لم تكن تقييمات وكالات التصنيف الائتماني في الأساس سوى رأْيٍ في القدرة المستقبلية والالتزام القانوني، ورغبة مُصدر السندات أو غيره من المدينين في سداد المدفوعات والفائدة المستحقة في الوقت المناسب للمستثمرين(1).
ولذا تنبّه الوكالات مستخدمي تصنيفها وجمهورها إلى أنَّ تقديراتها وتقييماتها مجرد آراء فقط، بل وتشير مؤسسة “ستاندرد آند بورز” إلى أنه “لا ينبغي النظر إليها على أنها ضمانات لجودة الائتمان أو مقاييس دقيقة لاحتمالية التخلف عن السداد”، الأمر الذي جعل المؤسسة تنصح مستخدمي تصنيفاتها باعتبارها كتعليق فقط على المستويات النسبية لمخاطر الائتمان(2).
وفي عبارة “جون ستوري”؛ فإن دور وكالة التصنيف “هو التمييز بشكل مستقل بين جودة الائتمان في جميع قطاعات الصناعة وأدوات الاستثمار، بهدف تزويد المستثمرين بالمعلومات التي تستند إليها قرارات الاستثمار والتسعير المناسبة. ما يعني أن هذا التصنيف يوفِّر قياسًا مستقلاً ومعترفًا به دوليًّا لإبراز القوة المالية للمؤسسة أو الدولة(3)”.
وعلى ما سبق، يمكن للتقييم الإيجابي أن يؤثِّر بشكل فوري في اقتصاد أيّ دولة، وزيادة عدد المستثمرين فيها، ويؤدِّي إلى تسهيل الوصول المباشر إلى أسواق رأس المال، وخفض تكاليف التمويل، وإطالة مدة الديون(4).
وقد دفعت الاحتياجات التنموية والمالية -بما في ذلك سوء تحصيل الإيرادات- حكومات إفريقيا إلى تبنِّي استراتيجية إصدار السندات السياديَّة في الأسواق الماليَّة الدوليَّة لدعم ميزانياتها.
ولكنَّ حكومات هذه الدول في مسعاها السابق بحاجة إلى تصنيف ائتماني سياديّ من إحدى وكالات التصنيف الائتماني الدولية التي تهيمن عليها كلٌّ من: “ستاندرد آند بورز” (Standard & Poor’s)، موديز (Moody’s ) وفيتش (Fitch)(5).
وقد ارتفعت نسبة الدول الإفريقية التي تسعى إلى الحصول على تصنيف ائتماني سيادي من بلد إفريقي واحد في عام 1994م، إلى 31 دولة في عام 2018م؛ إلا أنَّ وكالات التصنيف الائتماني لا تمنحها تصنيفات سيادية إيجابيَّة رغم ارتفاع مستويات نموِّها بشكل استثنائي، وتقدم عائدات السندات التي أصدرتها العديد من هذه الدول مقارنة بالموجودة في الأسواق المتقدِّمة(6).
من جانب آخر؛ يُنْظَر إلى هذه الوكالات على أنها قويَّة لدرجة أنها في إفريقيا و”البلدان النامية” غالبًا ما تعمل بدون مساءلة أو مراقبة. وتَعْنِي التصنيفات الائتمانية المنخفضة للدول الإفريقية أنه يَتعيَّن على هذه الدول الاقتراض بتكاليف أعلى؛ لأن الممولين يعتقدون -على أساس التصنيفات المنخفضة- أنهم مُعَرَّضُون لخطر تخلُّف هذه الدول عن سداد ديونهم.
وكما كتب “مشيك موتيزي” من جامعة كيب تاون: تُفرِّط هذه الوكالات أيضًا في منهجيات تصنيفها الائتماني بالتأكيد على المخاطر السياسية في معايير التصنيف؛ “إذ المكوِّنات السياسية تُشَكِّل حوالي 50٪ من التصنيف المركب. وتساهم المكونات المالية والاقتصادية وغيرها في حوالي 50٪ المتبقية. وفي حين يتم الحكم على العوامل النوعية على أُسُس أيديولوجية مِن قِبَل مُحَلِّلي الائتمان، إلا أن نظرتهم إلى المؤسسات السياسية في إفريقيا سلبيَّة بشكل عام”(7).
ويُذْكَر أن وزير المالية السابق في جنوب إفريقيا، “برافين غوردان” سبق أن انتقد وكالات التصنيف الدولية – بما فيها “موديز” وفيتش”– لتقييمها وتحليلها الضعيف(8). كما أشار الاقتصادي العالمي “جاغديش باغواتي” -وهو أستاذ الاقتصاد بجامعة كولومبيا- إلى أنه لا يرى أيّ أهمية لوكالات التصنيف؛ لأنهم –أي: وكالات التصنيف- كنُقّاد المطاعم الذين يقولون بأن الطعام جيد أو سيئ، وليسوا خبراء أو مسؤولين عن أيِّ شيء في المطاعم”(9). وخاصةً أنَّ أوجه قصور هذه الوكالات ظهرت للعلن عندما فشلت في التنبؤ بالأزمة المالية للاتحاد الأوروبي عامي 2007/2008م.
وكالات التصنيف الائتماني الدولية والدول الإفريقية
يرى عدد من مسؤولي الحكومات الإفريقية أن هناك تحيزًا مِن قِبَل وكالات التصنيف الائتماني الرئيسية، وأبدتْ كل من زامبيا وناميبيا ونيجيريا وتنزانيا -وغيرها من الدول حول العالم- استياءها تجاه تقييمات هذه الوكالات؛ ذلك لأنّ الوكالات -خارج الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي- لا تخضع لأيِّ نظام عالمي أو هيئة حكم دولية. ما يعني أن سوء تصرُّفها وطرق تقييمها لا يخضعان لأي مراقبة حقيقية(10).
ويعضِّد هذا الاستياء ما أظهره استطلاع رأي حديث أجرته مؤسسة “غلوب آند ميل” ومعهد “CFA” في كندا(11) أن 71٪ من المستجيبين يرون أن وكالات التصنيف الائتماني الرئيسية – Moody’s Investors Service و Standard & Poor’s و Fitch Ratings و DBRS – ساهمت في الأزمة المالية العالمية.
وتركَّزت إجابات المشاركين في الاستطلاع حول مصداقية تصنيفات الديون التي تقدِّمها الوكالات؛ حيث قال 2% فقط: إنها “موثوقة للغاية”، بينما أجاب 85% بأنه يجب على هذه الوكالات أن تكشف عن عملياتها للتقييم، وتفاصيل عن كل تصنيف فردي، وأيَّد 70% إنشاء هيئة للرقابة أو منظمة للتنظيم الذاتي لهذه الصناعة؛ وقال 58٪: إنه يجب على المستثمرين أن يدفعوا لوكالات التصنيف الائتماني لإجراء التقييم (بدلاً من الاعتماد على نموذج الدفْع مِن قِبَل المُصدِّر والذي يهيمن حاليًا على الصناعة)؛ بينما ذهب 57% إلى ضرورة إنشاء فِرَق عمل للتحقيق في أنشطة وكالات الائتمان(12).
وإذ يعتمد المستثمرون الأجانب على آراء وتحليلات وكالات التصنيف الائتماني حول إمكانات الاستثمار في بلد معين؛ فإن حقيقة هذه التقييمات أنها لا تُحقِّق العدالة لإفريقيا –لعدم دقَّة تحليلها. كما أنها في الغالب لا تكاد تميز بين البلدان الإفريقية وقدرتها على سداد ديونها– باستثناء دولة بوتسوانا التي بفضل احتياطيات النقد الأجنبي التي تبلغ قيمتها 7 مليارات دولار تقريبًا، كانت تتمتع دائمًا بأعلى تصنيف ائتماني سيادي في إفريقيا، والذي يعادل أحيانًا تصنيف اليابان.
نحو قوانين لتنظيم وكالات التصنيف الائتماني في إفريقيا
لقد عملت وكالات التصنيف الدوليَّة دون لوائح تنظيمَّية رغم الحاجة المُلِحَّة إليها، باستثناء ما قام به الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بعد أزمة 2008م؛ حيث قدَّم الاتحاد الأوروبي لوائح وتوجيهات لإدارة مثل هذه الوكالات بشكل أكثر إحكامًا(13). وفي الولايات المتحدة تمَّ توسيع سلطة قانون “دود-فرانك”، وحماية المستهلك لعام 2010م لتنظيم لجنة تبادل الأوراق المالية(14) ؛ ليشمل الكشف الكامل عن منهجيات وكالات التصنيف الائتماني.
وتُعَدُّ جنوب إفريقيا الدولة الوحيدة في إفريقيا التي تتمتع بقوانين مماثلة لتنظيم الوكالات؛ حتى وإن كانت هذه القوانين ضعيفة في فاعليتها. وفي باقي دول القارة لا توجد قوانين لمحاسبة عمليات وكالات التصنيف الائتماني. ولا يوجد أيضًا تنسيق مركزي لأنشطة هذه الصناعة داخل كل بلد إفريقي. ويرجع السبب –كما يقول “مشيك موتيزي”- إلى عدم وجود مؤسسة مسؤولة عن إدارة لوائحها، أو إدارة أنشطتها في كلِّ هذه الدول.
وبالتالي؛ يتطلب الحل أن يُطلق الاتحاد الإفريقي قوانين موحَّدة ولوائح خاصة بالدول الأعضاء لتنظيم وكالات التصنيف الائتماني، والعمل معها في إصدار تقييماتها، وذلك بالاستفادة من اللوائح التي أطلقها الاتحاد الأوروبي، والإجراءات التي تتَّخذها كلٌّ من الصين والهند والبرازيل، لتقييد وكالات التصنيف.
ويُضاف إلى ما سبق أنه يجب على حكومات البلدان الإفريقية أن تُجْرِي إصلاحات هيكلية لتَحُدَّ من الخطر التي قد تدخل فيها اقتصاداتها، والاهتمام بالتجارة البينية مع نظيراتها داخل القارة بدلاً من الاستيراد من الخارج، وإدارة الأوضاع المالية بشكل أفضل مع الحذر وقت الاقتراض. كما يجب عليهم التعامل بشكل أكثر فاعلية مع الفساد وعمليات الإعادة الضريبية – لتحرير رأس المال الإفريقي، وتقليل الحاجة إلى الاقتراض(15).
ويذهب “وليام غوميدي” -رئيس مؤسسة أعمال الديمقراطية- إلى أنه على المدى الطويل، “سيتعين على البلدان الإفريقية تنويع اقتصاداتها، بعيدًا عن أن تهيمن عليها سلعة واحدة. وتحتاج إفريقيا إلى وكالات التصنيف الائتماني الخاصة بها، أو تنضم إلى جهود “بريكس” (Brics)، وغيرها من الدول النامية التي تحاول إنشاء وكالات تصنيف ائتماني”(16).
الاحالات والهوامش:
(1) Investing answers, “Credit Rating”, available online at https://investinganswers.com/financial-dictionary/debt-bankruptcy/credit-rating-1213 (Retrieved on 28/1/2019)
(2) Tench, R., Sun, W., & Jones, B. (Eds.). (2012). Corporate social irresponsibility: A challenging concept. Emerald Group Publishing Limited. P. 140.
(3) John Storey, “The Role of Rating Agencies in the Development of African Capital Markets”, Financial Markets Journal, available at http://financialmarketsjournal.co.za/oldsite/5thedition/rating.htm (Retrieved on 28/1/2019)
(4) المصدر السابق.
(5) Denise Finney (updated 2018), “A Brief History Of Credit Rating Agencies”, Investopedia, available online at https://www.investopedia.com/articles/bonds/09/history-credit-rating-agencies.asp (Retrieved on 29/1/2019)
(6) Misheck Mutize (2019), “African countries have to work together to slow the rising power of credit rating agencies”, Quartz Africa, available online at https://qz.com/africa/1532203/africa-has-to-curtail-moodys-sp-fitch-credit-rating-agencies/ (Retrieved on 29/1/2019)
(7) المصدر السابق.
(8) The New Times (2012), S.Africa criticises Moody’s downgrade of its banks, available on https://www.newtimes.co.rw/section/read/50118 (Retrieved on 29/1/2019)
(9) Economic Times (2012), Global rating agencies are like restaurant critics: Jagdish Bhagwati, available online at https://economictimes.indiatimes.com/articleshow/17217812.cms (Retrieved 29/1/2019)
(10) مصدر سابق:
Misheck Mutize (2019), “African countries have to work together to slow the rising power of credit rating agencies
(11) Crystal Detamore (2011), Credit Rating Agencies and Their Credibility Problem, CFA Institute Blog; Nicolas Johnson (2011), Credit agencies lack credibility after role in crisis: survey, Globe Investor, available on https://www.theglobeandmail.com/globe-investor/credit-agencies-lack-credibility-after-role-in-crisis-survey/article4252644/ (Retrieved 29/1/2019)
(12) المصدر السابق.
(13) REGULATION (EU) No 462/2013 OF THE EUROPEAN PARLIAMENT AND OF THE COUNCIL of 21 May 2013 amending Regulation (EC) No 1060/2009 on credit rating agencies, (PDF file) available on https://eur-lex.europa.eu/LexUriServ/LexUriServ.do?uri=OJ:L:2013:146:0001:0033:EN:PDF (Downloaded on 29/1/2019)
(14) Public Law 111-203 (2010), Dodd-Frank & Consumer Protection Act of 2010, US Congress, (PDF file) available on https://www.congress.gov/111/plaws/publ203/PLAW-111publ203.pdf (Downloaded on 29/1/2019)
(15) William Gumede (2014), Africa needs to stand up to credit rating agencies, IOL business report, available on https://www.iol.co.za/business-report/opinion/africa-needs-to-stand-up-to-credit-rating-agencies-1788462 (Retrieved on 29/1/2018)
(16) المصدر السابق.