الشيخ إبراهيم كونتاو(*)
الأحداث الدموية الناشئة في مالي بين الدولة والجماعات المسلّحة، العلمانية منها والإسلامية، والتي نتج عنها تدخّل عسكريّ (فرنسي إفريقي)، أحدثت خلافاً كبيراً ومواقف متباينة في أوساط العالم الإسلامي، لكونها قضية تمسّ الإسلام، ولعواقبها الجسيمة على الإسلام والمسلمين والدعوة بصفة عامة.
ومن أسباب هذه المواقف المتباينة عدم الإلمام التام بجذور الأزمة، والتي ينبغي لجميع الأطراف الوقوف عندها، ودراسة ما يمكن أن يُسهم في توضيح بعض القضايا، مما يساعد على اتخاذ موقف رشيد.
كما ينبغي لنا السعي إلى تجاوز الموقف التنظيري المبني على التأييد أو الاستنكار، اللذيْن يقل نفعهما في الوقت الراهن، حيث البنادق تعمل في الميدان، فننتقل من التنظير إلى العمل المفيد، عسى أن ننفع المسلمين، ونُسهم في تحقيق مصالح العباد والبلاد، بدلاً من أن نترك الساحة لغيرنا يعمل ونحن نشاهد، ونستنكر ونندّد أو نؤيّد.
نبذة عن مالي:
مالي دولة إسلامية قديمة، حكمتها ممالك إسلامية متعاقبة، مثل: مملكة مالي، ومملكة سونغاي، ومملكة ماسينا.
وحين جاء الاستعمار الفرنسي في القرن التاسع عشر إلى البلاد اصطدم بمقاومة إسلامية قوية، ومواجهات مسلحة من الشعب، قادها علماء الدين، انتهت باستشهاد عدد كبير منهم في مواجهات مسلحة، وتمّ تهجير عدد كبير منهم وإبعادهم عن أوطانهم إلى داخل إفريقيا وخارجها، ولم يُعرف مصير عدد كبير منهم، وأخيراً تمكّن الفرنسيون من السيطرة على المنطقة عام 1895م.
وفي عام 1904م تحوّل اسم المستعمرة إلى «السودان الفرنسي»، وصارت جزءاً من «إفريقيا الغربية الفرنسية»، ثم مُنح «السودان الفرنسي» مرتبة «الولاية» في «الاتحاد الفرنسي» في عام 1946م.
أصبح «السودان الفرنسي» جمهورية ذات حكم ذاتي في إطار المجموعة الفرنسية عام 1958م، وفي السنة التالية اتحد «السودان الفرنسي» والسنغال ليكوّنا «اتحاد مالي الفيدرالي»، وكان قائد مالي موديبو كيتا رئيساً لذلك الاتحاد، ولكن سرعان ما انهار الاتحاد في 22 أغسطس عام 1960م، ثم نال «السودان الفرنسي» استقلاله التام باسم «جمهورية مالي» بتاريخ 22 سبتمبر عام 1960م.
شهد تاريخ مالي الحديث بعد الاستقلال حركات تمرد عرقية قوية منذ عام 1962م، وجدت أكثر من أربع حملات مختلفة بقيادة الطوارق الذين يدعو معظمهم إلى انفصال شمال مالي عن وسطها وجنوبها.
أبرز محطات التمرد:
في الفترة من 1962م – 1964م: كان أول تمرد للطوارق في مالي، قاده زعماء القبائل والوجهاء التقليديون من الطوارق، بدأ هذا التمرد من منطقة كيدال, وعُرف بـاسم «الفلاقة» (مصطلح كان يستخدمه الجيش الفرنسي لنعت المقاومين في أثناء احتلاله للجزائر وتونس)، وتعرض لقمع شديد من الجيش المالي الذي تمكّن في نهاية المطاف من إخماد التمرد، وفرض حكم عسكري على المنطقة.
ويرجع السبب الرئيس لهذا التمرد – في نظر المتمردين – إلى تسليم الضباط الفرنسيين الذين كانوا يحكمون إقليم شمال مالي السلطة للعسكريين الماليين، الذين تصرفوا بدورهم تصرّف المحتل في الشؤون العامة والخاصة لسكان شمال مالي.
وفي عام 1988م: تأسست الحركة الشعبية لتحرير أزواد, وتُعد أول تنظيم سياسي للطوارق الماليين، ومهّدت هذه الحركة لظهور حركات أخرى أكثر تنظيماً، وصولاً إلى الحركة الوطنية لتحرير أزواد التي ظهرت نهاية 2011م.
وفي عام 1990م: اندلع تمرد ثان بهجوم من المسلحين الطوارق في منطقة ميناكا, وسعى الرئيس موسى تراوري – رئيس الدولة وقتذاك – إلى احتواء التمرد، وبحث حلٍّ جذري للمشكلة عبر منح منطقة كيدال (في الشمال الشرقي) حكماً ذاتياً أوسع، وهو ما ساعد بالفعل في تخفيف الصراع، لكن بعض المناوشات العسكرية استمرت.
وفي عام 1991م: تم توقيع اتفاق في تمنراست (جنوب الجزائر)، في محاولة من الدولة لإنهاء التمرد، ولكنه مع الأسف لم يؤدّ إلى نتائج ملموسة، تركّز هذا الاتفاق في اللامركزية في شمالي البلاد, واستيعاب مقاتلي الطوارق في الوظائف العمومية، بما فيها الأَمنية، ولم يمنع كلّ ذلك استمرار الاضطرابات في بعض أجزاء من شمالي البلاد.
وفي عام 1992م: وقّعت حكومة مالي والفصائل الطوارقية ميثاقاً وطنياً، نصّ على اللامركزية، ودمج الطوارق في مؤسّسات الدولة العسكرية والمدنية، بعدد يقارب 3 آلاف شخص, وعلى تنمية الشمال، بالإضافة إلى مبادرات للمصالحة.
وفي عام 1996م: تم توقيع اتفاق سلام في تمبكتو بالشمال, وسلّم المسلحون الطوارق ثلاثة آلاف قطعة سلاح، وتم في هذه المناسبة – رسمياً – حلّ الجماعات الطوارقية المقاتلة.
وفي عام 2006م: حدث تمرد جديد للطوارق في الشمال، حيث شنّ مقاتلو حركة «تحالف 23 مايو الديمقراطي من أجل التغيير»، وهي حركة جديدة، هجمات على حاميات عسكرية في كيدال وميناكا، وانتهى التمرد في العام نفسه بتوقيع اتفاق سلام في الجزائر بين الحكومة المالية والتحالف الديمقراطي, ونصّ على استعادة الأمن وتنمية منطقة كيدال.
وفي العام نفسه شارك القذافي في احتفال (المولد النبوي) في مدينة تمبكتو, واتُّهم فيها عبر أطراف مالية بدعم حركات التمرد الطوارقية، وقد صرّح بذلك حسن فغاغا (الذي كان نائباً في البرلمان المالي) وأحد قيادات حركة التمرد في شمال مالي، حيث قال: «لقد تدرّبنا عند القذافي، وقال لنا أن نقوم بالثورة في مالي والنيجر ضد الحكومات، الطوارق في مالي والنيجر مجموعة واحدة، عند الصراع في مالي بين الطوارق والحكومة؛ على الطوارق في النيجر مساعدتهم، وكذلك العكس»(1).
وفي عام 2007م: تمرّد متزامن للطوارق في كيدال بشمال شرقي البلاد وأغاديز بشمال النيجر استمر حتى 2009م، نفّذ التمرد تحالف للمتمردين من البلدين؛ رفضاً منهم لاتفاق السلام بالجزائر الموقّع في العام السابق, وتخللته هجمات على ثكنات وخطف جنود ماليين.
في عام 2009م: نجحت القوات المالية في تفكيك قواعد للمتمردين الطوارق في الشمال، وفي العام نفسه جرى في كيدال توقيع اتفاق سلام بوساطة ليبية، ينهي التمرد الذي بدأ عام 2007م، نصّ الاتفاق على تسليم المتمردين أسلحتهم للحكومة, وتضمن تفاهمات جديدة بشأن دمجهم في القوات المسلحة, بيد أن قسماً من المتمردين رفض الانخراط في مسار التسوية.
وبين عامي 2011م – 2013م: ترك مئات العسكريين والمدنيين (من الطوارق) وظائفهم في الحكومة بطريقة غير شرعية، وذهبوا لمساندة الزعيم الليبي معمر القذافي الذي يعتبر زعيمهم أو الداعم الرئيس لهم، مما يؤكد تورط القذافي في القضية، وقد أسفر سقوط نظام القذافي عن عودة الآلاف من الطوارق المقاتلين في جيش القذافي إلى شمال مالي، مدججين بأسلحتهم الثقيلة، وتعاملت معهم الدولة بوصفهم مواطنين ماليين عادوا إلى بلدهم، لكنّهم كوّنوا نواة التمرد الجديد الساري، والذي يهدف إلى إقامة دولة علمانية للطوارق، مما أدى إلى تأسيس «الحركة الوطنية لتحرير أزواد»، في نهاية 2011م، التي تعد نفسها ضمن الحركات العلمانية.
في 17 يناير 2012م: بدأت «الحركة الوطنية لتحرير أزواد» وحركة أخرى بإشعال نار الحرب ضد الحكومة على مدن تساليت وأغليه وكوميناكا، بشمال شرق البلاد قرب حدود الجزائر، استمرت لمدة أسابيع، مما أدى إلى نزوح عشرات الآلاف من المدنيين إلى الجزائر.
وقد قامت الدولة بحق الدفاع عن سيادتها وعن مواطنيها ضد هؤلاء المتمردين، حيث رأت الدولة أنهم لا يريدون السّلم أبداً، وبعدما عدتهم بالأمس من مواطنيها عندما فشلوا في الحرب في ليبيا، وكانت الدولة ترى أن شوكتهم انكسرت أو ضعفت، خصوصاً بعد مقتل القذافي وقائدهم إبراهيم باهانغا، وقّعت معهم اتفاقية تقضي باحترامهم قوانين الدولة وعدم التعرض للسّلم العام، ولكنهم أعلنوا خلاف ذلك، وبدؤوا مجدداً الهجوم على الدولة.
استمر الوضع يزداد سوء في الشمال، فاستغلت بعض الحركات الإسلامية التي تعتبر جزءاً من «تنظيم القاعدة» الفرصة، كجماعة أنصار الدين بزعامة إياد أغغالي، وتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي، وحركة الجهاد والتوحيد في غرب إفريقيا، وجماعات متفرقة مسلّحة، مثل بوكو حرام وغيرها، وهو ما أدّى إلى إضفاء الصبغة الإسلامية على القضية، عبر دعواتهم إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في المنطقة.
قامت بعض الحملات في العاصمة باماكو بمطالبة الرئيس – آنذاك – أمادو توري بإعطاء العناية الكبيرة للوضع في الشمال، بعد محاولاته معهم ودعوته لهم إلى الجلوس على طاولة المفاوضات، مما أدى إلى انقلاب عسكري على حكمه بقيادة النقيب أمادو سانوغو في 22 مارس 2012م.
وهذا ما أدخل البلاد في فوضى وصراع بين العسكريين والسياسيين، فاستغل المسلّحون المتمردون ذلك الوضع وسيطروا في غضون أيام على مدن كيدال وتمبكتو وغاو، كبرى مدن الشمال، وتمركزت كل حركة في مدينة من المدن الثلاثة، وقد ارتكبوا جميعاً – على تفاوت – جرائم طالت النفوس والأعراض والأموال والممتلكات!
في 6 أبريل 2012م: تفاجأ العالم بإعلان الحركة الوطنية لتحرير أزواد أنّ شمال مالي دولة مستقلة للطوارق، وأن إعلان الاستقلال يسري في الحال، ورفضت دول الجوار وغيرها هذا الإعلان على الفور، بينما ردت عليه المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا بتشكيل نواة لقوة عسكرية؛ تحسباً لتدخل عسكري لمواجهة هؤلاء المتمردين في شمالي مالي.
وبقيت الأوضاع في تغيّر مستمر، فبينما بدأت الدولة الجديدة في وضع لبناتها الأولية على أراضٍ غير شرعية، كانت الدولة في مالي في أوضاع سياسية مزعزعة، إلى أن استقر الوضع بحكومة انتقالية وتلبية طلبات للعسكريين بقيادة الانقلابيين.
سعت الدولة المالية بعد ذلك إلى دعوة الجماعات إلى السّلم والمفاوضات عبر قنوات عديدة دولية ومحلية، وقام المجلس الإسلامي الأعلى في مالي بدور بارز في ذلك، وكان مرتباً لمفاوضات 10 يناير 2013م أن تكون واحدة من بين هذه المفاوضات لإنهاء الحرب وجلب السلام، ولكن أحداث يوم الأربعاء 9 يناير (أي قبل يوم فقط من تاريخ المفاوضات المرتقبة) حالت دون ذلك، حيث أعلنت الجماعات الحرب على الدولة، واحتلوا مدينة كونا، وأعلنوا بأنهم سيصلّون يوم الجمعة 11 إلى موبتي (يعني محتلين لها)، حيث توجد بها أكبر قاعدة عسكرية بما فيها الأسلحة التي وفّرها الجيش المالي، مما أدى بحكومة مالي إلى تقديم طلب فوري لحكومة فرنسا وغيرها بالتدخل الفوري، فاستعادت القوات المالية بمساندة فرنسا وقوى غرب إفريقية أخرى بلدة كونا، وبلدة جبالي المحتلة بعد كونا، والقريبة جداً إلى سيقو قلب مالي.
إذا نظرنا إلى هذه التمردات كلها؛ نجد أن الحكومة سعت إلى التفاوض وتوقيع اتفاقيات ترضي الطرفين حقناً للدماء.
وقد أدت الاتفاقية قبل الأخيرة إلى انضمام جنود الحركة الانفصالية إلى صفوف الجيش بالرتب التي جاؤوا بها، ومنح بعض المدنيين منهم مناصب عليا في الحكومة، كل ذلك بسبب السعي إلى الابتعاد عن الفتنة والفرقة، وقد أدى ذلك أيضاً إلى استغلال الجماعات للوضع استغلالاً سيئاً للغاية، فجعلوا شمال مالي مركزاً للمختطفين في الصحراء الكبرى، ما أساء إلى سمعة مالي وتصنيفها كدولة مساندة للإرهاب الدولي، ومعقلاً لنقل المخدّرات، ومعقلاً للجماعت المسلّحة للهجوم على الدول المجاورة، واتخذت الدول المجاورة ذلك ذريعة لضرب شمال مالي، مثلما فعلت موريتانيا وغيرها.
أما الاتفاقية الأخيرة في عام 1991م، وهي اتفاقية الجزائر، فينصّ أحد بنودها على إبعاد جنود مالي عن تلك المساحة الواسعة التي يقطنها الشعب الطارقي.
وبالنظر فيما سبق نلاحظ ما يأتي:
– أنّ كلّ هذه الحركات كانت انفصالية بحتة، لم تناد ولو للحظة بدولة إسلامية، بل كانت كلها تنصّ على أن الدولة علمانية ليس لها علاقة بالدين في عمل الحكومة.
– أنّ المجموعة التي اتُّهمت باختطاف السياح، وتدبير حركة المخدّرات في شمال مالي، هي نفسها التي تقود الحركة الأخيرة.
– أنّ زعيم الحركة الأخيرة (إياد أغغالي) قاد معظم هذه الحركات، ما عدا حركة عام 1963م، حيث كان صغيراً حين ذاك، ولم يرد في جميع مطالبها مطلب إسلامي إلا في التمرد الأخير.
– أنّ (إياد) بعد هذه الاتفاقيات تولّى بعض المناصب العليا، وعيّن بعض الوزراء باسمه، وتمتع بحقوق غير عادية للحصول على بعض المناصب الرفيعة أو التعيين فيها، وأُغدقت عليه أموال طائلة، وانضمَّ إلى الحكومة لمحاربة بعض الفصائل الانفصالية.
– عندما رأت الدولة ضم كلّ الفصائل إلى الاتفاقات؛ نشبت خلافات فيما بينهم بسبب مواقف بعضهم من بعض؛ فأدى ذلك إلى رجوع بعضهم مرة أخرى للتمرد لمّا رأوا أنه يصعب انسجامهم لوجود الخلافات فيما بينهم، وعلى رأسهم (إياد أغغالي)، مع بقاء مجموعة كبيرة مع الدولة لم تؤيد الانفصال عن الدولة، وهم يتولون مناصب عالية، منهم نائب رئيس البرلمان، ورئيس المجلس الأعلى للتجمعات المحلية، ورئيس الوزراء السابق إلى عهد قريب، وبعض من النواب والوزراء وكبار المسؤولين، وهم كثيرون، بالإضافة إلى عدد كبير منهم في الأجهزة الأمنية بمختلف فروعها وقياداتها.
– انضم إلى الحركة الانفصالية الأخيرة عدد من النواب والوزراء ومسؤولين عن الجيش وحكّام الولايات الذين تركوا مناصبهم فراراً إلى الصحراء على حين غفلة من الدولة، ومنهم نائب رئيس جماعة أنصار الدين عباس (الغبّاس) أغانتيلا الذي انشق في 24/1/2013م، وقاد جماعة جديدة باسم الحركة الإسلامية بأزواد، بعد الهزيمة في كونا.
– أنّ سكان المنطقة حوالي 1.300000 نسمة، يشكّلون أقل من 9% من مجموعة سكان مالي، وقد أعطي الطوارق منهم عناية كبيرة من الدولة، ففي السنوات العشرين الماضية تولّى 4 منهم رئاسة الوزراء، وهو ما يعادل حوالي 50% من مجموع رؤساء الوزراء في تلك الفترة، وعددهم يزيد على 8 وزراء من مجموع الوزراء في الحكومة الحالية، بنسبة لا تقل عن 25% من مجموع 30 وزيراً في الحكومة الحالية، ويوجد فيها وزيران من العرب، وهما التعليم العالي والتدريب، وثلاثة وزراء من الطوارق، وهي الثقافة، والشباب والرياضة، والأسرة والمرأة والطفل، كل ذلك من أجل القضاء على التمرّد ودعوى تهميشهم، وإلاّ فإنّ تعيين الوزراء لا يتمّ في مالي حسب الانتماء القبلي.
– أنّ السكان الآخرين في الشمال، وهم الغالبيّة لم يطلبوا الانفصال بدعوى التهميش، بل ينادون بالبقاء مع الدولة، بالإضافة إلى العدد الكبير من الطوارق والعرب أنفسهم الذين لا يريدون الانفصال، الأمر الذي يعني أنّ أكثر من 85% من سكان الشمال لا يريدون الانفصال، فتعيينهم في المناصب العليا في الحكومات المختلفة، بأعداد أكثر من نسبة تمثيلهم في الشعب وباستمرار، دليل على عدم التهميش، بالإضافة إلى أنهم هم الذين تولّوا إدارة المؤسسات الكبرى لتنمية الشمال في فترات مختلفة.
وفي خضم هذه الظروف الحرجة، وفي الوقت الذي كان الشعب المالي يطلب بإلحاح من الحكومة التوقف عن المفاوضات؛ نظراً لكثرة الاتفاقيات وعدم جدواها، جاء الهجوم على الجيش المالي في كيدال بتاريخ 17/1/ 2012م وفي أغلهوق بتاريخ 24/1/2012م، ووقع فيه قتل شنيع للجنود الماليين، تم معظمه بالذبح، مما أحدث غضباً شديداً لدى الشعب، وأدى إلى تطوّر كبير في موقف الشعب من رئيس الجمهورية، حيث اتهمته الجماهير بالتواطئ مع المتمردين لكثرة حرصه على التفاوض وتجنّب القتال، وهو ما أدى إلى سقوطه 22/3/2012م، وذلك بعد خروج عدد كبير من النسوة اللائي قُتل أزواجهن أو جُرحوا في هجوم تلك الحركات على الجيش وبعض مدن الشمال قرب حدود الجزائر، حيث قمن بالتظاهر، وباتهامه بأنّ عدم إفساحه المجالَ للحرب هو الذي أدَّى إلى هذه المأساة.
وبعد الانقلاب، وانقسام الشعب والجيش إلى فريقين مؤيد ومعارض، سقط ما يقدّر بثلثي مساحة البلاد بأيدي الجماعات المختلفة في الساحة، وهي:
أولاً: الانفصالية: كحركة أزواد MNLA التي تدّعى العلمانية لكسب وُدّ الغرب ودعمه السياسي والإعلامي والمالي.
وثانياً: الجماعات الإسلامية الثلاثة، وهي:
1 – جماعة أنصار الدين بقيادة إياد أغغالي، وغالبيتهم طوارق ماليّون.
2 – جماعة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا، وغالبية زعمائها غرباء من الجزائر وموريتانيا وبعض الدول العربية والإسلامية، مع انضمام بعض الشباب الماليين إليهم.
3 – جماعة القاعدة في المغرب الإسلامي، وغالبيتهم غرباء عن البلاد.
وتم ظهور جماعة جديدة بعد أحداث 10/1/2013م مع التدخل الفرنسي، في تاريخ 14/1 باسم «الحركة الإسلامية الأزوادية» بقيادة عباس (الغبّاس) أغانتيلا، وهو الشخص الثاني في أنصار الدين وممثلها في المفاوضات التي كانت قد بدأت في بوركينافاسو.
وقد تقاسمت هذه الجماعات مناطق النفوذ والسيطرة، بحيث يكون ثقل كلّ مجموعة في منطقة، فتركزت حركة الجهاد في غاو، وأنصار الدين في كيدال، والقاعدة في تمبكتو، مع وجود الحركة الانفصالية في هذه المناطق جميعها جنباً إلى جنب، يرفرف العلَمَان على المباني في كلّ هذه المناطق، هذا في المدن، أما في القرى فكان لكلٍّ مكان يحتله.
ومع تطور الأحداث؛ حدث خلاف بين جماعة الجهاد والحركة الانفصالية في غاو، فتقاتلوا، ممّا أن أدّى إلى طرد الحركة الانفصالية منها، ثم لاحقتهم جماعة الجهاد في كل المناطق، مما أدّى إلى طردهم جميعاً من معظم المناطق الشمالية.
ومع الأحداث؛ كانت هناك ضغوط وأصوات تنادي بالجلوس إلى طاولة المفاوضات من الداخل والخارج، فتم عقد اتفاق بين أنصار الدين والانفصالية لتوحيد المطالب، وذلك بضغط فرنسي إفريقي، تعهدت خلالها كلتا الجماعتين بنبذ العنف لحلّ المشكلة والجلوس إلى طاولة المفاوضات، وقد تمت جولات أولية في الجزائر، وفي بوركينافاسو – الدولة الوسيطة رسمياً للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (CEDEAO) -، انتهى ذلك إلى جلسة أولية بين الطرفين، دولة مالي وكلّ من أنصار الدين والانفصالية، تم خلالها الاتفاق على تاريخ 10/1/2013م كموعد للجلسة الفعلية، وقبل ذلك بأيام قليلة أعلنت أنصار الدين رجوعها عن التزامها بنبذ العنف بدعوى أنّ دولة مالي غير جادة.
وفي تاريخ 8/1/2013م زار وزير خارجية دولة الوسيط مالي، وقابل مسؤولين في الدولة، وزار قادة أنصار الدين، وأعلن الاتفاق على تأجيل تاريخ 10/1/2013م كيوم جلسة التفاوض إلى تاريخ 20/1/13م باتفاق الطرفين، وأدى ذلك إلى اطمئنان الجميع.
وبينما الناس في هذه الحالة، وقبل هذا التاريخ 10/1/2013م، وهو التاريخ الأول لجلسة المفاوضات، إذا بجماعة أنصار الدين تعلن أنَها باتفاق مع جميع الفصائل الإسلامية سيطرت على مدينة كونّا الاستراتيجية التي لا تبعد عن سيفاري (حيث يوجد أكبر قاعدة عسكرية في مالي بعد كاتي) إلا بمقدار (55 كم)، وتعد الحصن الوحيد الباقي بالحدود الشمالية، وسقوطها يعني انهيار الدولة، فأصبحت كونَا محتلة، وهذا الهجوم الأخير أعطى الضوء الأخضر للقوى الخارجية الإفريقيّة وغيرها للتدخل باتفاق الجميع، وأعطى هذا التدخل فرصة دولية وشعبية قوية لتدخّل فرنسا.
ولا شك في أنّ هذا الموقف الذي اضطُر إليه الشعب لا يرضى به غيور على هذا الدين، وعلى وطنه واستقلاليّته، بل تحترق القلوب عندما يرون أن مسلمين يلتقيان بسيفيهما، فكيف إذا كان الأمر أسوأ من ذلك، وهو أن يتدخل غير المسلم لنصرة طرف ضد الآخر!
تنبيهات مهمة:
يلاحظ من خلال الأحداث الآتي:
– أنّ من شكاوى الانفصالية: الإهمال، والتهميش، والعصبية العرقية.
– أن عدد سكان الشمال 1.300.000 نسمة، في مساحة تصل إلى 700 ألف كيلومترمربع.
– صعوبة المنطقة وصحراويتها وتباعدها.
– قلة نسبة سكان المنطقة إلى المناطق الأخرى، فهي لا تتجاوز 9% من السكان، في مساحة تزيد على 60% من المساحة الكلية لمالي.
– قلة الطوارق بالنسبة إلى سكان المنطقة، فهم أقل من الربع 4/1، وبالنسبة إلى سكان الدولة عامة في حدود 2% فقط.
– أن القول بالتهميش انفرد بها بعض الطوارق فقط، وهم الذين حملوا السلاح لتحقيق مآربهم الخاصّة، مع أن الجميع في منطقة واحدة، ومع العلم أنّ بعض مناطق الشمال متخلّفة، وهذا راجع إلى صعوبة الصحراء، وقلة السكان، مع قلة موارد البلاد.
– أن هذا المطلب قديم جداً، وهو مع الاستقلال، وعدم وجود مطلب بتطبيق الشريعة فيها قديماً.
– وجود مطالب إسلامية في المرحلة الأخيرة بسبب الاحتكاك مع جماعة إسلامية.
– الخلط الكبير بين مطلب الدولة الإسلامية والانفصال المعتمد على العلمانية لدى زعيم أنصار الدين، والذي يصعب الجمع بينهما، وهذا يكشف في الحقيقة أنّ الجماعتين متناقضتان.
– أن أغلب أعضاء الجماعات الداعية إلى تطبيق الشريعة مغتربون في الدولة ومطاردون في بلدانهم.
– غياب الوعي الإسلامي الكبير لدى الطوارق، والحاجة إلى ذلك.
– أن الذي ساهم في إحباط كل محاولات الحوار، ودفع الأحداث نحو التدخل الخارجي، هم الجماعات أنفسها بمختلف اتجاهاتها.
– أبرز الفروق بين المطالب هو أنّ الانفصالية تريد دولة علمانية منفصلة عن مالي، والآخرون يريدون دولة واحدة إسلامية.
– انتشار النهب والفوضى وانتهاك الأعراض في بدايات السيطرة على شمال مالي.
– نزوح حوالي نصف سكان شمال مالي إلى جنوبها وإلى الدول المجاورة.
– ظهور جماعة إسلامية جديدة في تاريخ 24/1/2013م في اليوم 13 من انطلاق الحرب الأخيرة، وهي «الحركة الإسلامية للأزواد»، وهي تخالف الجماعة الأولى التي دعت إلى نبذ العنف، وإن كانت قادتها من كبار أعضاء الحركة الأولى وقادتها.
– بيان الجماعة الأخيرة باستعدادها للدخول في الحرب مع الدولة وفرنسا لمحاربة الطرف الآخر.
– التقلّب السريع وتلوّن الجماعات كلّما هبّت رياح مغايرة؛ مما يجعل تحديد أهدافهم صعباً.
تساؤل مهم:
إن استعداد الجماعة الإسلامية الجديدة، التي يتزعمها نائب الرئيس السابق لجماعة أنصار الدين، لمحاربة الجماعات الأخرى، وعلى رأسها جماعة أنصار الدين، مع الدولة وفرنسا، يثير هذا الدهشة والتساؤل: من هو المجاهد من الطرفين؛ الذي يحارب مع فرنسا أم الذي يُحارب ضدها؟
دور المجلس الإسلامي الأعلى (2):
منذ بداية الأحداث حدّد المجلس الإسلامي الأعلى بعض المواقف التي يمكن أن تكون قاعدة الانطلاق لإيجاد حلّ سلمي للأزمة، ومنها:
– أن معظم الموجودين من الجماعات المختلفة المسلحة ينادي بتطبيق الإسلام.
– المجلس الإسلامي الأعلى الممثل والناطق باسم الإسلام والمسلمين في مالي.
– تعاون الجماعات الإسلامية، وبخاصة أنصار الدين وجماعة التوحيد والجهاد في بداية الأزمة بالحكمة، ومع المجلس بصفة خاصة، وذلك بالآتي:
– تسليم (161) أسيراً عسكرياً من الجنود الماليين إلى المجلس لتسليمها للدولة.
– فتح قنوات الإغاثة الإنسانية إلى شمال مالي عن طريق المجلس.
رأى المجلس في هذه المواقف فرصاً إيجابية للدعوة إلى التفاوض، فنادى بوجوب المفاوضات والجلوس إلى طاولة الحوار، بهدف الوصول إلى حلّ سلمي يحقن دماء المواطنين وغيرهم.
وقد تم إعلان ذلك بقوة لدى الحكومة والشعب، وكلّ أطراف النزاع، بل سافر وفد من المجلس إلى الخارج، وخصوصاً إلى الوسيط الدولي بليزكومباوري رئيس بوركينافاسو، كما تم الالتقاء بكل من وزير خارجيته، ورئيس جمهورية مالي، ووزرائه المعنيين، وقائد الانقلاب، ومسؤولين من المجتمع المدني والعسكري، وزعماء الطوائف، وأئمة المسلمين وعلمائهم، وتجمعات النصارى من كاثوليك وبروتستانت.
كما بعث المجلس وفداً إلى مدينة غاو برئاسة رئيس المجلس الأعلى الإمام محمود ديكو، ومشاركة الشيخ إبراهيم كونتاو مسؤول العلاقات الخارجية بالمجلس، وآخرون من المجلس؛ لمقابلة قادة الجماعات الإسلامية لتأكيد هذا الأمر، والتنبيه على أهمية عدم إعطاء فرصة للتدخل الخارجي في البلاد، وقام الوفد بإجراء اتصالات كثيرة مع قادتهم للغرض نفسه، ولم يترك المجلس باباً إلا طرقه في الداخل والخارج لحقن دماء المسلمين في مالي، وإنقاذ الموقف، لكنّ هذه الجهود لم تأت بنتيجة تمنع الحرب وتحقن الدماء حتى الآن.
توصيات ومقترحات عملية للخروج من الأزمة:
نظراً إلى أن الإسلام هو دين المسلمين في العالم، وهو الدين الذي يسعى إلى توطيد العلاقة الإسلامية بين أفراد هذا الشعب بناءً على التزامهم بتعاليمه الحنيفة، فهذا يوجب على كلّ الجهات الإسلامية العالمية، تحقيقاً لهذا المبدأ، القيام بكلّ ما بوسعها للوقوف ضد هذه الخسارة التي تحدث في مالي من تقطيع لروابط الأخوة الإسلامية، وإزهاق للأنفس.
وسعياً لتحقيق هذا الغرض نقترح الآتي:
يرى معظم الماليين أن بلدهم احتل لقرابة سنة كاملة ولم يشاهدوا تدخلاً إسلامياً، ولم ترتفع أصوات الدول والهيئات الإسلامية لنجدتهم، ولم يرضهم الموقف، فأي مساندة للمحتل في نظرهم في هذا الظرف سيعدّونها معاداة لهم، ويؤكد هذا ظهور علم فرنسا في أماكن كثيرة بمالي، في الشوارع، وعلى السيارات والمباني، تستوي في ذلك المدن والقرى، وهذا مع غياب الحلّ الإسلامي لقضية يرون أنّ طرفي النزاع فيها مسلمان.
ومن ثم؛ فأيّ هزيمة للجيش المالي والدولة على يد الجماعات المسلحة ستكون نكبة كبيرة للعمل الإسلامي ولمالي والدول المجاورة، مما كان يحتم المبادرة بالتدخل الإسلامي للبحث عن حلول يكون المسلمون أبطالها!
إن أكثر ما يحتاج إليه الوضع الآن هو الرجوع إلى الحوار البنّاء بين الطرفين، وليس تأجيجه بالدعوى إلى الجهاد الذي يكون المقتول فيه من الطرفين هو شعب مالي المسلم، وهو أمر خطير، حيث سيؤدي إلى تدمير البلاد والعباد في أرض مالي باسم مواجهة الغزو الصليبي، فكل قنبلة ورصاصة من أي طرف ستكون على الشعب المالي، وحسبنا الصومال مثلاً، حيث قضوا عشرين سنة من القتال، وقُتل الآلاف من المسلمين، ولا رصاصة واحدة أُطلقت على العدو الغربي الذي أشعل نار الفتنة، فقد توقفت التنمية، وتشرّد الناس، ومات الذي نجا من القنابل بالجوع والتشرد، وهذا مثال لا حصر.
دور قادة الأمة الآن هو الدعوة إلى إيقاف الحرب من الطرفين، وتذكير الجهات الجهادية بتقوى الله، وحقن دماء المسلمين، وإلقاء السلاح، وعدم إتاحة الفرصة للأعداء لقتل المسلمين وتدمير البلاد.
وينبغي الضغط على الجهات الإسلامية العالمية، الرسمية منها وغير الرسمية، للقيام فوراً بهذا الواجب الذي قعدت عنه، مثل منظمة التعاون الإسلامي، ورابطة العالم الإسلامي، والأزهر، واتحاد علماء المسلمين، واتحاد علماء إفريقيا، ورابطة علماء المسلمين وغيرها.
ومن المهم هنا أن تتدخل الجهات الإسلامية بوصفها وسيطاً في الصراع، لا بوصفها طرفاً فيه، حتى لا يؤثر ذلك في مصداقيتها، ويكون ذلك عائقاً في التأثير في الموقف، وخصوصاً أن بعض الماليين يرون في بعض الدول والهيئات الإسلامية سنداً ودعماً لهذه الحركات.
وعلى الدول كذلك، مثل دول الخليج وتركيا ودول المغرب العربي ومصر، والشخصيات المدنية المؤثرة فيها، القيام بالمبادرات العملية لإيقاف الحرب، والسعي إلى إيجاد مساعدات إنسانية عاجلة كواجهة إنسانية في هذا الصراع، وذلك باستغلال كلّ الفرص والعلاقات المتاحة.
والمجال مفتوح لجميع تلك الهيئات والدول والشخصيات للعمل مع المجلس الإسلامي واتحاد علماء إفريقيا للقيام بعمل مشترك، يساعد في إيجاد حلٍّ للنزاع، بلقاءات في مالي أو خارجها، للوقوف على بعض الحقائق، ومعرفة سبل العلاج، فالحكم على الشيء فرع من تصوّره.
ومن المهم كذلك إصدار بيان عاجل يدعو إلى ضبط النفس، وإيقاف الحرب، والكشف عن المتسبّب فيها، وضرورة الوقوف في وجهه بكلّ الوسائل الماديّة والمعنويّة، ويكون واضحاً في البيان أنّ الهدف هو حقن دماء الماليين الأبرياء تحقيقاً لمبدأ الأخوّة الإسلامية.
على أن يُقرن البيان بالشروط الآتية:
– وجوب القبول بالحلّ السلمي ونبذ العنف.
– وحدة التراث، وعدم السعي إلى تقسيمه بأيّ شكل.
– بيان استعداد تلك الجهات لتقديم كلّ ما في وسعها القيام به لهذا الغرض.
– أن تبدأ الجهات الإسلامية الممثلة للأمة – عاجلاً – في بحث المقترحات المذكورة وغيرها، ووضع آليات لتنفيذها.
وختاماً:
نقول إن المجلس الإسلامي الأعلى في مالي لديه صوت قوي في البلاد لدى الشعب والحكومة، وربما لدى الجماعات، يمكن استغلاله بشكل قوي لتأييد دور المبادرات الإسلامية.
الإحالات والهوامش:
(*) مسؤول العلاقات الخارجية بالمجلس الإسلامي الأعلى في مالي.
(1) مادي إبراهيم كانتي: الأزمة السياسية في مالي، دراسات آفاق إفريقية، ص110.
(2) المجلس الإسلامي الأعلى: هو أعلى هيئة للمسلمين في البلاد، تم إنشاؤه في يناير 2002م، لتنسيق الشؤون الدينية للمجتمع المسلم، والإشراف على المساجد، رئيس المجلس الإسلامي الأعلى الحالي في مالي هو الشيخ محمود ديكو (قراءات إفريقية).