مع نهاية عام 2024م الحافل بسلسلة من الانتخابات البرلمانية والرئاسية في القارة الإفريقية؛ لا يزال تقييم هذه التجربة مثيرًا لجدل عميق؛ فقد كشفت نتائج الانتخابات -لا سيما في السنغال وجنوب إفريقيا وبوتسوانا وغانا- عن تقلُّبات الاختيارات الشعبية، وصعود التصويت العقابي ضد أحزاب أو نُظُم حُكْم رسخت سلطتها في تلك الدول في العقود الأخيرة.
ومع استمرار جَرْد حساب هذا العام الانتخابي بادرت الصين (في 6 يناير الجاري) بإرسال وزير خارجيتها “وانج يي” في جولة إفريقية تقليدية (حيث ترسل الصين رئيس دبلوماسيتها للقارة الإفريقية في أولى جولاته الخارجية منذ 35 عامًا متعاقبة)، تشمل كلاً من نيجيريا وناميبيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وتشاد.
وتخلو قائمة هذه الدول للمرة الأولى منذ سنوات عدة من إحدى دول القرن الإفريقي؛ مما يثير ترقبًا حول سياسة الصين في القرن الإفريقي بعد تآكل قدراتها في احتواء التناقضات داخل الإقليم مع صعود استقطاباته مؤخرًا بين جميع دُوَله تقريبًا.
يتناول المقال الأول رصدًا للانتخابات التي شهدتها إفريقيا خلال العام الماضي، وإن جنح إلى تبني “الرواية الغربية” كاملة عن هذه الانتخابات ودلالاتها والنظر للوضع في إقليم الساحل على أنه خروج كامل على الديمقراطية (دون أيّ إشارة لمقدمات “الانقلابات” العسكرية في الساحل، والعامل الفرنسي الذي أجَّج السخط الشعبي في دول الإقليم، وعزز سلطوية نظم الحكم فيها تحت غطاء ديمقراطي زائف).
فيما يتناول المقالان الثاني والثالث تطلُّعات الصين في إفريقيا بالتزامن مع بدء “وانج يي” جولته الإفريقية التي يتم خلالها وضع أهمّ ملامح هذه التطلعات في العام 2025م؛ والتي لا يمكن فَصْلها عن ثنائية النفوذ الاقتصادي الصيني (احتكار واردات المعادن الإفريقية بالأساس)، المصحوب بأجندة سياسية دولية لبكين تقوم على الاستفادة المتبادلة مع بقية الدول المتنافسة في القارة الإفريقية، حتى مع منافستها الأولى؛ الولايات المتحدة.
ويختتم المقال الرابع بتناول مع طرحه “وانج يي” من رؤية بلاده للتعاون مع إفريقيا؛ بحسب تصريحاته التي أدلى بها خلال زيارته الأولى في الجولة الإفريقية في العاصمة الناميبية وندهوك.
فائزون وخاسرون في سباق الديمقراطية في إفريقيا([1]) :
شهدت القارة الإفريقية في العام 2024م انعقاد 18 عملية انتخابات من السنغال إلى جنوب إفريقيا، ومن الجزائر إلى غانا؛ حققت نتائج مختلطة أو مزيجًا من قصص النجاح والتحديات التي لا تزال قائمة في وَجْه مسيرة القارة نحو الديمقراطية.
وفي هذا العام التاريخي للديمقراطية –مع انعقاد الانتخابات في أكثر من خمسين دولة حول العالم في العام 2024م، صوَّت خلالها أكثر من 1.5 بليون نسمة في صناديق الاقتراع-؛ لم تكن القارة الإفريقية استثناءً في ذلك. ومع إجراء 18 عملية انتخابات، بما فيها في السنغال في مارس، وجنوب إفريقيا في مايو، والجزائر وتونس في سبتمبر وأكتوبر على الترتيب، وغانا في ديسمبر. وقد شهدت بعض الأقاليم، لا سيما غرب إفريقيا، تقدُّمًا كبيرًا عبر الديمقراطية، فيما لا تزال بعض الأقاليم تُواجِه تحديات كبيرة.
دروس من غرب إفريقيا
يرى عالِم السياسة ماتياس هونكبي Mathias Hounkpe، وهو كاتب مشارك لتحليل مقارن للمفوضيات الانتخابية في غرب إفريقيا (حيث جرت الانتخابات في السنغال وغانا تحديدًا في هذا الإقليم) أن الانتخابات في هاتين البلدين الغرب إفريقيتين وضعتا مثالًا على صناديق الاقتراعات الفعَّالة والمدارة جيدًا. ويؤكد هونكبي “في السنغال تعكس النتائج قدرة المؤسسات في الدول التي تهتم بالقيام بأدوارها على النحو الملائم، وكذلك قدرة المواطنين على تنظيم أنفسهم من أجل حماية الديمقراطية وتأمين الانتخابات”. وبعد تأجيلها مِن قِبَل الرئيس السابق ماكي سال شهدت الانتخابات الرئاسية التي عُقدت في شهر مارس انتخاب “باسيرو ديوماي فاي” بنسبة 54% من الأصوات. وفي غانا أنتجت الانتخابات الرئاسية التي عُقدت في ديسمبر عودة الرئيس السابق جون ماهاما J. Mahama إلى السلطة.
وأكّد هونكبي قناعته “بإمكان أن تمثل غانا نموذجًا للإقليم الفرعي بأكمله، فغانا هي الدولة التي تبذل فيها مفوضية الانتخابات جهودًا كبيرة لكسب ثقة المواطنين”، ثم أضاف “فقد أقر الخاسر بنصر منافسه استنادًا للنتائج التي جمعها حزبه نفسه. ولم ينتظروا حتى لإعلان النتائج المؤقتة التي تعلنها المفوضية. بل قام الخاسرون بالاعتراف بالنتائج التي جمعوها أنفسهم. لذا، بالنسبة لي، فإن ذلك يُمثّل درسًا للأحزاب السياسية في الإقليم الفرعي”.
تداول السلطة في جنوب إفريقيا وبوتسوانا
وكما الحال في غانا والسنغال؛ أقر رئيس بوتسوانا موكجويتسي ماسيسي Mokgweetsi Masisi في نوفمبر الماضي بهزيمته على نحو سلمي بعدما أظهرت النتائج الأولية للانتخابات الرئاسية فقدان حزبه الحاكم “حزب بوتسوانا الديمقراطي” Botswana Democratic Party أغلبيته البرلمانية، رغم وجوده في السلطة منذ العام 1966م. وقد نال حزب المعارضة “مظلة التغيير الديمقراطي” Umbrella for Democratic Change أكثر من نصف مقاعد البرلمان، وأصبح زعيم الحزب دوما بوكو Duma Boko الرئيس الجديد للبلاد.
كما فقد حزب المؤتمر الوطني الحاكم في جنوب إفريقيا الواقعة جنوب بوتسوانا أغلبيته البرلمانية للمرة الأولى منذ نهاية الأبارتهيد قبل 30 عامًا خلال التصويت الذي جرى في 29 مايو 2024م. وفيما لا يزال المؤتمر الوطني الإفريقي أكبر أحزاب البلاد حتى اللحظة، بسيطرته على 159 مقعدًا من إجمالي 400 مقعد في الجمعية الوطنية الجديدة، فإنه اتفق على تشكيل تحالف مع معارضته الرئيسة متمثلة في حزب التحالف الديمقراطي بشكل سلمي تمامًا.
كما تتقلد جنوب إفريقيا الرئاسة الدورية لمجموعة العشرين G20، وسوف تستضيف قمته في نوفمبر 2025م قبل تسليم الرئاسة إلى الولايات المتحدة، وتلك المرة الأولى التي تتقلد فيها دولة إفريقية هذه المكانة في تلك المجموعة.
نجاح أرض الصومال
فيما يستمر إقليم القرن الإفريقي عالقًا في حالة عدم الأمن والصراع في إثيوبيا والصومال عقدت انتخابات رئاسية في نوفمبر الماضي في أرض الصومال، الإقليم الذي يطالب بالانفصال عن الصومال، بعد أسابيع من الغموض. وشهدت الانتخابات قدرة زعيم المعارضة محمد عبد الله من حزب وداني Waddani Party على تأمين الفوز بمنصب الرئيس بحصوله على 64% من الأصوات، وهزيمة المرشح الرئيس الحالي وقتها موسى بيحي. وكان إقليم أرض الصومال، الواقع عند الطرف الشمالي الغربي للصومال، قد أعلن استقلاله من طرف واحد في العام 1991م وكان الجزء الأكثر استقرارًا من بقية أقاليم الصومال منذ ذلك الوقت.
وقد مثَّلت نتيجة الانتخابات الأخيرة تناوبًا سياسيًّا سلميًّا للسلطة للمرة السادسة على التوالي في الإقليم، الأمر الذي جَذب مدحًا من محللين سياسيين، وجدَّد الأمل في نيل الإقليم اعترافًا دوليًّا (باستقلاله).
أزمة موزمبيق
أكَّدت المحكمة العليا في موزمبيق في 23 ديسمبر الفائت نتائج الانتخابات المتنازَع عليها في البلاد، والتي جرت في 9 أكتوبر، ومددت حكم حزب فريليمو Frelimo الذي قبض على السلطة منذ خمسين عامًا، الأمر الذي دفَع البلاد إلى حالة فوضى. وطوال الشهور الثلاثة منذ الاقتراع شهدت البلاد احتجاجات وصدامات عنيفة غير مسبوقة. ويؤكد فينانسيو موندلين Venancio Mondlane، الزعيم المعارض والمناهض الرئيس لحكم زعيم فريليمو دانيال تشابو D. Chapo، أن انتخابات أكتوبر 2024م مزورة.
انتخابات مؤجلة
كان مِن المفترض أن يُصوّت الماليون في فبراير 2024م، وهي الانتخابات التي أُجّلت في السابق في يوليو 2022م، لكنَّ المجلس العسكري الحاكم في البلاد، الذي استحوذ على السلطة في انقلاب 2021م، أجَّل التصويت مرة أخرى “لأسباب تقنية”. ويقول ألكسندر ديدير أماني Alexandre Didier Amani من منظمة Tournone La Page غير الحكومية: إن إقليم الساحل قد شهد تراجعًا واسع النطاق منذ وقوع الانقلابات في مالي والنيجر وبوركينا فاسو؛ التي تتحد ثلاثتها في اتحاد يحمل اسم “تحالف دول الساحل”. وأكد في حديث لراديو فرنسا الدولي أن “غلق المجالات المدنية، وإسكات الأصوات يدفعنا للاعتقاد بوجود تراجع حقيقي في الديمقراطية”.
وزير الخارجية الصيني يُعمّق علاقات بلاده خلال جولته الإفريقية([2]) :
بدأ وزير الخارجية الصيني “وانج يي” جولته الإفريقية السنوية، للعام 35 على التوالي وفق تقاليد الدبلوماسية الصينية التي تضع إفريقيا محطة أولى لمثل هذه الجولات، التي تشمل هذا العام أربع دول هي ناميبيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية ونيجيريا وتشاد.
وطوال عقود سجَّلت زيارات وزير الخارجية الصيني لإفريقيا شراكات عميقة وتعزيز الاحترام المتبادل بين الصين وإفريقيا. وهدفت كلّ جولة من هذه الجولات إلى معالجة تحديات رئيسة تُواجه إفريقيا بدءًا من القضاء على الفقر ومواجهة العجز القائم في البنية الأساسية، وصولًا إلى النموّ المستدام بحسب خبراء معنيين.
“لقد عمَّقت الصين مفهوم تعاون الفوز للجميع، وتوقن الأطراف المعنية عن صدق بأن انخراطهم وارتباطهم بالقارة الإفريقية يُساعد الصين على النمو كدولة، كما يُمكِّن الصين من مساعدة إفريقيا في تحقيق تقدُّم بطرق متنوعة”؛ بحسب رافايل أوبونيو Raphael Obonyo، الخبير بشؤون الشباب والسياسة العامة الإفريقية.
وقد حسنت هذه الزيارات، على مدار الأعوام، من العلاقات الدبلوماسية بين الصين وإفريقيا، ورعت عملية تكوين منتدى التعاون الصيني- الإفريقي Forum on China- Africa Cooperation، ويتوقع أن يشمل برنامج عمل الجولة الحالية مناقشات حول الشراكات الاقتصادية الكبرى في الدول الإفريقية الأربع. وبحسب أوبونيو، فإن الدول الأربع التي سيزورها وزير الخارجية الصيني (وإفريقيا ككل) تتطلع للمضي قُدُمًا نحو تعزيز التعاون في مجالات متنوعة، سواء فيما يتعلق بالبنية الأساسية؛ حيث حققت الصين بالفعل عملًا رائعًا في دول إفريقية متنوعة، أم في غيرها من المجالات”.
كما تُقرِّب الزيارة التفاعلات الشعبية بين الجانبين الإفريقي والصيني فيما يتجاوز المصالح الاقتصادية. ويتفاءل محللون إزاء قدرة الصين وإفريقيا على مواصلة مساعيهما لتحقيق الأهداف المشتركة في السِّلم والاستقرار والتنمية.
ويمكن القول: إن ناميبيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وتشاد ونيجيريا تتمتع جميعها بعلاقات ودية مع الصين، لا سيما في مجال التعاون الاقتصادي معها. وقال ماو نينج Mao Ning، الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية: إن زيارة “وانج” تهدف إلى تعزيز تطبيق مخرجات قمة بكين لمنتدى التعاون الصيني الإفريقي، وتعميق التعاون العملي في مجالات متنوعة، وتعزيز وتعميق تطور العلاقات الصينية- الإفريقية.
إفريقيا ليست “قارة منسية”، بل “أرض التنمية”([3]) :
ردًّا على سؤال بخصوص زيارة وزير الخارجية الصيني “وانج يي” الرسمية إلى أربع دول إفريقية هذا الأسبوع، ورؤية الصين حول آفاق التنمية المرتقبة للدول الإفريقية؛ ذكر الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية جوو جياكون Jou Jiakun أن وزراء خارجية الصين جعلوا إفريقيا وجهتهم الأولى مع مطلع كلّ عام جديد في جولاتهم الخارجية طوال 35 عامًا على التوالي، مما يعكس استدامة وأهمية الصداقة التقليدية بين الصين وإفريقيا، وكذا التزام الصين المستمر بالتعاون الوُدّي مع القارة.
وذكر “جوو” أن الصين ظلت دائمًا تُوقن بأن إفريقيا ليست “قارة منسية”، بل إنها “مصدر للحيوية”، وأرضًا للتنمية. كما أشار “جوو” إلى أن إفريقيا تسهم بقوة تغيير في الحوكمة العالمية.
وبتوجيه من الوحدة الإفريقية Pan- Africanism، فإن الدول الإفريقية تقوم بمسارعة عملية وحدتها، والاعتماد على الذات، والتنمية المتكاملة واستعادة الأهمية/ الحيوية revitalization، ولعب دور مُهمّ على نحو متصاعد في الشؤون الدولية. كما تقدم إفريقيا دفعة كبيرة للاقتصاد العالمي.
ووفقًا لمجموعة بنك التنمية الإفريقي ADBG فإن متوسط النمو الاقتصادي المتوقع سيرتفع إلى 3.7% في العام 2024م، وهو ما يتجاوز المتوسط العالمي. كما ستحل عشر دول إفريقية في لائحة أسرع 20 اقتصادًا في النموّ العالمي.
وباعتبار القارة من أهم معاقل نشوء الحضارات الإنسانية فإنها الأكثر شبابًا؛ إذ يقع نحو 70% من سكانها في الفئة العمرية دون 30 عامًا. ومِن ثَم فإن “الجنوب العالمي”، كما تُمثّله الصين وإفريقيا، سيمكنهما من تشكيل مسار التاريخ العالمي. كما سيُعزّز مكانة إفريقيا في إسهامات أكبر للسلم والتنمية العالمية.
وزير الخارجية يستهل العام الجديد بجولة إفريقية([4]) :
وصف “وانج يي” جولته الإفريقية السنوية بأنها تقليد رائع وملمح مميز لدبلوماسية الصين، وجاءت تصريحاته خلال لقائه مع الرئيس الناميبي المنتخب نيتومبو ناندي- ندياتواه Netumbo Nandi-Ndaitwah.
وتأمل الصين في أن تُظهر للعالم أنها تظل، رغم التغيرات في البيئات الدولية والإقليمية، أكثر صديق موثوق فيه بالنسبة لإفريقيا، وأنها الشريك الذي يمكن للقارة أن تُعوّل عليه لتحقيق التنمية، وأن الصين الداعم الأكبر لإفريقيا في الساحة الدولية.
وذكر “وانج” أن الصين تعتز بصداقتها مع إفريقيا؛ لأن الجانبين ظلا دائمًا في تفاهم وثقة ودعم، وساعد كل منهما الآخر في مساعي نيل الاستقلال والتحرر الوطني، والسعي أيضًا لتحقيق التنمية المشتركة.
وقد رفعت الصين مستوى علاقاتها بدول القارة الـ53؛ إذ للصين علاقات معها جميعًا تصل إلى المستوى الإستراتيجي، وتشمل جميع الجوانب وصولًا لتصور مستقبل مشترك بينهما في الفترة المقبلة. ويبرز كل ذلك حاجة الصين وإفريقيا للوقوف معًا بحزم وتعميق التعاون بينهما، بحسب تصريحات “وانج يي”. وأضاف في ختام تعليقاته أنّ تقوية التضامن والتعاون والتأمين المشترك للحقوق والمصالح الشرعية للدول النامية يخدم التطلعات المشتركة لنحو 2.8 بليون نسمة في الجانبين.
………………………………
[1] Melissa Chemam, Who were the winners and losers of African democracy in 2024? RFI, January 4, 2025 https://www.rfi.fr/en/africa/20250104-who-were-the-winners-and-losers-of-african-democracy-in-2024
[2] Chinese FM to strengthen ties during Africa visit, Africa News, January 6, 2024 https://www.africanews.com/2025/01/06/chinese-fm-to-strengthen-ties-during-africa-visit/
[3] Africa is not ‘forgotten continent,’ but ‘source of vitality’ and ‘land of development’: FM spokesperson on Wang Yi’s Africa visit, Global Times, January 6, 2025 https://www.globaltimes.cn/page/202501/1326356.shtml