نِهاد محمود
باحثة دكتوراه بكلية الدراسات الإفريقية العليا- جامعة القاهرة
مُقَدِّمَة:
يقول المثل الإفريقي: “مَن يستعير حصيرة، سينام حتمًا على الأرض الباردة عندما يستعيدها صاحبها”، وهو ما يصف لنا بوضوح مُعضلة المساعدات الخارجية التي تتلقاها إفريقيا، فعلى الرغم من أنها تبدو مِنَحًا سخيةً للأفارقة، إلا أنها غالبًا ما تأتي مُحمَّلة بمخاطر تجعلها أكثر ضررًا من نفعها، خاصةً مع الاعتماد المفرط عليها.
وفي خضم الجدل غير المتوقف حول جدوى هذه المساعدات، وتأثيرها على تنمية القارة الإفريقية؛ يبرز حديثنا حول كتاب: “المُساعدات المُميتَة.. لماذا تُهدَر المعونات الدوليّة بلا طائل؟ وما هو الطريق الأفضل لتنمية إفريقيا؟” Dead Aid: Why Aid Is Not Working and How There Is a Better Way for Africa,، للكاتبة الزامبية والخبيرة الاقتصادية “دامبيسا مويو”، والذي يُعدّ أحد أكثر الأطروحات جرأةً في تناول هذه القضية الإشكاليّة، والتي تميزت بتركيزها على التأثيرات السلبية التي خلَّفتها على دول القارة الإفريقية.
في هذا السياق يكشف لنا كتاب “المساعدات المميتة” كيف تحوَّلت المساعدات، التي يُفترض أن تكون أداة مساعدة على حل مشكلات إفريقيا، إلى وسيلة لإدامة الفقر وعرقلة التقدم وتغذية الفساد، داعيًا -أي الكتاب- إلى ضرورة إعادة التفكير في هذا النموذج، والبحث عن بدائل حقيقية تضمن للقارة استقلالها ونموّها بعيدًا عن التبعية الخارجية.
أولًا: أهمية كتاب “المساعدات المُميتة”
تكمن أهمية هذا الكتاب في طرحه رؤية نقدية تتحدى الفكرة التقليدية القائلة بأن المساعدات الخارجية تُقدَّم فقط لدعم تنمية الدول الإفريقية دون غايات أخرى. فمن خلال دلالات كاشفة، يوضّح الكتاب كيف أن الاعتماد المفرط على هذه المساعدات يُعيق التنمية في إفريقيا بدلًا من دعمها، بخلاف الرواية التي يتم الترويج لها.
يدعو الكتاب كذلك القادة الأفارقة وشعوبهم إلى التخلّي عن هذا النموذج القائم على الهِبات، عبر استعراض السيناريوهات المحتملة إذا ما ركزت القارة على بناء مؤسساتها الوطنية. كما يُسلّط الضوء على حلول بديلة ونماذج ناجحة تمكَّنت بالفعل من تحقيق التنمية بعيدًا عن الاعتماد على المساعدات الخارجية، مع تحليل المخاطر والتحديات المرتبطة بهذه المساعدات وتأثيراتها السلبية على تقدم القارة.
ثانيًا: بنية وتقسيم الكتاب
قسَّمت الكاتبة مؤلَّفها “المساعدات المُميتة” إلى قسمين رئيسيين: يُجسِّد القسم الأول عالمًا غارقًا في المساعدات، فيما يركز الثاني على عالم يعتمد على ذاته، بعيدًا عن المساعدات. ويمكن تفصيل محتوى كل منهما على النحو التالي:
الجزء الأول: عالم المساعدات
وينقسم إلى الأقسام الفرعية التالية:
- أسطورة المساعدات.
- لمحة تاريخية عن المساعدات.
- المساعدات لا تُحقّق النتائج المرجوّة.
- المساعدات.. القاتل الصامت للنمو.
الجزء الثاني: عالم بلا مساعدات
وينقسم إلى الأقسام الفرعية التالية:
- إعادة النظر جذريًّا في مسألة الاعتماد على المساعدات.
- حلّ اقتصادي قائم على رأس المال.
- الصينيون أصدقاؤنا.
- فلنتَّجه إلى التجارة.
- الخدمات المصرفية لغير القادرين على الوصول إلى البنوك.
- تحقيق التنمية على أرض الواقع.
ثالثًا: كتاب “المساعدات المُميتة”… أهم الأفكار والمضامين
في إطار سعي “مويو” لتقديم طرحها حول التأثيرات السلبية للمساعدات الخارجية على التنمية في إفريقيا، وتفكيك الأسطورة التي تُصوِّرها كعامل مُحفِّز للنمو، سلَّطت الضوء على مجموعة من المضامين الرئيسية التي تشرح كيف أن هذه المساعدات لم تؤدِّ إلى تطور اقتصادي حقيقي، بل أسهمت في تعزيز التبعية وإدامة الفقر والفساد. وعليه نعرض أبرز هذه المضامين على النحو التالي:
1- أنواع المساعدات الخارجية:
قبل التعمّق في تأثير المساعدات الخارجية على التنمية في القارة الإفريقية، يُميِّز الكتاب بين 3 تصنيفات للمساعدات يمكن تفصيلهم كما يلي:
- المساعدات الإنسانية أو الطارئة: تلك التي تُقدَّم كاستجابةً للكوارث الطبيعية والأزمات، مثل المساعدات التي تلقتها الدول الآسيوية بعد تسونامي 2004م، أو الإغاثة المقدمة لميانمار عقب إعصار 2008م. ورغم أهميتها في إنقاذ الأرواح والتخفيف من آثار الكوارث، تواجه انتقادات تتعلق بارتفاع التكاليف الإدارية، وضعف الكفاءة، وغياب الشفافية، إضافة إلى ارتباط بعضها بمصالح الجهات المانحة.
- المساعدات الخيرية: تُقدَّم عبر المنظمات غير الحكومية والهيئات الخيرية، وتُوزَّع مباشرةً على الأفراد أو المؤسسات الأكثر احتياجًا، بهدف تحسين الظروف المعيشية دون المرور عبر الحكومات.
- المساعدات النظامية: وهي تحويلات مالية مباشرة تُقدَّم إلى الحكومات، إما عبر اتفاقيات ثنائية بين الدول (المساعدات الثنائية) أو من خلال مؤسسات دولية مثل البنك الدولي (المساعدات متعددة الأطراف).
من جهة أخرى يشير النص إلى أن تركيزه الأساس لن يكون على المساعدات الإنسانية أو الخيرية، بل على المساعدات النظامية، وبالتحديد مليارات الدولارات التي تُضَخّ سنويًّا إلى الحكومات الإفريقية عبر قروض مُيسَّرة (بفوائد مخفَّضة وفترات سداد طويلة) أو مِنَح مجانية لا تستوجب السداد، وتأثيرها على القارة.
2- بين الوهم التنموي والواقع الاقتصادي المرير
في هذا الجزء من الكتاب تطرح “مويو” تساؤلًا رئيسًا مفاده: لماذا لا تزال معظم دول إفريقيا جنوب الصحراء غارقة في الفقر والفساد، رغم تلقيها مليارات الدولارات تحت بند المساعدات التنموية منذ استقلالها وإلى الآن؟
الإجابة التي تقدّمها الكاتبة وتراها صادمة: “أن المساعدات نفسها هي سبب الفقر وتأجيج الصراعات؛ لأنها أسهمت في إضعاف الاقتصادات المحلية، وتشجيع الفساد وتدمير القطاع الخاص، مضيفة أنها كارثة مكتملة الأركان، وأنها المرض الذي تدّعي أنها تعالجه.”
تُدلّل “مويو” على ذلك أن المساعدات التي يُفترَض أن تدعم التنمية، في الواقع تؤدي إلى نتائج عكسية تضر بالاقتصاد المحلي. كما حدث عندما قامت المنظمات الإنسانية الدولية بتوزيع الناموسيات مجانًا في بعض الدول الإفريقية لمكافحة الملاريا.
بدلاً من تحقيق الفائدة المرجوة، أدت هذه المبادرة إلى تدمير السوق المحلية الإفريقية لصناعة وبيع الناموسيات؛ حيث لم يَعُد لدى المنتجين المحليين أي فرصة للمنافسة مع التدفق المجاني لهذه السلع. ما تسبَّب في فقدان مصدر الدخل للعديد من العائلات، كما جعل المجتمعات أكثر اعتمادًا على المساعدات الخارجية، ما زاد من هشاشتها الاقتصادية. بالإضافة إلى ذلك، تمت إعادة بيع بعض الناموسيات المجانية في السوق السوداء بدلًا من استخدامها، مما قلل من فعاليتها في مكافحة الملاريا، في حين لجأ البعض إلى استخدامها في صيد الأسماك بدلًا من الحماية من البعوض، وهو ما أضر بالبيئة وأسهم في تدهور المخزون السمكي.
وفي ظل كل هذه المساعدات، لا تزال إفريقيا تواجه أوضاعًا إنسانية صعبة؛ حيث تعاني العديد من الدول من تدنّي مستوى الصحة والتعليم، وارتفاع معدلات الوفيات بين الأطفال، إلى جانب استمرار الاضطرابات السياسية في العديد من المناطق. ورغم كل الجهود الدولية لدعم القارة، فإن الفجوة بين إفريقيا وبقية العالم لا تزال تتسع؛ حيث تتخلَّف القارة عن الركب في مختلف مؤشرات التنمية.
3- لماذا لم تتحقق التنمية المرجوة؟
يناقش هذا القسم من الكتاب مسألة فشل المساعدات في تحقيق التنمية في إفريقيا، مشيرًا إلى أن بعض الدول النامية، خاصة في آسيا، شهدت نموًّا اقتصاديًّا هائلًا على مدار العقود الماضية، بينما بقيت العديد من الدول الإفريقية المعتمدة على المساعدات في حالة من الركود أو التراجع الاقتصادي. ويناقش هنا أن هذا الفشل التنموي يعود إلى عوامل أبرزها الفساد؛ حيث لم تستطع الدول الإفريقية، رغم امتلاكها موارد طبيعية هائلة، توظيفها لتحقيق التنمية، بل تحوَّلت إلى “لعنة تنموية” أو ما عُرِفَ بـ”لعنة الموارد”، بفعل سوء الإدارة وممارسات الفساد المتجذرة. كما لعبت العوامل التاريخية، وعلى رأسها الاستعمار وتقسيم الحدود، دورًا رئيسيًّا في تشكيل دول غير مستقرة سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا؛ إذ أدَّى مؤتمر برلين (1884-1885م) إلى دمج مجموعات عرقية متنافسة داخل كيانات سياسية واحدة، ما فاقم النزاعات الداخلية، وحتى الإقليمية.
على الصعيد الاقتصادي، يبرز الاعتماد المفرط على المساعدات الخارجية كعامل رئيس في استمرار الأزمة؛ إذ إن هذا النموذج يُبقي إفريقيا في حالة “طفولة دائمة”؛ حيث تعتمد على الخارج بدلًا من بناء اقتصاد قوي ومستقل.
4- أموال بلا حسيب.. المساعدات كأداة لتكريس الفساد
تُركّز “مويو” هنا على صورة القادة الأفارقة في المخيلة العالمية؛ حيث يُنظَر إليهم باعتبارهم غارقين في الفساد، ينهبون موارد بلادهم ويحوّلونها إلى حساباتهم الخاصة. لكن المشكلة ليست فقط في بعض الأفراد، بل في بنية اقتصادية وسياسية (بيئة متكاملة) تجعل الفساد جزءًا من الحياة اليومية.
وللتدليل على التأثير الكارثي للفساد على الدول الإفريقية وتنميتها وأهمية التصدي له، توضح الكاتبة كيف أن خفض الفساد بدرجة واحدة في مؤشر مدركات الفساد -تصدره منظمة الشفافية الدولية-، يمكن أن يرفع الناتج المحلي الإجمالي لدولة مثل تنزانيا بنسبة 20٪.
في سياق كهذا تصبح المساعدات الدولية بدلًا من أن تكون وسيلة للتنمية، أحد العوامل التي تُعزّز الفساد. فهي توفر تدفقات مالية مستمرة تسمح للحكومات الفاسدة بالبقاء في السلطة دون الحاجة إلى إصلاحات حقيقية. وبدلًا من أن تسهم في بناء مؤسسات قوية وشفافة، تساعد هذه الأموال في إضعاف سيادة القانون، ما يجعل الاستثمار أكثر صعوبة، ويدفع الدول الإفريقية إلى حلقة مفرغة من الفقر والتبعية.
ما يثير الدهشة، أنه رغم إدراك الجهات المانحة جيدًا حجم الفساد، فإن المساعدات لا تتوقف. بل إن المؤسسات المالية الدولية تقدم قروضًا بمليارات الدولارات لأنظمة إفريقية معروفة بفسادها السياسي ونهبها للمال العام، ما يثير تساؤلات حول دوافع الجهات المانحة الخفية، وما إذا كانت المساعدات تُستخدم لتحقيق أهداف غير معلنة أكثر من كونها وسيلة لتحقيق التنمية وتطوير القطاعات الأشد احتياجًا في إفريقيا.
وتوضّح ” مويو” في نهاية هذا القسم أن المساعدات لا يمكن أن تكون حلاً يمكن الاعتماد عليه لإنهاء الفقر، إذ لم تكن مصحوبة بإصلاحات حقيقية تتصدى للفساد بشكل جذري. وعليه، طالما أن الأموال تتدفق دون مساءلة، سيظل الفساد مزدهرًا، وستبقى الدول المتلقية عالقة في دوامة التبعية والركود الاقتصادي. ومن ثم، على الأفارقة إدراك أن التنمية الحقيقية لن تأتي من الخارج، بل من الداخل، عبر بناء مؤسسات قوية تعزز من قيم الشفافية والمساءلة.
5- جمهورية دونغو (الخيالية).. هل حان وقت الاستغناء عن المساعدات؟
في خاتمة مؤلَّفها، تأخذ الكاتبة القارئ في رحلة إلى “جمهورية دونغو”، وهي دولة إفريقية خيالية من نسج خيالها، تعكس من خلال تفاصيلها تعقيدات الواقع الذي تعيشه العديد من الدول الإفريقية، بما في ذلك التحديات الاقتصادية والسياسية التي تواجهها القارة.
وتعاني “جمهورية دونغو” -وفقًا للكاتبة- من مستويات عالية من الفقر، وانخفاض متوسط عمر سكانها بسبب انتشار بعض الأوبئة كالإيدز، كما تعتمد بشكل شبه كلي على المساعدات الخارجية؛ حيث تمثل 75% من إيرادات الحكومة. على الرغم من تبنيها للديمقراطية اسمًا منذ عشر سنوات، إلا أن نظامها السياسي لا يزال هشًّا، ما يجعلها عُرضة للاضطرابات والتأثر حتى بجوارها غير المستقر. كما يعتمد اقتصادها على تصدير الموارد الطبيعية مثل النحاس والذهب.
تنتقد “مويو” هذا النموذج (الاعتماد على المساعدات)، موضحة أن استمراره يعرقل التنمية ويُضْعِف قدرة الحكومات على بناء اقتصادات قوية. كما أنه مع الأزمات المالية أو تراجع الاهتمام بقضايا ودول بعينهم وتبدُّل الأولويات، يبدأ بعض المانحين في تقليص دعمهم، ما يجعل من الضروري البحث (من خلال الدول الإفريقية) عن بدائل للتمويل.
وللخروج من هذا المأزق تقترح الكاتبة “علاجًا بالصدمة”، متسائلة: ماذا لو تلقت كل دولة إفريقية، واحدة تلو الأخرى، مكالمة هاتفية تخبرها بأنه خلال خمس سنوات سيتم إيقاف المساعدات التي تتلقاها بشكل نهائي؟ ترى “مويو” أن هذه الصدمة ستجبر الدول الإفريقية على وضع خطط اقتصادية جديدة تعتمد على آليات تمويل بديلة، مثل زيادة التجارة، خاصةً بين الدول الإفريقية (التجارة البينية) ومع الأسواق الأخرى غير الغربية مثل الصين والهند والبرازيل، وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، والانخراط في أسواق المال الدولية، وتعزيز الادخار المحلي. على أن يكون الهدف النهائي من ذلك كله هو تقليص الاعتماد على المساعدات إلى أقل من 5% خلال خمس سنوات.
رابعًا: انتقادات لاذعة… كيف استقبل الغرب طَرْح الخبيرة الاقتصادية “مويو”؟
رغم الشهرة الواسعة التي حظي بها الكتاب وطرحه الذي يجده الكثيرون منطقيًّا، بل وحتى ضروريًّا للدول الإفريقية التي تعتمد بشكل مفرط على المساعدات، إلا أنه واجَه انتقادات حادة، لا سيما من الغرب. فقد رأى بعض المنتقدين أن هذا الطرح حظي باهتمام يفوق حجمه الحقيقي، وأن الكاتبة الزامبية بالغت في إبراز الآثار السلبية للمساعدات. وهو انتقاد لا نتفق معه. كما اعتبروا أن حججها ضعيفة، وأنها ربما تبنّت هذا المنظور لتحقيق مزيد من الشهرة، لتبدو كبطلة، مستفيدة من كونها امرأة إفريقية تتحدث بلغة الأفارقة وتلامس معاناتهم. كما أنه -وفقًا لهذا المنظور الغربي- لا علاقة مباشرة بين المساعدات والفقر.
إضافة إلى ذلك، يرفض بعض الكتاب الغربيين -مثل مادلين بانتينغ- رؤية مويو التي تُحَمِّل الاستعمار جزءًا من مسؤولية التخلف في إفريقيا. ويستشهد هؤلاء بتجربة غانا وسنغافورة؛ حيث كان البلدان متقاربين في الأوضاع الاقتصادية خلال فترة الخمسينيات، لكن مساراتهما تباينت بشكل جذري لاحقًا. ويرجع هؤلاء الفارق إلى دور الدولة بعد الاستقلال، مشيرين إلى أن الحكومات الآسيوية دعمت التصنيع وساندت نُخبًا استثمرت في بلدانها، وهو ما كان عاملًا رئيسيًّا في نجاح العديد من الدول الآسيوية. في المقابل، في إفريقيا، قامت النخب بتهريب رؤوس الأموال إلى حسابات مصرفية في الغرب، واتبعت سياسات اقتصادية مدمرة، مما فاقم الأوضاع الاقتصادية للقارة.
وردًّا على هذا الادعاء نرى أنه من المثير للدهشة تبنّي الغرب لهذا الطرح، دون التطرق إلى التأثير العميق الذي خلّفه الاستعمار على بنية الدولة الإفريقية والكثير مما تعرَّضت له من أزمات (سياسية واقتصادية وأمنية..) حتى الآن. كما أنه من غير المنطقي إنكار الدور الذي لعبته القوى الاستعمارية في تخلف القارة الإفريقية ونهب ثرواتها، وبخصوص النخبة الحاكمة، فكيف يمكن إنكار أن العديد من القادة الأفارقة تلقوا تعليمهم في الخارج وتأثروا بالأنظمة الاقتصادية والسياسية للدول الغربية؟
كما يتجاهل أنصار هذا التيار استمرار الاستعمار بأشكال مختلفة معاصرة، سواء من خلال المساعدات التي تُوجه لقطاعات محددة دون مراعاة لأولويات القارة، أو المساعدات المشروطة سياسيًّا واقتصاديًّا، التي قد لا تتناسب مع احتياجات إفريقيا الفعلية، بل تمثل في بعض الأحيان انتهاكًا لسيادتها. غير أن ما يميز المرحلة الحالية هو أن الأفارقة بدأوا في رفض هذه الهيمنة، وسعوا إلى استعادة زمام أمورهم، ولو بشكل جزئي، بما يتفق ومصالحهم الراهنة وتطلعاتهم المستقبلية.
خاتمة:
على الرغم من صدور كتاب “المساعدات المميتة” عام 2009م، لا يزال الجدل قائمًا حول مدى فاعلية المساعدات الخارجية وتأثيرها على الاقتصادات الإفريقية، إضافةً إلى المخاطر المرتبطة باعتماد القارة المفرط عليها. وقد ظهر هذا الجدل من جديد خلال الولاية الثانية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب (التي بدأت في يناير 2025م)، عندما قرر تجميد عدد من المساعدات الموجَّهة للدول الإفريقية، بما في ذلك مساعدات مخصصة لدول بعينها مثل جنوب إفريقيا.
لم يكن هذا القرار مفاجئًا؛ إذ يتسق مع تاريخ المانحين في تعاملهم مع الدول الإفريقية، وهو ما حذَّرت منه “مويو” في كتابها؛ حيث أكّدت أن المساعدات الخارجية لا يمكن اعتبارها مصدرًا مضمونًا على الدوام، نظرًا لارتباطها بأولويات القوى الكبرى المتغيرة وفقًا لمصالحها الخاصة. يتجلى ذلك بوضوح في سياسات ترامب الخارجية، التي اتسمت بالبراغماتية وركَّزت على المناطق التي تخدم المصالح الاقتصادية والإستراتيجية للولايات المتحدة، متجاهلةً أيّ التزامات طويلة الأمد تجاه الدول الإفريقية.
يدفعنا ذلك لتساؤل مُلِحّ وهو: “إلى متى ستبقى إفريقيا رهينة للمساعدات الخارجية؟”، تعتمد إجابته على مدى قدرة القادة الأفارقة على وضع إستراتيجيات تنموية طويلة الأجل، تعطي الأولوية لمصالح الشعوب بدلاً من المصالح الضَّيِّقة للنُّخَب الحاكمة. وكما توضح تجارب دول إفريقية مثل بوتسوانا ورواندا (بحسب الكتاب) أو حتى دول آسيوية مرّت بظروف مشابهة، فإن مسار التنمية المستدامة المستقلة ليس ضربًا من الخيال، لكنه يتطلب رؤية جادة واضحة، وإصلاحات جذرية، ونهجًا اقتصاديًّا قائمًا على الإنتاج وتحقيق الاكتفاء الذاتي بدلًا من الاعتماد على الآخر.
في المحصلة، سواء كان يُنظَر إلى المساعدات على أنها فخّ للقارة الإفريقية أم ضرورة مرحلية، فإن الحقيقة التي لا جدال فيها هي أهمية تحقيق الاكتفاء الذاتي ومنح الأفارقة الدور الأساسي في تقرير مسارهم التنموي.
وختامًا، يحضر في الأذهان المثل الإفريقي القائل: “أفضل وقت لزرع شجرة كان قبل عشرين عامًا، أما ثاني أفضل وقت فهو الآن”؛ في إشارة إلى أن الوقت قد حان لاتخاذ خطوات عاجلة حاسمة نحو التنمية المُستقلة، دون مزيد من التأخير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش والإحالات:
1- مصدر الكتاب:
Dambisa Moyo, Dead Aid: Why Aid Is Not Working and How There Is a Better Way for Africa, (New York: Farrar, Straus and Giroux, 2009).
2- حول مؤلفة الكتاب “دامبيسا مويو”:
وُلدت دامبيسا مويو ونشأت في زامبيا، وحصلت على تعليمها في هارفارد وأكسفورد، ثم عملت خبيرة اقتصادية في البنك الدولي قبل أن تنضم إلى غولدمان ساكس كخبيرة إستراتيجية عالمية. هذه الخلفية الأكاديمية والعملية منحتها رؤية متعددة الأبعاد تجمع بين التحليل الأكاديمي والخبرة العملية، لا سيما في الحديث عن مسألة إشكالية كالمساعدات الخارجية من القوى الكبرى والمؤسسات الدولية.