عصام زيدان
باحث في الشؤون السياسية
القصة من نهايتها التي سُجّلت في 25-12-2020م هي تلقّي الدبلوماسيين الكينيين في الصومال أمرًا بمغادرة العاصمة الصومالية مقديشو، خلال سبعة أيام، بعد قطع علاقات الصومال مع كينيا, واستدعاء سفيرها من كينيا، وإصدارها أمرًا للسفير الكيني بالمغادرة.
أمَّا القصة في بدايتها فتحتمل تاريخًا طويلاً من المناكفات الحدودية والإشكاليات السياسية والتدخلات في الشؤون الداخلية، ودعم المعارضة مِن قِبَل الطرف الكينيّ, فيما كان الضرر واقعًا على الطرف الصومالي, أرضًا وشعبًا, هكذا ترى الصومال المشكلة من ناحيتها على الأقل.
أمّا الراوية الكينية فترى الأمور من منظور آخر, ألا وهو حجم الضرر البالغ الذي تتعرَّض له نيروبي من الإشكاليات الداخلية التي وقعت فيها الصومال، وتطاير شررها حتى ألهب كينيا بنيرانها, بدايةً من تفكك أوصال الدولة، وعدم قدرتها على السيطرة على أمورها الداخلية, بما يؤثر على البيئة الجيوسياسية للمنطقة كلها، وفي القلب منها كينيا, وحتى الجماعات المسلحة التي تعيث فسادًا في الأراضي الكينية, مثل شباب المجاهدين.
الفصل الأخير من الرواية, أو القشّة التي كادت أن تقصم ظهر البعير, تمثلت في ثلاثة ملفات أو أزمات صراعية:
تفجُّر النزاع حول إقليم بحري في المحيط الهندي:
لقد تفجّر النزاع حول إقليم بحري في المحيط الهندي تقدّر مساحته بحوالي 100 ألف كيلومتر مربع، يقع على امتداد سواحل المحيط الهندي، ويُعتقَد أنه يحتوى على احتياطي كبير من النفط والغاز؛ فالصومال تطالب بسيادتها على هذا الإقليم، وعرضت مقديشو على شركات أجنبية تقديم عطاءات عامة للتنقيب عن النفط والغاز, وانتشرت أنباء عن رغبتها في بيع 50 حقلاً من حقول النفط في المنطقة المتنازَع عليها.
أما السلطات الكينية فقد تعهَّدت بعدم التفريط فيه، ورأى المسؤولون الكينيون أن المطالب الصومالية من شأنها تجريد كينيا من أيّ منفذ إلى البحر، وقد ينعكس ذلك أيضًا على بلدان أخرى تتقاسم سواحل المحيط الهندي.
ووقَّعت الحكومتان الكينية والصومالية، عام 2009م، على مذكرة تفاهم حول كيفية تسوية هذا النزاع، لكنَّ الحكومات اللاحقة في الصومال رفضت ذلك الاتفاق, كما رفض البرلمان الصومالي التصديق على مذكرة التفاهم.
ولجأت الدولتان إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، عام 2014م؛ حيث التمست الصومال إصدار حكم حول ترسيم الحدود البحرية، بينما اقترحت كينيا أن يقوم الجانبان بتشكيل لجنة مشتركة لإدارة الموارد الاقتصادية المتوفرة في البحر باسم البلدين.
وأرجأت محكمة العدل الدولية عدة مرات النظر في القضية؛ استجابةً لطلب كينيا إمهالها المزيد من الوقت لتجهيز فريقها القانوني. وفي منطوقها المبدئي، عام 2016م رفضت محكمة العدل الدولية اعتراض كينيا على نظر المؤسسة القضائية الدولية لهذه القضية، وأكَّدت أن لديها اختصاصًا آليًّا للنظر فيها, وأجَّلت جلسة القرار النهائي إلى 15 مارس عام 2021م.
وهذا التأجيل, مع قرب الانتخابات الصومالية, الرئاسية والتشريعية, في مستهل 2021م, يضع الحكومة تحت مطرقة المعارضة التي تنال من شرعية الرئيس وحكومته بدعوى فشلهم في حلّ القضية المتنازَع عليها, أي أن التأجيل يعني تناقص حظوظ الحكومة الحالية في الفوز بالانتخابات الرئاسية القادمة؛ نتيجةً لعدم الرضى الشعبي عن طريقة إدارة الرئيس فرماجو لذلك الملف.
الانتخابات الإقليمية في ولاية جوبالاند:
ولاية جوبالاند هي واحدة من الولايات الخمس الصومالية التي تتمتع بحكمٍ شِبْه ذاتيّ، وتقع في الجنوب الصومالي، على الحدود مع كينيا، وتضم ميناء كيسمايو الصومالي الرئيسي، وأجرت اقتراعًا لاختيار أعضاء البرلمان الجديد في خطوةٍ تُمهّد لانتخاب حاكم الولاية، أسفر عن اختيار أحمد مدوبي رئيسًا للإقليم، وهو إجراء رفضت الاعتراف بها وزارة الداخلية والشؤون الفيدرالية والمصالحة في حكومة فرماجو.
وتقول وزارة الداخلية والشؤون الفيدرالية والمصالحة: إن اختيار شيوخ العشائر لم يكن موافقًا لنظام الوزارة، كما أن انتخاب نواب البرلمان تم بطريقة غير قانونية، مؤكدة أنَّ أيّ نتائج ستترتب على ذلك ستكون لاغية, ما يعني عدم اعترافها بشرعية مدوبي كرئيس للإقليم.
أما رئيس الولاية مدوبي فيرى في الرفض تمهيدًا لمرشح موالٍ للحكومة لاقتناص المنصب وتعزيز السلطة المركزية لحكومة فرماجو, وأعلن تعليق تعاونه مع مقديشو, متهمًّا حكومة فرماجو بخرق دستور البلاد الفيدرالي بتدخلها المستمرّ في شؤون الولاية ومحاولاتها المتعددة للتأثير على الانتخابات.
أي أن الخلاف بين فرماجو ومدوبي سببه التباين في رؤيتيهما لنظام الحكم في البلاد؛ حيث يسعى فرماجو لعودة نظام حكم مركزي موحّد، بينما يحاول مدوبي، الداعم لنظام الحكم الفيدرالي، إفشال مخطط تعزيز القبضة المركزية.
هذا الخلاف السياسيّ اشتعل وتحوّل إلى صراع مسلح بعدما نشرت قوات فيدرالية في إقليم غدو بالولاية مطلع العام 2020م؛ حيث اشتبكت في قتال مميت مع قوات جوبالاند التي أجبرت على العبور إلى الجانب الكيني.
ومن هنا بدأت كينيا العبث بهذا الملف الخطير؛ حيث تواجه اتهامات قوية من حكومة فرماجو باستغلال الوضع المتأزم والتدخل في شؤون الصومال بدعم حكومة مدوبي للضغط على الحكومة الفيدرالية، ودعم قوى المعارضة, وفتح ملفات داخلية، حتى تنشغل مقديشو عن ملف النزاع الحدودي البحري بين البلدين, أو على أقل تقدير خفض سقف طموحاتها في التفاوض مع نيروبي.
أرض الصومال:
تسمى جمهورية صوماليلاند، وتحدها إثيوبيا من الغرب، وجيبوتي من الشمال الغربي، وخليج عدن في الشمال, وتشكَّلت عقب انهيار الحكومة المركزية في عام 1991م؛ حيث أعلنت الحكومة المحلية بقيادة الحركة الوطنية (SNM) الاستقلال عن بقية الصومال، من طرفٍ واحدٍ.
وتمتاز صوماليلاند بدرجة عالية من الاستقرار والأمن؛ مقارنةً ببقية أراضي الصومال، وتحتفظ بعلاقات غير رسمية مع بعض الحكومات الأجنبية التي أرسلت وفودًا بروتوكولية إلى العاصمة هرجيسا، ولا تزال غير معترَف بها من قبل أيّ دولة أو منظّمة دولية.
ورغم هذا الوضع الهادئ إلى حدّ كبير, تبدو الرغبات الصومالية واضحة في عودة الإقليم إلى الوطن الأم بأيّ صورة كانت, إلا أنَّ الجانب الكيني –من وجهة نظر صومالية- يُفسد تلك المحاولات بسعيه لإقامة علاقات مع تلك الجمهورية, تتمثل في وجود قنصلية كينية, وهو ما يكسر حاجز الجليد الدبلوماسي عن الجمهورية التي تعدّها الصومال “انفصالية”؛ حيث سبق أن خاضت مقديشو وممثلو أرض الصومال جولات عدة من المفاوضات، لم تسفر حتى الآن عن نتائج ملموسة.
أضف إلى ذلك أن استضافة كينيا لرئيس أرض الصومال موسى بيحي عبدي والوفد المرافق في 13-12-2020م لأول مرة منذ عام 2006م عندما زار أراضيها الرئيس آنذاك طاهر ريالي كاهن يدل على اهتمام نيروبي الشديد بإقامة علاقات مع هرجيسا, في محاولة لإحباط المحاولات الصومالية لاستعادة وحدته المفقودة.
ماذا بعد؟!
إنَّ الايام القادمة ربما تشهد مزيدًا من إجراءات التصعيد بين البلدين؛ فكينيا ستزيد الضغط لعلها تظفر بتفاوض ثنائي أو برعاية إقليمية تعطيها الشرعية في الإقليم البحري, متَّخذةً من التدخل في شؤون الصومال وسيلة للضغط على حكومة فرماجو, والصومال ستزيد التصعيد من ناحيتها، وهو تصعيد تُمليه الانتخابات التي تطرق رأس حكومة فرماجو بقوةٍ، والتي تريد أن تظهر قوتها واستحقاقها للفوز في مواجهة المعارضة التي تتصيَّد لها الأخطاء، وتتَّهمها بالضعف؛ لا سيما في الملفات الخارجية.