تجددت منتصف العام الجاري تحذيرات مؤسسات مالية مهمة في العالم، ومن بينها بنك التنمية الإفريقي، من تجدد أزمة الديون الإفريقية في العقد المقبل على نحو يذكر مجددًا بأزمة مماثلة شهدتها القارة في عقد ثمانينيات القرن الماضي وقادت إلى موجة كاسحة من التحول الديمقراطي وبرامج الإصلاح الهيكلي التي رسمها صندوق النقد الدولي وعمقت في أغلب الحالات من أزمات الاقتصادات الإفريقية وتداعياتها السلبية على المواطنين دون تقديم نموذج تنموي سليم يلائم بنى هذه الاقتصادات في المقام الأول.
وتكشف المتابعات الجارية عن وقوع أغلب دول القارة في “فخ الديون”، مع ملاحظة اقتطاع القطاع الخاص لنسبة تقترب من نصف ديون القارة (تقدمتها مؤسسات مقرضة خاصة من الصين، والمملكة المتحدة، والإمارات، وفرنسا، والولايات المتحدة، وإسرائيل على الترتيب، بعد حصة كبيرة لحملة السندات)، الأمر الذي يؤشر إلى سبب رئيس لاضطراب سياسات الدول الإفريقية على كافة المستويات وبشكل متناقض في حالات كثيرة.
يتناول المقال الأول الدور المفترض في الاتحاد الإفريقي بصفته عضوًا في مجموعة العشرين لمعالجة أزمة الديون الإفريقية بقدر من الواقعية والقدرة على إقناع دول المجموعة بأهمية المضي قدمًا في مواجهة تلك الأزمة. أما المقال الثاني فيتناول أزمة الديون من جهة توجه الدول الغنية لاعتماد سياسات الإقراض بدلًا من المنح والمساعدات مما يفاقم من خطورة تلك الأزمة ويثير تساؤلات حول قدرة الدول الإفريقية على التغلب على عواقب الاستدانة التي تضرب مشروعات التنمية الوطنية في عمق أسسها وتحول دون تحقيق معدلات مرجوة -في الحدود الدنيا- لهذه التنمية لصالح تغذية مستحقات الديون على تلك الدول للدائنين الدوليين والأفراد. ويتناول المقال الثالث طرح بنك التنمية الإفريقي حلولًا لمواجهة الأزمة.
الاتحاد الإفريقي وأطر الإعفاء من الديون بقمة العشرين([1]):
بات الاتحاد الإفريقي عضوًا كامل العضوية في مجموعة العشرين في سبتمبر 2023، وهي خطوة هامة في تمثيل 1.5 بليون إفريقي. ومن أجل تفعيل هذه العضوية والاتساق مع برنامج التنمية الإفريقي المعروف بأجندة 2063 فإنه على الاتحاد الإفريقي استخدام تأثيره لتعزيز استدامة ديون إفريقيا.
ويمثل الدين تحديًا كبيرًا لإفريقيا. فهناك راهنًا 23 دولة إفريقية تعاني من أزمة مالية، وثلاثًا تعثرت في دفع ديونها. وعندما تتعثر دولة ما فإن العواقب تكون وخيمة وبعيدة المدى. وقد حاولت اجتماعات عديدة، منذ تفشي جائحة كوفيد- 19، معالجة مشكلة تسديد الديون في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط ولاسيما في إفريقيا من مثل قمة باريس للتمويل (يونيو 2023)، ومؤتمر التغير المناخي كوب28 (ديسمبر 2023) واجتماع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي (أبريل 2024).
وقد كان الإطار المشترك لمواجهة الديون Common Framework for Debt Treatment المعروف بالإطار المشترك لمجموعة العشرين في قلب هذه الجهود. وكان هذا الإطار، الذي تكون في العام 2020، مؤسسًا على نمط نادي باريس (كمجموعة غير رسمية من الدول الدائنة في العام 1956). ويهدف نادي باريس إلى التوصل لحلول مستدامة لصعوبات تسديد الدول المدينة المستحقات المالية عليها للدول الدائنة. وقام النادي بإعادة هيكلة الديون للعديد من الدول على مدار السنوات السابقة.
وسعى “الإطار المشترك” مبدئيًا لتيسير الإعفاء من الديون المعاد هيكلتها، وضمان أن الدول المؤهلة “لمبادرة تعليق خدمات الديون” Debt Service Suspension Initiative (DSSI) بمقدورها إدارة ديونها وتسديدها. وعلقت المبادرة، التي أطلقت في العام 2020، مؤقتًا مدفوعات خدمة الدين للدول الفقيرة من أجل مساعدتها لإدارة الأثر الاقتصادي للجائحة. وعندما انتهت مدة المبادرة في العام 2021 باتت تلك الدول معتمدة على “الإطار المشترك” للحصول على الدعم. وقد طلبت كل من إثيوبيا وتشاد وزامبيا الإعفاء من الديون بمقتضى “الإطار المشترك” في مطلع العام 2021. وتوصلت إثيوبيا إلى اتفاق تعليق مدفوعات ديون مؤقت مع أطراف ثنائية مثل الصين، لكن مفاوضاتها لا تزال جارية. وتوصلت تشاد إلى ترتيب أولي في نهاية العام 2022. وفي مارس 2024 أصبحت زامبيا أول دول تستكمل مشروع إعادة هيكلة ديونها بمقتضى ترتيبات مجموعة العشرون (لاسيما بناء إصلاح الديون G20’s debt-rework architecture ). وفي يناير 2023 أصبحت غانا رابع دولة تسعى للمعاملة وفق “الإطار المشترك”. وفي يناير من العام الجاري حققت تقدمًا كبيرًا بالتوصل إلى اتفاق مبدئي مع الدائنين الرسميين لإعادة هيكلة 5.4 بليون دولار من ديونها.
بأي حال فإن “للإطار المشترك” أوجه قصور متعددة. فثمة عقبات بيروقراطية وتأخيرات فاقمت من أضرار التحديات الاقتصادية للدول التي كانت تحتاج لمميزاته. وقد استغرقت عملية زامبيا ثلاثة أعوام مما ألحق ضررًا كان يسهل تجنبه لاقتصادها. وتواجه الحكومات الإفريقية حاليًا عبء كبير إذ تدفع فائدة مضاعفة بنسبة 500% على ديون سوق رأس المال مما كانت لتدفعها إذا طبق قادة مجموعة العشرون الإصلاحات المالية (في وقت مناسب للدول الإفريقية والنامية).
كما يفتقر “الإطار المشترك” لآليات تنفيذ قوية أو حوافز للدائنين في المشاركة، لأنه آلية طوعية وغير ملزمة. وينتج عن ذلك عدم استمرارية التطبيق ومحدودية الأثر. ومما فاقم من المشكلة عدم كفاية الإجراءات الشاملة لمواجهة قضايا في الدول المقترضة وتشمل تلك القضايا فقر الشفافية المالية وضعف الحوكمة والتي تحجم من فعالية جهود الإعفاء من الديون.
ويركز “الإطار المشترك” بالأساس على الدانين الثنائيين الرسميين ولا يطلب من الدائنين الأفراد (من غير الدول) المشاركة. ورغم أنه يشجع مقاربة مماثلة من قبل الأطراف الأخيرة فإن مشاركتهم طوعية وليست إلزامية. وهو الأمر الذي يجعل من إعادة هيكلة الديون الشاملة مسألة صعبة ولاسيما في إفريقيا حيث يملط الدائنون الأفراد/ القطاع الخاص نحو 43% من ديون القارة الخارجية.
أفريقيا تواجه أزمة ديون مع لجوء المانحون للإقراض([2]):
بدأت الدول الثرية والمنظمات الدولية التي كانت تقدم في السابق منحًا لإفريقيا كمساعدات تنموية رسمية Official Development Assistance (ODA) في اللجوء للإقراض كبديل لهذا المسار، مما فاقم من تردي أزمة الديون التي تواجهها الدول الإفريقية، حسبما أظهر تقرير جديد. وحسب التقرير، الذي نشره “مؤتمر الأمم المتحدة حول التجارة والتنمية” United Nations Conference on Trade and Development (Unctad) بعنوان “عالم من الديون” A World of Debt، فإن المساعدات التنموية الرسمية التي قدمت في شكل ديون بدلًا من منح قد ارتفعت بنسبة 6% منذ العام 2012.
وقد دفع هذا التوجه الدول التي طالما اعتمدت على المساعدات إلى أزمة ديو، مع إنفاق عدد أكبر من الدول في القارة الآن مزيد من المال على مدفوعات الفوائد المستحقة على ديونها بدلًا من الانفاق على قطاعات حيوية مثل الصحة أو التعليم. “ويضيف تدهور إجمالي المعونات، وزيادة استخدام القروض، والخفض الحاد في موارد سداد الديون ضغوطًا مزيدة على الدول النامية التي تثقلها الديون.”. حسبما قالت الهيئة التابعة للأمم المتحدة في تقريرها المنشور في الأسبوع الأول من يونيو. وحسب التقرير فإنه يقدر راهنًا أن 34%، أو ثلث، مما يأتي لإفريقيا في شكل مساعدات تنموية رسمية تمثلت في قروضًا تفضيلية وليست منحًا كما كان الأمر في السابق. وفي العام 2012 كانت تلك النسبة 28% مؤشرًا إلى أن المانحين يلجؤون بشكل متزايد للإقراض بدلًا من المنح.
وأضاف التقرير إلى حقيقة أن العالم النامي يعاني من ارتفاع مدفوعات فوائد الديون بشكل كبير على قروضه السيادية، مما أسهم في تعميق أزمة ديون تؤثر على أغلب دول القارة حاليًا. ووفقًا لتقرير يونكتاد فإن الديون العالمية ارتفعت بشكل كبير طوال العقد الماضي من 50 تريليون دولار في العام 2010 إلى أكثر من 97 تريليون دولار في العام 2023، بينما ارتفع معدل نمو تلك الديون في الدول النامية بمعدل ضعفي (المعدل العالمي). وعلى سبيل المثال فإن الديون الإفريقية نمت من متوسط 30% نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي في العام 2010 إلى أكثر من 60% حاليًا، فيما تبلغ نسبة الديون إلى الناتج المحلي الإجمالي في الدول المتقدمة إلى أقل من 40%.
وفي الوقت نفسه فإن أعباء خدمة الديون ارتفعت بشدة على مدار العقد الماضي، وأثرت بشكل كبير على الدول النامية، فيما تدفع إفريقيا الآن 9.8 ضعفًا فائدة أكبر على سنداتها السيادية مقارنة بالدول المتقدمة مثل ألمانيا على سبيل المثال. “إن تكاليف الاقتراض المرتفعة تزيد من الموارد المطلوبة للتسديد للمقرضين، مما يجعل من الصعوبة بمكان لدى الدول النامية في تمويل الاستثمارات” حسب التقرير.
ووفقًا للتقرير فإن تكلفة خدمة الديون المرتفعة لإفريقيا تؤثر على المواطنين والدول في تحويل مواردهم من قطاعات هامة مثل الصحة والتعليم لدفع ديونهم. وفي العام الماضي كانت هناك 54 دولة في أرجاء الكرة الأرضية خصصت ما لا يقل عن 10% من عائداتها الحكومية لبند تسديد مدفوعات الديون وحده. وكان نصف عدد هذه الدول في إفريقيا وحدها. وتظهر بيانات يونكتاد أنه فيما تنفق الدول في القارة الآن متوسط 39 دولار على الصحة و60 دولار على التعليم لكل مواطن، وتنفق 70 دولار لكل فرد نصيبًا له في مدفوعات الفوائد سنويًا. ومقارنة بذلك فإن دول أمريكا اللاتينية تنفق 323 دولارًا على كل مواطن في الرعاية الصحية، و364 دولارًا في التعليم، و280 دولارًا في مدفوعات فوائد الديون. وبناء على ذلك فإن 768 مليون أفريقي، أو أكثر من نصف سكان القارة، يعيشون في دول تنفق على سداد فوائد الديون أكثر مما تنفق على الرعاية الصحية.
بنك التنمية الإفريقي يطالب بـ 25 بليون دولار وشروط أفضل لتفادي “عقد ضائع”([3]):
إفريقيا تحتاج لعمليات إعادة هيكلة ديون عاجلة وشروط إقراض أكثر تفضيلًا وحوالي 25 بليون دولار تخصص لندوق التنمية الإفريقي من أجل تفادي وقوع عقد ضائع حسب تأكيد رئيس بنك التنمية الأفريقي. فقد عانت القارة من “كوفيد مالي طويل” وأن العالم لم يكن يقوم بما فيه الكفاية لمساعدة القارة في الانتقال من السنوات الماضية التي عانت فيها من جائحة كوفيد وارتفاعات معدل الفائدة العالمي والتي دفعت العديد من الدول إلى مرحلة التأخر في السداد، حسب تصريحات أكين أديسينا Akin Adesina.
“يجب على إطار العمل المشترك لمجموعة العشرين G20 Common Framework، وهو مسار ثنائي ومتعدد الأطراف للقيام بعمليات إعادة هيكلة الديون، أن يعمل بشكل أسرع من أجل إفريقيا. حسبما صرح أديسينا في كلمة له في شاتام هاوس Chatham House في لندن (7 يونيو) مضيفًا “لا يمكننا المجازفة بوقوع عقد ضائع”. كما دعا اديسينا لضخ 25 بليون دولار في صندوق التنمية الإفريقية، وهو ذراع لبنك التنمية الإفريقي الذي يقرض الدول الهشة. وكان آخر مبلغ تمت إعادة ضخه في الصندوق بلغت 8.9 بليون دولار للفترة 2023- 2025 (دورة التمويل) وهي الدفعة الأكبر في تاريخ الصندوق.
وباتت زامبيا أول دولة تنتهي من تجديد (الإعفاء من) الديون debt rework وفق الإطار المشترك Common Framework- وهو الصيغة التي تم تطويرها من قبل مجموعة العشرون لمساعدة الدول الفقيرة لإعادة التفاوض حول الديون غير المستدامة مع جميع المقرضين- بمن فيهم الصين، والتي وسعت بشكل كبير من قروضها للعالم النامي في العقد الماضي. لكن عملية زامبيا استغرقت قرابة أربعة أعوام مؤلمة والتي أكد قادتها وآخرون أنها فترة أطول من اللازم. كما تواجه غانا وإثيوبيا تعثرًا وقال أديسينا أن 22 دولة إفريقية تعاني من مخاطر مرتفعة من أزمة ديون، وتوقعات بأن تبلغ مدفوعات خدمة الديون حاجز 74 بليون دولار هذا العام مقارنة بـ 17 بليون دولار في العام 2010.
“ويرجع ذلك إلى تدهور التمويل التفضيلي”، مضيفًا أنه لا يمكن القيام بتنمية بمعدلات تجارية. وأكد “علينا التأكد من تقديم النظام التمويلي العالمي المزيد لإفريقيا لتفادي الاختلافات الاقتصادية التي على وشك التحقق بسبب بطء التعافي الاقتصادي في إفريقيا من كوفيد. وأخبر أديسينا رويترز لاحقًا أن “إطار العمل المشترك” بحاجة إلى أن يتضمن نصوصًا أسرع للالتزامات الائتمان، كما قال أن نادي باريس -مجموعة تقليدية تضم في أغلبها الحكومات المقرضة الغربية- بحاجة إلى توسع دائم. لافتًا إلى أن نادي باريس “كان مكونًا من دول تمنح قروضًا تفضيلية تماما. لكن العالم تغير”، مضيفًا أن توسعه كان هامًا “لأنه سيتيح لكم الوصول لحوار وقرارات أسرع”. وفي العام 2010 كان 57% من ديون إفريقيا من تمويل تفضيلي، والآن لا تتجاوز النسبة 25% بينما ارتفعت نسبة القروض من مقرضين تجاريين آخرين إلى 55% بعدما كانت في حدود 17%.
………………………………..
[1] Jana de Kluiver, Debt relief frameworks should be African Union’s critical focus at G20 Daily Maverick, June 5, 2024 https://issafrica.org/iss-today/debt-relief-should-be-the-african-union-s-focus-at-the-g20
[2] Vincent Owino, Africa in debt crisis as donors resort to lending, The East African, June 9, 2024 https://www.msn.com/en-xl/africa/top-stories/africa-in-debt-crisis-as-donors-resort-to-lending/ar-BB1nUl1b?ocid=BingNewsSearch
[3] Africa development bank calls for $25 bln and better terms to avoid ‘lost decade’, Ghana News Agency (GNA), June 10, 2024 https://www.msn.com/en-xl/africa/ghana/africa-development-bank-calls-for-25-bln-and-better-terms-to-avoid-lost-decade/ar-BB1nWEfo?ocid=BingNewsSearch