د. عبير شليغم
أستاذة محاضرة في كلية العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة الجزائر 03
ملخص الدراسة:
تعتبر مملكة زيمبابوي الكبرى واحدةً من أعظم الإنجازات المعمارية والحضارية في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، التي تركت خلفها إرثًا أثريًّا غنيًّا يشهد على عظمة هذه المملكة وتطورها.
وتمتد آثار المدينة على مساحة شاسعة، وتضمّ مجموعة متنوّعة من المباني والهياكل التي تعكس تطوُّر الهندسة المعمارية والمهارات الحرفية للسكان آنذاك، فهي شاهدة على تطوُّر حضارات ما قبل الاستعمار في القارة، كما تُعتَبر هذه المدينة القديمة التي يعود تاريخها إلى القرنين الحادي عشر والخامس عشر، لغزًا يُحيط به الكثير من الجدل والبحث.
علاوةً على ذلك؛ قسَّمنا دراستنا إلى ثلاثة محاور أساسية؛ المحور الأول يُعنَى بدراسة نشأة وتطور مملكة زيمبابوي العظمى في جنوب الصحراء في القرن الحادي عشر، وذلك بإبراز كيف بدأت وانتشرت، وكذا كيف توسعت إلى المناطق المجاورة، مرورًا بالمحور الثاني الذي يستعرض مظاهر قوة ونفوذ المملكة وصولًا إلى المحور الأخير الخاص بانهيار المملكة وزوالها في القرن الخامس عشر. لنصل في الختام إلى بعض النتائج والتوصيات.
مقدمة:
تشتهر زيمبابوي في مختلف أنحاء العالم، ولكنها تعني أشياء مختلفة بالنسبة لأشخاص مختلفين. فبالنسبة لمعظم الناس، فهي مرادفة للغموض، والعصور القديمة، والحضارة الغريبة في وسط إفريقيا؛ وبالنسبة للبعض، فهي لغز أثريّ لم يتم حلّه بعد، ويأملون ألَّا يتم حلّه أبدًا؛ ولكنّ قلة قليلة من الناس أعطوها الاهتمام الدقيق الذي تستحقه؛ حيث إن موقعها في حد ذاته، في منطقة برية من الغابات، يُشكّل تحديًا للخيال، في حين أن حجمها الهائل وأهميتها الواضحة تُعتبر أكثر إثارة للتفكير.
فضلًا على ذلك؛ قامت الحضارة في مملكة زيمبابوي، بسبب الطفرة الكبيرة في استخراج الذهب، بالإضافة لاكتشافهم للأحجار الكريمة، ونشطت تجارة الدهب في جنوب وشرق إفريقيا بسببهم، فقاموا بتبادل الدهب بالبضائع مع العرب، وذلك عندما أسسّت قبيلة شونا، وهي فرع من قبائل البانتو إمبراطورية على مرتفعات هضبة روديسا، وسمتها زيمبابوي، وكان عددهم تقريبًا 15 ألف نسمة.
بيد أن أوج الازدهار الذي عاشته مملكة زيمبابوي الكبرى لم يستمر، فبدأ في التلاشي والانحدار، ومردّ ذلك لعددٍ من الأسباب والتغيرات شهدتها المملكة من نُضوب الموارد الطبيعية، وخاصةً الذهب والعاج والسلع الأخرى، وكذا تغيُّر مسارات التجارة، وأيضًا تدهور المناخ، واشتعال عدد من الصراعات والحروب سواء الداخلية بين المماليك وحتى الخارجية بين المملكة والدول المجاورة، ما أدى بها إلى الانحدار مع الوقت، وانتهت تمامًا في نصف القرن الـــ15.
بناءً على ما سبق؛ يمكن صياغة الإشكالية التالية: كيف أثَّر الموقع الجغرافي على بروز وزوال وانهيار مملكة زيمبابوي الكبرى ما بين القرنين 11 و15؟
وتندرج تحت هذه الإشكالية مجموعة من الأسئلة الفرعية التالية:
- ما الدور الذي لعبته الجغرافيا في نجاح زيمبابوي الكبرى كمركز تجاري خلال العصور الوسطى؟
- ما المصادر الأساسية للثروة والتجارة لمملكة زيمبابوي الكبرى؟ وكيف ساهمت هذه الموارد في ازدهارها؟
- ما العوامل الأساسية التي ساهمت في انحدار مملكة زيمبابوي الكبرى؟ وكيف أدت هذه العوامل إلى هجر المدينة في نهاية المطاف؟
خطة الدراسة:
في محاولة الإجابة عن الإشكالية والتساؤلات السابقة، قسِّمت الدراسة وفق المحاور التالية:
- أولًا: نشأة وتطور مملكة زيمبابوي الكبرى.
- ثانيًا: مظاهر قوة ونفوذ مملكة زيمبابوي الكبرى.
- ثالثًا: أسباب انهيار وزوال مملكة زيمبابوي الكبرى.
- الخاتمة.
أولًا: نشأة وتطور مملكة زيمبابوي الكبرى
تدل الشواهد التاريخية على أن هجرات قبائل البانتو قد حدثت في ثلاث موجاتwaves متعاقبة، ويمكن القول بأن قبائل البانتو التي شكَّلت الموجة الأولى، هم الأجداد المباشرون للقبائل التي تتكلم لغة الشونا Shona Speaking، والتي تعيش الآن في روديسيا؛ حيث استقر هؤلاء الأجداد على طول الشواطئ الشمالية لنهر زامبيزي Zambezi، وكان ذلك في الفترة ما بين القرنين الرابع والسادس الميلاديين.([1])
على بُعْد سبعة وعشرين كيلو مترًا من مدينة فورت فيكتوريا Fort Victoria الحديثة اختار هذا الفوج الأول من مهاجري البانتو عاصمتهم الملكية، وسموها زيمبابوي zimbabwe، أما الموجة الثانية لهجرة قبائل البانتو فقد حدثت في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، حين رحلت موجة كبيرة من قائل البانتو المتحدثة بلغة الشونا، واستقرت في منطقة واسعة تبعد نحو 320 كم جنوب زيمبابوي؛ حيث استقرت الموجة الأولى([2]).
وقد عرفت القبائل المهاجرة في الموجة الثانية باسم قبائل الكارانج Karangh، وكانت سعيدة الحظ؛ لأن المنطقة الجديدة بجنوب شرق إفريقيا، والتي استقرَّت فيها هذه القبائل، كانت غنية بمناجم الذهب الشهيرة([3])، وكانت تقوم بتسويق الذهب في مدينة سوفالا Sofala التي أنشأها العرب الذين كانوا يعيشون في مدينة كيلوا Kilwa خصيصًا كمحطة لتسويق الذهب، وكانت الأرباح الطائلة التي تأتي من تجارة الذهب، تزيد من ثراء مملكة قبائل الشونا في زيمبابوي الكبرى، كما جعلتْ مدينة كيلوا أهم المدن الواقعة على الساحل الشرقي الإفريقي وأكثر ازدهارًا.([4])
ظلت قبائل الكارانج تقوم بدور المورد الرئيسي للذهب الذي يقدّمونه للتجار في مدن وسواحل شرق إفريقيا أرض الزنج في مقابل حصولهم على احتياجاتهم من السلع المعروضة في أسواق تلك المدن والموانئ، وعندما ازدادت قبائل الكارانج قوةً، كانت تتضاءل في الوقت نفسه موارد الملح الموجودة في المنطقة التي يعيشون فيها، ولهذا فقد تطلعت قبائل الكارانج نحو الشمال القريب؛ حيث يعيش بنو عمومتهم في زيمبابوي، وانتهى الأمر بهم الى الاستيلاء على زيمبابوي، وإعلانها كعاصمة جديدة لمملكتهم الجديدة، وسموها زيمبابوي الكبرى The Great Zimbabwe.
وقد اعتبرت زيمبابوي الكبرى أكبر وأعظم مدينة مبنية بالأحجار في جميع مناطق إفريقيا السوداء جنوب الصحراء الكبرى، وظلت مزدهرة وخصبة وبعيدة عن منال الطامعين حتى بدايات القرن التاسع عشر.
نتيجةً للدراسات التي أُجريت على بقايا وآثار زيمبابوي الكبرى تبين أن هذه المدينة لم تُبْنَ دفعةً واحدةً، بل أخذت تتسع على مدى قرون متعاقبة بفضل الإضافات التي كانت تُجريها الأجيال المتتالية من قبائل البانتو والكارانج.
في خلال السنوات الأولى من القرن الخامس عشر تولَّى الحكم أقوى ملك من ملوك الكارانج، وهو الملك مونوموتابا Monomotappa وأعلن إمبراطورية زيمبابوي الكبرى، كان الملك مونوموتابا في حكم الإله بالنسبة لقبائل البانتو، وكان الناس في حضرته لا يسجدون فقط، وإنما ينبطحون أرضًا، ويزحفون على بطونهم عند دخولهم إليه أو خروجهم من عنده.([5])
علاوة على ذلك؛ كان مونوموتابا قائدًا حربيًّا ماهرًا، وصاحب تطلعات توسعية؛ ففي سنة 1435هـ استولى على المناطق الغنية بمناجم الذهب الواقعة في نهر زامبيزي ونهر ليمبوبو Zambizi & Limpopo، ثم اتجه شرقًا ليستولي على المدن والموانئ الواقعة على سواحل موزمبيق Mozambique.، وفي عهده أيضًا اتسعت مدينة زيمبابوي الكبرى، وأُنشئت فيها المباني والقلاع والقصور الضخمة، وما أن انتصف القرن الخامس عشر حتى أصبحت مملكة مونوموتابا وعاصمتها زيمبابوي الكبرى مسيطرة على جميع المساحات الواسعة الواقعة بين نهر زامبيزي والمحيط الهندي، والممتد نحو أكثر من ألف كيلو متر من موقع روديسيا الجنوبية حتى الحدود الشمالية للترانسفال Transval.([6])
جذير بالذكر أن كلمة زيمبابوي –بلغة البانتو- مكونة من مقطعين: “الزيمبا” بمعنى بيوت، و”بوي” أو بجي بمعنى أحجار، ومعنى الكلمة إذن البيوت الحجرية، وهذه التسمية لم تأتِ من فراغ؛ وذلك لأن طابع الاستقرار الذي أصبحت عليه قبائل البانتو جعلها تتجه منطقيًّا إلى بناء بيوت من الأحجار والصخور بدلًا من الأكواخ العشبية التقليدية التي كانوا يعيشون فيها من قبل.([7])
تجدر الإشارة إلى أنه من الصعب تحديد الحدود الدقيقة لمملكة زيمبابوي في أَوْج قوتها، ولكن يعتقد المؤرخون أنها امتدت لتشمل أجزاء كبيرة مما يُعرَف اليوم بـ:
- زيمبابوي: تشمل الأطلال الشهيرة في زيمبابوي العظمى، وكذلك مناطق واسعة في جنوب وشرق البلاد.
- موزمبيق: تشمل أجزاء من جنوب موزمبيق؛ حيث تم العثور على آثار لحضارة زيمبابوي.
- جنوب إفريقيا: قد تكون امتدت إلى أجزاء من جنوب إفريقيا، خاصةً المناطق الغنية بالذهب والنحاس.
ثانيًا: مظاهر قوة ونفوذ مملكة زيمبابوي العظمى
مملكة زيمبابوي الكبرى كانت إمبراطورية حجرية عظيمة في قلب إفريقيا، امتدت نفوذها، وشهدت ازدهارًا ملحوظًا، تتميز بتنظيمها الاجتماعي المتقدّم، واقتصادها القوي، ومعمارها المذهل، ونفوذها الإقليمي الواسع، ومِن ثَم نستعرض مظاهر ومميزات قوتها من خلال العوامل التالية:
1-التطور العمراني الضخم:
شهدت المملكة تطورًا عمرانيًّا ملحوظًا؛ حيث تم بناء أطلال الجبل وغيرها من المباني الضخمة التي تدل على مستوى عالٍ من التنظيم الاجتماعي والمهارات الهندسية، وكذا موقع زيمبابوي الإستراتيجي على طرق التجارة القديمة ساهم في ازدهارها اقتصاديًّا.
ويرجع تاريخ أقدم الآثار الموجودة في أطلال زيمبابوي الكبرى إلى نحو ألف عام مضت، وتقوم الإنشاءات والمباني في هذه المدينة على أساس فكرة البناء الدائري أو البناء المستدير، وهي فكرة مستلهمة بطبيعة الحال من نفس فكرة بناء الأكواخ العشبية والطينية ذات الشكل الإفريقي التقليدي([8]).
تتكون مملكة زيمبابوي الكبرى من ثلاثة مواقع أثرية رئيسية؛ هي: مجمع التل الكبير، السور العظيم، وكذا قلعة التل، ولا تزال موجودة في الوقت الراهن، ونقوم بعرضها على النحو التالي:مجمع التل الكبير (Great Zimbabwe).
هو أحد أهم المواقع الأثرية في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وواحد من أكبر المواقع الحجرية القديمة في العالم. ويقع هذا المجمع التاريخي في جنوب شرق زيمبابوي بالقرب من مدينة ماسوينغو، ويتميز بمعماره الحجري الضخم والمعقد، ولا سيما جدرانه الحجرية العالية وأبراجه المخروطية، والذي بني دون استخدام الملاط([9])، موضح في الصورة المرفقة.
يتكون مجمع التل الكبير من عدة هياكل حجرية رئيسية بما في ذلك:
- الحائط الكبير: هو جدار حجري ضخم يحيط بالمجمع بأكمله، ويبلغ طوله حوالي 3 كيلو مترات.
- البرج المخروطي: وهو برج حجري ضخم على شكل مخروط، يعتبر من أبرز معالم المجمع.
- قصر الملك: وهو مبنى حجري كبير يُعتقد أنه كان مقر إقامة الملك.
- مباني أخرى: بالإضافة إلى هذه الهياكل الرئيسية، توجد العديد من المباني الأخرى الأصغر حجمًا، مثل الحظائر والمخازن.
الصورة رقم 01: تبين مجمع التل الكبير (Great Zimbabwe)
يُمثل مجمع التل الكبير ذروة الحضارة في مملكة زيمبابوي الكبرى، بُنِيَ مِن قِبَل شعب شونا، ويشهد على تطورهم الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، كما أنه يُعتَبر شاهدًا على قدرات هندسية معقدة؛ حيث تمكَّن شعب شونا من بناء هياكل حجرية ضخمة دون استخدام أدوات معدنية حادة. وبناء المجمع بدأ في القرن الحادي عشر الميلادي، واستمر على مراحل حتى القرن الخامس عشر.
السور العظيم: Great Zimbabwe wall
يقع في الجنوب من أطلال الجبل، وهو عبارة عن مجموعة من المباني السكنية والمخازن محاطة بجدار حجري ضخم، يتميز بطوله الهائل الذي يصل إلى حوالي 3 كيلو مترات، وبارتفاعه الذي يتجاوز في بعض الأماكن 10 أمتار، ويعتقد الباحثون أن هذا الحصن كان يُستخدَم كمقر للإقامة الملكية، ويُعتبر من أهم المعالم الأثرية في زيمبابوي، ويشهد على قوة المملكة وقدرتها على الدفاع عن نفسها، والأكثر إثارةً للإعجاب هو أنه تم بناؤه دون استخدام أيّ نوع من الملاط، مما يجعله شاهدًا على مهارة وابتكار شعب شونا القديم.([10]) موضح في الصورة المرفقة التالية:
الصورة رقم 02: توضح السور العظيم Great Zimbabwe wall
يُعتبر السور العظيم بمثابة سور دفاعي يحمي المجمع من الغزاة والاعتداءات الخارجية، كما يمثل رمزًا لقوة وحضارة شعب شونا، ويعكس مدى التنظيم والتعاون الذي كان سائدًا بين أفراده، فهو تحفة هندسية فريدة من نوعها؛ حيث لا تزال أسرار بنائه تثير حيرة الباحثين والمهندسين؛ إذْ يعد جزءًا لا يتجزأ من الهوية الوطنية في زيمبابوي، يظهر في العديد من الأعمال الفنية والأدبية. كما أنه أصبح رمزًا للسياحة في البلاد في الوقت الحالي؛ حيث يأتي الزوار من جميع أنحاء العالم للإعجاب بجماله وعظمته.
قلعة الجبل:
من أعظم وأضخم المباني التي تم إنشاؤها في عهد مونوموتابا قلعة الجبل التي عُرفت فيما بعد باسم الأكروبوليس Acropolis، أو المعبد أو القصر الضخم الذي بُني على سطح الجبل تحت القلعة، مطلاً على الوادي، وقد تم تشييد هذه الأبنية الضخمة بأحجار الجرانيت المحلية الموجودة بكثرة في المنطقة، واعتبرت هذه المباني الجرانيتية الضخمة من عجائب الدنيا؛ إذ لم تُستعمل المونة أو الملاط في لصق الأحجار عند التشييد، وتم ذلك بدون استعمال أيّ مواد لاصقة على الإطلاق، ورصّ الأحجار الجرانيتية([11]).
2- الاقتصاد القوي:
كان اقتصاد مملكة زيمبابوي الكبرى متنوعًا وقويًّا، وقد ساهم في ازدهار هذه الحضارة ونموها، كانت الزراعة هي العمود الفقري للاقتصاد؛ حيث اعتمد عليها السكان في توفير الغذاء، ويُعدّ كلّ من الذرة والدخن المحصولين الأساسيين اللذين يعتمد عليهما السكان في غذائهم، كما استخدم السكان أنظمة ري بسيطة لزيادة الإنتاجية الزراعية، كما مارس السكان الرعي؛ حيث كانوا يربُّون الماشية مثل الأبقار والماعز والأغنام للحصول على اللحوم والحليب والجلود، والتي كانت تُستخدم في الغذاء والتجارة.
علاوة على ذلك؛ اكتشف السكان المحليون رواسب غنية بالذهب والنحاس والحديد، وساهم ذلك بشكل كبير في ثراء المملكة وقدرتها على التوسع والتبادل التجاري مع المناطق المجاورة، مما جعلها هدفًا للتجار والغزاة، وفي نفس الوقت زادت من ثروة المملكة وقوتها الاقتصادية([12]).
ومِن ثَم أصبحت زيمبابوي الكبرى مركزًا تجاريًّا مهمًّا، لديها شبكات تجارية واسعة امتدت إلى مناطق بعيدة مثل الصين والشرق الأوسط شرق إفريقيا، مما يدل على وجود شبكات تجارية واسعة وقدرة على التعامل مع ثقافات مختلفة، وكانت السلع الرئيسية التي يتم تصديرها هي الذهب والنحاس والأواني الفخارية والحبوب مقابل الحصول على الزجاج والحديد والقماش والفخار المزجج من التجار العرب كسلع مستوردة، كما كان الحرفيون يصنعون المجوهرات والأثاث والأدوات الزراعية، وكذا الأواني الفخارية؛ حيث كانت تُستخدَم في الطهي والتخزين، بالإضافة إلى صناعة النسيج؛ حيث كانت الأقمشة تُستخدم في الملابس والزينة، مما يدل على وجود مهارات عالية في الصناعات الحرفية.
وهنا وجب التنويه إلى أن الاقتصاد في مملكة زيمبابوي العظمى كان يعتمد بشكل كبير على التبادل والمقايضة؛ حيث كان يتم تبادل السلع والخدمات دون استخدام النقود، والدليل على ذلك وجود قِطَع أثرية من الزجاج السوري، وأطباق الخزف الصينية أزرق وأبيض، وأوعية الفخار الفارسية، والمرجان، والأجراس البرونزية.([13]) بناءً على تلك الأدلة الأثرية يبدو أيضًا أن مملكة زيمبابوي كانت تمتلك جيشًا منظمًا قويًّا مجهزًا بأسلحة متطورة نسبيًّا لتلك الحقبة، مما سمح لها بالدفاع عن حدودها والتوسع في الأراضي المجاورة.
ثالثًا: أسباب انهيار وزوال مملكة زيمبابوي العظمى:
أعقب فترة الازدهار في زيمبابوي العظمى تلك الحضارة الإفريقية العريقة التي بنت أطلالًا مبهرة انهيارًا حادًّا، فبحلول أواخر القرن الخامس عشر، فقدت المملكة ثروتها وتجارتها وأهميتها السياسية والثقافية بالكامل؛ ما أدى إلى هجر سكانها بسبب نقص الغذاء والمراعي والموارد الطبيعية بشكل عام، وبالتالي ظلت الأحجار بمثابة تذكير بمملكة عظيمة ذات يوم، فلا تزال زيمبابوي العظمى محفوظة كمركز ثقافي ثمين وجذب سياحي، وهي تُجسِّد بالتأكيد أفضل إنجازات حضارة الشونا، ويمكن إرجاع سبب هذا الانهيار والزوال لعددٍ من الأسباب نُوجزها على النحو التالي:
- الضغط السكاني واستنزاف الموارد:
مع نمو السكان وتوسع المملكة، زادت الضغوط على الموارد الطبيعية مثل الأراضي الزراعية والماء والخشب. وأدى هذا الاستنزاف إلى تدهور البيئة وتآكل التربة، مما أثَّر سلبًا على الزراعة وإنتاج الغذاء، ما تسبَّب في المجاعة وانخفاض عدد السكان وهجرة العدد الآخر بحثًا عن الماء والغذاء وكذا الموارد.
ومن الواضح أن زيمبابوي العظمى كانت تعاني من نقص الغذاء. ومع نمو الشبكات من حيث الحجم والنفوذ، تزايدت مطالبها بالذهب والعاج وموارد السلع الأخرى. واستهلكت زيمبابوي العظمى الكثير من الموارد الطبيعية التي سمحت لها بالنمو بقوة، مما أدى إلى انخفاض ما يمكنها إنتاجه لاحقًا. وهناك نظريات مفادها أن نجاحها ربما تسبب في سقوطها، عندما لم يعد بإمكانها الحفاظ على شبكاتها التجارية بهذه الموارد (الذهب والعاج وما إلى ذلك)، فتم استبدالها، وفقدت زيمبابوي العظمى قيمتها الإستراتيجية([14]).
- التغيرات المناخية:
تشير بعض الدراسات إلى أن تغييرات مناخية حدثت في المنطقة خلال تلك الفترة، مثل فترات جفاف طويلة، أدت إلى نقص المياه وتدهور المحاصيل الزراعية، مما زاد من حدة الأزمات الغذائية، وكانت هناك أيضًا بعض المؤشرات على أن زيمبابوي العظمى عانت أحيانًا من فترات جفاف شديدة، أنتجت المزيد من المجاعة والموت، مما أدَّى إلى تسريع انحدار زيمبابوي العظمى.
3- تدهور التجارة:
كانت التجارة عنصرًا حيويًّا في اقتصاد مملكة زيمبابوي؛ حيث كانت تقوم بتصدير الذهب والحديد والعاج. وقد يكون تراجع الطلب على هذه السلع أو ظهور طرق تجارية جديدة قد أدى إلى تدهور اقتصاد المملكة، وبدأت تجارة الذهب في التحرك غربًا. ولم تعد المدينة تتمتع بموقع مركزي، وربما لم تكن قادرة على الازدهار عندما جفَّت الإيرادات والتجارة بسبب استنزاف مناجم الذهب([15]).
كنتيجة لذلك؛ تم التخلي عن بعض المواقع السكنية بشكل كامل، مما يشير إلى هجرة السكان، وظهرت مواقع سكنية جديدة ذات خصائص مختلفة، مما قد يكون دليلًا على تغيُّر في أنماط الاستيطان.
بناءً على ذلك؛ خلال القرن الخامس عشر هجرت مملكة الشونا Shona موقعها في زيمبابوي واتجهت شمالاً، وأسَّست مملكة أخرى هي مملكة موتابا Mutapa، وكان الذهب في منطقة زيمبابوي قد نَضب تمامًا، أما منطقة موتابا Mutapa الجديدة، فمازالت تنتج الذهب حتى الآن، وإن كان ذلك بكميات ضئيلة، وهكذا يمكن القول بأن عصر ازدهار تجارة الذهب في مناطق جنوب وشرق إفريقيا قد ولَّى، وأصبح من الذكريات([16]).
4- الصراعات الداخلية والخارجية:
لعبت الصراعات الداخلية والخارجية دورًا كبيرًا في زعزعة استقرار المملكة؛ حيث كان هناك اختلافات وصراعات على السلطة والثروة وحتى على الموارد بين القبائل المختلفة، مما أدى إلى نشوب صراعات وتقويض وحدة المملكة، بالإضافة إلى وقوع هجمات مِن قِبَل قبائل أخرى أو من تجار العبيد؛ حيث حدثت بعض التغييرات التي أدت إلى زوال ونهاية هذه المملكة، على يد أبناء عم آخرين من قبائل البانتو المتكلمة بلغة الشونا.
في هذه الفترة –أواخر القرن الرابع عشر وبداية القرن الخامس عشر-، حدثت الموجة الثالثة لهجرات قبائل البانتو متمثلة في قبائل الروزوي Rozwi التي زحفت نحو زيمبابوي الكبرى، واستولت عليها، وطردت الأسرة الحاكمة وشعب مملكة مونوموتابا، وتولت العرش أسرة حاكمة جديدة أنشئت مملكة جديدة هي مملكة الروزوي، واتخذت من زيمبابوي الكبرى عاصمة لها، أما شعب البانتو والكارانج الذي كان يعيش في مملكة مونوموتابا فقد تشتت في الجنوب، ولجأ إلى البرتغاليين طالبًا حمايتهم من مملكة الروزوي، وكان البرتغاليون قد استقروا وسيطروا على سواحل جنوب شرق إفريقيا.
الخاتمة:
صفوة القول: على الرغم من انهيار مملكة زيمبابوي العظمى، إلا أنها تركت إرثًا حضاريًّا غنيًّا، فتعتبر اليوم أكبر الآثار الحجرية في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وآثارها تشهد على عظمة هذه الحضارة وتطورها، كما أنها تُعدّ مصدر إلهام للباحثين والمؤرخين؛ إذْ تم إدراج أنقاض زيمبابوي العظمى –خاصةً مجمع التل الكبير- في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) في عام 1986م، كما تحتفل دولة زيمبابوي الحديثة بمملكة زيمبابوي العظمى؛ باعتبارها رمزًا لماضيها العظيم قبل الاستعمار، وأيضًا يكرمها السكان المحليون باعتبارها جزءًا من تراثهم.
………………………………….
[1] – جوان جوزيف، تر: مختار السويفي، الإسلام في ممالك وإمبراطوريات إفريقيا السوداء، القاهرة: دار الكتاب المصري، ط!، 1984م، ص150.
[2] -Munyaradzi Mawere, Convergence of diverse religions at Zimbabwe heritage sites: The case of great Zimbabwe National monument, International Research Journal of Arts and Social Sciences, October, 2012, Vol 1, p. 22
[3] – أحمد طاهر، إفريقيا فصول من الماضي والحاضر، القاهرة: دار المعارف، 1975م، ص 64.
[4] – كولين ماكيفيدى، تر: مختار السويفي، أطلس التاريخ الإفريقي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1987، ص92.
[5] – جوان جوزيف، الإسلام في ممالك وإمبراطوريات إفريقيا السوداء، مرجع سابق، ص 151.
[6]– Adam Andersson, Make Great Zimbabwe Great Again, Goteborgs University, 2020, p 21.
[7]– جوان جوزيف، نفس المرجع، ص 152.
[8]– جوان جوزيف، الإسلام في ممالك وإمبراطوريات إفريقيا السوداء، مرجع سابق، ص152.
[9] Webber Ndoro, Great Zimbabwe, https://www.scientiicamerican.com ,(12-08-2024)
[10]Adam Andersson, op. cit, p 23.
[11]– جوان جوزيف، الإسلام في ممالك وإمبراطوريات إفريقيا السوداء، مرجع سابق، ص 152.
[12] -Lorraine M. Swan, Minerals and Managers, Department of Archaeology and Ancient History, African and Comparative Archaeology. Uppsala University. Sweden. 2008. P 43.
[13]– Webber Ndoro, Great Zimbabwe, op.cit.
[14] Adam Andersson, Make Great Zimbabwe Great Again; op. cit, p 32.
[15] Webber Ndoro, Great Zimbabwe, op. cit.
[16] – كولين ماكيفيدى، أطلس التاريخ الإفريقي، مرجع سابق، ص110.