وصلت مرحلة التفاوض الدبلوماسي في أزمة سدّ النهضة إلى مراحلها الأخيرة بعد أن استنفدت الدبلوماسية المصرية كل الطرق الممكنة لتفادي الخيار العسكريّ، إلا أنَّ النظام الإثيوبيّ لا يزال يماطل من أجل أن يستخدم السد كأداة لشحذ المشاعر الوطنية وتوحيد الأعراق المتناحرة ضد قضية تتعلق بالسيادة والمصير، وكذلك في صورة تحذير عام للشعب تحسبًا لاندلاع حرب خارجية.
وكل تلك الأهداف استثمرتها إثيوبيا بكفاءة، إلا أنَّ رصيد تلك الأداة بدأ ينفد باعتبار أن كلاً من مصر والسودان قد أعربا عن رفضهما لما أعلنته إثيوبيا من الملء الثاني في يوليو القادم بصورة منفردة، وهو ما وحَّد جبهتي القاهرة والخرطوم على عدة أهداف؛ منها أهداف عسكرية، مما دفَع الطرفين إلى التخلّي عن المشكلات العالقة بينهما، وعلى رأسها مثلث حلايب وشلاتين.
وفي هذا السياق؛ فإن العرض الأخير من السودان والذي وافقت عليه مصر بإشراك الاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والولايات المتحدة كضامنين لنجاح الحوار يبدو أنه الملجأ الأخير للتوصل إلى حلّ توافقي قبل أن تذهب مصر والسودان مرة ثانية إلى مجلس الأمن، وإثبات تعرض البلدين إلى خطر جسيم، لا سيما وقد مهَّدت الدبلوماسية المصرية في السابق الطريق بالتوافق مع واشنطن في حقبة ترامب أن مصر ربما تستخدم سيناريو تفجير السدّ، كما صرح بذلك علانية الرئيس السابق دونالد ترامب، وهو ما يعني أن مصر تحرّكت بالفعل على عدة أصعدة من أجل إنجاح وحَبْك قضيتها أمام العالم، ومِن ثَمَّ فإن قرار توجيه ضربة سوف يكون مقبولاً دوليًّا بسبب إثبات مصر للتعنُّت الإثيوبي.
وفي الحقيقة إن مفاوضات الولايات المتحدة التي جرت العام الماضي وتهرب الوفد الإثيوبي منها ورفض التوقيع حقَّقت عدة نجاحات للمفاوض المصري عكس ما قد بدا في ذلك الوقت؛ فقد أثبتت مصر أن إثيوبيا طرفٌ غير جادّ، وأن الدبلوماسية الإثيوبية لا يمكن الوثوق فيها، وكذلك كان الانسحاب الإثيوبي بمثابة إحراج للمضيف الولايات المتحدة، بما أدَّى إلى توقيع واشنطن لعقوبات على أديس أبابا في ذلك الوقت، وبما أثبت في الوقت ذاته أن مصر تحاول بقدر الإمكان تجنُّب خيار الحرب، بالرغم من الاستعدادات التي تجري على قدم وساق من أجل إبقاء ذلك الخيار مطروحًا على الطاولة.
فبعد أن دشَّنت مصر قاعدة برنيس العسكرية في جنوب البحر الأحمر، وبعد أن أتمت تطوير ترسانتها العسكرية بمقاتلات الرافال والميج والسوخوي والصواريخ عالية التدمير التي يتم تركيبها على تلك الطائرات، وتوَّجت ذلك بعقد اتفاقية عسكرية مع السودان لضبط الحدود ومساعدتها في تدريب قواتها، فإن ذلك يضع الرتوش الأخيرة على إثبات أن التلويح بالعملية العسكرية المرتَقبة هو خيار حقيقي، وربما الهدف الرئيس من ذلك هو دَفْع المفاوض الإثيوبي إلى التحلّي بالواقعية والتخلّي عن أوهام استخدام السد كأداة سياسية داخلية بدون النظر أو الاعتبار إلى المصالح المصرية السودانية، وهو ما ستسفر عنه الأيام القليلة الماضية باعتبار أننا بالفعل وصلنا إلى الأمتار الأخيرة في تلك الأزمة الدرامية.
وقد جاءت التصريحات الأخيرة أثناء زيارة الرئيس المصري إلى السودان؛ لتؤكد على أن الجانبين لن يقبلا بحلول أُحادية من جانب إثيوبيا، وأن هناك رؤية موحدة رافضة لاستخدام السد كأداة للهيمنة الإقليمية، وأن اللقاء بين رئيسي أركان الجيشين هي إشارة تؤكد على جدية البلدين في اتخاذ كل ما يلزم من أجل منع التفرّد بإدارة السد ضد مصالح البلدين. وبالرغم من الموافقة المبدئية من الأمين العام للأمم المتحدة وكذلك من الإدارة الأمريكية، إلا أن إثيوبيا حتى الآن ترفض وساطة من خارج القارة الإفريقية وتعارض ما أسمته بـ “تدويل الأزمة”، وهو ما يهدّد بتعقُّد المفاوضات واللجوء إلى مجلس الأمن في النهاية وهو أحد السيناريوهات القوية المحتملة فيما يبدو من مخرجات المفاوض الإثيوبي حتى الآن.
فالاكتفاء بالوساطة الإفريقية وحل الأزمة داخل البيت الإفريقي، وهو ما تقترحه إثيوبيا، لا يُنْظَر إليه إلا على أنه أداة لاستمرار المماطلة، باعتبار أن الاتحاد الإفريقي كان هو الذي يدير الأزمة في السابق قبل الرئاسة الدورية الحالية لدولة الكونغو، ولا يمكن تصوُّر أنَّ الاتحاد الإفريقي فقط بتغير الرئاسة سيتمكن من الوصول إلى حل بعد السلوك الذي مارسه المفاوض الإثيوبي بالإصرار على سيادة إثيوبيا على السد، وعلى أن الاتفاقات السابقة هي اتفاقات “استعمارية”، وأن أديس أبابا هي الضامنة بعدم وقوع أيّ ضرر على دولتي المصب، وهو ما يُدْخِل القضية في دائرة مفرغة من جديد ستصبُّ مؤكدًا في إرسال القضية إلى مجلس الأمن الدولي.
وفي حال إثبات مصر والسودان في مجلس الأمن بأن هناك ضررًا جسيمًا يقع على أحدهما أو كليهما؛ فإن ذلك سيفتح الباب أمام عقوبات على إثيوبيا من ناحية، كما أنه سيعطي القاهرة والخرطوم أحقية الدفاع عن النفس باتخاذ أيّ ضربات استباقية من أجل تلافي ذلك الخطر الجسيم من ناحية أخرى. والسيناريو الأول بعد اللجوء إلى مجلس الأمن هو استصدار عقوبات رادعة تؤدي إلى تغيير السلوك الإثيوبي، وفي حالة عصيانها لتلك القرارات واستمرارها في الملء الأحادي المقرر في يوليو القادم، فهنا فإن الباب سيكون مفتوحًا أمام اتخاذ إجراءات عسكرية من كلٍّ من مصر والسودان.
وفي واقع الأمر فإن هذا السد لا يُشكّل مسألة تنموية فقط، ولكنه له طابع استراتيجي باعتبار أنه سيجعل اليد العليا لأديس أبابا ليس فقط في مسألة توزيع المياه، ولكن أيضًا في التهديد بإغراق كل ما يأتي وراء السد باعتباره سلاحًا فتَّاكًا يمكن استخدامه ضد دول المصبّ في أيّ وقت. كما أنَّ هذه الأداة يمكن أن تُستخدم كرادع لدول المصبّ في حال تدخُّل أيّ قوى إقليمية أو دولية تريد الإضرار بمصر والسودان، ومِن ثَمَّ فإن هذا يفتح الباب أمام تغيُّر في البيئة الأمنية في القرن الإفريقي بصورة كاملة، ويفتح الباب أمام أيّ تشكيلات جديدة لتحالفات تهدف إلى معاقبة أيّ من مصر أو السودان سواء بمنع المياه أو بالإغراق المفاجئ على حدّ سواء.
ومن المؤكد أن سيناريو الضربة العسكرية سيؤدي إلى تعقيد الموقف لا سيما على الجبهة السودانية التي تعاني بالفعل من مشكلات اختراق الحدود والمناوشات العسكرية، واحتمالية تفجُّر الصراعات على منطقة الفشقة وتحوُّلها إلى حرب شاملة، وهذا سيدفع بمصر كذلك إلى الدفع بقوات عسكرية لحماية الحدود السودانية طبقًا للاتفاق العسكريّ الأخير، والذي الهدف الرئيس منه فيما يبدو هو تأمين الحدود السودانية من أجل فتح الباب أمام ضربة عسكرية وتهدئة المخاوف السودانية. وقد يبدأ السيناريو العسكري بضربات تحذيرية لبعض توربينات توليد الكهرباء والتي عددها 16 توربينًا، من أجل إيصال رسالة أن نقص مياه مصر والسودان تساوي لا كهرباء لإثيوبيا، وهو ما يمكن أن يفتح باب المفاوضات من جديد، ولكن بمزيد من العقلانية للمفاوض الإثيوبي.
أما إذا استمر التعنُّت الإثيوبي وتطويره لعمليات عسكرية على الحدود السودانية؛ ففي تلك الحالة فإن خيار الدفع بمزيد من القوات العسكرية المصرية في منطقة الفشقة ودخولها إلى مقر السد في بني شنقول سيكون خيارًا محتملاً كذلك، ومِن ثَمَّ ستزيد رقعة الحرب بأسلحة أكثر تطورًا، وهو قطعًا لا يصبُّ في مصالح الطرفين، وكذلك سيؤدي إلى عسكرة الصراع بصورة ستضرّ بأمن القرن الإفريقي بكامله، باعتباره يقع على برميل بارود وصراعات ستتداخل فيها دول إثيوبيا وإريتريا والسودان ومصر، وإعادة انحيازات على اعتبارات عِرْقِيَّة بين التيجراي والأمهرة وبقية المكونات الفسيفسائية لتلك المنطقة التي يمكن أن تشمل الصومال أيضًا، وتشعل المنطقة حتى باب المندب بصراعات واستهداف للسفن التجارية والعسكرية للدول المشاركة في تلك الأزمة.
وفي حقيقة الأمر فإن تلك الأزمة لا يجب أن يُسْمَح لها بكل ذلك التصعيد إذا كانت إثيوبيا تهدف بالفعل إلى التنمية فقط من وراء هذا السدّ، ومِن ثَمَّ فإنَّ مشاركة مصر والسودان في عمليتي الملء والتشغيل، وكذلك إطالة أمدها بما يُهدِّئ مخاوف دول المصبّ ربما يكون الحل النهائي لتلك الأزمة بصيغة لا تُؤثّر على صورة سيادة إثيوبيا، وربما يمكن الانتظار كذلك على مسار آخر للوساطة السعودية، والتي يمكن أن تكون لها تأثير إيجابيّ بالنظر إلى الثقل الذي تتمتع به السعودية في إثيوبيا، ولكنَّ نافذة الوقت تضيق حتى يوليو القادم موعد الملء الثاني الذي قررته إثيوبيا.