يصف قاموس أكسفورد “عصر ما بعد الحقيقة” بأنه العصر الحالي؛ حيث الظروف التي تكون فيها الحقائق أقل تأثيرًا في تشكيل الرأي العام والعمل السياسي، بينما تكون العاطفة والأفكار والأكاذيب هي المؤثّر الأكبر في تشكيل وتوجيه الرأي العام، وبالتالي فإن العديد من المعايير وأنماط السلوك السياسي والاجتماعي تتأثر تأثرًا سلبيًّا بمتغيرات عصر ما بعد الحقيقة.
ولا شك أن الأكاذيب والإشاعات والحروب النفسية قديمة قدم الإنسان على الأرض، وكان لها دائمًا تأثير في توجيه الأحداث، بما في ذلك الأحداث الكبرى منذ القدم، كما حذر منها النبي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-، وكذلك آيات القرآن الكريم في العديد من المواقف، ومنها قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: “كفى بالمرء كذبًا أن يُحدِّث بكل ما سمع”([1])، وقوله تعالى: { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}([2])، وقوله سبحانه: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}([3]).
إلا أن الذي عزَّز تأثير الإشاعات والأكاذيب والحروب النفسية، أو ما صار يُطلَق عليه حاليًا “الحرب الهجينة”، أو “حروب الجيل الخامس” في هذا العصر هو التطور التكنولوجي؛ لأنه أتاح لكل شخص -مهما كان صغيرًا أو ضعيفًا أو جاهلاً أو تافهًا- أن يُوصِّل صوته لأغلب العالم، وأن يُؤثِّر في ملايين البشر عبر الإنترنت ومواقع السوشيال ميديا ووسائل الاتصال المختلفة كالفضائيات وغيرها، لا سيما مع تطورها المتسارع، فإذا كانت هذه الوسائل تُتيح للضعاف والتافهين توصيل أصواتهم، فمن باب أولى، فهي تتيح للقوى الكبرى التأثير في الرأي العام، وتوجيهه كما تشاء حسب أهدافها.
وهذا لا يتم لهم إلا باستثمار عواطف الإنسان ووجدانه ونزعاته النفسية والشخصية ورغباته المشروعة وغير المشروعة، ومِن ثَم التلاعب به نفسيًّا كمدخل وأداة للتلاعب به عقليًّا، وتشكيل سلوكه ومعاييره واتجاهاته، بما يخدم أهدافها التي قد تكون في أغلب الأحيان أهدافًا ليست في مصلحة نفس الرأي العام والمجال العام الذي تم تشكيله وفقًا لهذه الآلية.
وعلى سبيل المثال لا الحصر: وجد محققون من مختبر أبحاث الطب الشرعي الرقمي التابع للمجلس الأطلسي أن المحتوى الموالي لروسيا قد زاد انتشاره على منصات السوشيال ميديا في غرب إفريقيا في الأشهر التي سبقت الانقلاب العسكري في يناير 2022م في بوركينا فاسو، وأن الدعم عبر الإنترنت لروسيا قد ازداد بشكل كبير منذ ذلك الوقت، وصحب هذا انتقاد مواقع عديدة لفرنسا بشدة، والدعوة إلى التدخل الروسي.
والعجيب في هذا الشأن أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حذَّر من هذه الأيام في الحديث النبوي؛ إذ قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «إن أمام الدجال سنين خداعة؛ يُكَذَّبُ فيها الصادق، ويُصَدَّقُ فيها الكاذب، ويُخَوَّن فيها الأمين، ويُؤتَمَن فيها الخائن، ويَتكلمُ فيها الرُويبضة». قيل: وما الرُويبضة؟ قال: «الفُوَيْسِق يتكلم في أمر العامة»)[4])، وفي إحدى الروايات: “قيل: وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: “السفيه يتكلم في أمر العامة”([5]) وفي أحد روايات الحديث: “ويُنظَر فيها للرويبضة”، أي: نظر إكبار وتعظيم.
وفي هذا الإطار لا بد أن نلاحظ التأثير السياسي لـ“عصر ما بعد الحقيقة” في إفريقيا، لا سيما وأن إفريقيا تتمتع بنسبة كبيرة من الشباب بين مواطنيها، وتشير التقديرات إلى أن عدد السكان الأفارقة الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و34 عامًا، بلغ نحو 454.5 مليون نسمة عام 2020م، ويصل إجمالي عدد الأفارقة الذين تقل أعمارهم عن 35 عامًا لنحو مليار نسمة أي 22.7٪ من إجمالي عدد الشباب في العالم، لتحتل بذلك المركز الثاني على العالم بعد قارة آسيا (58%)، وبحلول عام 2050م سيزداد عدد الشباب في إفريقيا بنحو 50%، ومن المتوقع أن ينمو الشباب في إفريقيا بنسبة 181.4٪ بحلول عام 2100م، وهو ما سيعادل ضعف سكان أوروبا حينها بالكامل، كما أنه من المرجَّح أن تستحوذ إفريقيا حينها على نصف عدد شباب العالم، مما يجعل إفريقيا القارة التي تضم أكبر عدد من الشباب([6]).
ومعروف أن الشباب هم أكثر مَن يتفاعل حاليًّا مع التكنولوجيا وأدوات الاتصال الحديثة، وهي الأدوات التي تُعزّز تأثير “عصر ما بعد الحقيقة” على أنماط السلوك ومعايير الأخلاق واتجاهات الرأي العام، وبذلك فما تُتيحه فرص تنامي عدد الشباب تُهدّده مخاطر التلاعب بعقولهم وتوجيههم لتحقيق مصالح القوى المتلاعبة، بدلاً من تحقيقهم مصالح أوطانهم.
ومن هنا فلا بد أن نرى الصراع السياسي في إفريقيا من منظور متغيرات “عصر ما بعد الحقيقة”؛ لا سيما المتغيرات السيبرانية أي المرتبطة بالإنترنت ومواقع السوشيال ميديا، بجانب القنوات الفضائية، والتي تغذيها روسيا والصين في مزاحمةٍ لكلٍّ من فرنسا وألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة واليابان والهند وإسرائيل في إفريقيا، فكل هذه القوى وغيرها تستخدم القدرات السيبرانية (الإنترنت والسوشيال ميديا والصحافة الإلكترونية)، فضلاً عن الفضائيات والعلاقات العامة من أجل ضمان مصالحها بإفريقيا وامتصاص كلّ ما يمكنها من ثروات القارة السمراء بدعاوى ناعمة مختلفة، فنجد أن هذه الأدوات والقدرات السيبرانية والاتصالية لها دور أساسي في كلٍّ من:
- الانقلابات العسكرية في إفريقيا.
- المظاهرات الشعبية ضد الغرب في إفريقيا أو تأييدًا لروسيا.
- تعاطف العديد من القوى الشعبية والنخب الإفريقية مع دول وقوى أوروبية أو غير أوروبية مثل الصين وروسيا، وغيرهما.
وتكافح القوى الأوروبية، بجانب الولايات المتحدة، لمواجهة هذا الجهد الصيني والروسي، وفي نفس الوقت تتحرك اليابان والهند وكوريا الجنوبية وإسرائيل لتحقيق أجنداتهم التي تتَّسم بأنها متحالفة بدرجة كبيرة مع الولايات المتحدة.
وهذا كله إنما يُمثِّل نوعًا من الخلط والفوضى الفكرية والسياسية الناتجة عن سيل عارم من الخداع والتمويه والأكاذيب لن يقي من شرورها إلا عمل إعلامي وسياسي إصلاحي هادف نقي يرتكز على الحق والحقيقة.
إن هذه القوى تبحث عن مصالحها فقط، بينما شباب الأفارقة المتفاعلون مع أدوات “عصر ما بعد الحقيقة” لا يدرون ما يُفعَل بهم، ولا ما يُراد بهم، والسؤال الآن هو: ما مآل ذلك كله؟
هل تستفيق النُّخب الإفريقية وتتصدى لهذا وذاك؟ وهل يمكن لأحدٍ أن يتصدى لمخاطر “عصر ما بعد الحقيقة”، أو أن يتصدى للسنوات الخداعة التي حذَّر منها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، ويُبْطِل تأثيرها الخادع، ويكشف زيف أكاذيبها المضللة؟ وهل يمكننا أن نضع أجندة لتحقيق ذلك أم أن هذا أمر مستحيل؟
في واقع الأمر لا بد أن تقوم القلة المهتمة والنخب العاقلة ذات العلم والحلم بتقدير الموقف على حقيقته، والسعي لتوعية وتثقيف الشعوب، وترشيد الرأي العام والارتقاء بمناقشات المجال العام لمنع التلاعب به لصالح القوى الطامعة في ثروات قارة إفريقيا والمتنافسة على الفوز بموارد القارة السمراء.
وهذا لا بد أن يقوم به المسلمون في إفريقيا في مواطن وجودهم؛ لأنهم يُمثّلون ما بين أغلبية واضحة أو أقلية كبيرة في العديد من دول القارة الإفريقية جنوب الصحراء، لا سيما في الدول الكبرى مثل نيجيريا وإثيوبيا والصومال ومالي وبوركينا فاسو وتنزانيا وجنوب إفريقيا، وغيرها([7]).
لكن لا ينبغي أن نغرق في الآمال أو الأحلام؛ لأنه لا شك أن الأغلبية الإفريقية ستظل تتحرك مع القطيع ضمن توجهات السوشيال ميديا والإنترنت والفضائيات، والتي ما يزال يتحكم فيها بدرجة كبيرة القوى ذات القدرة؛ أي: أوروبا وأمريكا والصين وروسيا. ولذا يجب على النخب الرشيدة أن تعمل بلا يأس وتخطط لاستقطاب فئة لا بأس بها من الشباب، وشريحة لا بأس بها من الشعب؛ لأن هذه هي سُنَّة الدعوات الإصلاحية؛ فهي تنشر الحق والحقيقة وتُبَصِّر الناس، ولا شك أن فئةً لا بأس بها من الناس سوف تتَّبع الصواب بعد جهدٍ جهيدٍ.
ويجب استخدام نفس القدرات السيبرانية والسوشيال ميديا لتحقيق ذلك وفق أهداف إصلاحية، كما يجب استخدام التعليم والمدارس والجامعات للارتقاء بالوعي والعلم عند الشباب وعند عامة الناس، وفي المجال العام في إطار من التنمية المجتمعية الشاملة.
……………………………
([4]) رواه الإمام أحمد في مسنده، وقال مقبل بن هادي الوادعي: هذا حديث حسن، انظر: الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين ج1 ص 420 حديث رقم521، كما تكرر في عدة أجزاء أخرى من نفس الكتاب.
([5]) نفس الحديث، وهو مروي عن أبي هريرة عند ابن ماجه وأحمد والحاكم، وقال: صحيح الإسناد. انظر نفس المصدر ج12 ص349. وقال شعيب الأرناؤوط: حديث حسن بمجموع طريقيه (المرويين عن أبي هريرة)، انظر المسند بتحقيق شعيب الأرناؤوط، ط مؤسسة الرسالة، ج13 ص291 حديث رقم 7912.
([6]) انظر فاروق حسين أبو ضيف، آفاق وفرص نجاح القارة الإفريقية في تمكين الشباب، على الرابط التالي: https://www.idsc.gov.eg/Article/details/6241
([7])انظر: عبد الله بوصوف، الإسلام في إفريقيا جنوب الصحراء ، تاريخ تراث ديني مشترك، على الرابط التالي: https://fm6oa.org/revue/article/%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D9%81%D9%8A-%D8%A5%D9%81%D8%B1%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A7-%D8%AC%D9%86%D9%88%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AD%D8%B1%D8%A7%D8%A1-%D8%8C-%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A/