أحمد فهمي
باحث متخصص في الشأن التركي
تُعدّ النيجر واحدةً من أهم الدول الإفريقية التي تَحْظى بموقع إستراتيجي في قلب منطقة الساحل، وتُشكّل أحد المراكز الرئيسية للتعاون الدولي في مجالَي الطاقة والمعادن، خصوصًا بعد أن أصبحت من أكبر مُنتِجي اليورانيوم في العالم.
على مر العقود، كانت فرنسا القوة المهيمنة في هذا البلد من خلال تعاونها الاقتصادي والعسكري، بما في ذلك الاستثمارات في قطاع التعدين الحيوي. ومع ذلك، يشهد الوضع في النيجر تحوُّلًا ملحوظًا بعد انقلاب يوليو 2023م الذي أثَّر على العلاقات بين النيجر وفرنسا، ممَّا أدَّى إلى انسحاب فرنسا من النيجر.
في هذا السياق، تبرز تركيا داعمًا للنظام الجديد في النيجر؛ حيث تسعى لتعميق وجودها الإستراتيجي في القارة الإفريقية، مستفيدةً من اتفاقيات شراكة متنوعة في مجالات متعددة، منها توقيع مذكرة تفاهم للتعاون في مجال التنقيب عن المعادن واستخراجها، وذلك خلال لقاء جمع وزير الطاقة التركي، ألب أرسلان بيرقدار، ونظيره النيجري، أبارشي عثمان، في إسطنبول.
ومن خلال هذه الاتفاقية، تُثار تساؤلات مهمة حول قدرة تركيا على ملء الفراغ الذي تركته فرنسا في النيجر، ومدى فرص نجاحها في تحقيق ذلك.
أولاً: الأهمية الإستراتيجية للنيجر بالنسبة لتركيا
- تطوُّر العلاقات وتبادل المصالح:
تحتلّ النيجر موقعًا إستراتيجيًّا في خريطة المصالح التركية في إفريقيا؛ حيث شكَّلت العلاقات بين البلدين نموذجًا للتقارب المتنامي، لا سيما قبل انقلاب يوليو 2023م الذي أطاح بالرئيس المخلوع محمد بازوم، وقد تجلَّى هذا التقارب في تبادل الزيارات رفيعة المستوى بين الجانبين؛ من أبرزها زيارة النائب السابق للرئيس التركي، فؤاد أقطاي، إلى نيامي في أبريل 2021م، وزيارة بازوم إلى أنقرة في مارس 2022م، كما تم توقيع اتفاقيات إستراتيجية عزَّزت التعاون الثنائي في مختلف المجالات.( ([1]
كما شهدت العلاقات الاقتصادية بين البلدين نموًّا ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة قبل الانقلاب العسكري، فبحسب بيانات وزارة التجارة التركية([2])؛ ارتفع حجم التبادل التجاري بينهما إلى 213 مليون دولار في عام 2022م (تراجع في عام 2023م إلى 111 مليون دولار لأسباب متعلقة بتداعيات الانقلاب)، بعد أن بلغ 89 مليون دولار في عام 2021م، و31 مليون دولار في عام 2015م، ويعكس هذا النمو رغبة مشتركة في توسيع الشراكة الاقتصادية وتعزيز التعاون في القطاعات الحيوية.
وفي المجال الأمني، وقَّعت تركيا والنيجر اتفاقية للتعاون والتدريب العسكري في يوليو 2020م، والتي هدفت بشكل أساسي إلى دعم جهود النيجر في مكافحة الإرهاب وتعزيز قدراتها الدفاعية، وقد مهَّدت هذه الاتفاقية الطريق لعلاقات أمنية أعمق بين البلدين، خاصةً في ظل التحديات المتصاعدة التي تُواجه منطقة الساحل الإفريقي، بما في ذلك انتشار التنظيمات الإرهابية.
أما مرحلة ما بعد الانقلاب، والتي اتسمت بتصريحات وتحركات احتجاجية مناهضة للغرب، وخاصة فرنسا؛ فقد استمرت تركيا في التواصل مع النيجر وملء الفراغ السياسي الناتج. ونتيجة لذلك، زار رئيس الوزراء النيجري، علي الأمين زين، أنقرة في فبراير 2024م؛ حيث أكَّد له الرئيس التركي رجب طيب أردوغان دعم بلاده الكامل لخطوات النيجر نحو تعزيز استقلالها السياسي والعسكري والاقتصادي. من جانبه، أكَّد زين تقديم كلّ التسهيلات للمستثمرين الأتراك، مما يُشير إلى بداية مرحلة جديدة من التعاون المكثَّف بين البلدين.
وفي يوليو 2024م، زار وفد تركي رفيع المستوى النيجر، ضمَّ وزراء الخارجية والدفاع والطاقة، بالإضافة إلى رئيس الاستخبارات ورئيس هيئة الصناعات الدفاعية، وعكست بوضوح هذه الزيارة رغبة البلدين في تعزيز العلاقات بينهما؛ حيث تم الاتفاق خلال الزيارة على تعزيز التعاون في عدة مجالات حيوية، منها الطاقة، التعدين، الدفاع، والاستخبارات.
- المحفزات الإستراتيجية التي تدفع تركيا نحو النيجر:
أصبحت النيجر، ولعدة محفزات، ذات أهمية إستراتيجية بالنسبة لتركيا، أبرزها:
- الموقع الجغرافي المتميز:
تقع النيجر في موقع جغرافي حيوي يربط بين شمال إفريقيا ومنطقة جنوب الصحراء الكبرى، مما يجعلها معبرًا إستراتيجيًّا لطرق التجارة والهجرة، ويُشكّل هذا الموقع بالنسبة لتركيا فرصة للوصول إلى أسواق متعددة وتعزيز تعاونها مع الدول في كلتا المنطقتين، كما يُسهم في دعم خططها لتعزيز حضورها الجيوسياسي في المنطقة؛ حيث يُعدّ الموقع نقطة انطلاق أساسية لتعميق نفوذها في إفريقيا عبر تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الدول المجاورة.([3])
- أهمية النيجر في أمن المنطقة:
تُعدّ النيجر نقطة انطلاق رئيسية لطرق الهجرة غير الشرعية نحو أوروبا، والتي تُشكّل تحديًا للمصالح التركية في ليبيا، التي تُعتبر المحطة التالية للنيجر على هذا المسار، ويزيد من خطورة الوضع احتمالية انتقال عناصر إرهابية إلى مناطق نفوذ حكومة الغرب الليبي، الحليفة لتركيا، مما قد يؤدي إلى تعقيد الأوضاع الأمنية.
بالإضافة إلى ذلك، تُعتبر النيجر محورًا رئيسيًّا في جهود مكافحة الإرهاب والتطرف في منطقة الساحل الإفريقي، ومن خلال دعم تركيا للنيجر في هذا المجال، يمكن أن تعزّز مكانتها كفاعل أمني رئيسي في إفريقيا، مما يُسهم في تعزيز دورها الإقليمي والدولي. كما أن وجود قاعدة عسكرية إستراتيجية في مدينة “أغاديز” شمال النيجر، المحاذية لتشاد وليبيا والجزائر، والغنية باليورانيوم والذهب([4])، بعد انسحاب القوات الأمريكية منها، يُشكّل فرصة حيوية لتركيا لتعزيز تعاونها الأمني مع النيجر، من خلال استغلال هذه القاعدة العسكرية بشكل مشابه لنموذجها في الصومال، مما يُعزّز مصالحها ويُتيح لشركات التعدين التركية فرصًا للوصول إلى ثروات طبيعية جديدة.
- التحولات السياسيـة في النيجر وفرصة تركيا:
بعد الانقلاب العسكري في يوليو 2023م، وتصاعد المشاعر المعادية للغرب، وخاصة تجاه فرنسا والولايات المتحدة، شهدت النيجر والتي ظلت لعقود تحت التأثير الغربي، تغيرًا جذريًا في توجهاتها السياسية، وأصبحت أمام ضرورة البحث عن شركاء بديلين لتعزيز استقلالها السياسي والاقتصادي.([5])
في هذا السياق، برزت تركيا كخيار نظرًا لمواقفها الإيجابية والتنموية في إفريقيا، واستثمرت تركيا هذا الظرف لتعزيز مكانتها في النيجر؛ حيث اعتمدت على دبلوماسيتها النشطة ومبادراتها الاقتصادية والتنموية لدعم النيجر في مرحلة ما بعد الانقلاب، مما فتح المجال أمام تركيا لتقديم نفسها كشريك إستراتيجي قادر على تلبية احتياجات النيجر.
- الثروات المعدنية ودورها الاقتصادي:
تُعدّ النيجر موردًا إستراتيجيًّا للطاقة النووية، فهي من الدول العشر الأولى في العالم من حيث احتياطات اليورانيوم، وسابع أكبر مُنتِج لليورانيوم عالميًّا، وعلى الرغم من أن اتفاقية التعدين بين تركيا والنيجر، والتي ركَّزت على مساعدة الشركات التركية في إجراء عمليات التنقيب، لم تُشر إلى تفاصيل طبيعة المشاريع المحتملة بين البلدين؛ إلا أن تركيا التي تعمل على تطوير برامجها النووية كجزء من خططها لتحقيق تنوُّع في مصادر الطاقة وتقليل الاعتماد على الواردات التقليدية من النفط والغاز، قد تحتاج إلى تأمين إمدادات اليورانيوم من النيجر لمفاعل “أكويو” النووي على البحر المتوسط، الذي تقوم ببنائه شركة “روس آتوم” الروسية، وكذلك للمفاعل الثاني على ساحل البحر الأسود، والذي لا يزال في مرحلة التخطيط. وكذلك، تسعى تركيا إلى التوصل إلى اتفاق مع الصين لبناء محطة جديدة بالقرب من الحدود مع بلغاريا واليونان.([6]) كما أن سعي تركيا لتنويع مصادرها من المواد الخام والطاقة يجعل النيجر ذات أهمية اقتصادية بالغة، ليس فقط لليورانيوم، ولكن أيضًا للموارد الطبيعية الأخرى التي قد تكون ذات أهمية للقطاع الصناعي التركي، مما يُعزّز مصالحها الاقتصادية والصناعية في المستقبل، وتلعب دورًا كبيرًا في دعم الاقتصاد التركي.
ثانيًا: دوافع النيجر نحو تعزيز علاقاتها الإستراتيجية مع تركيا
بعد وقوع الانقلاب في النيجر في يوليو 2023م، وفي ظل تصاعد المنافسة بين القوى العالمية على القارة الإفريقية، سعت روسيا، من خلال مجموعة “فاجنر” (التي غيَّرت اسمها لاحقًا إلى الفيلق الإفريقي)، إلى لعب دور مؤثر في مستقبل البلاد، كما فعلت في الدول المجاورة؛ بوركينا فاسو ومالي.
في المقابل، استطاعت تركيا -بفضل علاقاتها المتنامية في إفريقيا- أن تُؤسِّس لنفوذ متزايد في النيجر، مما جعلها شريكًا إستراتيجيًّا واعدًا، وقد توافقت هذه التحركات التركية مع توجهات القيادة الجديدة في النيجر، التي سعت إلى إيجاد شريك بديل يعوّضها عن فرنسا، التي كانت قد اعتمدت عليها لعقود طويلة.
- القيم والروابط المشتركة:
شكّلت القيم والأواصر الدينية والثقافية المشتركة جسرًا مهمًّا للتواصل بين الشعبين التركي والنيجري، ورغم أن دخول العثمانيين إلى إفريقيا كان في عام 1517م عقب دخولهم مصر، إلا أن هناك شواهد تشير إلى امتداد آثار الأتراك في النيجر إلى بدايات القرن الخامس عشر، وأبرزها وجود جماعة تُعرف باسم “إسطنبول وا” في النيجر، التي تعود أصولها إلى سلاطين الدولة العثمانية، والتي تُعرِّف نفسها بأنها جزء من الأتراك ولا تزال موجودة حتى الوقت الحالي، وقد ساهمت هذه الروابط المشتركة في تعزيز العلاقات الثنائية، ومنحت تركيا قاعدة دعم شعبي قوية في النيجر، كما أسهمت في تسهيل الدبلوماسية الإنسانية التي وجَّهتها تركيا إلى الدول الإفريقية.([7])
- عدم تورُّط تركيا في الاستعمار:
تُعتبر تركيا واحدة من الدول التي لا تمتلك تاريخًا استعماريًّا في إفريقيا، مما يمنحها ميزة معنوية كبيرة في تعاملها مع دول وشعوب القارة، على عكس القوى الاستعمارية الأوروبية التي تركت بصمات سلبية في العديد من الدول الإفريقية، كما أن دعم أنقرة لاستقلال الدول الإفريقية، سواء خلال فترة الاستعمار أو بعده، عزّز من صورتها كشريك موثوق للقارة. وقد أنشأت تركيا في عام 1978م إدارة خاصة بإفريقيا داخل وزارة الخارجية؛ لتعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية؛ حيث أعلنت دعمها لاستقلال المستعمرات المتبقية، وقد لعبت دورًا نشطًا في أواخر السبعينيات من خلال إسهاماتها في استقلال ناميبيا.([8])
- تركيا كشريك دفاعي وأمني إستراتيجي:
تُعدّ تركيا من أبرز الدول القادرة على تزويد النيجر بالسلاح دون فرض شروط معقدة أو إملاءات سياسية، مما يجعلها شريكًا إستراتيجيًّا مناسبًا؛ حيث تعتمد أنقرة على مقاربة عملية تُركّز على تحقيق مصالح متبادلة مع الدول الشريكة، وهو ما يُعزّز قدرتها على تقديم الدعم العسكري وفقًا لاحتياجات هذه الدول.
في هذا السياق، تُعدّ الصناعات العسكرية التركية من بين الأكثر تطورًا في المنطقة؛ حيث تشمل منتجاتها مجموعة واسعة من الأسلحة والمعدات العسكرية المتقدّمة، مثل الطائرات المسيَّرة، التي أثبتت كفاءتها وفعاليتها في العديد من مناطق النزاع. علاوةً على ذلك، فإن التعاون الدفاعي مع تركيا يمكن أن يساعد النيجر في تطوير قدراتها العسكرية الوطنية، وتعزيز قدرتها على الدفاع عن حدودها ومكافحة التنظيمات الإرهابية المسلحة.
- الصورة الذهنية الإيجابية لتركيا:
نجحت تركيا في بناء صورة ذهنية إيجابية عن دعمها الثابت لحلفائها على مختلف الأصعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية، سواء في المناطق العربية أو الإفريقية أو آسيا الوسطى، وقد عزَّزت هذه الإستراتيجية من صورة تركيا كحليف موثوق، خاصةً في ظل تناقض سياسات بعض القوى الأخرى المنافسة لها في النيجر مثل روسيا، التي قد تتخلى عن حلفائها عندما لا تتوافق مصالحها مع الوضع القائم، كما حدث عندما تخلَّت روسيا عن دعم النظام السوري السابق في مرحلة حرجة مع تقدُّم قوات المعارضة المسلحة دون تدخل فعّال.
- تنامي أدوار الوساطة التركية:
تملك تركيا خبرة في مجال الوساطة وحلّ النزاعات، من خلال جهودها المتعددة في الوساطة بين الدول الإفريقية، وأبرزها في الآونة الأخيرة بين الصومال وإثيوبيا، مما يعزّز من مكانتها كشريك فاعل في تحقيق السلام والاستقرار، لا سيما في غرب إفريقيا، ويزداد ذلك أهمية في ضوء احتمالية حاجة النيجر لتركيا للقيام بالوساطة بين دول الساحل (النيجر ومالي وبوركينا فاسو) والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إيكواس”، بعد منح الأخيرة مهلة ستة أشهر لدول الساحل للتراجع عن قرارها بالانسحاب من التكتل، وهو ما أدَّى إلى استنفار عسكري لدول الساحل خشية أي خطوة قد تهدّد استقرارها من طرف المنظمة الإقليمية.( ([9]
- الوجود التركي في ليبيا:
يمكن للوجود التركي في ليبيا أن يخدم الأهداف الأمنية المشتركة بين طرابلس ونيامي، خاصةً في ظل التهديدات الأمنية العابرة للحدود المشتركة بين البلدين، مثل التطرف والإرهاب والتهريب، كما أن مشاريع إعادة بناء وتطوير البنية التحتية التي تقوم بها الشركات التركية في ليبيا تُوفّر فرصًا اقتصادية ليس فقط لليبيا، ولكن أيضًا للدول المجاورة مثل النيجر، التي يمكن أن تستفيد من هذه البنية التحتية كجزء من شبكة تجارية متكاملة، مما يزيد من الفرص التجارية بين النيجر وليبيا.
ثالثًا: مدى قدرة تركيا على تلبية احتياجات وتطلعات النيجر
- حدود القوة والنفوذ التركي:
لطالما روَّجت تركيا على مدار سنوات لقدراتها كفاعل دولي مقتدر يتمتع بحضور قويّ على الساحة العالمية. ومع ذلك، فإن تصنيفها كقوة إقليمية لا يعني بالضرورة أنها أصبحت فعلاً قوة كبرى، فمن المهم التمييز بين امتلاك الدولة عناصر القوة الإقليمية وبين حصولها على مكانة القوة العالمية الكبرى؛ لأن ذلك يتطلب امتلاك قدرات عسكرية واقتصادية استثنائية تُمكّنها من تحقيق مصالحها الوطنية، وتنفيذ سياسة خارجية توسعية، والتصرُّف بمرونة واستقلالية على المسرح الدولي.([10])
وفي هذا الصدد، تبنَّت تركيا منذ عام 2016م نهجًا واضحًا يقوم على إبراز قوتها العسكرية والاقتصادية، معتمدة على شعورها بتزايد قدراتها المادية والعسكرية، وقد تمثلت هذه السياسة في سلسلة من الأنشطة المتنوعة، من أهمها ما يلي:
- نشر قواتها المسلحة، وتأسيس قواعد عسكرية في عدة مناطق إستراتيجية، أبرزها في قطر لدعم حليفها الإستراتيجي في منطقة الخليج، وفي الصومال لتعزيز نفوذها في منطقة القرن الإفريقي.
- القيام بعمليات عسكرية خارج حدودها، كما في الحالة السورية، بهدف تقييد نشاط الفصائل الكردية المسلحة التي تَعتبرها تهديدًا لأمنها القومي، وحماية حدودها الجنوبية.
- إظهار القوة العسكرية المصاحبة للأنشطة الاقتصادية من خلال استعراض قوتها البحرية في شرق المتوسط، عندما أرسلت سفنًا للتنقيب عن الغاز مدعومة بحماية بحرية، تأكيدًا لمطالبها في المنطقة الغنية بالموارد الطبيعية.
ورغم نجاح هذه السياسة في إبراز تركيا كقوة إقليمية بارزة؛ إلا أنها أسفرت عن تداعيات سلبية على المستويين الداخلي والخارجي، وأبرزها:
- على الصعيد الداخلي: تأثُّر الاقتصاد التركي سلبًا؛ حيث شهدت الليرة التركية تراجعًا كبيرًا، وتزايدت الضغوط الاقتصادية بفعل العقوبات الدولية المفروضة على أنقرة.
- على الصعيد الإقليمي: أدَّى اعتماد تركيا على سياسة فرض القوة إلى توتُّر علاقاتها مع العديد من الدول المجاورة والإقليمية، مما جعَل أنقرة تشعر بالعزلة عن محيطها الإقليمي.
- على المستوى الدولي: أثارت هذه السياسات استياء قوى دولية كبرى، مما دفَعها لفرض عقوبات اقتصادية ودبلوماسية أضعفت موقف تركيا على الساحة الدولية.
وأمام هذه التحديات، اضطرت تركيا منذ عام 2020 إلى إعادة النظر في سياستها الخارجية، متبنيةً نهجًا أكثر برجماتية وتوازنًا؛ حيث بدأت في التخفيف من حملات استعراض القوة، وتحولت نحو سياسة التهدئة وبناء التحالفات القائمة على المصالح المشتركة، كما سعت إلى تحسين علاقاتها مع القوى الإقليمية والدولية، إدراكًا لأهمية التكيف مع الواقع السياسي والاقتصادي العالمي.
- تحديات الدور التركي في النيجر:
في حالة النيجر، تسعى تركيا إلى لعب دور بارز يُعزّز حضورها في القارة الإفريقية، ولكن ذلك يعتمد على الاستفادة من الأدوات المتاحة لها، دون المبالغة في تقدير قدرتها على تجاوز النفوذ الراسخ للقوى الدولية والإقليمية الفاعلة في غرب إفريقيا.
ومع ذلك، يبقى الوضع في النيجر معقدًا للغاية؛ حيث تتشابك فيه العوامل السياسية، الأمنية، والاقتصادية، مما يضع تركيا أمام مجموعة من التحديات التي قد تُؤثّر على قدرتها على تحقيق أهدافها، ومن أبرزها ما يلي:
- عدم الاستقرار السياسي: لا تزال النيجر تعاني من هشاشة النظام السياسي وضعف المؤسسات، وهذا الوضع يثير احتمالات وقوع انقلابات أخرى أو تغيُّرات جذرية في القيادة السياسية، مما يجعل أي شراكة طويلة الأمد مع الحكومة الحالية عُرْضة للمخاطر وعدم الاستقرار.
- ضعف البنية التحتية في النيجر: تعاني البلاد من ضعف كبير في البنية التحتية الأساسية، بما في ذلك الطرق، شبكات الكهرباء، والخدمات العامة، وهذا التحدي يتطلب استثمارات ضخمة لتنفيذ مشاريع تنموية كبيرة، ومع الأزمة الاقتصادية التي تواجهها تركيا داخليًّا، قد يصبح من الصعب عليها توفير التمويل اللازم بشكل كامل لتلبية هذه الاحتياجات.
- تعميق الانقسامات الإقليمية: تقع النيجر في قلب انقسامات إقليمية حادة في غرب إفريقيا بين دول مجموعة “إيكواس” ودول الساحل الإفريقي. لذا، فإن أيّ تدخُّل تركي يفتقر إلى مراعاة الحسابات الدقيقة أو أبعاد الأزمات الإقليمية قد يؤدي إلى تفاقم هذه الانقسامات ويُحوّل أنقرة إلى طرف في صراعات إقليمية مُعقَّدة بدلاً من أن تكون وسيطًا محايدًا ومؤثرًا. بالتالي، من المهم أن تعتمد تركيا إستراتيجية دقيقة تراعي هذه الانقسامات، وتسعى إلى ضمان أن دورها في النيجر لا يُورّطها في أزمات مع دول الجوار لنيامي.
- تهديد التنظيمات الإرهابية: تُواجه النيجر والمنطقة المحيطة بها تهديدات كبيرة من التنظيمات الإرهابية المنتشرة في الساحل الإفريقي وغرب إفريقيا، مثل تنظيم “داعش” والقاعدة، مما قد يجعل تنفيذ تركيا لأيّ إستراتيجية سياسية أو اقتصادية أمرًا معقدًا ومكلفًا([11])؛ لا سيما إذا استهدفت المصالح التركية على غرار الشركات التركية التي ستعمل في مجال التنقيب عن المعادن، مما قد يعقّد تنفيذ سياستها.
- المنافسة مع القوى الكبرى: تعمل قوى دولية كبرى مثل فرنسا، روسيا، والصين على تعزيز نفوذها في القارة الإفريقية؛ حيث تمتلك هذه القوى خبرة تاريخية وموارد مالية وعسكرية كبيرة، مما يضع تركيا في موقف تنافسي صعب، وعلى الرغم من نجاح تركيا في توسيع نفوذها في إفريقيا خلال العقد الأخير، إلا أن التحدي يكمن في قدرتها على المنافسة مع هذه القوى الكبرى في سياق مليء بالتعقيدات الجيوسياسية.
- لماذا تستهدف تركيا يورانيوم النيجر؟
في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأت تركيا تشقّ طريقها نحو التحوُّل إلى قوة متوسطة ناهضة، وهو ما انعكس في تطوُّر سياستها الخارجية بشكلٍ لافتٍ؛ حيث عمدت إلى تعزيز حضورها على الساحة الدولية، وأصبحت تسعى بشكل متزايد إلى تحدي الوضع القائم في النظام الدولي من خلال تبنّي سياسات أكثر استقلالية.([12])
ونتيجةً لهذا التوجُّه، أصبحت تركيا تسعى بشكل متزايد إلى تطوير قدراتها العسكرية والاقتصادية والسياسية بهدف مواجهة التحديات والتهديدات التي قد تعترض سياساتها الخارجية وأمنها القومي، سواء على الصعيدين الداخلي أو الخارجي.
من هنا، يمكن تفسير سعي تركيا نحو استهداف يورانيوم النيجر في إطار إستراتيجيتها الطموحة لتعزيز قوتها الاقتصادية والعسكرية، لا سيما في ظل سعيها المستمر لتحقيق استقلالية في مجال الطاقة وتلبية احتياجاتها المتزايدة من المصادر الطبيعية، مثل اليورانيوم الذي يمثل حجر الزاوية في إستراتيجيتها لتوسيع قدراتها في مجال الطاقة النووية، وهو ما يتجلى في مشروع محطة “أكويو” النووية، وغيرها من المحطات النووية المزمع إنشاؤها.
وكذلك، يُعتبر اليورانيوم موردًا ذا قيمة إستراتيجية لا تقتصر فائدته على توفير الطاقة، بل يمتد ليشمل استخدامات أخرى في المجالات الدفاعية والتكنولوجية، بالنظر إلى التقدُّم الذي أحرزته تركيا في مجال صناعاتها الدفاعية، وهو ما يُعزّز القدرة الردعية للدولة في مواجهة التهديدات المحتملة، خاصةً في ظل المنافسة الإقليمية والدولية المتصاعدة.
- الدور التركي في النيجر والصومال:
على الرغم من الموقع الإستراتيجي للصومال في القرن الإفريقي ومضيق باب المندب؛ إلا أن الأزمات التي كانت تعاني منها مقديشو جعلت الاهتمام الدولي يتركز بشكل كبير على الوجود في جيبوتي الأكثر استقرارًا، خاصةً بعد الخسائر التي تكبَّدتها الولايات المتحدة في الصومال خلال تسعينيات القرن الماضي.
ونتيجة لذلك، استطاعت تركيا أن تخلق نموذجًا قويًّا لحضورها في الصومال؛ حيث استغلت الفراغ الإستراتيجي، وأخذت موقعًا بارزًا بفضل استثماراتها ومساعداتها التنموية والأمنية، ونجحت في بناء قاعدة عسكرية، وتشغيل مطار مقديشو، والمساهمة في تدريب القوات المحلية، مما منَحها مكانةً مميزةً كحليف موثوق ومؤثر.
لكنّ الوضع في النيجر يختلف عن الحالة الصومالية؛ فالنيجر ليست منطقة “فراغ إستراتيجي”، بل هي ساحة تنافس دولي محتدم، فهي تُشكّل محورًا رئيسيًّا في قلب منطقة الساحل الإفريقي، وتشهد تفاعلات معقدة بين عدة قوى عالمية وإقليمية. على سبيل المثال، تدعم فرنسا جهود مجموعة “إيكواس” ضد النيجر، بينما تسعى روسيا لتعزيز وجودها عبر الفيلق الإفريقي، كما تمتلك الصين استثمارات اقتصادية واسعة النطاق في البلاد، لا سيما في قطاع الطاقة والبنية التحتية.
- فرص نجاح تركيا في النيجر:
طبقًا لما سبَق، قد تجد تركيا نفسها غير قادرة على ملء الفراغ الذي خلَّفته فرنسا في النيجر؛ نظرًا لوجود تحديات هيكلية تَمنعها من تنفيذ سياساتها بنجاح، فعلى الرغم من طموحات أنقرة المتزايدة في إفريقيا، إلا أن محدودية مواردها المالية والعسكرية مقارنةً بالقوى الاستعمارية التقليدية مثل فرنسا تُشكِّل عائقًا أمام تنفيذ مشاريعها الطموحة في المنطقة، كما أن الأزمات الاقتصادية الداخلية التي تعاني منها تركيا، بما في ذلك التراجع في قيمة العملة التركية والضغوط التضخمية، تُلقي بظلالها على قدرتها على توفير الدعم الكافي لتحقيق الاستقرار والتنمية في النيجر.
إضافةً إلى ذلك، يتطلب نجاح تركيا في النيجر استثمارات طويلة الأجل في بناء الثقة وتعزيز التعاون مع مختلف القوى السياسية والاجتماعية في البلاد، وهو أمر يحتاج إلى وقت وموارد كبيرة، كما أن البيئة الأمنية الهشَّة في منطقة الساحل الإفريقي، التي تتسم بانتشار التنظيمات الإرهابية والتوترات الإقليمية، تُعقِّد من مهمة تركيا وتضعها أمام معضلة تأمين دورها دون التورُّط في صراعات قد تستنزف مواردها.
ومع ذلك، قد تكون تركيا قادرة على لعب دور ملموس في النيجر إذا تصرَّفت بما يتناسب مع إمكاناتها الفعلية، واتبعت سياسة عقلانية ومحددة الأولويات؛ حيث يمكن لأنقرة التركيز على القطاعات التي تملك فيها ميزة نسبية، مثل الصناعات الدفاعية، والمشاريع التنموية، والدبلوماسية الإنسانية. وكذلك، يُمكنها تعزيز تعاونها مع النيجر من خلال الاستفادة من القِيَم الثقافية والدينية المشتركة، وهو ما يمنحها قاعدة شعبية داعمة لتوجهاتها.
ولكي تُعظّم تركيا فرص نجاحها، يجب عليها بناء شراكات مُتعدِّدة الأطراف تشمل دول المنطقة والمنظمات الإقليمية مثل الاتحاد الإفريقي ومجموعة “إيكواس”، لضمان توافق جهودها مع المصالح الإقليمية والدولية.
إن النجاح في النيجر لا يرتبط فقط بمواجهة التحديات الحالية، بل يتطلب رؤية إستراتيجية توازن بين طموحاتها وإمكاناتها، مع الحفاظ على الحياد وتجنُّب التدخلات غير المحسوبة التي قد تزيد من تعقيد المشهد.
وختامًا:
تتضح أمام تركيا فرصة إستراتيجية لتعميق نفوذها في النيجر في ضوء التغيرات السياسية والاقتصادية التي تشهدها المنطقة، خاصةً بعد انسحاب فرنسا. ومع ذلك، سيعتمد نجاح تركيا في ملء هذا الفراغ على قدرتها على تبنّي سياسة متوازنة، تُركّز على إقامة شراكة مستدامة مع النيجر، مع تجنُّب التصادم مع القوى التقليدية التي تتمتع بتأثير تقليدي في المنطقة.
…………………………………….
[1] -T.C. Dışişleri Bakanlığı, Türkiye-Nijer İlişkileri: https://2u.pw/AUjhUQoD.
[2] T.C. Ticaret Bakanlığı, Nijer Ülke Profili, 2024: https://2u.pw/24EZR9qy.
[3] -Tunç Demirtaş, Sahel ile İlişkilerde Yeni Dönem: Türkiye-Nijer İlişkileri, SETA Araştırmaları Vakfı, 17/7/2024: https://2u.pw/7fDaPot5.
[4] – ما عواقب طلب النيجر انسحاب القوات الأمريكية منها؟، أبعاد للدراسات الإستراتيجية،16/4/2024، متاح على: https://2u.pw/GkBEecQ5.
[5] -Tunç Demirtaş, Türkiye’den Kritik Zamanda Nijer Çıkarması, SETA Araştırmaları Vakfı, 17/7/2024: https://2u.pw/2E65GaVU.
[6] – تركيا تتجه نحو الصين لبناء ثالث محطة للطاقة النووية، سكاي نيوز عربية، 15/9/2023، متاح على: https://2u.pw/GbiyXFgoF.
[7] – سفير تركيا السابق لدى النيجر، حسن أولوصوى، العلاقات التركية النيجرية الدبلوماسية الإنسانية والدور التاريخي، مجلة رؤية تركية، السنة 4 العدد 4، 1/12/2015، ص 57.
[8] – مسعود أوزجان ومحمد كوسا، السعي إلى التوازن: الخلفية التاريخية للعلاقات التركية الإفريقية، مجلة رؤية تركية، السنة 13 العدد 4، 3/11/2024، ص 181.
[9] – مالي والنيجر وبوركينا فاسو ترفض مهلة لإعادة النظر في قرار الانسحاب من مجموعة “إيكواس”، فرانس 24، 23/12/2024، متاح على: https://2u.pw/p80fMHCK.
[10] – جنى جبور، تركيا دبلوماسية القوة الناهضة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2019، ص 303.
[11] -Selami Kökçam, Afrika’da yeni bir model ortaklık: Türkiye-Nijer, TRT Haber, 28/8/2024: https://2u.pw/M8172BXD.
[12] – جنى جبور، مرجع سابق، ص 32-33.