحات المشروعات التنموية والاقتصادية التي تشجعهم على فك الارتباط بشمال السودان.
كينيا ومساعي فك الارتباط الاقتصادي بين السودان وجنوب السودان:
ارتبط تصدير النفط، الذي يمثل المورد الأساسي للاقتصاد في جنوب السودان، بشمال السودان بحكم وجود خط الأنابيب الوحيد الذي ينقل هذا النفط إلى موانئ التصدير في شمال السودان، ولكن كينيا عملت على تقديم العروض التي تُشجّع حكومة جنوب السودان على فكّ هذا الارتباط، فطرحت المشروع الذي اشتهر في ذلك الوقت باسم (مشروع سكة حديد الانفصال)؛ وحيث تقترح فيه كينيا على التيار الانفصالي في حكومة جنوب السودان إنشاء خط سكة حديد يربط جوبا عاصمة جنوب السودان بميناء مومباسا على الساحل الكيني مع المحيط الهندي. وتم وضع دراسة هذا المشروع بواسطة شركة ألمانية متخصصة تُسمَّى (تورميهلن) لإنجاز هذا الخط ليكون ركيزة لتصدير النفط والمواد الخام من جنوبي السودان، ورأى فيه إستراتيجيو الانفصال الجنوبيون شريان الحياة لدولتهم المرجوة. وبحسب المصادر الإخبارية في ذلك الوقت، فإن الدراسة كشفت عن أن خط القطارات هذا، كانت فكرته موجودة في وقت سابق لتوقيع اتفاقية نيفاشا عام 2005م، ولكن تم تجميد تنفيذه لأسباب مختلفة، بعد توقيع اتفاقية نيفاشا.. وأنه قد عادت إليه الحياة مجددًا بعد مضي سنوات من الفترة الانتقالية واقتراب موعد إجراء استفتاء تقرير المصير في العام 2011م([7]).
وبعد ذلك شاع أن هذا المشروع تم صرف النظر عنه بسبب ارتفاع تكاليفه، واستمر هذا الأمر حتى بعد انفصال دولة جنوب السودان وإعلان استقلالها في يوليو 2011م. خاصة أن دولة جنوب السودان دخلت في موجة من العنف والصراع الأهلي عقب إعلان استقلالها بوقت قصير، وكان الحديث عن المشروع يعود مرة بعد الأخرى، كلما ساءت العلاقات مع الجارة الجديدة السودان، خاصةً بعد أن أعلنت حكومة السودان إغلاق الخط الناقل للنفط الجنوبي عقب الاعتداءات التي قامت بها دولة جنوب السودان على أهم وأكبر الحقول السودانية المنتجة للنفط في منطقة هجليج الحدودية، في العام 2012م، وتدخلت كينيا وقتها بوساطة من رئيسها، آنذاك، ثامبو امبيكي لرعاية مفاوضات قمة بين الرئيسين السوداني عمر البشير والجنوب سوداني سلفاكير ميارديت، استضافتها العاصمة الإثيوبية أديس أبابا على مدى 5 أيام بين البلدين بغرض التوصل إلى اتفاق لتأمين الحدود وتعزيز التجارة، تم توقيع اتفاق يسمح للجنوب باستئناف صادرات النفط عبر ميناء بشائر ببورتسودان.. وفي الثامن من يونيو 2013م أعلن الرئيس السوداني عمر البشير إيقاف ضخّ نفط جنوب السودان عبر خط الأنابيب السوداني استنادًا إلى أن جوبا لم تفِ بالتزاماتها في الاتفاق([8]).
إزاء تلك التطورات، أصبح التوقيت مُواتيًا لكينيا لتجديد أحلامها في استقطاب تصدير نفط جنوب السودان إليها وفك الارتباط بينه وبين السودان، فطرح فكرة تحويل مسار تصدير النفط الجنوب سوداني إليها، ولكن هذه المرة في إطار سيناريو إقليمي أوسع، ضمن ما سُمِّي بمشروع لابسيت (lapsset)*، وهو عبارة عن حزمة مشاريع جزئية تكاملية الهدف منها ربط إثيوبيا وجنوب السودان بميناء لامو الكيني. وقد أطلقته كينيا ضمن رؤية 2030م التي دشّنها ”مواي كباكي“ الرئيس الأسبق لكينيا عام 2009م، وهي تهدف لنقل كينيا من دولة فقيرة إلى دولة صناعية متوسطة الدخل بحلول العام 2030م. ويقوم المشروع على إنشاء ممر تجاري يربط جنوب السودان، بإثيوبيا وكينيا عبر خط سكة حديد وطريق بري بجانب خط أنابيب لنقل نفط جنوب السودان. ووُضع حجر الأساس للمشروع في ميناء لامو الكيني، بحضور الرئيسين الجنوبي سلفاكير والكيني مواي كيباكي ورئيس وزراء إثيوبيا الراحل مليس زيناوي.
ويرى الخبير الجنوب سوداني استيفن لوال أن كينيا هي الدولة المستفيدة الأولى من الصراع السودان وجنوب السودان، في ذلك الوقت، فهي مثلما احتضنت مفاوضات السلام وحققت اتفاقية “نيفاشا” التي قادت لقيام دولة الجنوب، فها هي تبدأ البحث عن مصالح اقتصادية في الجنوب عبر إغرائه بقبول ميناء لامو الكيني الذي أنشئ أساسًا ليكون بديلًا جنوبيًّا لموانئ السودان الشمالي، وفي هذا الصدد أشار الخبير الجنوبي إلى أن وفودًا كينية بدأت، في ذلك الوقت، تصل إلى جوبا بانتظام، لهدف واحد، هو إطلاع قادة الجنوب على ما تم من تحضيرات وترتيبات لإنشاء الميناء الكيني الذي يرتكز عليه مشروع لابسيت([9]).
ومنذ ذلك الوقت حتى الحين، لم ير مشروع لابيست النور، ووجدت جنوب السودان نفسها مضطرة للعودة لتحسين العلاقات مع السودان، والاستمرار في اتفاق نقل النفط، الذي يعتمد عليه اقتصاده، عبر الموانئ السودانية؛ حيث تمثل عائدات النفط 99% من الدخل القومي في دولة جنوب السودان.
واستقر الأمر عقب سقوط نظام حكم الإنقاذ الوطني في الخرطوم، ولكن اندلاع الحرب في السودان أدى إلى توقف عمليات ضخّ النفط الجنوب سوداني عبر خط الأنابيب الذي تعرض لأضرار بالغة جراء الحرب، مما يعني خسارة جنوب السودان 470 ألف برميل نفط يوميًّا، طيلة فترة الحرب التي ناهزت الآن على العامين، ولم يستأنف الضخ إلا مؤخرًا، بعد إصلاح الخط الناقل للنفط بواسطة الشركات الصينية.
الرئيس وليم روتو.. والانخراط الكيني في الأزمة السودانية
لم يشهد ملف العلاقات الكينية السودان عقب سقوط نظام الإنقاذ الوطني في أبريل 2019م أيّ توترات، كما لم يشهد تطورًا، لافتًا على المستوى الرسمي، طيلة أربعة سنوات، وظلت العلاقات في مستواها الطبيعي، فيما يبدو للعيان.
غير أن صعود وليم روتو إلى سدة الحكم في كينيا، خلفًا لسلفه أوهورو كينياتا، في العام 2022م، فتح الباب للحديث عن نمط آخر من العلاقات غير الرسمية، تتم في جنح الظلام وصفقات تُعقد تحت الطاولة؛ حيث تردد في الأوساط السياسية أن لنائب رئيس مجلس السيادة السوداني محمد حمدان دقلو الشهير بحميدتي قائد قوات الدعم السريع، يدًا في دعم الحملة الانتخابية لوليم روتو، وتردد في الأوساط السياسية أن حميدتي قدَّم لروتو ملايين الدولارات دعمًا لحملته الانتخابية، مما يعني وجود مصالح من نوع خاص تربط الرجلين بعضهما ببعض؛ حيث يشارك روتو مع حميدتي في تجارة الذهب، وقيل: إن روتو يمتلك شركة تعمل في تعدين الذهب في السودان؛ وفقًا لوسائل إعلام كينية.
وتشير مصادر كينية إلى أن وليم روتو، قبل وصوله إلى رئاسة الحكومة في كينيا، عندما كان نائبًا للرئيس السابق أوهورو كينياتا، قام بزيارة سرية للسودان في 2020م، عبر طائرة خاصة تتبع لشركة فونيكس من طراز سيسينا 560 بالتنسيق مع رجل الأعمال السوداني أسامة داؤود وفقًا لما ذكره حينها موقع (كينيا اليوم)، وتنقل روتو خلال الزيارة في عدد من مواقع تعدين الذهب. وتؤكد المصادر أن العلاقة بين حميدتي وروتو تمت عبر هندسة من رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك والذي تجمعه علاقة بالرئيس الكيني منذ أن كان يعمل في مجال المنظمات الدولية، ولعل العلاقة هذه هي التي دفعت الرئيس الكيني لاستقبال حميدتي عقب اندلاع الحرب، وتوفير غطاء دبلوماسي له وتسهيل الدعم اللوجستي لحركة منسوبي الدعم السريع ووفدها التفاوضي عبر جوازات سفر كينية. ولاحقًا عقب اندلاع الحرب، نقلت عائلة (دقلو) جزءًا كبيرًا من أموالهم من الإمارات إلى البنوك الكينية، وامتلكوا فيها عددًا من البنايات السكنية والشركات([10]).
عقب اندلاع الحرب في السودان، في منتصف أبريل 2023م، بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع التي يقودها محمد حمدان دقلو (حميدتي) نائب رئيس مجلس السيادة السوداني، حاولت كينيا الانخراط في أزمة السودان من خلال رئاستها للجنة الرباعية التي كونتها منظمة (إيغاد) لحل الأزمة السودانية، وتضم كلاً من؛ كينيا وأوغندا وجيبوتي وجنوب السودان، من خلالها طرحت مبادرة للتسوية بين طرفي الصراع في أبريل 2023م، فقد اقترح الرئيس الكيني وليام روتو استضافة طرفي الصراع في نيروبي للقيام بعملية وساطة لوقف القتال، لكن الخرطوم لم تقبل بوساطة كينيا، نسبة لدورها في دعم تمرد حميدتي، بل ورفضت رئاسة كينيا للآلية الرباعية للهيئة الحكومية لتنمية دول شق إفريقيا (إيغاد)، كما رفضت الحكومة السودانية مخرجات اجتماع وزراء خارجية دول الآلية الرباعية التي كلفتها قمة زعماء إيغاد بحل الأزمة السودانية، واعتبرته تحديًا واضحًا للسودان وانتهاكًا لسيادته([11]).
واتهمت الخارجية السودانية كينيا بتبنّي مواقف الدعم السريع، وتقديم الدعم لها، إيواء عناصرها، وقالت، في بيان لها: إن الموقف السوداني يأتي نظرًا لتبنّي الحكومة الكينية وكبار مسؤوليها مواقف قوات الدعم السريع، متهمة الحكومة الكينية بإيواء عناصر من قيادات الدعم السريع، والقيام بتقديم مختلف الدعم لهم. وأفادت الخارجية السودانية، بأنه حتى تتمكن الحكومة السودانية من التعامل مع اللجنة الرباعية لتحقيق أهدافها، قامت بإخطار رئاسة منظمة الإيغاد وسكرتاريتها بموقفها بشأن ضرورة استمرار فخامة الرئيس سلفاكير ميادريت رئيس دولة جنوب السودان في رئاسة اللجنة الرباعية التي اعتمدتها الإيغاد([12]).
ورغم تلك المواقف المتصادمة، إلّا أن حدة التوتر بين البلدين خفَّت إلى حدٍّ ما، بعد أن قام رئيس مجلس السيادة السوداني قائد الجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان بزيارة إلى كينيا في نوفمبر 2023م، عقب النجاح الذي أحرزه منبر (جدة)، الذي ترعاه كل من المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، في الوصول إلى توقيع اتفاق بين طرفي القتال في السودان، في السابع من نفس الشهر، حول الالتزامات الإنسانية وإجراءات بناء الثقة تمهيدًا للدخول في مفاوضات حول وقف دائم لإطلاق النار.
وخلال تلك الزيارة، التي اعتبرت إنهاء للقطيعة بين البلدين، اتفق البرهان وروتو على دعم منبر جدة، وهو ما نقله الرئيس روتو إلى قائد الدعم السريع الذي أعلن بدوره دعمه للنجاح المحرز في منبر جدة([13]).
أزمة الحكومة الموازية وعودة التوتر من جديد بين كينيا والسودان
في فبراير 2025م، وبعد هدوء استمر زهاء عام ونصف، عاد التوتر مرة أخرى ليُلبِّد سماء العلاقات بين السودان وكينيا، ليدخل البلدان في حالة من التصعيد الحادّ، وذلك عقب استضافة كينيا لاجتماع ضم قوات الدعم السريع وعددًا من القوى السياسية المدنية والجماعات العسكرية المتحالفة مع الدعم السريع، في العاصمة نيروبي، لوضع الترتيبات لإعلان ما سُمِّي بـ(الحكومة الموازية)، وتوقيع ميثاق أطلقوا عليه اسم ميثاق السودان التأسيسي، وهو ما اعتبرته الحكومة السودانية عداء سافرًا من جانب كينيا، وتهديدًا للأمن القومي للسودان.
والعجيب في الأمر، أن هذه الخطوة من الحكومة الكينية جاءت في أعقاب زيارة وديّة قام بها وزير الخارجية السوداني علي يوسف إلى كينيا، في 24 يناير 2025م، بدعوة من رئيس مجلس الوزراء الكيني ووزير الخارجية وشؤون المغتربين موساليا مودافادي، اعتبرت حينها تطورًا إيجابيًّا في ملف العلاقات الكينية السودانية. والتقى الوزير السوداني خلال الزيارة بالرئيس وليام روتو، ونقل له دعوة من الرئيس البرهان لزيارة السودان، ورحّب روتو بالدعوة ووعد بتلبيتها، وأكد دعمه لعودة السودان للاتحاد الإفريقي ومنظمة الإيغاد، والعمل المشترك لتعزيز العلاقات الثنائية في المجالات السياسية والاقتصادية والتنسيق في المحافل الدولية([14]).
واعتبرت الحكومة السودانية استضافة كينيا لفعالية خاصة بالمجموعات الموالية للقوات المتمردة عليها عملًا عدائيًّا، وتهديدًا للأمن القومي السوداني؛ لأنه يصبّ في خانة مساندة جهود ترمي إلى تقسيم السودان. وأصدرت الخارجية السودانية بيانًا شديد اللهجة قالت فيه: “إن خطوة الحكومة الكينية لا تتعارض فقط مع قواعد حسن الجوار، وإنما تناقض أيضًا التعهدات التي قدمتها «على أعلى مستوى» بعدم السماح بقيام أنشطة عدائية للسودان في أراضيها، كما أشارت إلى أنها تُعدّ بمثابة إعلان العداء لكل الشعب السوداني، بحسب البيان”.
وأضاف البيان: “حيث إن الهدف المُعلَن لهذا الاتفاق هو إقامة حكومة موازية في جزء من أرض السودان، فإن هذا يعني تشجيع تقسيم الدول الإفريقية وانتهاك سيادتها والتدخل في شؤونها، في خرق لميثاق الأمم المتحدة والأمر التأسيسي للاتحاد الإفريقي والقواعد التي استقر عليها النظام الدولي المعاصر”.
واعتبرت أن احتضان قيادات الدعم السريع والسماح لهم بممارسة النشاط السياسي والدعائي العلني، في وقت لا تزال فيه ترتكب جرائم الإبادة الجماعية والمجازر ضد المدنيين على أساس إثني ومهاجمة معسكرات النازحين من الحرب والاغتصاب، هو تشجيع لاستمرار كل هذه الفظائع ومشاركة فيها. وعبرت الخارجية عن أسفها لما وصفته بتنكُّر الحكومة الكينية لالتزاماتها بموجب القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة والأمر التأسيسي للاتحاد الإفريقي ومعاهدة منع الإبادة الجماعية، داعية المجتمع الدولي لإدانة هذا المسلك من الحكومة الكينية، وشددت على أنها ستتخذ من الخطوات ما سيعيد الأمور إلى نصابها([15]).
وردّت بأن استضافتها لاجتماعات مجموعات سودانية في نيروبي، يصبّ في إطار سعيها المستمر لإيجاد حلول توقف حرب السودان، بالتنسيق مع الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، وأن ما تم في نيروبي من اجتماع لقوات الدعم السريع وحركات مسلحة وقوى مدنية يهدف إلى تسريع إيقاف الحرب والاتفاق بين السودانيين، وقالت، في بيان رسمي: “إن الصراع في السودان، الذي طال أمده لا يزال يدمر دولة كانت قبل 4 سنوات فقط تسير على مسار إيجابي من الاستقرار والديمقراطية والرخاء لشعبها. من المؤسف أن العملية الديمقراطية في السودان انقطعت وتحولت الأزمة الناجمة عن ذلك إلى حرب داخلية مدمرة”.
ولكن الحكومة السودانية لم تر في الردود الكينية أمرًا مقنعًا، وردت في بيان آخر بأن الرئيس الكيني أصبح في نظر الشعب السوداني ضالعًا في العدوان عليه، لافتًا إلى أنه يُعلي المصالح التجارية على العلاقات التاريخية بين بلاده والسودان، وطالبت حكومته بالتراجع عن ما أسمته بالتوجه الخطير الذي سيهدد السلم والأمن في الإقليم. وأكدت أنها شرعت في اتخاذ الإجراءات التي تصون الأمن القومي للسودان وتحمي سيادته ووحدة أراضيه. وأولى تلك الإجراءات كانت قيامها باستدعاء سفيرها لدى نيروبي([16]).
وأثارت الخطوة التي اتخذتها حكومة الرئيس روتو باستضافة الفعالية السياسية للمجموعات المتمردة على السلطة السياسية في السودان، ردود فعل متباينة، على المستوى المحلي والإقليمي، فقد أدان عدد من المنظمات الحقوقية الكينية والإفريقية، منها (مبادرة الأفارقة من أجل القرن الإفريقي) و(لجنة حقوق الإنسان في كينيا) و(منظمة مراقبة الفظائع في إفريقيا) و(اتحاد المحامين الأفارقة) و(المركز الإفريقي للحكم المفتوح) استضافة كينيا للفعالية، وقالت، في بيان وقَّعته 12 منظمة، إن الخطوة الكينية تُقوِّض جهود الوساطة الإفريقية بقيادة اللجنة رفيعة المستوى التابعة للاتحاد الإفريقي، خاصةً مع سعي هذه القوات والمجموعات المتحالفة معها لتشكيل حكومة منفى غير شرعية، ودعت إلى مساءلة كينيا([17]).
أما على مستوى المحلي، فقد كان للقضية أصداء سياسية واسعة في الصحافة الكينية؛ حيث وُجِّهَت الانتقادات للرئيس روتو، فقد وصفته صحيفة (ستاندرد)، في تحليل لها، بأنها (خطأ دبلوماسي جديد) من جانب الحكومة الكينية. وأضافت أن التصعيد في هذه القضية قد يزيد من تعقيد العلاقات الثنائية بين الخرطوم ونيروبي في وقت حساس تمر فيه كينيا بتحديات في سياستها الخارجية. وتناولته صحيفة “ديلي نيشن” تحت عنوان “اللعب بالنار” مشيرة إلى التصعيد مع السودان يُعرِّض مصالح كينيا في للخطر. فيما اعتبرت صحيحة “ذا ستار” أن استضافة كينيا للدعم السريع تضعها في موقف دبلوماسي محرج([18]).
خاتمة:
الوضع الطبيعي للعلاقات بين كينيا والسودان، أن تكون في خانة العلاقات الطيبة وحسن الجوار، خصوصًا أنه لا توجد إشكالات جذرية كبيرة تحول بينها وبين وضع الاستقرار، على أقل تقدير إن لم يكن التطور على نحو إيجابي، فباستثناء مثلث (إيلمي)، الذي لم يعد بعد انفصال الجنوب يمثل مشكلة حدودية بين البلدين، لا توجد هناك قضايا جذرية تتسبب في توتر العلاقة بين البلدين.
ولكنَّ الطموح إلى الاستئثار بالمصالح الآنية، كان هو الدافع على الدوام لحدوث توترات في تلك العلاقة، ففي حالة جنوب السودان، قبل الانفصال وبعده، كان طموح كينيا إلى الاستئثار بمزايا ترحيل النفط الجنوب سوداني هو الحافز لها إلى الدخول في كثير من التقاطعات والإشكالات مع السودان، بدءًا بلعبها دور الوسيط غير المحايد خلال مفاوضات السلام التي انتهت بتقسيم السودان إلى دولتين، ثم محاولاتها لفك الارتباط الاقتصادي في قطاع النفط بين السودان وجنوب السودان، لصالح مشاريعها الذاتية، مثل مشروع (لابسيت).
هذا إلى جانب طموح كينيا للعب دور قيادي في إفريقيا، تحل فيه وتربط، ولهذا تحرص على التدخل في الشؤون الداخلية للدول، من ضمنها السودان، من بوابة الوساطة لحل الأزمات، وهذا دور إذا لم تتوفر فيه النزاهة اللازمة، يتحول إلى ضرب قبيح من أشكال الفساد في السياسة الدولية؛ لأنه مدخل للعبث بالأمن الإقليمي.
مؤخرًا، انضافت المصالح الذاتية للمسؤولين الكينيين لتكمل الثلاثية، فالارتباطات التجارية الخاصة، كانت هي السبب المباشر في تورط كينيا في سياق الأزمة السودانية، ودفع به إلى دعم الطرف المُدان دوليًّا في أقذر حرب شهدها السودان، ولم تفلح ستارة الوساطة، هذه المرّة، في التغطية على حقيقة الدوافع وراء الدور الكيني في الأزمة السودانية.
ولكنّ التعويل على المؤسسية السياسية الكينية في وضع حدّ لمثل هذه المغامرات التي يخوضها المسؤولون الكينيون، التي تُعرِّض علاقات كينيا الدبلوماسية بدول المحيط الإفريقي لخطر جسيم، وتهدد بوضع كينيا في خانة الدول الشريرة. ورغم أن مؤسسات الحكم في كينيا تعاني من أشكال متعددة من الفساد، ولكن البنية الأساسية والتجربة العريقة لها تؤهلها لإصلاح هذه الاختلالات في السياسة الخارجية الكينية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
[1] – المعز محمد الحسن، بين جبال النوبة في السودان وجمال النوبة في كينيا، مقال منشور بمنصة قلب إفريقيا الإخبارية، https://heartofafrica.info/?p=1605
[2] – طارق محمد عمر، العلاقات السودانية الكينية، موقع النصر نيوز، alnasr.net/6354
[3] – المصدر السابق.
[4] – دريد الخطيب ومحمد أمير الشب، انفصال جنوب السودان الجذور والتطورات والتداعيات، مجلة جامعة القدس المفتوحة للأبحاث والدراسات، العدد 27، حزيران 2012م، ص 393.
[5] – جيهان جمعة علي حناوي، تأثير انفصال جنوب السودان على المستوى الإقليمي عام 2011م، مجلة كلية الآداب جامعة أسوان، أكتوبر 2011م.
[6] – هاني رسلان، عملية سلام جنوب السودان… مخاض صعب لتوازن حرج، سلسلة كراسات إستراتيجية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، العدد 149، مارس 2005م.
[7] – قطار الانفصال بجنوبي السودان، الجزيرة نت، 6/11/2009= www.aljazeera.net/amp/politics/2009/11/6
[8] – عاصم إسماعيل، النفط السوداني، صراع الأجندات وتقاطع المصالح، موقع العربي الجديد، 27 فبراير 2019م = www.alaraby.co.uk/%D8%
[9] – المصدر السابق.
[10] – الرئيس الكيني روتو في عين العاصفة، تقرير منشور بموقع أصداء سودانية بتاريخ 22 فبراير 2025م = http//assdaasudania.com/22//30311
[11] – أبرزها (إيغاد) و(منبر جدة)… إلى أين يقود تجاذب مبادرات الأزمة السودان، تقرير منشور بموقع الروابط للبحوث والدراسات الإستراتيجية = rawabetcenter.com/archives/162664
[12] – الراصد الإثيوبي، أديس أبابا، الخميس 15 يونيو 2023م = www.ethiomonitor.net/6191/
[13] – صحيفة الشرق الأوسط، 24 نوفمبر 2023م.
[14] – موقع الحاكم الإخباري، 24 يناير 2025م، = https//alhakim.net/123928/amp?
[15] – منصة بيم ريبورتس، 18 فبراير 2025م = /https://www.beamreports.com/2025/02/18)18/02/2025
[16] – العربية. نت، 20 فبراير 2025م = www.alarabiya.net/amp/arab-and-world/sudan/2025/2/20/%D8%A7D9%
[17] – تقرير: الرئيس الكيني روتو في عين العاصفة، مصدر سابق.
[18] – تقرير بعنوان: ما تأثير احتضان كينيا لمؤتمر الدعم السريع على دورها الإقليمي؟، الجزيرة. نت، 19 فبراير 2025م = www.aljazeera.net/amp/politics/2025/2/19/%D9%85%