تزايد التصعيد السياسي المرتبط بالعمليات العسكرية الفرنسية في إقليم الساحل بين باريس وباماكو في الأسبوع الأول من مايو الجاري بعد أسابيع من قرار فرنسا (فبراير 2022) سحب قواتها من مالي، وقيادة الأولى مواقف أوروبية مختلفة تصبّ في صالح دعم السياسات الفرنسية، وفرض مشروطيات مكثَّفة على نظام عاصمي غويتا كما اتضح في إعلان ألمانيا في توقيت متزامن عن سحب مشاركتها في بعثة الاتحاد الأوروبي في مالي، وربط استمرار دعمها ومشاركتها لبعثة الأمم المتحدة في مالي MINUSMA “بشروط معينة”، مع ملاحظة أن الأخيرة، التي تنشر 14 ألف جندي وشرطي، واحدة من أكبر قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وتكونت في العام 2013م (بالأساس من قوّات إفريقية) للمساعدة في دعم حرب مالي ضد الجماعات الإرهابية، لكنَّ القوة واجهت انتقادات متكررة بسبب عجزها عن التدخل الفعَّال، وأدَّى ذلك إلى وضع العبء الأمني برُمّته على قوات مالي المسلَّحة غير المجهَّزة على المستوى المطلوب([1]).
ويرى محللون أن هذه التحركات تتمحور حول رفض وجود أي قوات روسية عاملة في مالي؛ وهو ربط يؤكد وجود اصطفاف أوروبي وراء باريس وسياساتها المرتبكة في إقليم الساحل بشكل عام، وفي مالي على وجه الخصوص. لكن يبدو أنه ثمة فرصة لحدوث اختراق مهم لهذا الانسداد الإقليمي والدولي في مقاربة الأزمة المالية؛ يتمثّل في طلب الحكومة المالية من الرئيس التوجولي فوري غناسينغبي Faure Gnassingbé –خلال زيارة لوزير خارجية مالي عبد الله ديوب للومي- بذل جهود الوساطة مع كتلة الجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا “إيكواس” والمجتمع الدولي بشكل عام؛ وهو الطلب الذي قَبِلَتْه توجو (5 مايو الجاري) بعد ساعات قليلة من التصعيد المالي الفرنسي.
تطورات الوضع في مالي: “حملة عقاب الإرهابيين”
نجح المجلس العسكري الانتقالي في مالي (منذ استيلائه على السلطة في البلاد في أغسطس 2020م عقب احتجاجات على إدارة الحكومة للحرب على الإرهاب والجماعات المسلحة في البلاد) في استعادة زمام المبادرة في إدارة البلاد بدعم شعبي كبير ولافت، ووعد المجلس العسكري في البداية باستعادة الحكم المدني، لكنه عاد واستولى على الحكم في البلاد مرة أخرى عبر انقلاب آخر في العام 2021م لعزل القادة المدنيين، وتولى القائد العسكري عاصمي غويتا رئاسة البلاد في المرحلة الانتقالية. وألحقت العقوبات التي فُرضت على باماكو -بسبب عدم الالتزام بعقد الانتخابات في فبراير من العام الجاري، كما تعهدت في وقت سابق لجماعة غرب إفريقيا الاقتصادية “إيكواس”- أضرارًا كبيرة بمالي([2]).
وقد شنَّ الجيش المالي منذ مطلع العام الجاري حملةً “للعقاب الجماعي” في مسعًى لإعادة فرض سيطرة الدولة في وسط مالي بعد غياب السلطات الحكومية لسنوات عن التأثير في هذه المنطقة، وتقديم الخدمات لسكانها. وتتخوَّف جهات غربية من “تأثير هذه الحملة على تصاعد الأنشطة الإرهابية لا سيما مِن قِبَل “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” التي تُجنّد عناصر من سكان الفولاني المحليين، وتقدّم نفسها كحليف وحيد ممكن لهذه العناصر في مواجهة الميليشيات الإثنية المعادية “وقوات الأمن الحكومية المعروفة بانتهاكاتها لحقوق الإنسان”([3]).
وفي الوقت نفسه تُحقّق القوات المالية بدعم كبير من قوات روسية (تؤكد المصادر الغربية أنها من مجموعة فاجنر للأمن الخاص، بينما تؤكد الحكومتان المالية والروسية أن هذه القوات بغرض التدريب، وأنها تتم وفق تفاهم بين الدولتين) نجاحات غير مسبوقة منذ سنوات في مجال السيطرة على مزيد من الأراضي في وسط البلاد ونجاعة في إدارتها بعد خروج القوات الفرنسية من مناطق مجاورة. لكنَّ هذا التطوُّر لم يحضر في انتقادات المسؤولين الغربيين للمجلس العسكري المالي على خلفية ما اعتبروه “ملء فراغ مغادرة القوات الفرنسية بقوات فاجنر المرتزقة التي تَستخدمها روسيا لنشر نفوذها وتحقيق مصالحها المختلفة في القارة الإفريقية”([4]).
تصاعد التوتر مع فرنسا:
وصل التوتر غير المسبوق بين مالي والقوة الاستعمارية السابقة “فرنسا” لمستويات جديدة في الرابع من مايو الجاري بإعلان الحكومة المالية أن فرنسا لم يَعُدْ لها “أساس قانوني” للقيام بعمليات عسكرية في البلاد بعد إبطال باماكو اتفاقيات الدفاع الرئيسة بين البلدين.
وقد ورد الإعلان في التليفزيون الحكومي بعد يوم واحد من إبطال المجلس العسكري الحاكم في باماكو عددًا من الاتفاقيات الحاكمة للبعثتين الفرنسية والأوروبية.
وأوضح وزير الخارجية المالي عبد الله ديوب أنه ثمة مهلة مدتها ستة أشهر لإنهاء سريان اتفاق التعاون الدفاعي مع فرنسا الموقَّع في العام 2014م، بينما سيتم على الفور تطبيق الإنهاء القانوني للاتفاقات “بدءًا من 2 مايو سينتهي سريان الاتفاق الذي يغطي بارخان، والاتفاق الذي يغطي عملية تاكوبا في مالي؛ مما يعني أنه من اللحظة الحالية لا يوجد أساس قانوني لعمل فرنسا على التراب المالي”([5])؛ حسب تصريحات حاسمة من وزير الخارجية المالي.
ويبدو أن توقيت إعلان الحكومة المالية السابق بالتزامن مع انعقاد “جلسة مغلقة” لمجلس الأمن في نيويورك لمناقشة الوضع في مالي بناء على طلب روسي قد ضاعَف من حدة رد الفعل الفرنسي؛ إذ أكدت الخارجية الفرنسية أن قرار باماكو “غير مبرَّر”، وأنه يتعارض مع الإطار القانوني الثنائي بين البلدين؛ رغم بَدْء فرنسا بالفعل في سَحْب قواتها من مالي منذ فبراير 2022م، وعلى خلفية توتُّر سياسي متصاعد بين البلدين، وتقدّم مالي لمجلس الأمن بشكوى ضد ما اعتبرته “انتهاكات القوات الفرنسية لمجالها الجوي”([6]).
وساطة توجو: الفرصة السانحة
كانت العاصمة التوجولية “لومي” محطة مهمة في دبلوماسية المجلس العسكري الانتقالي لتفادي مزيد من الضغوط الإقليمية والدولية والمبادرة بتقديم حلولٍ وسطَ “تعنُّت” غربي واضح حتى الآن في التوصل لحلّ وسط وقبول جدول زمني متفق عليه.
ووصل وزير خارجية مالي إلى “لومي” (4-5 مايو الجاري)؛ حيث جدّد “ديوب” تحجُّج المجلس العسكري بسوء الحالة الأمنية، وحاجة البلاد إلى مزيد من الجهود لتحقيق الاستقرار، وأعلن من “لومي” أن البلاد بحاجة إلى فترة 24 شهرًا “للعودة للنظام الدستوري”([7]).
وفي نفس السياق وافق الرئيس التوجولي غناسينغبي في 5 مايو الجاري على قيامه وحكومة بلاده بجهود وساطة في الأزمة المالية حسب تأكيدات وزيري خارجية مالي وتوجو، وبناء على طلب الأول خلال زيارته للعاصمة “لومي”. وحسب عبد الله ديوب، وزير خارجية مالي؛ فإن الوضع يتطلب “إظهار عبقرية سياسية لكيفية الخروج منه”؛ بينما أكد روبرت دوسي R. Dussey وزير خارجية “توجو” أن بلاده كانت دومًا بلدًا للسلام والحوار، وأن الرئيس التوجولي سيساعد بكل رحب وسعة على “استعادة النظام الدستوري في مالي”([8]). التي تأمل بدورها في الاستفادة من مساعي الرئيس التوجولي الحميدة لتيسير الحوار مع اللاعبين الإقليميين وحوار أوسع مع المجتمع الدولي بأكمله([9]).
وتأتي أهمية وساطة توجو واحتمالات نجاحها من عدَّة نواحٍ؛ إذ تساهم توجو بالفعل منذ العام 2015م بقوة ضمن MINUSMA، كما تستضيف لومي African Contingency Operations Training and Assistance (ACOTA) Training Program لتدريب الجنود الأفارقة المشاركين في MINUSMA بالتنسيق مع معهد الأمم المتحدة للتدريب والبحوث United Nations Institute for Training and Research (UNITAR)، للمساعدة في استعادة الاستقرار في مالي وتعزيز قدرتها على حماية المدنيين ودعم السلطات الانتقالية، وتيسير تقديم المساعدات الإنسانية وحماية حقوق الإنسان([10]). كما يتمتع نظام الرئيس التوجولي بصلات وطيدة مع فرنسا ونيجيريا وغيرهما من الدول المعنية بالأزمة المالية، إلى جانب تبنّيه سياسة صارمة لمواجهة التهديدات الإرهابية التي تقترب من حدود بلاده.
وتمثل وساطة توجو الفرصة الأمثل حاليًا لحلحلة الأزمة المالية وتسويتها مرحليًّا، وتقديم حلول مقبولة للمجلس العسكري الانتقالي في ظل استقطاب دولي خلف المواقف الفرنسية، كما يتضح حتى في مقاربة الأمم المتحدة وأمينها العام أنطونيو جوتيريتش.
ويُلاحظ هذا الاستقطاب في دعوة الأخير خلال زيارته للنيجر في مايو الجاري إلى خيار إحلال قوات الأمم المتحدة حال انسحابها بقوة تابعة للاتحاد الإفريقي بصلاحيات عمل أكبر، بينما تواجه قوات الاتحاد الإفريقي في الصومال مصاعب تمويلية ولوجستية وعملياتية خطيرة منذ مطلع العام الجاري وحتى أيام قليلة مضت.
واستبق جوتيرتش بتصريحاته تلك النقاش المرتقب في مجلس الأمن في يونيو المقبل لمسألة تجديد عمل بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في مالي (MINUSMA) من عدمه، وما لاحظه من خطر تداعي الأمور في مالي حال سحب الأمم المتحدة قواتها، وأنه رغم عدم تفضيله إنهاء عمل البعثة إلا أنها “تعمل في ظروف لا تستدعي قوة حفظ سلام، بل قوة لفرض السلام ومحاربة الإرهاب”، وأن تكون هذه القوة إفريقية “ومن الاتحاد الإفريقي، لكن بوصاية وفق الفصل السابع لمجلس الأمن وتمويل ملزم”؛ في إشارة إلى ميثاق الأمم المتحدة الذي يُتيح استخدام القوة المسلحة في حالة “تهديد السلم”([11]).
خلاصة:
يأتي اجتماع مجلس الأمن المرتقب بخصوص مالي في يونيو المقبل وسط تدهور حادّ في علاقات الأخيرة مع فرنسا (التي سحبت بدورها قوة بارخان من مالي في فبراير 2022م، ونقلت العديد من قواعدها العسكرية إلى النيجر المجاورة)، وغموض مخرجات زيارة جوتيريتش لأماكن تجمع المشردين واللاجئين في منطقة أولام Ouallam في النيجر وتصريحاته التي عبَّر خلالها عن تفهُّم تامّ للمقاربة الفرنسية والغربية إزاء أزمات إقليم الساحل وحثّه للمجتمع الدولي على الاستثمار في النيجر وتمويل تجهيز وتدريب جيشها، وتعزيز قدرة النيجر على الدفاع عن نفسها لا سيما أن جيشها أظهر “شجاعة ملحوظة” رغم سوء مستوى تسليحه، قبل أن يلفت إلى “عندما ترون الوضع في بوركينا فاسو وفي مالي؛ حيث وقعت بهما انقلابات عسكرية، فإنني أوقن أن علينا أن نُحَوِّل على نحو حقيقي الحدود مع النيجر إلى حائط لمنع الإرهاب. وللقيام بذلك تحتاج النيجر إلى قدرة أكبر مما هي عليه الآن”([12]).
وهي تصريحات تشي بتلخيص جميع أزمات إقليم الساحل في مسألة “مواجهة الإرهاب”؛ رغم جميع الأخطار البنيوية التي تضرب أبنية الدولة في الإقليم منذ عقود، ويفاقم منها انسداد سياسي واضح، وتدخُّل دولي وإقليمي على مستويات متفاوتة، وفشل المقاربات الأمنية والعسكرية طوال نحو عقدين في تحقيق أيّ تقدُّم في مواجهة هذه التهديدات، وفي ظل فشل تام لشعار “حلول إفريقية للمشكلات الإفريقية” الذي لم يَحُل دون تعمُّق هيمنة القوى الدولية على مسارات الأزمات الإفريقية وحلولها أو استدامتها.
__________________
الهوامش
[1] UN chief wants African Union force with tougher mandate for Mali, RFI, May 6, 2022 https://www.rfi.fr/en/africa/20220506-un-chief-wants-african-union-force-with-tougher-mandate-for-mali-guterres
[2] President of Togo to mediate in Mali crisis, RFI, May 5, 2022 https://www.rfi.fr/en/africa/20220505-president-of-togo-to-mediate-in-mali-crisis-france
[3] Africa File: Malian Army Abuses Will Strengthen Salafi-Jihadis in Central Mali, Critical Threats, May 6, 2022 https://www.criticalthreats.org/briefs/africa-file/africa-file-Malian-Army-Abuses-Will-Strengthen-Salafi-Jihadis-in-Central-Mali
[4] Jason Burke, Presence of Russian mercenaries in Mali risks bloody backlash, say experts, The Guardian, May 4, 2022 https://www.theguardian.com/world/2022/may/04/russian-mercenaries-wagner-group-mali-analysis
[5] Mali: France has lost ‘legal basis’ for military operations, Africa News, May 4, 2022 https://www.africanews.com/2022/05/04/mali-france-has-lost-legal-basis-for-military-operations/
[6] France says Mali’s decision to quit defence accords won’t affect withdrawal plans, France 24, May 3, 2022 https://www.france24.com/en/africa/20220503-france-says-mali-s-decision-to-quit-defence-accords-won-t-affect-withdrawal-plans
[7] President of Togo to mediate in Mali crisis, RFI, May 5, 2022 https://www.rfi.fr/en/africa/20220505-president-of-togo-to-mediate-in-mali-crisis-france
[8] Ibid
[9] Togo leader- agrees to Mali crisis mediator role, Borneo Bulletin, May 6, 2022 https://borneobulletin.com.bn/togo-leader-agrees-to-mali-crisis-mediator-role/
[10] Training Togo Battalion for Deployment with MINUSMA, United Nations Institute for Training and Research (UNITAR) February 13, 2015 https://unitar.org/about/news-stories/news/training-togo-battalion-deployment-minusma
[11] UN chief wants African Union force with tougher mandate for Mali, RFI, May 6, 2022 https://www.rfi.fr/en/africa/20220506-un-chief-wants-african-union-force-with-tougher-mandate-for-mali-guterres
[12] Ibid.