قراءة بقلم الصحفي:
محمد سيدي عبدالله
في قلب المسيرة الأدبية النضالية الإفريقية؛ تأتي رواية (لا تبكِ أيها الطفل:(Weep Not, Child ، التي نُشرت عام 1964م، لتكون أول رواية تُكتَب باللغة الإنجليزية على يد كاتب كيني من أصول إفريقية. وكأن هذه الرواية أصبحت نقطة انطلاق جديدة، ليس فقط للأدب الكيني، بل للأدب الإفريقي بشكل عام، لتُسلِّط الضوء على معاناة شعب تحت وطأة الاستعمار، مستعرضةً صورة واضحة عن واقع اجتماعي، اقتصادي، وسياسي صاخب.
كانت الرواية بمثابة شهادة أدبية مُؤثّرة على معاناة الكينيين في ظل الاستعمار البريطاني، ورصدًا دقيقًا للحياة في تلك الحقبة التي مَزَّقتها الصراعات الطبقية والاضطهاد العِرْقي. الأمر الذي يعكس بوضوح كيف يمكن للأدب أن يتحوَّل إلى مرآة للمجتمع في ظل التغيرات السياسية الجذرية، ويُقدّم نظرة شاملة لمعاناة الإنسان العادي في خِضَمّ الظلم التاريخي.
تَحْمل الرواية بين طيّاتها قصة الفتى نغوثي، الذي نشأ في قرية كينية خلال فترة ثورة “الماو ماو” ضد الاستعمار البريطاني، وتحوَّلت طفولته البريئة إلى سلسلة من المواجهات المؤلمة مع الفقر، الظلم، والعنف الذي اجتاح بلاده، تمامًا كما رأينا في رواية “وحوش بلا وطن” للكاتب النيجيري أيويلا؛ حيث انتُزِعَ “آغو” من طفولته ليُلْقَى في أتون الحرب.
لكنَّ الفرق هنا أن “نغوثي” لا يُجنَّد في الميليشيات، بل يُسحَق بين مطرقة السلطة المستعمرة وسندان القهر الاجتماعي، لتتحطم أحلامه بين واقع مرير لا يرحم. إنه لا يُعايش الحرب على جبهة القتال، بل في صميم وجوده اليومي، وهو ما يجعله يعيش داخل دوامة من الاضطهاد والظلم بشكل مختلف.
أولًا: أهمية رواية «لا تبكِ أيها الطفل»
1 – أول رواية لكاتب إفريقي بالإنجليزية
تكمن أهمية الرواية في كونها أول عمل روائي يُكتَب باللغة الإنجليزية على يد كاتب إفريقي أصيل؛ إذ فتحت الباب أمام الأدب الكيني للخروج من ظلال الأدب الاستعماري، الذي كان حتى ذلك الوقت مقتصرًا على الكُتّاب البيض أو الأفارقة المتأثرين بالثقافة الغربية.
من خلال هذه الرواية، استطاع “واثيونغو” أن يقدم صوتًا إفريقيًّا حقيقيًّا، يُعبِّر عن واقع شعبه ومعاناته، بعيدًا عن الأُطُر الاستعمارية التي كانت تهيمن على الأدب السائد. وبذلك، تضع الرواية أُسسًا لتجربة أدبية جديدة تعكس قضايا الشعب الكيني وتساؤلاته حول هويته، مقاومته، ورغبته في التحرر.
2- توثيق مرحلة تاريخية مفصلية
تناولت الرواية واحدة من أكثر الفترات اضطرابًا في تاريخ كينيا، وهي فترة ثورة الماو ماو (1952 -1960م)، التي كانت بمثابة الشرارة الأولى لحركة التحرُّر الوطني ضد الحكم الاستعماري البريطاني؛ حيث استخدمت الرواية سردًا شخصيًّا وعاطفيًّا لتوثيق معاناة الناس العاديين في ظل هذه الحرب.
وقد نقل “واثيونغو” هذا الواقع المأساوي عن كثب، مبرزًا معاناة الأفراد الذين وقعوا ضحية نظام استعمار قمعي، تمامًا كما فعل “أوزودينما أيويلا” في روايته “وحوش بلا وطن”، لكنّ الفرق أن “واثيونغو” ركّز على الأثر النفسي للحرب على المدنيين، وليس على الأطفال المجندين فقط.
من خلال روايته، يُقدم “واثيونغو” صورة حية لآلام شعبه وهو يعيش تحت وطأة الاحتلال، مما يجعل من الرواية مرجعًا أساسيًّا لفهم تلك الحقبة التاريخية.
ثانيًا: المضامين الواردة في الرواية
تحاول رواية “لا تبكِ أيها الطفل” رسم لوحة معقَّدة للمجتمع الكيني تحت الاستعمار، عبر شخصيات تعيش صراعًا دائمًا بين الأمل واليأس، وبين الطموح والانكسار؛ إذ تركز الرواية على التأثيرات النفسية والاجتماعية التي تولدت من الاستعمار، وعلى الكيفية التي ساهمت بها تلك الظروف في تشكيل شخصية “نغوثي”، وكل من حوله.
1- براءة الطفولة في مواجهة قسوة الواقع
يبدأ السرد من خلال شخصية الطفل نغوثي، الذي يعيش طفولة بسيطة، لكنه يحلم بالمستقبل؛ حيث يحثّه والده على التعلم باعتباره السبيل الوحيد للخلاص من الفقر والتبعية.
كان حلم نغوثي أن يُصبح متعلمًا، رجلًا ناجحًا، يرفع من شأن عائلته، لكنّه في صميم قلبه كان يعي أن هذا الحلم قد يكون مجرد وهم. وذلك لأن النظام القائم لم يُصمَّم إلا ليحافظ على سلطة المستعمرين ويترك الأفارقة في القاع. وفي ظل هذا الواقع المأساوي، يجد نغوثي نفسه أمام خيارين: إما الاستسلام لما هو مفروض عليه، أو التمرد الذي قد يجلب عليه المزيد من الألم والدمار.
2- الثورة كحلم وكابوس
تتوالى الأحداث مع اندلاع ثورة الماو ماو؛ حيث تبدأ الأمور بالخروج عن السيطرة. ويجد نغوثي نفسه وسط عالم يتغير بسرعة، بين إضرابات الفلاحين الكينيين ضد الملاك البريطانيين، وبين أعمال القمع الوحشية التي مارستها السلطات الاستعمارية. ليدرك شيئًا فشيئًا أن الواقع أكثر قسوة مما كان يتصور، وأن التغيير لم يكن يومًا كما تخيل في أحلامه.
يتحول حلمه بالتحرُّر والتعليم إلى كابوس من العنف والموت، ليعيش لحظات مريرة من الخوف والقلق على مصير أسرته. تمامًا كما في “وحوش بلا وطن”؛ حيث يواجه “آغو” صدمة تحوُّل عالمه من الطفولة إلى العنف، ويجد “نغوثي” نفسه محاصرًا بين عالم الطفولة الحالم، والعالم الحقيقي الذي لا يرحم.
3- علاقة الأجيال وصدام الأيديولوجيات
تُبرز الرواية أيضًا الصراع بين الأجيال؛ حيث نجد أن هناك اختلافًا جذريًّا في نظرة الأبناء والآباء تجاه المقاومة. فبينما يرى الجيل الأكبر أن التغيير يجب أن يكون تدريجيًّا وسلميًّا؛ يؤمن الشباب -مثل الأخ الأكبر لـ”نغوثي”- بأن الاستقلال لا يمكن أن يُنتَزع إلا بالقوة، وأن الثورة المسلحة هي الحل الوحيد للخلاص.
هذا التناقض بين منطق المقاومة السلمية والمواجهة المسلحة، يعكس واحدًا من أكبر الأسئلة التي واجهتها حركات التحرر الإفريقية؛ هل ينبغي مواجهة الاستعمار بالمقاومة السلمية أم بالعنف؟ وبينما كان الجيل الأكبر يرى أن الاستقلال يمكن أن يتحقق من خلال التعاون مع المستعمرين، كان الجيل الأصغر أكثر راديكالية، يؤمن أن التحرر يتطلب كسر القيود بكل الأشكال الممكنة.
4- سقوط الأحلام وبداية المأساة
مع تصاعد الصراع، تبدأ الأحلام الجميلة التي رسمها نغوثي لنفسه بالتحطم؛ حيث يتعرض الأب للاضطهاد، ويجد الأخ الأكبر نفسه متورطًا مع المتمردين، بينما يعاني “نغوثي” من العنف المتصاعد والتمييز العنصري الذي يطارد كل كيني يحلم بحياة كريمة.
يبدأ نغوثي في إدراك الحقيقة القاسية حول ما يحدث حوله، ويشعر بأنه لا يمتلك خيارًا سوى التكيف مع الظروف المأساوية التي تُفرَض عليه. وتستمر معاناته حين يُجبَر على التصالح مع الواقع الذي لا يرحم.
وتتجلى هنا نقطة التشابه الجوهرية مع “وحوش بلا وطن”، فكلا البطلين، “آغو” و”نغوثي”، يدركان أنهما مجرد قِطَع شطرنج في لعبة أكبر منهم؛ حيث يتم انتزاع براءتهما قسرًا، دون أن يكون لهما أيّ خيار سوى التأقلم مع المصير الذي فُرض عليهما.
ثالثًا: رؤية تقييميّة
1- اللغة والسرد
رغم أن الرواية كُتبت باللغة الإنجليزية؛ إلا أنها تحمل روح السرد الشفوي الإفريقي؛ حيث نجد أن واثيونغو يُوظِّف أساليب الحكي الشعبي، ويُضمّن في نصه الكثير من الأمثال والحِكَم الإفريقية، مما يُضْفِي على الرواية طابعًا محليًّا قويًّا.
تلك الخاصية تجعل النص ليس فقط قريبًا من القارئ المحلي، بل يجعلها أيضًا تجربة غنية تستفيد من التقليد الشفوي الإفريقي الغني. ومما لا شك فيه، أن هذا الأسلوب قد أكسب الرواية سمة عميقة من الأصالة، مشابهًا لما فعله “أيويلا” في “وحوش بلا وطن”؛ حيث استخدم لغة بسيطة قريبة من الطفل الذي يروي الأحداث.
2- التأثير النفسي للأحداث
ما يميز هذه الرواية هو قدرتها على نقل الأثر النفسي العميق للاستعمار على الأفراد، خصوصًا الأطفال، فنجد أن نغوثي يعيش حالة من الصراع الداخلي بين الإيمان بالعدالة والخضوع للواقع، بين الرغبة في التغيير والخوف من العواقب.
هذه الحالة من الاضطراب النفسي تجعل الرواية أكثر واقعية، وتعكس تجربة ملايين الأطفال الذين عاشوا في ظل الاستعمار أو الحروب الأهلية. وهي نفس التيمة التي استندت إليها “وحوش بلا وطن”؛ حيث لا تركز الرواية على الحرب بحدّ ذاتها بقدر ما تُركّز على أثرها النفسي على الأطفال الذين يجدون أنفسهم وسطها.
خاتمة: لماذا أصبحت “لا تبكِ أيها الطفل” رواية خالدة؟
رغم مرور أكثر من نصف قرن على صدورها؛ لا تزال رواية “لا تبكِ أيها الطفل” تحتفظ بأهميتها؛ لأنها لا تتحدث عن الماضي فقط، بل عن حاضر العديد من الدول الإفريقية التي لا تزال تكافح ضد الفقر، الظلم، والتمييز.
فالرواية تبقى حيّة وملهمة؛ لأنها تعكس الواقع المستمر لتحديات المجتمعات الإفريقية في ظل الهياكل السياسية والاجتماعية المعقَّدة التي تفرضها القوى الاستعمارية، سواءٌ كانت بريطانية أو غيرها.
فهي ليست مجرد قصة عن كينيا خلال الاستعمار، بل هي قصة كل طفل إفريقي وجد نفسه مُحاصَرًا بين حلم التعليم والحرية، وكابوس الاستغلال والاضطهاد. إنها تروي المعاناة المشتركة لشعوب تناضل من أجل حقوقها وحماية أرواحها.
وبهذا المعنى، تلتقي “لا تبكِ أيها الطفل” مع “وحوش بلا وطن”، فكلاهما يمثل صرخة إنسانية في وجه الظلم، وتذكيرًا بأن الطفولة حين تُسَرق، فإن العالم كله يَخْسر شيئًا من براءته.