في شهرها الرابع خَبَت جذوة الثورة الكينية، التي أوقدها الجيل “زد: Generation “Z في يونيو الماضي 2024م، فبعد أن وصل سقف المطالب الثورية الكينية الشابَّة، إلى الإطاحة برأس النظام السياسي الكيني، حدثت تغيرات دراماتيكية، نقلت الثورة من الميدان إلى أروقة المؤسسات السياسية، وفي هذه الأروقة تفتَّت القوى وتشتَّت المطالب، وتدخل الثورات في حالة من الموت السريري، تنبض بالحياة لكن بلا حراك، وتمكث هكذا زمنًا حتى تلفظ مطالبها الأخيرة، ويتوقف عنها المدّ الثوري، وينصرف عنها الثوار كلٌّ إلى أهدافه الشخصية، متحسرًا على ضياع الفرصة من حين لآخر.
فسرعان ما انحسر المد الثوري من شوارع وميادين نيروبي، وهرول كثير من رموز الحراك الثوري، نحو تدشين أحزاب سياسية، مستغلين الزخم الذي اكتسبته قضية تغيير سياسات، بل وأشخاص النظام السياسي الحاكم في كينيا، وما أن ولّوا وجوههم شطر العمل السياسي المؤسسي، حتى ظهرت بينهم الخلافات، وتباينت الرؤى، وتبادل الجميع النقد والاتهامات، وخَفَت صوت الثورة، وتعالَى صوت الجدل السياسي.
وهكذا نجا النظام السياسي الحاكم في كينيا، من سقوطٍ كاد أن يتحقق، لولا أنْ تَعَجَّل الثوار جَنْي مكاسب ثورتهم، وسارعوا نحو تحويلها إلى أرصدتهم السياسية الشخصية (وهي آفة الثورات وحيلة ومكر أعدائها)، وفي ظل هذه التطورات الدراماتيكية، وفي ضوء طبيعة البيئة والثقافة السياسية الكينية، تشتدّ الحاجة إلى استشراف مآلات ومستقبل ثورة الجيل “زد” في كينيا.
وتعالج هذه الورقة هذه القضية في المحاور التالية:
أولاً: الاقتصاد محرك ثورة الجيل “زد”
تردَّت الأوضاع المعيشية للكينيين بدرجة كبيرة، نتيجة انتشار البطالة، وارتفاع معدلات التضخم، وغياب العدالة الاجتماعية، وغير ذلك من المشكلات المتجذرة في الاقتصاد الكيني، وقد أثقلت هذه المشكلات كاهل الحكومات الكينية، فلم تجد بُدًّا من الحصول على مزيد من القروض، وفرض المزيد من الضرائب، وهو ما أثار حفيظة القطاع العريض من الكينيين تحت وطأة موجات الغلاء المتتالية التي ضربت دخولهم الضئيلة بطبيعتها.([1])
ومؤخرًا اعتزمت الحكومة الكينية استصدار قانون المالية (موازنة 2024-2025م)، وكان مشروع القانون المقترح ينص على زيادة الضرائب في جُلّ القطاعات مما يتسبَّب في ارتفاع أسعار السلع والخدمات بما في ذلك السلع الأساسية التي تؤثر بالضرورة على معيشة الكينيين، وما أن ذاع خبر هذا القانون حتى اندلعت ضده الاحتجاجات في نيروبي العاصمة وعدة مدن وحواضر، شملت كل الانتماءات الإثنية وكل طوائف وفئات المجتمع الكيني وبخاصة قطاع الشباب.([2])
وقابلت الحكومة الكينية هذه الاحتجاجات بعُنْف مُفْرِط، ما خلَّف عشرات القتلى والمصابين، وهو ما ألْهَب حماسة الشباب، وزاد إصرارهم على مواصلة الاحتجاج ضد سياسات الحكومة، فتراجعت الحكومة عن استصدار هذا القانون، وأعلن الرئيس “وليم روتو” بنفسه أنه لن يُوقِّع القانون استجابةً لمطالب الشعب، ومع ذلك لم تهدأ ثورة الشباب، وواصلوا الاحتجاج وتعالت الأصوات بضرورة رحيل النظام الحاكم برُمّته بما في ذلك الرئيس “روتو”، فاضطر الرئيس إلى إقالة الحكومة، وأعاد تشكيلها مع إشراك المعارضة في مواقع مهمة منها، ودعا إلى حوار وطني يناقش مَطالب الشباب، ويطرح الحلول الملائمة لعالجتها، وهكذا خفَّت حدَّة الحراك الثوري.([3])
ثانيًا: السياسة تُغيِّر مسار وملامح الثورة
ما إن هدأت ثورة الشباب الكيني نسبيًّا، حتى سارع أبرز رموزها إلى الاستفادة مما أحدثته من زخم سياسي، وبخاصة وأن أحداثها كشفت ولأول مرة، عن تراجع البعد الإثني في فعالياتها وتفاعلاتها. ومِن أبرز هؤلاء الرموز الناشط السياسي المعارض الشاب “مورارا كيباسو” (29 عامًا)، والذي دشَّن حزب “ضخّ العدالة الوطنية والتحول الاقتصادي والمدني” Injection of National Justice, Economic and Civic Transformation “INJECT”، ودعا إلى انضمام جموع الشباب الثائرين من كافة أنحاء البلاد إلى حزبه الوليد، وقال: إنه سوف يُغيّر المشهد السياسي في كينيا، وأنه سوف يكتسح البرلمان وجميع المقاعد الانتخابية مثل الطوفان المفاجئ، وأنه سوف يدفع بمرشحين في جميع المناصب الانتخابية مثل: منصب الرئاسة، ومناصب حُكّام الولايات، وعضوية مجلسي الشيوخ والنواب، وعضوية جمعيات المقاطعات في انتخابات عام 2027م.
غير أن انقسامًا حادًّا في صفوف الثوار الشباب، بدأ في الظهور بمجرد شروع “كيباسو” في تسجيل حزبه الجديد؛ فقد انتقدت الناشطة “ميرسي تاروس” Mercy Tarus “كيباسو” بعد أن كانت مؤيدةً له، واتهمته بمحاولة تحقيق طموحات سياسية شخصية أنانية، من خلال إنشاء حزبه الجديد؛ حيث غردت على موقع “X” قائلة: “قد نواجه نفس العدو، لكنّ أسبابنا تختلف، البعض يسعى إلى السلطة السياسية”.([4])
وفي الوقت نفسه بدأ أنصار حزب “كيباسو” الجديد، في انتقاد الناشط السياسي الشاب “كاسمويل ماكوري” Kasmuel McOure الذي اكتسب شعبية كبيرة أثناء الاحتجاجات؛ نظرًا لفصاحته وقدرته على التعبير عن قضايا الشباب، فبعد أن كانوا يعتبرونه حليفًا قويًّا لـ “كيباسو”، اتهموه بالخيانة السياسية، وذلك بعدما أحجم عن إدانة ما تعرَّض له “كيباسو”، من هجوم خلال أحد التجمعات السياسية في نيروبي، ودلَّلوا على خيانته بلقاءاته المتكررة مع سياسيين قدامى، وبخاصة “رايلا أودينجا” Raila Odinga زعيم حزب “الحركة الديمقراطية البرتقالية” Orange Democratic Movement “ODM”، وقد رد “ماكوري” على هذه الاتهامات بأنه يلتقي قدامى السياسيين، للحصول على إرشادات سياسية، وغرَّد على موقع “X” قائلاً: “يمكنكم أن تتهموني بالعديد من الأشياء، ولكن ليس بالافتقار إلى الشفافية بشأن الحركة، يعني الحركة الاحتجاجية الشبابية.([5])
ثالثًا: كيف ولماذا هدأت ثورة الجيل “زد”؟
شهدت كينيا عبر تاريخها الكثير من التحولات السياسية، ومرت باضطرابات سياسية عدة بسبب طبيعة المجتمع الكيني، ويُعدّ هيكل التركيبة الإثنية أكثر العوامل تأثيرًا في المشهد السياسي الكيني، وذلك بأن التعددية الإثنية في المجتمع الكيني تتسم بالتنوع الكبير والتوازن أيضًا في ذات الوقت، فلا يوجد إثنية طاغية عدديًّا؛ حيث ينقسم سكانها عرقيًّا إلى: “الكيكويو” (22%) Kikuyu، و”لوهيا” (14%) Luhya، و”ليوو” (13%) Luo، و”الكالنجين” (12%) Kalenjin، و”كامبا” (11%) Kamba، و”كيسيى” (6%) Kisii، و”ميرو” (6%) Meru، وجماعات إفريقية أخرى (15%)، وآسيويين وعرب وأوربيين (1%). ومِن ثَم لا يمكن لإثنية ما، الحصول على أغلبية انتخابية، إلا بدعم من عدة إثنيات أخرى، ومن هنا فشت سياسة الائتلافات والتحالفات الانتخابية المتغيرة، فحليف اليوم قد يكون ندًّا منافسًا في انتخابات الغد.([6])
وعلى خلاف العادة غاب البعد الإثني عن ثورة الجيل “زد” الكينية، وانحصرت أسبابها في الأزمة الاقتصادية، التي يعاني منها جميع فئات المجتمع الكيني، وفي مقدمتهم فئة الشباب العاطلين عن العمل، وما أكثرهم، وهو ما منح ثورتهم زخمًا كبيرًا، وأكسبها تجاوبًا واسعًا، ومن هنا لم يكن النظام الحاكم في حاجة لأكثر من بثّ الفُرقة في أوساط معارضيه الثائرين، لينشغلوا بخلافاتهم عن مناهضة سياسات النظام، وهو ما حدَث بالفعل؛ حيث عادت الحكومة الكينية إلى التصريح بأنها ستضطر إلى إعادة بعض الإجراءات الضريبية التي ألغتها بعد احتجاجات يونيو الماضي.([7])
وعلي الرغم من أن جديدًا لم يطرأ على الأزمة الاقتصادية الكينية، وعلي الرغم من التوجهات الضريبية التي أعلنتها الحكومة، ساد الهدوء المشهد السياسي الكيني، ولم تتجدد الاحتجاجات، ويُعزَى ذلك الهدوء في جانبٍ منه إلى ضمّ وزراء من المعارضة إلى تشكيل الحكومة الجديدة، وبخاصة وأن وزير المالية الجديد “جون مبادي” John Mbadi ينتمي إلى حزب السياسي المعارض المخضرم “رايلا أودينجا”: “الحركة الديمقراطية البرتقالية”.([8])
غير أن السبب الرئيسي لما ساد المشهد السياسي الكيني من هدوء، وما أصاب الحركة الاحتجاجية الشبابية من انقسام، يتمثل في انشغال رموز هذه الثورة، أو من يمكن أن يُطلَق عليهم قادة في الحراك الشعبي، بتأسيس أحزاب سياسية جديدة من أجل المنافسة الانتخابية، والشروع من الآن في نسج شبكة من الائتلافات أو التحالفات، مع الأحزاب السياسية القديمة، استعدادًا لانتخابات 2027م.([9])
رابعًا: مستقبل ثورة الجيل “زد” في كينيا:
رسَّخت التركيبة الإثنية للمجتمع الكيني ثقافة الائتلافات والتحالفات الانتخابية المؤقتة، والتي يغلب أن تتغير عند كل استحقاق انتخابي، وهو ما يدفع القوى السياسية إلى البدء مبكرًا في نَسْج شبكة تحالفاتها بما يُؤمِّن لها الأغلبية أو على الأقل المشاركة في السلطة بما يتناسب مع وزنها النسبي، ومن هنا يمكن فهم سرعة انصراف رموز الثورة الشبابية الكينية إلى تشكيل أحزاب جديدة أو التفاوض مع الأحزاب القديمة؛ في محاولةٍ منها لتأمين حصة لها من مقاعد السلطة عبر انتخابات 2027م، ولهذه الأسباب يمكن القول بأن مستقبل ثورة الجيل “زد” الكينية، والتي اندلعت وهدأت في شهرين بين يونيو وأغسطس 2024م، يكاد ينحصر في سيناريوهات ثلاثة وبيانها فيما يلي:
- السيناريو الأول: إعادة إحياء الثورة، وتدفق المدّ الثوري إلى شوارع وساحات كينيا، على إثر إخفاق الحكومة الكينية في تخفيف حدة الأزمة الاقتصادية، والعودة مرة أخرى إلى ذات السياسات الضريبية التي أثارت الكينيين، ولو كانت بمسميات أو صِيَغ أخرى، وهو المسار الأقل ترجيحًا من بين المسارات المحتملة لثورة الجيل “زد” الكينية.
- السيناريو الثاني: تكتُّل الثوار الكينيين، وبخاصة أولئك المنتمين إلى الجيل “زد”، خلف الحزب الجديد الذي أسَّسه المعارض الشابّ “مورارا كيباسو”، ونجاحهم في حشد الجماهير، ومِن ثَم تغيير موازين القوى في النظام السياسي الكيني، وسحب البساط من تحت أقدام الأحزاب القديمة، والوصول إلى مقاعد السلطة، وهو مسار مُرجّح لمستقبل ثورة الجيل “زد” الكينية.
- السيناريو الثالث: انقسام الجيل “زد” على نفسه، وظهور المزيد من الأحزاب الجديدة، وتشتُّت الجماهير بين القوى السياسية القديمة والجديدة، ومِن ثَم عودة المتغير الإثني إلى قيادة المشهد السياسي الكيني والتحكم في مخرجاته، وهو المسار الأكثر ترجيحًا والأكثر اتساقًا مع الثقافة السياسية الكينية.
- ……………………………………
([1]) د. سالي محمد فريد، “فخ الديون في كينيا… عرض لأسباب الأزمة ومآلاتها، دراسة منشورة على موقع مركز فاروس للاستشارات والدراسات الإستراتيجية، تحققت آخر زيارة بتاريخ 16 أكتوبر 2024 الساعة 1:05 م، على الرابط:
https://tinyurl.com/mrxcz75c
– عبد الرحمن سهل، “البطالة قنبلة موقوتة في كينيا”، على موقع الجزيرة، تحققت آخر زيارة بتاريخ 16 أكتوبر 2024 الساعة 1:10 م، على الرابط: https://tinyurl.com/3z78hn6d
([2]) هايدي الشافعي، “قانون المالية: أسباب وتداعيات الاحتجاجات في كينيا”، على موقع المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، تحققت آخر زيارة بتاريخ 16 أكتوبر 2024 الساعة 1:15 م، على الرابط: https://ecss.com.eg/47272/
([3]) Sertan Sanderson, “Kenya’s Youthful Protesters Unimpressed By Cabinet Changes”, on All Africa Website, Last Visit at 1:20 pm, 16 Oct. 2024, at Link:
https://allafrica.com/stories/202407270022.html
([4]) Victor Abuso, “New kids on the block: Kenya: Gen Z form INJECT party to remove Ruto from power in 2027” on The Africa Report Website, Last Visit at 1:25 pm, 16 Oct. 2024, at Link:
https://tinyurl.com/2hajmx3y
([6]) د. سعيد ندا، النظم الانتخابية وتأثيرها على التعددية الحزبية في إفريقيا (لندن: مركز أبحاث جنوب الصحراء، 2023) ص ص 132-133.
([7]) موقع الجزيرة، “كينيا تُعيد بعض الضرائب الملغاة مما يُهدد بعودة الاضطرابات”، تحققت آخر زيارة بتاريخ 16 أكتوبر 2024 الساعة 1:30 م، على الرابط: https://tinyurl.com/44pfz4zy
([8]) موقع فرانس 24، “كينيا: الرئيس يرشح أربع شخصيات معارضة ضمن تشكيلة الحكومة الجديدة”، تحققت آخر زيارة بتاريخ 16 أكتوبر 2024 الساعة 1:35 م، على الرابط: https://tinyurl.com/4ksdd7x4
([9]) Morara Kebaso Receives Approval to Register new Political Party”, Pulse Live Kenya Website, Last Visit at 1:40 pm, 16 Oct. 2024, at Link:
https://tinyurl.com/4z4zyevt