تأتي القمة الإفريقية الـ34 في أديس أبابا يومي 5-6 فبراير الجاري للنظر في تقارير مهمة للقارة عبر جلسات ثلاث:
– جلسة حول السِّلم والأمن والحكم.
– جلسة حول رفاهية المواطن الإفريقي.. الصحة والتغذية والأمن الغذائي.
– جلسة حول التكامل الإقليمي من خلال التعافي الاقتصادي الأخضر الشامل والمَرِن.
ويرى عدد من المراقبين أن الدول الإفريقية لا تُعوّل على دور مؤسسات الاتحاد الإفريقي بشأن هذه الملفات ونحوها من الملفات المهمة خاصة في هذه المرحلة، وإنما تأتي هذه القمة كنوع من إعلان تضامن الدول الإفريقية مع حكومة أديس أبابا في الحرب الأهلية التي شهدتها إثيوبيا منذ أكثر من عام بين عدد من القوميات التي تتكون منها إثيوبيا؛ حيث تريد حكومة آبي أحمد أن تظهر للعالم كله سيطرتها المركزية على الدولة الإثيوبية، بعدما كان العالم كله قد شَاهَد اقتراب قوات جبهة تحرير تيجراي وحلفائهم من العاصمة أديس ابابا وإعلانهم العزم على دخولها وإسقاط حكومة آبي أحمد قبل ثلاثة شهور فقط من هذه القمة الإفريقية.
وكانت الحكومة الإثيوبية قد أعلنت في 24 ديسمبر 2021م أنها طردت من أسمتهم بقوات المتمردين خارج أراضي أمهرة وعفر، وأنها أعطت أوامرها لقواتها بألَّا تدخل إلى أراضي إقليم تيجراي حاليًا، ويأتي ذلك في الوقت الذي أعلنت فيه قوات جبهة تحرير تيجراي عن انسحابها إلى داخل إقليمها بعد ما كانت أعلنت في نوفمبر 2021م أنها سوف تدخل إلى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا وتُسْقِط حكومة رئيس الوزراء آبي أحمد، وحينها حذرت دول غربية عديدة رعاياها من الإقامة في إثيوبيا؛ مُعربةً عن تخوُّفها من تطهير عرقي وحرب أهلية واسعة قد يتدهور لها حال الصراع في إثيوبيا.
وبينما كانت قوات تحرير تيجراي وحلفاؤهم من بقية الفصائل المسلحة المعارضة تقترب من العاصمة الإثيوبية بأقل من 200 كيلومتر سرعان ما انقلبت الموازين العسكرية فجأة إثر وصول شحنات سلاح جديدة لحكومة آبي أحمد شملت طائرات بدون طيار ومدفعيات وذخائر بدعم من كلّ من تركيا والإمارات العربية والصين، وكان إعلان وسائل الاعلام الإثيوبية أن آبي أحمد يقود الهجوم المضاد على جبهة القتال بنفسه منذ 23 نوفمبر 2021م هو موعد بداية استخدام الأسلحة الجديدة وانقلاب الموقف العسكري لصالح القوات الحكومية، وبعدها صدر أكثر من إعلان مِن قِبَل جبهة تحرير تيجراي وحلفائها عن انسحابات لهم متتالية، والتي بلغت ذروتها 24 ديسمبر 2021م حيث يبدو أنها صارت تتحصن داخل إقليمها الذاتي إقليم التيجراي.
وحينئذ أعلنت حكومة آبي أحمد أنها تستعد لإطلاق حوار وطني يضم كل الإثيوبيين، لكنها لن تتحاور مع جبهة تحرير تيجراي باعتبارها حركة إرهابية، ويأتي هذا الإعلان الحكومي بعدما كان قد امتلأت وسائل الاعلام الدولية بالمبادرات والمناشدات الدولية والإقليمية الهادفة لوقف الصراع المسلح المندلع في إثيوبيا منذ يونيو 2020م بين جبهة تحرير التيجراي وحلفائها من جهة وبين الحكومة الإثيوبية وحلفائها بقيادة آبي أحمد من جهة أخرى، ولكن حكومة آبي أحمد رفضت دائمًا التفاوض مع جبهة تحرير تيجراي باعتبارها جماعة إرهابية خارجة على القانون.
وكان موقف أوروبا والولايات المتحدة دائمًا هو أن الصراع في إثيوبيا لن يحل بغير الحوار وأنه لا حل عسكري له، حتى إن الولايات المتحدة الأمريكية قد فرضت بعض العقوبات على الحكومة الإثيوبية وحليفتها إريتريا، وربما أن الضغوط الأمريكية هي التي تسببت في تقييد التدخل الإرتيري أو تخفيفه، هذا التدخل الإرتيري الذي كان قد صبّ في صالح حكومة آبي أحمد في بداية اندلاع الصراع، والآن قد يبدو أن الضغوط الأمريكية نفسها هي التي قيّدت قوات آبي أحمد عن تطوير هجومها وإكمال انتصاراتها بالدخول إلى إقليم تيجراي، كما أن نفس الضغوط هي التي دفعت حكومة آبي أحمد عن الإعلان عن رغبتها في إجراء حوار إثيوبي-إثيوبي، وكأن الولايات المتحدة باتت على شفا إدارة الأزمة الإثيوبية.
لقد وقف آبي أحمد ضد أي تسوية حوارية في بداية الصراع، ورفض الانصياع للمبادرات الأوروبية والأمريكية، وصمم على إيقاع هزيمة عسكرية بجبهة تحرير تيجراي، لكنه الآن لم يهزمها هزيمة كاملة؛ لأنها مازالت تسيطر على إقليم التيجراي، ورغم ذلك فقد بات يدعو للحوار.
فهل رجع آبي أحمد وحكومته إلى الخط الأمريكي لتسوية الأزمة وهو التفاوض لحل النزاع؟ وهل إصراره على إقصاء جبهة تحرير تيجراي من هذا الحوار هو مجرد تكتيك يبدأ به طريق طويل من المفاوضات؟
علمًا بأن هذا الإقصاء –وإن بشكل آخر- كان هو سبب اندلاع هذا الصراع أصلاً.
ثم ما السيناريوهات المتوقعة لنهاية هذا الصراع في ظل استمرار كل الأطراف المتنازعة على التمسك بموقفها دون أدنى تنازل؟
إن إجابة هذه الأسئلة ترسم لنا الصورة الكاملة عن مستقبل إثيوبيا كدولة بشكل عام.
وبداية ولكي نرسم هذه الصورة الكاملة لا بد أن نلاحظ أن إثيوبيا تمثل ثاني أكبر دولة إفريقية من حيث عدد السكان (115 مليون نسمة)، ويتكون المجتمع فيها من نحو 77 مجموعة عرقية، أكبرهم “الأورومو” (35% من المواطنين)، ويليهم عرقية “الأمهرة” (27% من المواطنين)، ثم “التغراي” (5.2% من المواطنين)، ثم نجد الصوماليين والعفر وبني شنقول وغيرهم، ويتحدّث السكان أكثر من 70 لغة أو لهجة محلية، وتنقسم الدولة إلى 9 أقاليم تتحد كلها في اتحاد فيدرالي واحد، ويمثل المسلمون فيها أكثر من 40%، ونحو 15% ديانات إفريقية بدائية، والبقية مسيحيون أغلبهم على المذهب القبطي([1]).
وقد أعطى الدستور الفيدرالي الإثيوبي لعام 1994م في مادتيه (39) و(47) الحق لكل أُمة أو شعب أو جنسية أن تنفصل عن الدولة الإثيوبية الموحدة، وتكوّن دولتها المستقلة، وفقًا لمجموعة من الشروط، أهمها موافقة ثلثي أعضاء مجلس الأمة أو الجنسية أو الشعب المعني. ويتم تقديم الطلب كتابيًّا إلى مجلس الدولة؛ عندما ينظم المجلس الذي تلقى الطلب استفتاء في غضون عام واحد يعقد في الأمة، الجنسية أو الشعب الذي قدَّم الطلب؛ ويتم دعم مطلب الأمة من خلال تصويت الأغلبية في الاستفتاء؛ عندها ينقل مجلس الدولة صلاحياته إلى الدولة أو الجنسية أو الشعب الذي قدم الطلب([2]).
وإذا أضفنا إلى هذا أن التاريخ الإثيوبي القريب والبعيد ممتلئ بأحداث دامية من الحروب الأهلية والصراع العرقي، كما أن تاريخ إثيوبيا يتراوح بين ثلاث حالات لا رابع لها وهي:
– حالة هيمنة عرقية ما على بقية العرقيات، وتكوين دولة متماسكة تقمع العرقيات الأخرى النازعة إلى الاستقلال مكونة بذلك دولة مركزية ذات طبيعة مستبدة تحت شعارات شتى، أبرزها الإمبراطورية الإثيوبية العريقة (بحسب الشعار)، حالة هيلا سلاسي (تولي الحكم 1930م وتم خلعه 1974م)([3])، أو الشعارات الماركسية في عهد الماركسية (1974-1991م) مجرد مثال ليس بعيدًا.
– حالة حرب أهلية تشنّها بعض العرقيات ضد العرقية المهيمنة لتتحرّر من هيمنتها وقمعها، وأقرب مثال على هذا الحرب التي شنتها “الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية” على منجستو هيلا مريام([4]). وقد أزالت الجبهة حكم منجستو هيلا مريام، واستقلت إريتريا، وتولت “الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي” قيادة الحكومة الانتقالية لإثيوبيا([5])، وأنشأت الدستور الحالي الذي يضمن لكل الأقاليم بعرقياتها المختلفة حق الاستقلال كما أشرنا آنفًا.
– حالة حكم شبه رضائي، وهذا قليل في التاريخ الإثيوبي، ولكنه وقع على الأقل في الفترة من إسقاط منجستو هيلا مريام وحتى اندلاع الصراع الحالي في 2020م، عندما اتجه آبي أحمد إلى بناء حكم مركزي معتمدًا على عرقيته الأورومو (وهي عرقية والده) وحلفائه الأمهرة (وهم عرقية والدته).
واذا أضفنا لذلك كله حالة الكراهية التي أثارتها هذه الحرب الحالية الدائرة بين الحكومة -بدعم من أغلبية الأورومو والعفر- من جهة وبين جبهة تحرير تيجراي وحلفائها من العرقيات الأخرى من جهة أخرى وما تخللها من اتهامات بارتكاب كافة أطراف الصراع جرائم ضد الإنسانية وتطهير عرقي واضطهاد إثني، وهذه اتهامات وجهتها العديد من المنظمات الدولية الحقوقية وأيدتها الأمم المتحدة والولايات المتحدة وحكومات غربية، فإن الصورة الكاملة ستتجه إلى الوضوح شبه التام.
والآن يمكن أن نجيب بوضوح واطمئنان عن سؤال:
ما السيناريوهات المتوقعة لنهاية هذا الصراع الأهلي الإثني الإثيوبي في ظل إصرار كل الأطراف المتنازعة على التمسك بموقفها دون أدنى تنازل؟
علمًا بأن إجابة هذا السؤال سوف تقدم ضمنًا إجابة أيضًا عن بقية الأسئلة التي سقناها في صدر هذا التقرير.
في ضوء السياق الذي سارت عليه الحالة السياسية في تاريخ إثيوبيا الوسيط والحديث والمعاصر نجد أن إثيوبيا لا يمكن لها أن تتوحد بأعراقها المختلفة إلا بيد حديدية من القمع والاستبداد السياسي والعرقي كما حدث أيام هيلا سلاسي والحكم الماركسي، وحكم منجستو هيلا مريام، لكن مثل هذا القمع السياسي والعرقي سوف يُصنَّف دوليًّا على أنه جرائم ضد الإنسانية، وبسبب أن الغرب (الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة) له صلات قوية مع أغلب العرقيات المتنازعة في إثيوبيا ويخشى تفكك إثيوبيا إلى دوليات كما يخشى طوفان هجرات الإثنيات المضطهدة؛ فهو سيضغط بشدة لمنع مثل هذا القمع والاستبداد.
صحيح أن العالم الآن صار متعدّد الأقطاب دوليًّا، وسوف تساند الصين (وهي قطب دولي بالغ القوة) حكومة آبي أحمد بسبب مصالحها الكبيرة في إثيوبيا، وفي إطار منافستها أيضًا للولايات المتحدة، ولكن أي مساندة دولية للاستبداد والقمع في إثيوبيا لن تنجح؛ لأن شعوب إثيوبيا ستتمرد على هذا القمع؛ لأننا بتنا في عصر العولمة والتطور البالغ للوعي نتيجة تطور وسائل الاتصال والتواصل.
وإذا أضيف لذلك مقاومة الولايات المتحدة وأوروبا للحل الاستبدادي والإقصائي في إثيوبيا، مع تربص بعض القوى الإقليمية الكبرى (مثل مصر والسودان) بحكومة أديس أبابا؛ كل ذلك سيمنع حكومة آبي أحمد أو غيرها من إقامة حكم مركزي قامع لكثير من الاثنيات الأخرى، ولذلك لم يبق سوى ثلاثة سيناريوهات:
الأول: حكم رضائي قائم على فيدرالية لها أُسس دستورية ترضي كل فئة من فئات وعرقيات شعوب إثيوبيا، وهذا السيناريو بات مستبعدًا؛ بسبب الجرائم العرقية التي ارتُكِبَتْ ضد العديد من العرقيات على أُسُس عرقية في هذا الصراع الأخير، فباتت كل إثنية تنزع للاستقلال بحسبانه هو خلاصها الوحيد.
الثاني: تفكك إثيوبيا إلى عدة دول على غرار يوغسلافيا السابقة، ولكن يُعيق هذا السيناريو أن الولايات المتحدة وأوروبا تعتبران إثيوبيا حجر الزاوية في الاستراتيجية الغربية تجاه إفريقيا عامة والقرن الإفريقي والسودان ومصر بشكل خاص، ومن هنا فهم لن يسمحوا بتفكك إثيوبيا ما استطاعوا لذلك سبيلاً، كما أن مساندة الصين لآبي أحمد وتحالفها معه سياسيًّا واقتصاديًّا سيعوق هزيمته عسكريًّا لحد كبير، لا سيما أن إدارة الولايات المتحدة للأزمة الإثيوبية قائمة على أنه لا غالب ولا مغلوب لكل أطراف الصراع؛ لمنع تفكك إثيوبيا، ولذلك سمحت لتركيا بمد آبي أحمد بالدرونز، وكل هذا يقودنا للسيناريو الأخير، والذي نرجّح تحقُّقه مهما طال الصراع وهو:
الثالث: صياغة دولة إثيوبية جديدة تشبه الاتحاد الأوروبي في علاقات عرقياتها بأقاليمهم المختلفة، فوحدة الأقاليم تصير في إطار أكثر اتساعًا من الفيدرالية وأبعد عن التفكك، وذلك لتظل إثيوبيا في دورها كحجر زاوية في استراتيجية الغرب تجاه القرن الإفريقي ومصر والسودان.
([1]) عبد الوهاب الكيالي، موسوعة السياسة ج1 ص 65 وما بعدها.
([2]) انظر تقريرًا بعنوان “«انفجار من الداخل».. 4 أزمات تقود إثيوبيا إلى سيناريو التقسيم” على الرابط التالي: https://cutt.us/KjU90 تاريخ المشاهدة 27 ديسمبر 2021م.
([3]) انظر د. عبد المنعم سعيد، العرب ودول الجوار الجغرافي، ط مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 1987م، الطبعة الأولى، ص 63-64.
([4]) كان منجستو هيلا مريام ضمن أركان الحكم الماركسي لإثيوبيا منذ 1974م، ثم أصبح الزعيم الأوحد منذ 1977م، وتم خلعه في 1991م.
([5])Benjamin A. Valentino , Final solutions : mass killing and genocide in the twentieth century, Cornell University Press, London 2004,p197.