أ. عثمان سيسي – باحث من مالي
للشهر الثاني على التوالي تتواصل الاحتجاجات المناوئة لحكم الرئيس المالي إبراهيم أبو بكر كيتا (إبيكا)، مطالبةً برحيله؛ نظرًا للأزمة السياسية التي تعصف بالبلاد جرَّاء الانتخابات التشريعية في مارس الماضي، ورفض المعارضة لنتائجها؛ بسبب ما شابَها من تجاوزات، فضلاً عن المطالب المستمرة -منذ ما يقارب العام- ببسط الأمن، وتحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وكفّ عائلة الرئيس عن بسط نفوذها السياسي والاقتصادي على البلاد.
وتطورت الأحداث حتى وصلت إلى يوم 5 يونيو الماضي الذي شهد تشكيل جبهة معارضة واسعة دعا إليها الإمام محمود ديكو الرئيس السابق للمجلس الإسلامي الأعلى في مالي، وكانت الاستجابةُ واسعةً وكبيرةً؛ فلقد التفَّت حوله أحزابٌ وقوًى سياسية ومنظماتُ مجتمع مدنيّ؛ تجمعها جميعًا نفسُ المطالب السابقة تحت غطاءٍ وزخمٍ شعبيٍّ كبيرٍ.
ولم تلبث حركة 5 يونيو كثيرًا حتى أصبحت محطَّ أنظار العالم، وشخصيتها المقدمة والمؤثرة الإمام محمود ديكو؛ مما دفع دول الجوار إلى السكوت تارة، والتصريح ضمنيًّا بالخوف من انتقال العدوى الثورية إليها تارةً أخرى، حتى جاء يوم 10 يونيو، وهو اليوم الذي امتزجت فيه القضية والمطالب بدماء الشباب المالي، وأخذت بُعدًا آخر، وهو الثورة على النظام الذي يقتل المواطنين.
وهنا كالعادة تأتي الوساطات الدولية؛ ففرنسا تعلن أثناء الحراك مقتل زعيم تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي، وبعدها تعلن أيضًا إرسال قوة أوروبية تقودها فرنسا لمكافحة الإرهاب، وهذا مما يدعو للريبة في هذا التوقيت؛ فهي تداوي بما كان الداء؛ لأن من مطالب الحراك تقنين وجود القوات الأجنبية، وفي بعض الأحيان رحيلها تمامًا، فمنذ قدوم القوات الفرنسية التي كان قوامها في حدود 4000 جندي في 2013م، وبعد أن حقَّقت أكبر أهدافها مع القوات الغرب إفريقية ecowas، والقوات الحكومية في طرد الحركات المسلحة إلى أقاصي الشمال؛ لم يستتب الأمن، وزادت الحركات المسلَّحة -سواء الإسلامية منها أو الانفصالية- من نشاطها على مقربة من مقرات القواعد الفرنسية في تسالت وغاو في شمال (مالي)؛ مما يثير الشكوك حول الهدف الحقيقي من وجود هذه القوات.
ولم يقعد اتحاد غرب إفريقيا مكتوف اليدين؛ فأرسل مبعوثًا خاصًّا (الرئيس النيجيري السابق جودلاك جوناثان) لحل الأزمة، ولكنه لم يستطع تقريب وجهات النظر؛ نظرًا لانحيازه الواضح للحكومة والرئيس، مما دفع الحركة إلى رفض خطته لحل الأزمة فباءت مساعيه بالفشل.
تستمر الحركة حاليًا في العصيان المدني الذي دعت إليه بعد 10 يونيو، وتستمر الجهود الإقليمية والدولية لحلّ الأزمة بكل تعقيداتها، ويستمر اختفاء زعيم المعارضة سوميلا سيسي الذي اختُطِفَ في 26 مارس الماضي أثناء حملته الانتخابية، وهذا مما يجعل الحكومة المتَّهم الأول في هذا الإخفاء القسري لرجل بمكانته، وفي حدث انتخابي مهم في البلاد.
من هنا سأبدأ تسليط الضوء على الثوابت والمتغيرات التي طرأت على مالي تراكميًّا منذ فترات ليست بالبسيطة؛ تتجلى آثارها في هذا الرفض الشعبي الكبير للحكومة والرئيس في طريقة إدارته للبلاد.
الشمال والانفصال والحركات المسلحة:
من الثوابت لمدة كبيرة في مالي أن الشمال دائم الثورة، كثير الغليان منذ ستينيات القرن الماضي، كما أنه من الثابت أن الشعب في مالي عمومًا، بعرقياته وطوائفه المختلفة، يعيش على درجة جيدة من الوئام والتقبُّل لبعضهم البعض؛ وإن كل المشاكل التي تطرأ ما بينهم من مشاكل بين الرعاة والمزارعين والصيادين وغيرها لا تلبث أن يتم حلّها.
ومن الثوابت أيضًا: أن تبقى مالي موحدة دائمًا، وهذا ما يتفق عليه عموم الشعب في مالي، وما يعانيه عموم الشعب من فشل سياسي لا يختلف بحد كبير من منطقة لأخرى، وإن تجلت في منطقة دون أخرى في وقتٍ من الأوقات.
ولكن ما يعكِّر صَفْو هذه العلاقات دائمًا هو فشل السياسيين في حلّ أزمات مالي عمومًا، وفي الشمال خاصةً؛ ممَّا يُمهِّد للجماعات الانفصالية والحركات المسلحة بالنشاط، وكسب المزيد من الأتباع.
وكانت الحكومات دائمًا تتبنَّى خيارات أمنية، وتسليح ميليشيات لا تؤدي مهمتها وتقوم بانتهاكات بحق المواطنين؛ فتؤجِّج الصراع، إلا أننا لا نبرئ هذه الحركات؛ فأياديها أيضًا ملطَّخة بالدماء.
في يناير 2012م بدأت كلّ من الحركة الوطنية لتحرير أزواد وحركة أنصار الدين الحرب على القوات المالية من أجل طَرْدها من الإقليم، وجاء ذلك في بيان الحركة آنذاك “إنَّ انطلاق العمليات الحربية جاء بعد رفض الحكومة في باماكو الاستجابة لدعوات ومطالب الحركة الداعية إلى حلّ القضية بشكل سلميّ عبر الحوار.
وبعد شهرين أعلنت الحركة أنها سيطرت على نحو 70% من أراضي الإقليم، والذي يُشكِّل نحو 60% من التراب المالي، ويقطنه حوالي 10% من مجموع السكان وهم من (الطوارق، السونغاي، الفولان، العرب)، وتعالت الدعوات للاستقلال والتي يغلب عليها الجانب القبلي للطوارق.
وردًّا على هذه الهزيمة للقوات الحكومية نفَّذ جنود ماليون انقلابًا على حكومة أمادو توماني توري؛ واتهموها بالعجز والفشل في دعم الجيش.
وفي 5 أبريل، وبعد شهرين من الكَرّ والفرّ بين الانفصالين؛ أعلنت الحركة الوطنية لتحرير أزواد استقلال المناطق التي سيطرت عليها تحت اسم جمهورية أزواد، ولم يلبث تحالف الحركة مع أنصار الدين بالتداعي والتفكك؛ فالحركة تدَّعي أنها علمانية وتريد تطبيقها، وأنصار الدين السلفية تدَّعي أنها تريد تطبيق الشريعة، وبين هذا وذاك والجيش المالي الذي يحاول السيطرة كان الضحية هو المواطن المالي؛ فنتج عن ذلك تشريد 200 ألف من سكان الإقليم ومقتل المئات وارتكاب مجازر مُروِّعة بحق الأهالي، وهدم للأضرحة والآثار، ونشاط غير مسبوق للجماعات المسلحة والمتطرفة والانفصالية؛ كلّ يبيع سلعته، ويروّج لها مع ضعف الحكومة وتخليها عن دورها الرئيسي، وهو الأمن والحماية؛ فالجيش انشغل بانقلابه على الحكومة، وتثبيت موقفه في العاصمة والدولة تعاني من فراغ سياسيّ مروّع.
وبعدها جاءت القوات الدولية في2013م، وعلى رأسها فرنسا، وكانت محل ترحيب؛ نظرًا لأن كل البلاد كانت على المحكّ، وكان من أبرز المؤيدين لها: الإمام محمود ديكو الذي كان مؤيدًا للرئيس (إبيكا) في الانتخابات الرئاسية، ولكنَّ ديكو المطالب للحقوق والذي كان يُعبّر عن وجدان الشعب في رفضه القاطع لمدونة الأحوال الشخصية في 2009م والتي تحتوي على تعديلات ونصوص قوانين اعتبرت بأنها لا تعبر عن الشعب في مالي، وخرجت مظاهرات حاشدة يقودها الإمام ديكو وشخصيات دينية بارزة وناشطين آخرين؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر: من النصوص المرفوضة: “المساواة في الميراث بين الأبناء الشرعيين وغير الشرعيين”.
ولكن (إيبكا) بعد فوزه في الانتخابات نحا منحًى آخر تمامًا عما توقَّعه ديكو في المطالب الشعبية التي يقودها ممَّا دعا الأخير للتبرؤ منه فيما بعد، مقدِّمًا اعتذاره أمام الجماهير عن ذلك التأييد في 5 يونيو.
الإقليم الأوسط وتهديد السِّلم المجتمعي:
في وسط البلاد أيضًا لم يكن الحال أفضل من الشمال بكل مطالبات أهله الأساسية بالأمن والسِّلْم، وتحسين الأوضاع المعيشية، ولكن في العام الماضي 2019م وقعت الكارثة التي كادت أن تنسف الأمن والسِّلْم المجتمعي في المنطقة؛ حيث اتَّهَمَ أشخاصٌ من قبائل الدوجون قبائلَ الفولان بتوفير حاضنة للإرهابيين في الشمال، وفي خارج البلاد، وفي المقابل يتهم الفولان الحكومة رأسًا بدعم مليشيات من الدوجون للاستيلاء على أراضيهم وتنفيذ جرائم تطهير عرقي وحرق للقرى والناس وقتل بالسواطير ضدهم.
وهذا ما تم فعلاً؛ فبحسب المحامي الشهير حسن باري والمخوَّل من الحكومة بالوصول إلى أحمد كوفا رئيس كتيبة تحرير ماسينا، والمطلوب دوليًّا لإعلانه البيعة للقاعدة ودعوته المتطرفة، قال حسن باري: “منطقة موبتي ملتهبة جراء مليشيات نعما ساجو، والتي تم تشكيلها بالكامل من الدوجون، وهذه المليشيات في الواقع خلفها أجهزة الدولة”.
وهكذا تركت الحكومة الشعب من الفولان والدوجون تحت رحمة مليشيات مسلحة تدعمها من جهة، وجماعة كوفا التي بدأت بالردّ ومهاجمة القوات الحكومية، وكثير من موظفي الدولة الذين لا ناقة لهم ولا جمل في هذا الصراع.
كانت مشاكل الرعاة والمزارعين في السابق تحلّ دائمًا بالإدارات المحلية والتوافق، ولكن المتغير هنا سياسة الحكومة، وفشلها الذريع بوضع السِّلْم الأهلي والمجتمعي على المحَكّ.
فرنسا والعامل الاقتصادي:
لم تتغير النظرة الفرنسية الحقيقية لدول الساحل؛ فلطالما كانت دعاوى فرنسا للتدخل في دول الساحل: حفظ الأمن، وجلب الاستقرار، ومنذ الحقبة الاستعمارية كان التباين واضحًا ما بين دعاوى التدخل والأهداف الحقيقية؛ حيث ادَّعى الفرنسيون أيام الاستعمار أن غزو إفريقيا عمومًا يتم من أجل نشر الحضارة والتقدم!!
وفي هذا الصدد قال فيكتور هوغو الأديب الفرنسي الشهير حينها: “هيا أيها الناس! استولوا على هذه الأرض، احصلوا عليها، لمن تعود ملكيتها؟ إنها ليست ملكًا لأحد، اذهبوا واحصلوا على هذه الأرض لأجل الرب؛ إنه هو الذي يهب الأرض للناس، والربّ أهدى إفريقيا لأوروبا”.
منذ دخول فرنسا تحت اسم عملية (برخان)، ومن ورائها قوات أوروبية أخرى؛ لم يتحسن الحال في مالي، رغم أنه كان مُرَحَّبًا بها في البداية، ولكن إذا كان الغرض حفظ الأمن والاستقرار ولم يتحقق ذلك؛ فلماذا تبقى هذه القوات التي تربو على أكثر من 4000 جندي؟! وتضاعف العدد ليصبح 5800 جندي حاليًا بعد العملية الأخيرة (تاكوبا)، والتي تشارك فيها دول أوروبية أخرى.
في الواقع؛ إن وضع هذه القوات يندرج تحت هدف استراتيجي جيواقتصادي بحت تسعى فيه فرنسا للحفاظ على حصتها من الذهب في مالي التي تنتج ما يقارب 50 طن سنويًّا، وهناك مئات المناجم في مالي من الذهب أو البوكسيت أو غيره من المعادن الأخرى، وكذلك الوجود الدائم بالقرب من الأماكن التي يُرجَّح أنها تحتوي على احتياطيات هائلة من النفط والغاز في شمال مالي؛ من خلال القوات الفرنسية المرابطة في الشمال؛ عوضًا عن دعم سلسلة القواعد الأخرى التي تنتشر في دول الساحل، وكلها بنفس الهدف في مالي، مع تغيُّر الموارد الطبيعية من نفط وغاز ويورانيوم على حسب البلد.
وفرنسا في مأزق كبير حاليًا؛ لأن الدول الكبرى كالولايات المتحدة والصين وروسيا دخلت بالفعل في سباق السيطرة على الموارد بقواها الناعمة وشركاتها المختلفة، وهي تراقب عن كَثَب الأوضاع في مالي متحيِّنةً لأيّ فرصة للهيمنة والاستحواذ على أكبر قَدْر من مُقدَّرات واحتياطيات الغاز والنفط والذهب، وغيرها من الموارد في دول الساحل عمومًا على حسابها.
ومن المرجح ألَّا يظهر أيّ تأييد للحراك إلا إذا نجح في الاطاحة بـ(إبيكا)، وتسلمت حركة 5 يونيو السلطة، وشكَّلت الحكومة، وهذا ما يرنو إليه الشعب والحركة مستبطنة في وجدانها “بلييس كومباوري” الذي تمت الإطاحة به عام 2014م في بوركينا فاسو الدولة الجارة لمالي في أحداثٍ مشابهةٍ إلى حدّ مقبول.