لم تأتِ الوثبة البحرية البرتغالية التي شهدها النصف الثاني من القرن الخامس عشر، وتبلورت في حركة كشوف فارقة عما سبقها من نواحي الانتشار والتفاعلات والتأثيرات التالية، مباغتةً؛ إذ سبقتها تجارب وتطورات علمية وتقنية ومعرفية شاملة تضافرت فيها جهود تطوير علوم الملاحة في المدن الإيطالية، ونقل خبراتها عبر البحر المتوسط إلى البرتغال، فضلاً عن دور بارز لعلماء الفلك في عالم البحر المتوسط، لا سيما اليهود منهم، الذين ارتحلوا إلى البلاط البرتغالي، بخبرات عملية بحرية لرجال البحرية البرتغالية مثَّلت انقطاعًا لافتًا على مستوى العالم حينذاك عن العصور السابقة.
وأُضيف لهذه التطورات المتسارعة عاملٌ دينيّ شديد الوضوح، أخذ يُعوِّل على فكرة وجود “إمبراطورية مسيحية” مجهولة في قلب إفريقيا وفق رسالة منسوبة “للكاهن يوحنا” Prester John تعود للقرن الثاني عشر، ووجّهت للإمبراطور البيزنطي مانويل كومنينوس، طوّرها في منتصف القرن الخامس عشر الأمير هنري الملاح بعقيدة ثابتة وضرورة إقامة “إمبراطورية مسيحية” في غرب إفريقيا، وحتى “مصب النيل الغربي”، أو نيل الزنوج Nile of Negros؛ حسبما كان يعتقد فيما سيكتشف لاحقًا بأنه مصب نهر الكونغو.
وبينما كان الاحتكاك الأوروبي بسواحل غرب إفريقيا حتى المناطق القريبة من مصب نهر الكونغو بمثابة كشف عالم جديد؛ فإنه كان في واقع الأمر اختراقًا معرفيًّا -ثم ماديًّا بشكل تامّ في السنوات التالية- للحدود الفاصلة بين المناطق الإفريقية المعروفة، والمتفاعلة منذ أقدم العصور التاريخية، من جهة شمال إفريقيا وشرقها وغربها من جهة، وسواحل غرب وجنوب إفريقيا، فيما سيُشكّل لاحقًا عالم المحيط الأطلسي مع تسارع حركة الكشوف والتجارة، ثم منهجية الاتجار في الرقيق والاستعمار.
البرتغال عشية انطلاق “الكشوف الأطلسية” الكبرى:
مرَّت البرتغال في الفترة السابقة مباشرة على القرن الخامس عشر، وبدء حركة الكشوف الكبرى بتغيرات جذرية، تعلَّق بعضها بطبيعة نهاية العصور الوسطى؛ وبدءًا من القرن الرابع عشر شهدت منطقة غرب أوروبا تراجعًا في نموّ وتوسُّع القرون الثلاثة التي سبقته، ومع تزايد أعداد السكان ومحدودي الموارد الزراعية، المصحوبة عادةً بتفشّي المجاعة والأمراض والحروب، مما قاد بدَوْره إلى تفكّك الأبنية الاقتصادية والسياسية([1]).
وكان للبرتغال، مثل مدن قشتالة وأراجون Aragon، تاريخ طويل في الاتصال بالعالم غير الأوروبي، وحتى أعادت البرتغال احتلال الجرف Algarve (جنوب البرتغال) في العام 1249م كانت منطقة جنوبي البرتغالي جزءًا من عالم شمال إفريقيا الإسلامي، ومِن ثَم فقد استمر وجود السكان المسلمون واليهود في الجنوب في ظل السيادة المسيحية.
كما استمرت الصلات التجارية مع شمال إفريقيا، وشارك الجنود البرتغاليون في الكثير من الحروب على أرض المغرب، واستمرت البرتغال موقعًا للتفاعلات المسيحية والإسلامية واليهودية المستمرة، كما ازداد ثراء الدولة بفضل استمرار تجارة العبيد؛ حيث كان البرتغاليون يحصلون على العبيد من شمال إفريقيا المسلمة، ثم بدأت البرتغال منذ القرن الرابع عشر في تنظيم غارات منتظمة على جزر الكناري لأَسْر العبيد، ومن بينهم الجوانشيين Guanches (وهم سكان جزر الكناري الأصليين)؛ فيما كان البرتغاليون أنفسهم يتعرضون لحملات استرقاق لنقلهم إلى أسواق شمال إفريقيا خلال غارات المغاربة على السواحل الجنوبية البرتغالية.
وهكذا فإنه بينما استمر تفاعل البرتغال مع السواحل الشمالية الغربية الإفريقية على المحيط الأطلسي؛ فإنها زادت انخراطها في الصراعات السياسية في شمال أوروبا وتشابكات التوسع التجاري للمدن الإيطالية([2]) في العالم “غير الأوروبي”.
وكما يتضح من تكوين دولة البرتغال أن البرتغاليين شعب صعب المراس، ورجال بَحْر بطبيعتهم، وغزاة في الأصل، وصليبيون بحكم التقاليد والطباع. لكن دون وجود زعيم قويّ في هذه الفترة المبكرة بعد تكوين دولة البرتغال، توقفت الأخيرة نحو قرن على حافة مصيرها الإمبراطوري في إفريقيا وما وراءها؛ وكان الأمير هنري الملاح هو الذي حرَّك جميع القوى النزاعة نحو التوسع في النصف الأول من القرن الخامس عشر.
وإلى جانب الرحالة الأفراد مثل الفلمنكي وليام الروبروكي William of Rubrouck، ومستكشفون إيطاليون بارزون في مقدمتهم ماركو بولو Marco Polo دومنيكو دوريا Domenico Doria (الرحالة وعالم الخرائط البارز الذي اختاره المغول في العام 1285م ليكون سفيرًا لهم في أوروبا([3])) ممن اهتموا باستكشاف المحيطات والدوران حول إفريقيا واستئناف أنشطة اليونانيين القدماء والقرطاجنيين، وحتى قدماء المصريين برحلة الفرعون نخاو الشهيرة([4])؛ فإن استكشاف السواحل المجهولة (من جهة أوروبا الغربية تحديدًا) ظل لقرون حصرًا (أوروبيًّا) على عرقين؛ أولهما: الرحالة الاسكندنافيون الذي وصلوا إلى سواحل روسية بعيدة، وبلغوا جرينلاند وأمريكا أو wineland the Good كما سُمِّيت في ملحمة إريك الأحمر Saga of Red Erik([5]).
والعرق الآخر: العرب والمسلمون الذين ارتبطت رحلاتهم بالحج إلى مكة، وكان المجال أمامهم مفتوحًا للتجول بين دلهي وقرطبة، وخرج من بينهم جغرافيون مثل الإدريسي، ورحالة مثل ابن بطوطة، الذين بذلوا قصارى جهودهم لتوسيع المعرفة بالعالم، ومِن ثَمَّ فإنه ليس منطقيًّا استبعاد تعلم البرتغاليين من العرب شيئًا ما من شغفهم بالاستكشاف وعلومهم البحرية، بل يمكن القول: إن البرتغاليين بدأوا من حيث انتهى العرب بالإعداد للإبحار في “بحر الظلمات الأخضر” green Sea of Darkness، وهو محيط شاسع روَّجت الأساطير الكلاسيكية والقروسطية امتلاءَه بالوحوش والكائنات الخارقة.
عولمة التطورات التقنية البحرية:
عيّن الملك دينيز Diniz أحد قادة البحرية من جنوا، وهو إيمانويل بيزاجنا Emmanuele Pezagna أول قائد بحري لبحريته المؤسَّسة حديثًا، تلاه مجيء بحارة أجانب كثيرين للعمل في البحرية البرتغالية، أو تحت عَلَمها من وقتٍ لآخر، وفي بداية القرن الخامس عشر؛ وكانت علوم الملاحة تشهد في هذه الفترة ومنذ العام 1317م تطورًا هائلًا في المدن الإيطالية، وإن لم تتفوق الخبرة الإيطالية وقتها على الخبرة العملية للبرتغاليين، فيما تفوق اليهود في معرفتهم بعلوم الفلك.
وربط المؤرخ البرتغالي يوحنا الباروسي João de Barros بين كيفية تأمين هنري الملاح لعلماء الخرائط أو الكارتوجرافيين cartographers ومصممي قطع الأدوات البحرية لتعليم رجال بحريته بشكل أعمق.
ولهذا نجد الكثير من البارزين في النشاط البحري في البرتغال في ذلك الوقت يحملون أسماء أجنبية (من البحر المتوسط بشكل لافت)؛ وعلى سبيل المثال: فقد ترك كاداموستو Cadamosto مكتشف جزر كيب فيرد Cape Verde Islands (1456) رصدًا لبعض رحلاته، والذي طُبع للمرة الأولى في العام 1507م. ويذكر فيه أن السفن الشراعية البرتغالية السريعة كانت الأسرع في الملاحة في العالم حينذاك، وحتى من نظيرتها الإيطالية مقارنةً ببقية السفن([6])؛ مما يسر عملية الكشوف الجغرافية البرتغالية على السواحل الإفريقية، ومنها إلى آسيا مع قرب نهاية القرن الخامس عشر.
وإلى جانب هذه العولمة التقنية كانت عملية الكشوف نفسها تعبيرًا واضحًا عن استمرار هذه الحالة بدرجات متفاوتة على الأقل حتى نهاية القرن التاسع عشر. وقد تراكمت الأساطير المتوسطية والغرب أوروبية بخصوص المحيط الأطلنطي وما وراءه؛ كما استُخدمت أسماء عديدة للتعبير عن فكرة وجود فردوس أرضي في مكان ما في “البحار الغربية” مثل أتلانتيس لدى أفلاطون، وبيميني Bimini التي يوجد بها ينبوع الشباب الدائم؛ وجزر المدن السبعة، التي أقامها سبعة أساقفة برتغاليون فرُّوا خوفًا من المغاربة Moors، وأفالون Avalon؛ حيث رقد الملك آرثر رقدته الأخيرة، وغير ذلك.
كما أسهم التراكم المعرفي في استباق الكشوف الجغرافية وتعزيز خطواته، ومن ذلك أنه في العام 1474م نصحت خطابات توسكانيللي Toscanelli (إن كانت أصيلة كمصدر) كريستوفر كولومبوس بأن يتخذ من أنتيليا Antillia (وهي جزيرة في المحيط الأطلنطي تقع قرب غرب إسبانيا والبرتغال، وسقطت في يد البرتغاليين في منتصف القرن الخامس عشر، وسميت بجزيرة المدن السبعة) علامةً لقياس المسافة بين لشبونة وجزيرة سيبانجو Cipangu غير المكتشفة بعدُ (في اليابان أو جاوه Java)، ورغم عدم دقة هذه الفرضية؛ إلا أنها تشير إلى التراكم المعرفي والاستدلال منه بشكل منتظم.
التجارة في خدمة الكشوف الجغرافية:
يرجع للبرتغاليين الفضل في كسر حاجز الخوف من المحيط (الأطلنطي بداية)، ولا شك في مشاركة بعض الرحالة الرواد سواء إيطاليون أو قطاليون Catalan أو إنجليز أو نورمان مع البرتغاليين في هذه التجربة الرائدة من بدايتها، مما أسهم في تعميق زخمها، ومن هؤلاء لانسيلوت مالوسيللو Lancelot Malocello الذي وصل إلى جزر الكناري في العام 1278م، أو مغامرو جنوا الذي أبحروا حتى وصلوا إلى كيب نون Cape Nun قبل العام 1300م. وزار أسطول (أرمادا) لشبونة جزر الكناري في العام 1341م، وبعدها بخمسة أعوام غادرت حملة قطالونية مالوركا Mallorca سعيًا للوصول إلى “نهر الذهب”، وإن لم يُسْمَع عنها شيء بعد خروجها.
وفي العام 1416م حاول طاقم إحدى الرحلات العودة إلى السواحل الأوروبية بعد رحلة فاشلة بقيادة بيدرو موراليس Pedro Morales of Seville غير أن السفن غرقت قبالة “الساحل البربري Barbary Coast، وتم أسر الطاقم حتى تم دفع الفدية لعودتهم في العام نفسه، وخلال العودة إلى الوطن وقع موراليس في يد قائد برتغالي اسمه يوحنا زركو Joao Zarco الذي علم من أسيره كيف تم كشف ماديرا Madiera.
كما بدأت في العام 1402م محاولة لاحتلال الكناري مِن قِبَل رجلين من نورماندي، وهما جان دي بيتنكور Jean de Bethencourt وجادفر دي لا سال Gadifer de la Salle في العام 1402م، لكنَّ سكان الجزر من الجونتشي Guanchi أظهروا مقاومة صارمة لدرجة بقاء بعض أجزاء الأرخبيل غير محتلة عند وفاة بيتنكور في العام 1425م. وهكذا لم ينجز سوى القليل قبل عهد الأمير هنري الملاح مع صعوبة الإقرار بأن تجار روان Rouen (المدينة الفرنسية)، وديبي Dieppe (ميناء بحري على القنال الإنجليزي)، قد افتتحوا التجارة الحقيقية في الذهب والعاج والفلفل الأسود مع ساحل غينيا([7])، قبل إطلاق هنري الملاح أنشطته التي مزجت بين الأهداف “الرسولية” الدينية والاقتصادية بشكل غير قابل للتمييز.
الأمير هنري الملاح: رسول الكشوف الجغرافية الأولى([8])
كان الأمير هنري الملاح (1394 -1460م) هو الشخص الذي قاد الاهتمام البرتغالي الكبير بساحل غينيا، وافتتح الطريق أمام تكوين إمبراطورية برتغالية. وكان الأمير هنري رجلًا نشطًا ومتيقظًا كما يتضح من الألقاب الكثيرة التي حازها مثل السيد الأعظم لنظام المسيح Grand Master of the Order of Christ، ودوق فيزو duke of Vizeu وسيد كوفيلا Lord of Covilha، وحاكم الجرف (جنوبي البرتغال) Governor of the Algarve. كما حقَّق تعليمًا في المجالين الحربي والإداري. وبدأت أنشطته المهمة منذ العام 1415م، وبعد نجاحه اللافت في حصار “سبتة”، وإقامة قداس الميلاد في مسجدها الكبير، في الانطلاق في حركة الكشوف الجغرافية. وكانت “سبتة” التي أطلق عليها جبل طارق الإفريقية African Gibraltar، أول قاعدة حصينة تسقط من المغاربة في أراضيهم؛ وكان الاستيلاء عليها أول خطوة حقيقية في سبيل تأسيس إمبراطورية برتغالية؛ وربما سيطرت رمزية سقوطها على ذهنية هنري الملاح الاستكشافية طوال حياته لاحقًا. والتي كرَّس خلالها مهمة الكشوف البحرية. وقاد هنري من مقرّه في ساجرس Sagres (في أقصى الطرف الجنوبي للبرتغال جهة البحر المتوسط) الحملات البحرية اللاحقة من حيث التمويل والتنظيم للسيطرة على مزيد من الأراضي الإفريقية. وقام بزرع المستعمرات وتأسيس تجارة السكر في ماديرا، وعزَّز الإرساليات المسيحية، وضمن مباركة روما لخطواته، وأشرف على كافة تفاصيل رسم الخرائط.
وكانت شخصيته تحمل بعض التناقض؛ فمن داخله –كما يتضح من أعماله وما ورد على لسانه- روح حالم، وعالم وراهب، بعقل رجل معنيّ بالتجارة والأعمال والمبادرة والإرادة الديناميكية على نحو سيُمَكّنه من ترجمة أحلامه إلى حقيقة. كما كان هنري الملاح في جوهره من دعاة الحملات الدينية Crusader، وجاءت سماته المتبقية جانبية مقارنةً بهذا الجوهر. كما أن فكرة الوصول إلى الهند لم تكن تشغل باله بشكل كليّ مقارنةً بحقيقة استغراقه في رغبته في محاكاة سيده سانت لويس St Loius، بتحطيم ملك الوثنيين وتأمين انتصار الصليب.
هنري الملاح والوصول لمصب “نيل الزنوج”: إفريقيا وروح الحملات الصليبية
كانت التجارة البرتغالية في ساحل إفريقيا الغربي احتكارًا للتاج البرتغالي منذ منتصف القرن الخامس عشر؛ ومن أجل تنظيم هذه التجارة ومنع التهريب أسَّس التاج العديد من الوكالات التجارية، ومن أجل حماية تجارة الذهب المربحة في أرجوين Arguin (جزيرة قبالة سواحل موريتانيا الحالية واقعة داخل خليج أرجوين)، وساو جورجي دا مينا Sao Jorge da Mina (في غانا الحالية، والتي أسَّس بها البرتغاليون على أنقاض ميناء محلي صغير في العام 1482م قلعة عُدَّت الأولى من نوعها التي يقيمها أوروبيون في غرب إفريقيا كمقر دائم لحركة تجارتهم وبالأساس لحماية التجار البرتغاليين من منافسة نظرائهم الأوروبيين في ذلك الوقت)؛ وقام الأمير هنري الملاح (1394 -1460م)، والملك يوحنا الثاني لاحقًا Joao II (1481- 1495م) ببناء وكالات حصينة، بينما كان هناك في إقليم غينيا بيساو وكالة عائمة عند مصب نهر ساو دومينجوس Sao Domingos (1534م).
وكانت هذه الوكالات بالأساس مخازن للسلع الأوروبية التي يتم تبادلها في الأسواق الساحلية الإفريقية، وكذلك للسلع الإفريقية التي يتم تصديرها للأسواق الدولية. وكان على رأس هذه المؤسسات وكيل factor (مخلص) يعينه الملك. وكان يعاونه واحد أو اثنان من المندوبين clerks وأمين خزانة، ودافع للرواتب، وأربعة مساعدين. وكان للوكيل صلاحية التجارة لصالح التاج وربط الدوائر التجارية الأوروبية مع الطرق التجارية الإفريقية، وفحص حمولة السفن عند الوصول والمغادرة والتحكُّم في التجار الأفراد الذين يملكون تراخيص ملكية للعمل داخل منطقة اختصاصه. كما كان لهذا المسؤول صلاحية تنسيق جميع الأنشطة الاقتصادية والمالية والإدارية لصالح التاج، والتي شملت صيانة وإصلاح الأساطيل الملكية المسافرة عبر المحيط الأطلنطي([9]).
وقد جسَّدت الأخبار التي ظهرت أن تعاونه في ذلك كانت غايته تجسيد حدود المعرفة الجغرافية في القرن الخامس عشر. فقد كان من الشائع فكرة أنه ثمة فرع للنيل يتجه غربًا عبر إفريقيا ويصب في المحيط الأطلنطي. وأنه في مكان ما عند منابع هذا النهر العظيم -سواء إثيوبيا أو ربما في الهند- يقع ملك الكاهن يوحنا Prester John والذي أثار اسمه، منذ القرن الثاني عشر، أمل الممالك المسيحية في التعرف على بطلٍ تمكَّن مِن وَقْف تقدُّم وانتشار الإسلام.
وفي العام 1165م ذاع صيت خطاب ادُّعِيَ وقتها أنه جاء من الكاهن يوحنا نفسه مُوجَّه إلى الإمبراطور إيمانويل كومنينوس Emanuel Comnenus في القسطنطينية. وادعى الكاهن يوحنا أنه أعظم ملوك الأرض قاطبة وأكثر أرثوذوكسية بين جميع المسيحيين، وأنه يتبعه 72 ملكًا، وأن بلاده تضم جميع أنواع التنانين والوحوش، والأسماك، والنمل العملاق الذي ينحت في الذهب.
وفي هذه المملكة لا توجد جريمة، وأنه يضع عند مدخل قصره مرآة سحرية يمكنها استكشاف جميع أركان مُلكه، وتحديد المؤامرات التي تحيط به. وشمل الخطاب أساطير كثيرة من هذا القبيل مثل ذكريات ملوك الشرق وشائعات النساطرة Nestorians في الشرق الأقصى وعن الأحباش.
وكان هنري الملاح مُولعًا بصورة الكاهن يوحنا، ووضع خططه لهدف رئيس، وهو إنقاذ العالم المسيحي؛ فوفقًا للمعرفة الجغرافية في وقتها؛ سعى هنري الملاح وبني عصره للوصول إلى المصب الغربي للنيل، ووجوب توجُّه فرسان البرتغال في النهر حتى إمبراطورية الكاهن يوحنا.
وبعدها فإنَّ على الحلفاء في البرتغال وإثيوبيا العمل معًا لتطويق بلاد الإسلام، وإنقاذ الأماكن المقدسة، وتدمير الأتراك، وصرف الكارثة التي كانت تحيط في ذلك الوقت بالإمبراطورية البيزنطية.
وقد سجَّل أزورارا Azurara كيف تم الكشف المفترض عن النيل الغربي أو نيل الزنوج مِن قِبَل لانساروت Lancarote وأسطوله المكون من ست سفن شراعية سريعة في العام 1445م. وكانوا يسيرون بمحاذاة ساحل غينيا وقربه، ويترقبون رؤية نخلتين عظيمتين اعتبرهما الرحالة المبكر دينيز دياز Diniz Dias علامة بالغة الأهمية (لمعرفة مصب النهر الغربي بمراقبة نوعية المياه) وما ورد لديه عن هذه المنطقة، “وعلى وجه التأكيد يقولون: إننا نقترب من نهر النيل؛ لأن مياهه تشبه كثيرًا مياه النيل”.
ما بعد هنري الملاح: الكشوف الجغرافية جنوب خط الاستواء
تُوفِّي الأمير هنري الملاح في العام 1460م، وتولى بعده الملك أفونسو الخامس Affonso V الذي حمل لقب الإفريقي؛ لأنه “حام حول إفريقيا كأسد جائع يزأر حول بعض guarded fold”. واستأجر أفونسو تجارة غينيا لمدة خمسة أعوام لفيرناو جوميز Fernao Gomes، وكان الايجار السنوي على وجه الدقة 500 كروزادوس cruzados، مع وضع شرط استكشاف “مائة فرسخ” من الساحل (حوالي 300 كم) كل عام، أو خمسمائة فرسخ عن الفترة بأكملها، والتي تقرر أن تنتهي في العام 1475م. وكانت السفن التي أطلقها جوميز قد توصَّلت للمرة الأولى للدوران حول كيب بالماس Cape Palmas (في سواحل ليبيريا الحالية)؛ حيث توجهت شرقًا إلى ساحل العاج وساحل الذهب؛ وقبل وفاة الملك في العام 1481م مر رعاياه عبر دلتا النيجر، ووصلوا إلى كيب كاثرين (2 درجة جنوب خط الاستواء)، وهكذا فإنهم اجتازوا مجمل خليج غينيا([10]).
وكان وصول الملك يوحنا الثاني للحكم في البرتغال دافعًا كبيرًا لتغيير سياسات بلاده في الكشوف الجغرافية في إفريقيا (وما وراءها)، وإلى جانب استمرار العائدات التي كان يتحصل عليها خلال توليه ولاية العهد، والمشتقة من الرحلات التجارية السنوية؛ فإن الملك صمَّم على تأسيس إمبراطورية مسيحية داخل غرب إفريقيا؛ وفي العام 1481م فرض على ديوجو دأزامبوجا Diogo d’Azambuja، وهو أحد أوثق ملاحيه، مهمة تشكيل أول مستوطنة دائمة. واصطحب الأخير اثنين من الضباط صغار السن كانت شهرتهما قد فاقت شهرته في ذلك الوقت، وهما بارتولوميو دياز Bartholomeu Dias وكريستوفر كولومبوس Christopher Colombus. وبنى قلعة ساو جورجي دا مينا Sao Jorge da Mina (التي عُرفت بسان جورج المنجم St. George of the Mine”؛ لأنها عُرفت بغناها بالموارد المعدنية القادمة من ساحل الذهب).
وسرعان ما حصلت القلعة على مكانة المدينة وامتيازاتها. وبُنيت بها كنيسة “غنت فيها الجموع يوميًّا لروح الأمير هنري الملاح”، ومكَّن ميناؤها المستكشفين لاحقًا من التوقف عنده لاستكمال مسيرتهم إلى المناطق الجنوبية من القارة، أو التي لم تكن معروفة حتى ذلك الوقت.
وكلّف أحد كبار البلاط الملكي وقتها وهو ديوجو كاو في العام نفسه بمهمة القيام برحلة لاستكشاف ما وراء كيب كاثرين، أي النقطة الجنوبية الأقصى التي توصَّل لها البرتغاليون حتى ذلك الوقت. وفي منتصف صيف العام 1482م تقريبًا أبحر “كاو” من لشبونة([11]) ليدشّن مرحلة جديدة نحو الدوران حول رأس الرجاء الصالح في الطرف الجنوبي من القارة الإفريقية.
…………………………………………………………….
[1] Fernandes, Fátima Regina, Nobles and the Crown on the Eve of Portugal’s Atlantic Discoveries, Mediterranean Studies, 2000, Vol. 9 (2000), p. 35.
[2] Newitt, Malyn (editor) The Portuguese in West Africa, 1415-1670″ A Documentary History, Cambridge University Press, Cambridge, 2010, pp. 3-4.
[3] Domenico Doria Italian cartographer, https://www.britannica.com/biography/Domenico-Doria
[4] Beazley, C. Raymond, Prince Henry the Navigator: The Hero of Portugal and of Modern Discovery 1394-1460 A. D. (with an Account of Geographical Progress Throughout the Middle Ages as the Preparation for His Work), G. P. Putnam’s Sons, New York, 1894, p. 76.
[5]– واحدة من ملحمتين أيسلنديتين شهيرتين، يكوّنا ما عُرفت باسم ملحمتا فينالاند Vínlandingasögur عن قصة كشف النرويجيين Norse لأمريكا الشمالية. وظلت هذه الملاحم (الغنية برصد التقاليد) قائمة بفضل الرواية الشفهية طوال قرون عديدة قبل تدوينها في القرن الثالث عشر:
- Embleton, Matthew Leigh, The Saga of Erik the Red (Eiríks Saga Rauða): Norse Text, Translation, and Word List, 2021.
[6] Jayne, K. G, Vasco da Gama and His Successors, 1460-1580, Methuen & Co. Ltd. London, 1997. P. 15.
[7] Jayne, K. G, Vasco da Gama and His Successors, 1460-1580, Methuen & Co. Ltd. London, 1997. pp. 1-23.
[8] Jayne, K. G, Vasco da Gama and His Successors, 1460-1580, Methuen & Co. Ltd. London, 1997. pp. 1-23.
[9] da Silva, Filipa Ribeiro, Dutch and Portuguese in Western Africa: Empires, Merchants and the Atlantic System, 1580–1674, Brill, Leiden, 2011, Pp. 82-3.
[10] Jayne, K. G, Vasco da Gama and His Successors, 1460-1580, Methuen & Co. Ltd. London, 1997. P. 24.
[11] Jayne, K. G, Vasco da Gama and His Successors, 1460-1580, Methuen & Co. Ltd. London, 1997. pp. 24-5.