هيمنت منذ الأحد الماضي على وسائل الإعلام الدولية؛ “تسريبات لواندا” (Luanda Leaks) – وهي وثائق مُسرَّبة تشمل أكثر من 700،000 من رسائل البريد الإلكتروني، والرسوم البيانية، والعقود، ومراجعة الحسابات، وحسابات البنوك التي حصل عليها “الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين” (International Consortium of Investigative Journalists = ICIJ) وشاركها مع المؤسسات الإعلامية الدولية.
كانت “إيزابيل دوس سانتوس” محور تسريبات لواندا؛ فهي أغنى امرأة في إفريقيا وابنة الرئيس الأنغولي السابق “جوزيه إدواردو دوس سانتوس”، وتطاردها سلسلة اتهامات في بلادها أنغولا باستغلال منصب والدها -الذي حكم البلاد لمدة 38 عامًا- لنهب مئات الملايين من الدولارات من الأموال العامَّة في حسابات خارج بلادها.
تُعَدّ أنغولا الغنية بالنفط ثالث أكبر اقتصاد في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، لكنها أيضًا واحدة من أكثر الاقتصادات غير المتكافئة مع تزايد مستوى الفقر في البلاد؛ اعتمد اقتصادها على النفط بعد الحرب الأهلية التي انتهت عام 2002م، وعزّز هذا الاقتصاد استثمارات الصين الضخمة في البنية التحتية.
على أن البلاد كانت أيضًا واحدة من أكثر الدول فسادًا في إفريقيا؛ ساهم في ذلك هيمنة حزب “الحركة الشعبية لتحرير أنغولا” على الحكم بقيادة الرئيس السابق “خوسيه دوس سانتوس”. وقد أكّد “صندوق النقد الدولي” عام 2011م عدم ظهور ما قيمته 32 مليار دولار -مرتبطة بـ”عمليات شبه مالية عامة” لشركة النفط الحكومية سونانغول (Sonangol)- في حسابات الميزانية الرسمية.
وفي عام 2017م؛ تنازل “دوس سانتوس” عن رئاسة أنغولا، واختار الحزب الحاكم “جواو لورنسو” ليكمل مدة رئاسة سلفه. وصوّت الأنغوليون عام 2018م لـ “لورنسو” رئيسًا للبلاد. وقد خيّب “لورنسو” منذ انتخابه ظنّ الذين رأوا أنه سيستمرّ في الطريق نفسه الذي سار عليه سلفه بحماية مصلحته الخاصة، وتغليب سيادة الحزب الحاكم على مصالح الأنغوليين؛ أطلقت إدارته الجديدة معركة عدوانية ضد الفساد؛ الأمر الذي أكسبه ألقابًا إيجابيَّة وشعبية كبيرة لدى المواطنين.
ولكنَّ إصرار “لورنسو” على محاربة الفساد أيضًا يعني أنه سيصطدم برجال أقوياء داخل حزبه –وعلى رأسهم سلفه الرئيس السابق “دوس سانتوس”؛ فقد أقال “لورينسو” عام 2017م كُلًّا من “خوسيه فيلومينو دي سوزا” -ابن الرئيس السابق “دوس سانتوس”- عن رئاسة صندوق الثروة السيادية الأنغولية، و”إيزابيل” -ابنة “دوس سانتوس”- عن رئاسة شركة النفط الحكومية “سوناغول” (Sonagol).
وفي حين تُواصل الحكومة تحقيقها مع عائلة “دوس سانتوس” واستمرار محاكمة الابن “خوسيه فيلومينو دي سوزا”؛ فقد أعلن وزير العدل الأنغولي “فرانسيسكو كويروز” في ديسمبر 2019م أن البلاد استردّت أكثر من خمسة مليارات دولار نُهِبَتْ من خزائن الدولة؛ كما تمّ تجميد أصول الابنة “إيزابيلا” في أنغولا.
تسريبات لواندا وبعض من الصفقات المشبوهة:
اعتادت الصحف والمجلات قبل عام 2017م على وصف “إيزابيل دوس سانتوس” بالسيدة التي صنعت ثروتها بنفسها، ودائمًا ما تقول “إيزابيل” عن نفسها: “إنها لم تستفد من أموال الدولة الأنغولية في جمع ثروتها” التي تُقدّر قيمتها بأكثر من مليارَي دولار.
غير أنّ الوثائق المُسَرَّبَة تعطي صورة مختلفة تمامًا عنها؛ فهي أغنى امرأة في القارة؛ لأنها أخذت جزءًا كبيرًا من ثروة بلادها من خلال مراسيم وقّعها والدها إبَّان حكمه الطويل. كما استحوذت على حصص في صادرات الماس وشركة الهاتف المحمول الرئيسية في البلاد، وتملك مصرفين وأكبر شركة لإنتاج الأسمنت، ودخلتْ في شراكة مع “سوناغول” -شركة النفط الحكومية الأنغولية- لشراء أكبر شركة نفطية في البرتغال.
“في كل مرة تظهر (إيزابيل دوس سانتوس) على غلاف بعض المجلات اللامعة في مكان ما من العالم، وفي كل مرة تقيم فيها إحدى حفلاتها الرائعة في جنوب فرنسا؛ هي تقوم بذلك من خلال الدوس على تطلعات مواطني أنغولا”؛ هكذا قال “أندرو فاينشتاين” -رئيس منظمة “مراقبة الفساد” (Corruption Watch)، مضيفًا أن تسريبات لواندا توضّح كيف استغلت “إيزابيل” بلدها على حساب الأنغوليين العاديين.
جعلت ابنة الرئيس السابق من المملكة المتحدة إقامتها؛ حيث تملك في لندن عقارات باهظة الثمن، ووقَّعت فيها واحدة من أكثر صفقاتها المشبوهة من خلال شركة في المملكة المتحدة تابعة لشركة سوناغول الحكومية الأنغولية. وبحسب الوثائق المسرَّبة؛ فقد وافقت “إيزابيل” أثناء مغادرتها لـ”سوناغول” (بعد إقالتها من رئاسة الشركة في سبتمبر 2017م) على مدفوعات مشبوهة بقيمة 58 مليون دولار لشركة استشارية في دبي تسمى Matter Business Solutions.
وفي حين تقول “إيزابيل”: إنها لا تملك أيّ مصلحة مالية في شركة “Matter“، إلا أن المستندات المسرَّبة تكشف أن مَن يدير “ Matter” هو مدير أعمال “إيزابيل”، ويملك هذه الشركة أيضًا صديقها.
وكشفت الوثائق أيضًا عن تفاصيل جديدة حول الصفقات التجارية التي ساهمت بشكلٍ كبيرٍ في ثراء “إيزابيل”؛ يعتمد جزء كبير من ثروتها على ملكيتها لحصة في شركة الطاقة البرتغالية Galp، التي اشترتها إحدى شركاتها من “سوناغول” الحكومية الأنغولية عام 2006م؛ كان عليها دفع 15٪ فقط من المبلغ مقدمًا، بينما تم تحويل المبلغ المتبقي وقدره 63 مليون يورو إلى قرض منخفض الفائدة من شركة النفط الحكومية الأنغولية “سوناغول”. وبموجب الشروط السخية للقرض، ليس من الضروري سداد ديونها المستحقة للشعب الأنغولي لمدة 11 عامًا، بينما تبلغ حصتها اليوم في شركة Galp البرتغالية أكثر من 750 مليون يورو. ورغم أن شركة “إيزابيل” عرضت عام 2017م سداد قرضها؛ إلا أن هذا العرض لم يتضمن ما يقرب من 9 ملايين يورو بسبب الفائدة.
لم تختلف طرق إجراء عقود الماس عن صفقات النفط والطاقة؛ فقد وقّع “سينديكا دوكولو” – زوج “إيزابيل دوس سانتوس”- اتفاقية أحادية الجانب في عام 2012م مع شركة الماس الأنغولية الحكومية “سوديام” (Sodiam). ومن المفترض أن تكون نسبة شراكة الجانبين في الصفقة مناصفةً بواقع 50% لكل طرف؛ وذلك لشراء حصة في شركة المجوهرات السويسرية الفاخرة De Grisogono.
غير أن هذه الصفقة مُموَّلة مِن قِبَل الشركة الحكومية فقط. وتظهر الوثائق المسربة أنه بعد 18 شهرًا من الصفقة، قدّمت “سوديام” -الشركة الحكومية الأنغولية– 79 مليون دولار في الشراكة، بينما لم يقدّم “دوكولو” سوى 4 ملايين دولار. بل ومنحته شركة “سوديام” رسوم نجاحٍ بقيمة 5 ملايين يورو للوساطة التي قام بها، ما يعني أنه غير مضطرّ لاستخدام أيٍّ من أمواله الخاصة للصفقة.
والأكثر غرابةً ما أشارت إليه شبكة “بي بي سي” التي عاينت الوثائق المُسرَّبة وكشفت عن بعضها؛ فقد اقترضت شركة “سوديام” جميع الأموال التي قدّمتها للصفقة من أحد البنوك الخاصة التي تملك “إيزابيل” أكبر حصة فيها. ويتعين على “سوديام” دفع فائدة على القرض بنسبة 9٪، بينما تم تأمين القرض بموجب مرسوم رئاسي من والدها؛ ما يعني أن ليس لبنك “إيزابيل” ما يخسره، إضافة إلى أن والدها منح زوجها حق شراء بعض الماس الخام في أنغولا.
وفي تصريح لـ “برافو دا روزا” -الرئيس التنفيذي الجديد لشركة “سوديام”-؛ لم يستردّ الشعب الأنغولي دولارًا واحدًا من تلك الصفقة. “في النهاية، عندما ننتهي من سداد هذا القرض، ستكون سوديام قد خسرت أكثر من 200 دولار مليون”.
دور شركات الخدمات المهنية الغربية:
تؤكد تسريبات لواندا أيضًا أن لبعض الشركات الغربية دورًا رئيسيًّا في مساعدة المسؤولين والشخصيات من إفريقيا على تبديد أموال مواطنيهم. ففي حالة “إيزابيل دوس سانتوس”؛ ساعدتها بعض أكبر شركات الخدمات المهنية الرائدة عالميًّا -بما فيها مجموعة “بوسطن الاستشارية”، و”ماكينزي وشركاه”، وPwC وKPMG– في جهودها لنهب الثروة من خلال استغلال بلدها، وسهّلت عمليات الحفاظ على إمبراطوريتها؛ حتى بعد فترة طويلة من تشكيك البنوك العالمية فيها بسبب مصدر ثروتها.
ففي عام 2014م، وصف “بانكو سانتاندر” -البنك الإسباني العملاق– “إيزابيل” بأنها “شخص مكشوف سياسيًّا”-؛ وهو مصطلح يستخدمه المنظِّمون الماليون للمسؤولين الحكوميين وأفراد أُسَرهم المعرَّضين للرشوة أو الفساد–، ورفض البنك العمل معها، وفقًا للوثائق المُسَرَّبَة.
وكما قال تقرير الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين: “تجاهل المُنظِّمون في جميع أنحاء العالم تقريبًا الدور الرئيسي الذي يلعبه المحترفون الغربيون في الحفاظ على صناعة خارجية تعمل على تعزيز غسل الأموال واستنزاف تريليونات من خزائن عامة”.
وأشارت وثيقة إلى أنّ المحاسبين ومسؤولي شركات الخدمات المهنية الدولية تجاهلوا الإشارات التي من شأنها أن تثير الإنذارات. كما ساعد محامون من شركات المحاماة البرتغالية البارزة في تأسيس شركات وهمية ونقل أموال “إيزابيل” وزوجها، مع تقديم نصائح حول طرق إدارة أعمالهم وتجنُّب الضرائب.
“إن هيكل الحوافز يجعل الأمر سهلاً للغاية ومربحًا بدرجة كبيرة وغير محفوف بالمخاطر بالنسبة لهم (أي: مسؤولي الشركات الغربية والمحامين) لكي ينخرطوا في هذا العمل القذر”؛ هكذا قال “ماركوس مينزر”؛ مدير السرية المالية في شبكة العدالة الضريبية، وهي مؤسَّسة بحثية تدرس التهرُّب الضريبي والتنظيم المالي.
ومع ذلك، ورغم حجم الوثائق المسربة والاهتمامات الدولية للقضية؛ فقد نفت “إيزابيل دوس سانتوس” كل الاتهامات الموجهة إليها قائلة: إنها ليست صحيحة، وأن هناك حملة منظّمة لمطاردتها، وتشويه سمعتها لدوافع سياسية مِن قِبَل الحكومة الأنغولية.
“هذا هجوم شديد التركيز؛ إنه هجوم تم تنسيقه بشكل جيِّد للغاية. إنه هجوم بالتنسيق مع وسائل الإعلام الأجنبية، ويعمل مع السلطات الأنغولية لخلق تصوُّر خاطئ لأعمالي”؛ هكذا قالت “إيزابيل دوس سانتوس” لقناة الجزيرة.
وعليه، يمكن القول: إنَّ تسريبات لواندا لم تأتِ بجديدٍ، حتى وإن كانت تبرهن على دور الشركات الغربية في عملية النهب التي قامت بها عائلة “دوس سانتوس”، ومساهمتهم في التهرُّب الضريبي، وإخفاء الأموال، والتأثير في العقود والمشاريع الحكومية. وبل وترجّح كفة مزاعم حكومة أنغولا بفساد بعض أفراد العائلة، وضرورة محاكمتهم لاستراد الأموال العامة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للمزيد:
– ICIJ: How Africa’s Richest Woman Exploited Family Ties، Shell Companies And Inside Deals To Build An Empire، https://www.icij.org/investigations/luanda-leaks/how-africas-richest-woman-exploited-family-ties-shell-companies-and-inside-deals-to-build-an-empire/
– BBC Panorama: Isabel dos Santos: Africa’s richest woman ‘ripped off Angola’، https://www.bbc.com/news/world-africa-51128950