على مدى ثلاثة عقود أو يزيد، من البحث والتدريس في قضايا السياسة والحكم في إفريقيا، كنتُ أطرح دائماً قضايا النموذج المعرفي المسيطر الذي يعبّر عن انحيازاته الفكرية الغربية غير الخافية، وكانت أزمة هذا «النموذج الغربي» تمثّل حجر عثرةٍ أمام قدرتنا على الفهم والتحليل، وهو ما يقتضي البحث عن نموذجٍ معرفي مغاير؛ يعبّر عن المواريث الثقافية والحضارية الإفريقية (1).
وعادةً ما يثير هذا النهج من التفكير التساؤلات الآتية: ماذا لو لم تحدث تجارة الرقيق عبر الأطلنطي وتقوم باختطاف نحو 18 مليون إفريقي واجتثاثهم من جذورهم؛ من أجل بيعهم عبيداً في العالم الجديد؟ ماذا لو لم يتم غزو البلدان الإفريقية من قِبَل المستعمِر الأوروبي؟
فالرؤية التاريخية المضادة؛ يمكن لها أن تُظهر ما قد يكون عليه التطور السياسي والاجتماعي الإفريقي بعيداً عن الاستعمار.
ربما حاولت غانا النكرومية- عبثاً- التخلص من إسار هذا الارتباط الكولونيالي، ولكن ضغوط النيوكلونيالية في الداخل والخارج أبت الخروج عن هذا النهج الموروث، ففي أواخر خمسينيات القرن الماضي؛ أولت حكومة غانا الجديدة إنشاء لجنة الطاقة الذرية الخاصّة بها عنايةً فائقة، وفي عام 1961م حاولت- دون جدوى- استيراد مفاعل نووي سوفييتي لتوليد الكهرباء وتمكين التجارب العلمية، كما أنشأت غانا شركة طيران وطنية، هي الخطوط الجوية الغانية، مزودةً بطيارين وطواقم أفارقة.
ما الذي يقف اليوم عائقاً أمام تحقيق حلم النهضة الإفريقية؟ أظنّ أنّ الإجابة جسّدها أحد شيوخ السوازي عندما قال: «لدينا مشكلتَان؛ هما: الفئران والحكومة»، فالنخب الحاكمة فاسدة، وتحاول التمسك بأهداب السلطة مهما كان الثمن! ولعل الاقتصادي الغاني جورج آيتي يعبّر عن جوهر المأساة الإفريقية بسبب النخب الحاكمة التي يُطلق عليها اسم «نخبة فرس النهر»: «جيل فرس النهر هي النخبة الحاكمة، إنهم عالقون في نظرياتهم الفكرية، يشكون من الاستعمار والإمبريالية، لن يتحركوا قيد أنملة، إذا طلبت منهم إصلاح الاقتصاد فلن يُصلحوه؛ لأنهم يستفيدون من الوضع الراهن الفاسد» (2).
وتسعى هذه الدراسة الموجزة إلى بلورة بعض قضايا التحوّل السياسي والانتقال الديمقراطي التي شهدتها بلدان القارة خلال العامَين المنصرمَين، فقد رحل قادةٌ ارتبطوا بوجدان شعوبهم منذ سنوات التحرر الوطني، مثل موجابي ودوس سانتوس، وخلفهم قادةٌ جدد استبشر الناس بهم خيراً، كما أُجريت انتخاباتٌ تنافسية أفضت إلى تغيير القيادة السياسية بشكلٍ سلمي، كما حدث في ليبيريا وسيراليون، ومع ذلك فقد ظلت بعض ملامح العجز الديمقراطي مسيطرةً على المشهد السياسي الإفريقي؛ من خلال محاولات تمديد مدة البقاء في السلطة؛ احتيالاً تارة، أو عنوةً تارةً أخرى (3) ، ولعل ذلك كله يعبّر عن مساراتٍ متناقضة لعمليات الانتقال الديمقراطي في إفريقيا.
أولاً: تغيير القيادة دون انتخابات:
ربما يعني المبدأ السائد- في معظم أنحاء إفريقيا- أنّ وجود رئيسٍ جديد يؤدي اليمين الدستورية لا غنى له إلا أن يأتي في أعقاب انتهاء العملية الانتخابية، ومع ذلك تسمح بعض الدول لنواب الرئيس بإكمال فترة الرئاسة في حالة وفاة الرئيس أو استقالته، وقد تكون هناك حاجةٌ في أماكن أخرى لإجراء انتخاباتٍ فرعية لاختيار الرئيس القادم.
وقد شهدت إفريقيا منذ عام 2017م بعض التغييرات الجذرية في بنية القيادة الحاكمة لدى عددٍ من الدول، حيث استقال بعض الرؤساء الذين مكثوا في السلطة فترةً زمنيةً طويلة، فقد استقال الرئيس «خوسيه إدواردو دوس سانتوس» في أغسطس 2017م، بعد 38 عاماً من توليه الرئاسة في أنجولا. وفي نوفمبر 2017م اضطر «روبرت موغابي»- البالغ من العمر 93 عاماً- إلى الاستقالة بعد 37 عاماً من تولّيه منصبه في زيمبابوي. وفي 14 فبراير 2018م استقال «جاكوب زوما» من رئاسة جنوب إفريقيا بعد ضغوطٍ من داخل حزبه (المؤتمر الوطني الإفريقي). وفي فبراير 2018م أيضاً قدّم رئيس الوزراء الإثيوبي «هيلا مريام ديسالين» استقالته وسط أزمةٍ سياسية عنيفة. وفي أبريل 2018م استقال «سيرتس ايان خاما» رئيس بوتسوانا، وإن كان في إطار سياقاتٍ وتقاليد مختلفة عن الحالات السابقة.
على أيّ حال؛ فإنّ وصول قائدٍ «جديد» إلى السلطة يجلب دائماً التفاؤل بحدوث التغيير، ويشكّل فرصةً لبداياتٍ جديدة، ومع ذلك؛ ليس من الواضح أنّ رحيل القادة القدامى أدّى إلى بثّ «دماء جديدة» في جسد القيادة الإفريقية، ففي الواقع- مع إنعام النظر- نجد أنّ القادة الجدد في كلٍّ من أنغولا وزيمبابوي وجنوب إفريقيا قد لا يختلفون كثيراً عن أسلافهم، فهُم نتاج المؤسسة الحاكمة، ويعبّرون عن نفس قيم النظام الحاكم ومبادئه، فخليفة دوس سانتوس في أنجولا- مثلاً-، وهو جواو لورينكو، جاء من بين صفوف حزب دوس سانتوس، بل إنه شغل منصب الأمين العام للحزب خلال الفترة من 1998م إلى 2003م، كما تقلد منصب نائب رئيس الحزب منذ عام 2016م، بالإضافة إلى ذلك كان «لورينكو» جزءاً من حكومة دوس سانتوس بوصفه وزيراً الدفاع (4).
لقد حرص دوس سانتوس قبل رحيله على تحصين نفسه من خلال منح نفسه لقب: «رئيس الجمهورية الفخري»، وهو ما يمنحه وأفراد العائلة المقربين حصانةً من المقاضاة، كما أنه أصدر مرسوماً يتمّ بمقتضاه تجميد التعيينات للقادة العسكريّين والأمنيّين والمخابرات حتى عام 2025م، مما يضمن أنّ دائرة المقربين من الحلفاء الأمنيّين يسيطرون على مفاصل الدولة الرئيسية، علاوةً على ذلك؛ كله قام دوس سانتوس بترقية 165 من كبار قادة الشرطة.
ولقد أساءت «الحركة الشعبية لتحرير أنجولا»، وهي الحزب الحاكم، إدارة عائدات النفط الكبيرة في البلاد واستخدمت سيطرتها على الثروة النفطية لتحصين نفسها ضدّ إجراءات الرقابة العامّة وقيودها، وطبقاً للمنظمات الحقوقية؛ فإنّ حجم الفساد وسوء الإدارة في أنجولا عظيمان، حيث تُصنف الدولة بوصفها واحدةً من أكثر الدول فساداً في العالم؛ إذ تحتل أنجولا المرتبة 163 من بين 167 دولة على مؤشر «إدراك الفساد» الذي تنشره منظمة الشفافية الدولية. وعلى الرغم من هذا الثراء النفطي يعيش أكثر من 36٪ من السكان على أقلّ من دولارَين في اليوم؛ وفقاً لتقديرات البنك الدولي.
وفي زيمبابوي؛ تمّ استبدال موغابي، الذي أُكره على الاستقالة من قِبَل الجيش، بنائبه السابق «ايمرسون منانجاجوا»، وعلى الرغم من أنّ موغابي كان قد فصل منانجاجوا من منصبه؛ فإنّ أحداً لا يمكنه التصديق بأنّ الرجل بعيدٌ عن الدائرة الحاكمة، فقد كان قائداً ميدانيّاً في حرب التحرير التي أتت بموجابي إلى السلطة، وقد شغل منانجاجوا أيضاً مناصب: مدير المخابرات المركزية ووزير العدل والدفاع والإسكان والتمويل الريفي؛ قبل أن يتولى منصب نائب رئيس الجمهورية.
وفي جنوب إفريقيا؛ خرج الرئيس جاكوب زوما من نفس الباب الذي دخل منه إلى منصب الرئاسة، حيث أيّد زوما استدعاء حزب المجلس الوطني الإفريقي الحاكم للرئيس ثابو مبيكي، وهو ما يعني إجباره على الاستقالة، وكان مبيكي قد أقال في وقتٍ سابق زوما من منصب نائب الرئيس بسبب ما نُسب إليه من تُهمٍ بالفساد.
وطبقاً لطبيعة نظام الحكم في جنوب إفريقيا؛ يتمّ تعيين الرئيس من قِبَل الحزب الذي يتمتع بأغلبية برلمانية، لذلك عندما انتخب حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، في ديسمبر 2017م، «سيريل رامافوزا» زعيماً جديداً له، كان يتعيّن على رئيس الحزب الجديد التفاوض مع مركزَين للسلطة في البلاد، إذ بعد سلسلة من المفاوضات داخل أروقة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي من جهة، وفي البرلمان من جهةٍ أخرى، اضطر زوما للاستقالة من منصبه؛ مما أفسح الطريق أمام رامافوزا لأداء اليمين الدستورية رئيساً للجمهورية.
وإذا تركنا الحالة الأنجولية جانباً؛ لوجدنا أنفسنا أمام حالة نظامٍ يغيّر «جلده» السياسي ليصبح قادراً على مواجهة عوامل «التعرية» السياسية- إن صح التعبير-، الحزب الحاكم يتماهى مع الدولة فيصبح هو الدولة؛ من حيث تاريخه النضالي في: الإطاحة بنظام الفصل العنصري (المؤتمر الوطني الإفريقي في جنوب إفريقيا، والاتحاد الوطني الإفريقي- الجبهة الوطنية في زيمبابوي)، أو الإطاحة بحكمٍ ديكتاتوري مستبد (حالة الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية).
ونجد الحزب هنا أقوى من الرئيس، وقد سبق أن أطاح الحزب بالرئيس ثابو مبيكي قبل انتهاء ولايته بوقتٍ قصير- كما بيّنا آنفاً-. وثمّة تشابهٌ كبير بين الحالتَين الزيمبابوية والجنوب إفريقية، نحن أمام رئيسٍ له تاريخٌ نضالي كبير؛ ولكن نالت من شرعيته عوامل ترتبط بالفساد أو سوء استخدام السلطة (حالة المال السياسي وعائلة غوبتا في جنوب إفريقيا، أو عصابة غريس موجابي في زيمبابوي)، وبات الرئيس وجماعته خطراً على النخبة الحزبية الحاكمة، بأفرعها النافذة في مؤسسات الدولة، ومنها الجيش والشرطة. وعليه؛ نجد أنّ تدخل الجيش في زيمبابوي لفرض إرادة الحزب على الرئيس لم يكن على شاكلة الانقلابات العسكرية المعهودة؛ لأنه أشبه بالفرع العسكري للحزب الحاكم. وثمّة بديلٌ جاهز في الحالتَين، وهو «نائب الرئيس» الذي يضمن استمرار النخبة مع تحسين صورتها.
وتطرح حالة بوتسوانا نموذجاً مغايراً بعض الشيء في سياق الجنوب الإفريقي، فقد قام الرئيس «خاما» بعد عشر سنواتٍ في السلطة بالاستقالة لصالح نائبه «موكغاليسي إريك كيبيتسوي ماسيسي»، ويبدو أنّ ذلك الأمر تقليدٌ متّبع لدى «حزب بوتسوانا الديمقراطي» الذي يحكم البلاد منذ أكثر من خمسين عاماً، لقد شهدت بوتسوانا منذ عام 1966م إحدى عشرة دورةً من الانتخابات العامّة التي فاز بها جميعاً الحزب الحاكم، وتطرح بوتسوانا نموذجاً مهمّاً للإدارة الرشيدة والتنمية الاقتصادية السليمة (5).
ويبدو الأمر في الحالة الإثيوبية- في ظاهره- تداولاً سلميّاً في السلطة بشكلٍ دستوري: الحزب الحاكم يجتمع وبشكلٍ ديمقراطي، ويختار أميناً عامّاً جديداً له هو الدكتور أبي أحمد.
هذا الزعيم الشاب هو ابن الدولة الإثيوبية، فهو رئيس المنظمة الديمقراطية لشعب الأورومو، التي تُشكّل أحد الأضلاع العِرْقية الأربعة في ائتلاف الجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي، وهو يتكلم ثلاث لغات إثيوبية، ويحمل درجة الدكتوراه في السّلم والأمن من جامعة أديس أبابا، كما أنه خدم في الجيش، وعمل الدكتور أحمد وزيراً للعلوم والتكنولوجيا في حكومة ديسالين.
ربما يكون الرجل هو الخيار الأنسب، بحكم صغر سنّه وانتماءاته العِرْقية، للتصدي لمهمّة توسيع المجال السياسي والتواصل مع المعارضة، ولكن يتعيّن عليه- حتماً- الاستجابة لبعض المطالب الشعبية، وذلك هو التحدي الكبير.
كيف نفهم ما حدث في المشهد الإثيوبي الذي لا يبتعد في حقيقة أمره عن عددٍ من الحالات الإفريقية الأخرى؟ (6)
ثمّة عوامل ثلاثة محورية تساعد على الفهم والتأويل للنظام السياسي الإثيوبي، وهي:
أولها: الحزب أقوى من الزعيم: العالمون بالشأن الإثيوبي يدركون مدى رمزية منصب رئيس الوزراء في فترة ما بعد ميليس زيناوي الذي تمتع بمسحةٍ من زعامة كارزمية طاغية، فمنصب رئيس الوزراء- كما جسّده بحقّ ديسالين- هو في الغالب مجرد واجهةٍ رمزية للجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية الحاكمة، التي تحكم من وراء ستار، فاختصاصات الدولة الحقيقية، ومركز صنع القرار، تكمن في أيدي نخبة أقلية التيغراي التي تدير المركب الأمني والعسكري في البلاد.
ويرى بعض الكتاب بأنّ رئيس الوزراء ديسالين أُكره على الاستقالة نتيجة ازدياد حدّة الخلافات داخل الجبهة الحاكمة: بين جناح التيغراي الأقوى نفوذاً وشركائهم الأقلّ شأناً من الأمهرا والأورومو، ولعلّ ذلك ما يؤكده انتخاب الدكتور أبي أحمد أميناً عامّاً للحزب الحاكم بنسبة 60% فقط من جملة الأصوات.
ثانيها: حالة الاضطراب السياسي (الحرب الهجين): إذ تشهد إثيوبيا حالةً من الاضطرابات التي تعبّر عمّا أسماه الفقه المعاصر باسم «الحرب الهجين»، الذي يجمع بين العناصر التقليدية وغير التقليدية والمواجهات النظامية وغير النظامية التي تشمل حرب المعلومات والفضاء الإلكتروني. وتمثّل الهوية القبلية والإثنية أحد أبرز الأسباب الدافعة لهذا النمط الجديد من المواجهات العنيفة في المشهد الإثيوبي، إذ يشتكي الأورومو- الذين يشكّلون حوالي ثلث السكان- ظلماً وقع عليهم، حيث إنهم استُبعدوا من العملية السياسية في البلاد، وحُرموا من عوائد التنمية الاقتصادية التي تعبّر عن قصة النهوض الإثيوبي في السنوات الأخيرة.
ثالثها: الفيدرالية الزائفة: من الناحية الدستورية تُعدّ إثيوبيا دولةً فيدرالية، بيد أنّ الطريقة التي تعمل بها توحي بأنها دولةٌ مركزية يسيطر عليها الحزب الحاكم، الذي يحاكي- ولو من طرفٍ خفي- تجربة الحزب الشيوعي الصيني.
وطبقاً لمؤسسة «ستراتفور»؛ فإنه يمكن اختزال الاضطرابات في إثيوبيا إلى ثلاثة أرقام: (35 و 27 و 6)، ويمثل الرقم الأول النسبة المئوية للأورومو، أما الثاني فهو نسبة الأمهرا في بلدٍ يبلغ عدد سكانها نحو 100 مليون نسمة. ومع ذلك؛ فإنّ هاتَين المجموعتَين لا يتحكمان في مقاليد الحكم، عوضاً عن ذلك نجد عِرْقية التيغراي- التي تشكّل 6% من السكان- هي التي تقود أمر البلاد والعباد في دولةٍ تشكّل القوة الضاربة في منطقة شرق إفريقيا (7).
إنّ التحدي الحقيقي الذي يواجه إثيوبيا، في ظلّ زعامة أبي أحمد، يتمثّل في حكم الـ6% لأقلية التيغراي التي تُحكم قبضتها على الجيش والأصول الاقتصادية الرئيسية في البلاد، كما أنها تقود الائتلاف الحاكم المتمثل في حزب الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية.
وتحاول كلٌّ من الأورومو والأمهرا منذ سنواتٍ إدخال إصلاحاتٍ كبيرة على بنية النظام السياسي دون جدوى، وقد استخدم نشطاء هاتَين الجماعتَين الاعتصامات، ومسيرات الاحتجاج، والحملات المحدودة على غرار حرب العصابات في مواجهة قوات الشرطة والشركات المرتبطة بالحكومة المركزية. وعوضاً عن محاولة الاستجابة واستيعاب مشاعر الغضب بين الأهالي؛ كان ردّ الحكومة قاسياً من خلال تشديد قبضتها على وسائل الإعلام الاجتماعية، وتنفيذ اعتقالاتٍ جماعية لقادة الاحتجاج الحقيقيّين أو المحتملين.
قد تُمثّل هذه الاستقالات، التي انتزعت كُرهاً بشكلٍ أو بآخر في أغلب هذه الحالات، محاولةً لتجميل صورة النخبة الحاكمة وإطالة عمرها في السلطة. وربما يكون من المفيد هنا ملاحظة أنه في نفس الوقت الذي تمّت فيه عمليات الضغط على كلٍّ من موجابي وزوما من أجل الاستقالة؛ كانت قوات الشرطة أو الجيش تداهم مقار أنصارهما والمتورطين في قضايا فساد، وفي الحالة الإثيوبية تمّ إطلاق سراح آلاف المعتقلين السياسيّين.
لا أعتقد أنّ محاولات التجمّل وتغيير «جلد» النظام السياسي؛ تكفي وحدها لمواجهة طبيعة التحديات الكبرى التي تواجه المجتمعات الإفريقية التي تواجه ثورةً ديموغرافية يغلب عليها طابع الشباب، وثورة التوقعات المتزايدة في عصر التكنولوجيا، وثورة المعلومات.
ثانياً: قيود الفترة الرئاسية وإشكالية دوران النخبة الحاكمة:
لقد أصبحت قضية التمديد للرؤساء الأفارقة، للاستمرار في مناصبهم بشكلٍ يتجاوز القيود الدستورية، تمثّل أحد التحديات الكبرى المتعلقة بمستقبل الديمقراطية والتطور الدستوري في إفريقيا، وعادةً ما يلجأ هؤلاء الزعماء إلى إجراء تعديلاتٍ دستورية لإزالة القيود المفروضة على فترة الرئاسة، والتي عادةً ما تكون محكومةً بفترتَين على الأكثر.
وقد أضحى ذلك الاتجاه، الذي عبّر عنه البعض باسم حالة «العجز الديمقراطي» في الواقع الإفريقي المعاصر، يشكّل محور الجدل حول الولاية الثالثة (8) third term، فهذه الولاية الثالثة تعدّ انقلاباً دستوريّاً يمثّل حجر عثرةٍ أمام التطورات الكبرى التي شهدتها كثيرٌ من الدول الإفريقية منذ مرحلة القدوم الثاني لإفريقيا أواخر القرن المنصرم.
إنّ إعادة انتخاب الرئيس بول كاغامي لولايةٍ ثالثة مدتها سبع سنوات، في رواندا في أغسطس 2017م، يشكّل أحد أبرز الأمثلة التي تقع في قلب هذا الجدل الدستوري، لقد منح التعديل الدستوري لعام 2015م الرئيس كاغامي حقّ الترشح للرئاسة، على الرغم من أنه أكمل فترتَين مدة كلٍّ منهما سبع سنوات، طبقاً لدستور عام 2003م، ومن المعروف أنّ الرئيس كاغامي يتولى السلطة بشكلٍ فعلي منذ منتصف التسعينيات، غير أنه تولى الرئاسة رسميّاً في إطار الترتيبات الانتقالية في عام 2000م. وطبقاً للتعديل الدستوري؛ سوف يُسمح لكاغامي بفترة ثالثة- حتى عام 2024م-، بعدها يتمّ تطبيق قاعدة: فترتَين رئاسيتَين فقط؛ مدة كلٍّ منهما خمس سنوات. بيد أنّ هذا النظام الجديد لن يُطبق بأثرٍ رجعي، وهو ما يسمح للرئيس كاغامي بالبقاء في منصبه حتى عام 2034م.
وهناك عملياتٌ مماثلة جارية في أوغندا، فقد تمّ التخلص من القيود المفروضة على مدة الرئاسة عندما حدث الانتقال إلى نظام تعدد الأحزاب. ويحاول النظام الحاكم من خلال البرلمان الأوغندي إلغاء الحدّ الأقصى لسنّ المرشحين للرئاسة (75 عاماً)، ولعلّ ذلك من شأنه أن يسمح للرئيس يوري موسيفيني البالغ من العمر 72 عاماً– ويتولى السلطة بشكلٍ فعلي منذ عام 1986م- بالتنافس في الانتخابات المقبلة في عام 2021م.
وتطرح بوروندي مثالأ آخر في هذا السياق، لقد تمكن الرئيس «بيير نكورونزيزا» من إجراء تعديلات دستورية لتمديد فترة رئاسته من خمس إلى سبع سنوات، بيد أنّ هذا التعديل- كما هو الحال في رواندا- لا يسري بأثرٍ رجعي، مما يعني أنّ الرئيس بمقدوره أن يظلّ في منصبه حتى عام 2034م.
ثمّة دولٌ أخرى، مثل توغو والغابون وأوغندا وتشاد والكاميرون وجيبوتي وجمهورية الكونغو والسودان وإريتريا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، ضربت جميعها بالقيود الدستورية المفروضة على مدة ولاية الرئيس عرض الحائط، لقد قاموا بذلك عن طريق (الإلغاء أو التعديل أو التجاهل)، أو ببساطة بعدم إجراء الانتخابات أصلاً.
كما أنّ هناك بلداناً أخرى، مثل إثيوبيا وغامبيا، لم تضع حدوداً زمنية محددة لولاية الرئيس.
وتجدر الاشارة إلى أنّ بعض محاولات تمديد فترة الحكم قد باءت بالفشل نتيجة الضغوط الشعبية أو رفض المؤسسة العسكرية، ومن بين تلك الأمثلة: فريديريك شيلوبا في عام 2001م، وإدغار لونجو في زامبيا، وأولوسيجون أوبيسانجو من نيجيريا (2005)، ومامادو تاندجا في النيجر (2009-2010م)، وبليز كومباوري في بوركينا فاسو (2014م).
جدول: رقم (1)
أطول الزعماء الأفارقة بقاءً في السلطة (2018م)
الرئيس |
الدولة |
سنوات بقائه في السلطة |
تيودورو اوبيانج نجوما |
غينيا الاستوائية |
39 |
بول بيا |
الكاميرون |
36 |
دنيس ساسو نجيسو |
الكونغو |
34 |
يوري موسيفيني |
أوغندة |
31 |
سواتيني الثالث |
إيسواتيني |
31 |
عمر البشير |
السودان |
29 |
إدريس ديبي |
تشاد |
28 |
أسياسي أفورقي |
إريتريا |
25 |
عبدالعزيز بوتفليقه |
الجزائر |
19 |
إسماعيل عمر غيله |
جيبوتي |
18 |
المصدر: من إعداد الباحث
وتُفصح الخبرة المعاصرة في إفريقيا عن استخدام عدة وسائل لتغيير قيود المدة الرئاسية، ومن ذلك: الاستفتاءات الوطنية، والتعديلات الدستورية من قِبَل الهيئات التشريعية، والتفسيرات القضائية.
ﯾﺻﻧف بعض الكتاب هذه الوسائل إلى نوعَين:
أولهما: الوسائل «الناعمة»: وهي تتضمن محاولة الاستفادة من نقاط الغموض في القانون من أجل الحصول على مزيدٍ من الوقت في المنصب، ومن الأمثلة على ذلك: عبد الله واد في السنغال وبليز كومباوري في بوركينا فاسو؛ اللذين جادلا بأنّ القيود الزمنية لا تنطبق بأثرٍ رجعي على فترة ولايتهما الأولى في المنصب. وبالمثل: جادل «بيير نكورونزيزا» في بوروندي بأنّ التقييد لا ينطبق عليه؛ لأنه تمّ انتخابه بصورةٍ غير مباشرة قبل أن يخدم فترة ولايته الأولى.
أما النوع الثاني: فيشمل الوسائل «الصعبة» الخاصّة بإلغاء القيود الزمنية: وﻣن اﻷﻣﺛﻟﺔ ﻋﻟﯽ ذﻟك إدريس دﯾﺑﻲ في ﺗﺷﺎد اﻟذي أﺟرى اﺳﺗﻔﺗﺎءً، ﻓﻲ ﻋﺎم 2005م، للتخلص من نصّ المادة المتعلقة بقيود اﻟفترة اﻟرﺋﺎﺳﯾﺔ ﻣن اﻟدﺳﺗور.
بينما لجأ ﻗﺎدةٌ آﺧرون إلى إﺟراء ﺗﻌدﯾﻼت ﻋﻟﯽ النصوص الدستورية المتعلقة بفترة الرئاسة ﻣن ﺧﻼل المؤسسة التشريعية، ومن الأمثلة على ذلك: أياديما في توغو (2002م)، وعمر بونغو في الغابون (2003م)، ويوري موسيفيني في أوغندا (2005م)، وبول بيا في الكاميرون (2008م)، وعمر غيله في جيبوتي ( 2010م).
يجادل البعض بأنّ السماح للرؤساء الأفارقة بالاستمرار في المنصب هو في الحقيقة يعبّر عن اختيارٍ شعبي، ولا يتعارض مع المبادئ الديمقراطية، فقد يفضل الناخبون أنفسهم إعادة انتخاب القادة الأكفاء، الذين سيظلون على أية حالٍ في مناصبهم طبقاً لنتائج صناديق الاقتراع، وقد أعرب كلٌّ من الرئيس كاغامي وموسيفيني عن قناعتهما بهذه الحجة البالغة.
وعليه؛ فإنّ منع أي شخص من الترشح قد يقيّد بشكلٍ واضحٍ من الخيارات الديمقراطية، ويقوّض إمكانات البلدان الإفريقية في تحقيق الرخاء والاستقرار.
وعلى أي حال؛ لا يوجد مبدأٌ ديمقراطي مقبولٌ عالميّاً ينصّ على مدة بقاء الحاكم في المنصب، إذ تفتقر العديد من الديمقراطيات الرائدة إلى نصّ القيد الزمني على ولاية شاغلي أعلى المناصب السياسية، وعلى سبيل المثال: قادت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل حزبها إلى سدّة الحكم في أربعة انتخابات متتالية.
ويرى بعض الدارسين أنه في حالة رواندا- على الأقل- فإنّ متطلبات الاستقرار والتنمية تتجاوز المخاوف بشأن مسائل إجرائية، مثل تقييد فترة الرئاسة (9).
لقد استطاعت حكومة كاغامي تحقيق النمو الاقتصادي المستدام بحوالي 7% سنويّاً، وبذلت جهوداً ناجحةً في القضاء على الفساد، ورفع مستويات المعيشة. لقد تبنّى مؤيدو كاغامي فترة ولايته الثالثة لضمان قدرته على إتمام بعض المشاريع المهمّة، مع الاعتراف بأنّ هذا القائد القدير هو فرصةٌ لا تتكرر في العمر، إنهم يرون رواندا بصورة «سنغافورة إفريقيا»، حيث تحقق تقدّماً اجتماعيّاً واقتصاديّاً كبيراً أشبه بما حققه «لي كوان يو» على المدى الطويل، وعليه؛ لا ينبغي حرمان المواطنين من حقّهم في اختيار قادتهم، خصوصاً عندما يكون هؤلاء القادة أكثر شعبيةً ونجاحاً.
بيد أنّ هناك في المقابل مَن يرى بأنّ دوران القيادة وتغيّرها له تأثيرٌ إيجابي في حدّ ذاته على تطور الديمقراطيات الوليدة في إفريقيا، ومن المحتمل أن يؤدي إلى إدخال إصلاحاتٍ جديدة واستراتيجياتٍ جديدة، بعضها قد يُثير آمالاً جديدة لدى المواطنين، ففي الدول المنقسمة عِرقيّاً، مثل نيجيريا، تُسهم القيود الزمنية على مدة ولاية الرئيس في تدوير منصب الرئيس بين الأقاليم المختلفة، وتُشجّع التوزيع المتوازن للموارد وللسلطة السياسية.
وطبقاً لتحليلٍ أجراه مركز إفريقيا للدراسات الاستراتيجية (ACSS) في العام الحالي؛ فإنّ أقلّ من 40% فقط من البلدان الإفريقية قد فرضت حدوداً زمنية في الدستور على الولاية الرئاسية، كما تنحى الرؤساء في 15 بلداً فقط بعد استكمالهم فترة الولايتَين.
ولا شك في أنّ عدم وجود قيود زمنية قد يفضي إلى حالةٍ من الانسداد السياسي، حيث لا يستطيع السكان تغيير قادتهم من خلال الوسائل الدستورية والسياسية الثابتة، ولعل ذلك قد يؤدي إلى تبرير اتخاذ إجراءاتٍ بديلة عنيفة لإحداث التغيير المنشود، وعليه توجد علاقة ارتباطية بين تقييد مدة الولاية الرئاسية والصراعات التي يشهدها المجتمع، ولا أدلّ على ذلك من أنّ معظم الصراعات في إفريقيا هي نتيجةٌ للأزمات السياسية، وتشمل تلك الصراعات: الأزمة المستعرة في جمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث رفض الرئيس كابيلا تنظيم انتخابات جديدة، وتطرح جنوب السودان مثالاً آخر، حيث يتشبث الرئيس سلفاكير بالسلطة في مواجهة حربٍ أهلية عنيفة.
ومع ذلك؛ فإنّ السياق الإفريقي يطرح مسارات مختلفة لدوران النخبة الحاكمة؛ حتى في ظلّ وجود قيودٍ زمنية على مدة الولاية الرئاسية، فثمّة ثلاثُ حالاتٍ تثير تساؤلات حول جدوى تغيير القيادة السياسية الناجم عن قيود الفترة الرئاسية في إفريقيا:
1- حالة وجود حزب حاكم لا يتغير عند تغيير القيادة السياسية: مثال ذلك: حالات تنزانيا وجنوب إفريقيا وإثيوبيا.
2- حالة تشكيل أحزاب سياسية جديدة من قِبَل الرئيس الحالي قبل إجراء الانتخابات: وعلى سبيل المثال: فإنّ تشكيل حزب اليوبيل الكيني (JP) في عام 2016م، بعد عامٍ واحد فقط من تأسيس حزب تحالف اليوبيل (JAP) في عام 2015م، مثّل خطوةً لدفع إعادة انتخاب أوهورو كينياتا في الانتخابات الرئاسية عام 2017م. ومن المعروف أنّ أوهورو كينياتا قد خرج من حزب الاتحاد الوطني الإفريقي في كينيا (KANU) في أبريل 2012م؛ ليؤسس حزب التحالف الوطني (TNA) الذي دفع به لمنصب الرئاسة في عام 2013م، ولا شك في أنّ هذا الاتجاه يلفت الانتباه إلى أساسيات التغيير في الحزب الحاكم.
3- حالة الدفع بأشخاص معينين إلى قمّة السلطة: يأتي ذلك غالباً نتيجة ممارساتٍ غير ديمقراطية داخل هياكل الأحزاب السياسية، ولا يخفى أنّ ازدواجية قيادة الحزب الحاكم وقيادة الدولة تفسد من احتمالات المساءلة السياسية لقمّة الهرم السياسي.
ثالثاً: الانتخابات والانتقال الديمقراطي:
شهدت إفريقيا بعض التحولات السياسية منذ عام 2017م، استندت على إجراء الانتخابات الروتينية، وفي بعض الحالات؛ استخدمت الأحزاب السياسية الحاكمة هذه الانتخابات لتوطيد قبضتها على السلطة السياسية، لكنها أفضت إلى تغييراتٍ بارزة في الحرس القديم، كما جسّدته التجربة الليبيرية عندما فاز الحزب المعارض بزعامة لاعب كرة القدم السابق (جورج ويا) في الانتخابات الرئاسية.
ومن المتعارف عليه في أدبيات التحوّل الديمقراطي أنّ الانتخابات توفر فرصاً حقيقية للتغيير، على أنّ الخبرة الإفريقية منذ تسعينيات القرن الماضي تقدّم صورةً مختلطة إلى حدٍّ ما بشأن تأثير المنافسة الانتخابية (والسياسات المتعددة الأحزاب على نطاقٍ أوسع) على إصلاح السياسات العامّة.
هناك بالتأكيد أمثلةٌ على أنّ الاتجاه العام- من حالة التنافسية تلك- قد دفع بالوعود الانتخابية لتوسيع نطاق وحجم المساعدات الاجتماعية، ففي بوتسوانا؛ أظهرت الأبحاث أنّ حزب بوتسوانا الديمقراطي الحاكم يعتاد تقديم نفسه بوصفه حزب الإغاثة من أضرار الجفاف، وفي مواجهة التحديات القوية من قِبَل أحزاب المعارضة التي تستند إلى قواعد حضرية؛ تحرك الحزب الحاكم في بوتسوانا من أجل تطبيق نظام معاشات الشيخوخة، وتوسيع نطاق برامج التغذية والعمل (10).
وتطرح الانتخابات العامّة الكينية، التي أُجريت في الفترة من أغسطس إلى أكتوبر 2017م، بعض الدروس عن كيفية تعميق الحكم الديمقراطي، وإضفاء الطابع المؤسسي عليه، من خلال الانتخابات التعددية، تعدّ كينيا دولةً ديمقراطية مستقرة وناضجة نسبيّاً في السياق العام الإفريقي، وعلى الرغم من كونها قوةً اقتصادية ناهضة فإنها محاطة بمنطقة تعصف بها نزاعاتٌ طائفية معقدة، وأزماتٌ إنسانية طاحنة. بعد الانتخابات العامّة في 8 أغسطس 2017م؛ أعلنت اللجنة المستقلة للانتخابات فوز الرئيس الحالي «أوهورو كينياتا» بنسبة 54.17% من الأصوات، على أنّ زعيم المعارضة المخضرم «رايلا أودينغا» أعلن أنّ الانتخابات الرئاسية شابتها مخالفات، وأنّ النتائج «تمّ الاستيلاء عليها والتلاعب بها لصالح الرئيس كينياتا»، وفي الأول من سبتمبر 2017م؛ ألغت المحكمة العليا الكينية نتائج الانتخابات الرئاسية، وأمرت بإعادة تنظيمها في غضون 60 يوماً، غير أنّ الاستعدادات لإجراء انتخابات الإعادة شابها الجدل، حيث رفض تحالف المعارضة بقيادة أودينغا الموعد الجديد، وأعلن انسحابه منها، وعندما أُعلنت النتائج النهائية لجولة الإعادة في 30 أكتوبر 2017م حصل كينياتا على 98% من الأصوات، وعلى الرغم من محاولات المعارضة النيل من مصداقية الانتخابات فإنّ المحكمة الدستورية العليا أقرّت بصحتها.
ومع ذلك؛ نرى أنّ المصالحة التاريخية بين فرقاء الانتخابات الكينية في مايو 2018م تُعطي درساً له مغزاه في كيفية مواجهة تداعيات ما بعد الانتخابات العامّة في إفريقيا، فقد اعتذر الرئيس كينياتا لزعيم المعارضة رايلا أودينجا لملاحظاته الزائفة التي تمّ الإدلاء بها في أثناء الحملة الانتخابية عام 2017م، وفي المقابل وعد أودينجا بالعمل مع الحكومة لمحاربة الفساد.
ومن جهة أخرى؛ فقد حقّقت سيراليون انتقالها الديمقراطي الثالث من خلال التنافس بين أكبر حزبَين في البلاد بعد نحو عشر سنوات من الحروب الأهلية، وهي تُعدّ مثالاً ناجحاً للتكيف مع وإدارة مرحلة ما بعد الصراع، إنّ انتخاب «جوليوس مادا بيو» رئيساً للبلاد هو بحدّ ذاته تحوّلٌ ملاحظٌ في المشهد السياسي، لقد كانت هناك حاجةٌ لإثبات وجود فرصة أخرى للفوز بمنصب الرئاسة في إفريقيا، فقد فاز زعيم حزب الشعب السيراليوني المعارض في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية في 31 مارس 2018م.
وعلى أية حال؛ فقد شهدت إفريقيا عدداً من التحولات القيادية خلال الفترة ما بين عامي 2006م و2016م، فقد تضاعف عدد الانتخابات خلال هذه الفترة الزمنية ليصل إلى (109)، كما ترتب عليها حدوث 44 تغييراً في السلطة. وتظهر بيانات مؤشر «محمد إبراهيم» لعام 2017م (الخاصّ بالحوكمة الإفريقية): أنه يتمّ إجراء المزيد من الانتخابات الحرة والنزيهة في القارة الإفريقية. في المتوسط؛ تحسّن مؤشر الانتخابات الحرة والنزيهة منذ عام 2006م، الذي يقيس مدى نجاح الانتخابات التشريعية والتنفيذية بوصفها حرة ونزيهة، بما في ذلك حياد القوانين والأطر الانتخابية (11).
خاتمة:
يتعيّن علينا من أجل فَهْم التحولات السابقة والمسارات المتناقضة، التي تطرح قضية الاستعصاء الديمقراطي، العودة إلى السياق التاريخي الذي يصوغ ويشكّل مجمل الوضع الحالي لإفريقيا.
لقد تميّز تاريخ إفريقيا في مرحلة ما بعد الاستعمار بهيمنة المقولات والسرديات الكبرى، مثل: تصفية الاستعمار، والتخلّص من العنصرية، وإضفاء الطابع الإفريقي. لكن قضية الديمقراطية ظلّت غائبة، فقد تركز النقاش- وقت الاستقلال- على التنموية مقابل الديمقراطية، ولم يبرز مفهوم «التطور الديمقراطي» ويحتل مكانته في سلّم أولويات السياسة الإفريقية، وهذه هي القضية التي لا تزال معظم البلدان الإفريقية تتعامل معها حتى اليوم.
إنّ نشوة التحوّل إلى الديمقراطية، التي شكّلت القدوم الثاني لإفريقيا، تميّزت بتبنّي صيغ نُظم التعددية الحزبية، ومؤتمرات بناء التوافق الوطني، والتحولات الديمقراطية التي تتمّ تحت إشراف المؤسسة العسكرية.
ومع ذلك- في معظم الحالات- اختطفت عمليات التحوّل الديمقراطي، مع وجود قوى شعبية ومجموعات نضال وطنية من أجل الديمقراطية تسير في ركب أجندات الدولة.
وبعبارة أخرى: كان الشاغل الرئيسي هو التركيز على آليات التحوّل الديمقراطي (مثل الدساتير) على حساب المواطنين، وفي كثيرٍ من الحالات؛ أدى هذا الانشغال إلى وجود نصوصٍ عملت على تقويض تلك المبادئ والقيم الديمقراطية والدستورية.
في هذا السياق نستطيع أن نوجز الاستجابات السياسية في إفريقيا للحكم الدستوري وتقييد فترة السلطة إلى ثلاثة فئات رئيسية، هي:
1- الاستثنائية الإفريقية: التي تعني اختلاف الواقع الإفريقي، واستعصاء الأفارقة على الانقياد والنظام.
2- سياسة الأوتقراطية الجديدة: التي تمّ إضفاء الشرعية عليها من خلال تراث حروب التحرر الوطنية، حيث يستخدم القادة وسائل غير دستورية وقسرية للإبقاء على السلطة. وعلى الرغم من أنّ موجة الدمقرطة في فترة ما بعد الحرب الباردة قد خففت من غلواء حالات «الحكم الشخصي»؛ فإنّ هذه العملية لم يتمّ تعزيزها بعد، إذ إنّ ضعف الأحزاب المعارضة، والتركيز على الولاء الشخصي بدلاً من القضايا الوطنية، والقيود المفروضة على المجتمع المدني والإعلام، والجيوش المسيّسة والصراعات العنيفة، لا تزال كلها قضايا مثيرةً للقلق.
3- سياسة التغيير من داخل النظام الحاكم.
ولا شك في أنّ تنوع التضاريس السياسية لإفريقيا يقتضي منّا مزيداً من البحث والتأمل لفهم مسارات التحوّل المتناقضة.
الإحالات والهوامش:
(1) لمزيد من التفصيلات حول أزمة هذا النموذج المعرفي؛ انظر: حمدي عبدالرحمن، الاتجاهات الحديثة في دراسات النظم السياسية: إفريقيا نموذجاً، عمان: المركز العلمي للدراسات السياسية، 2008م.
(2) George Ayittey, Africa’s cheetahs versus hippos ,TEDGlobal 2007. Available at: https://www.ted.com/talks/george_ayittey_on_cheetahs_vs_hippos retrieved June 3, 2018.
(3) Chris Fomunyoh, Africa’s Democratic Deficit, Georgetown Journal of International Affairs, Vol. 6, No. 2 (Summer/Fall 2005), pp. 13-19.
(4) Paula Cristina Roque, Reform or unravel? Prospects for Angola’s transition, Southern African Report 8, Institute of Security Studies, May 2017. See Also: Robyn Dixon, Angola gets new president after 38 years, but its outgoing leader and his family still cling to power, September 26,2017. Available at: http://www.latimes.com/world/africa/la-fg-angola-power-transfer-20170926-story.html Retrieved on June 3, 2018.
(5) Rorisang Lekalake, Botswana’s democratic consolidation: What will it take? Afrobarometer Policy Paper No.
30 January 2016.
(6) J. Abbink, Ethnicity and Conflict Generation in Ethiopia: Some Problems and Prospects of Ethno-regional Federalism. Journal of Contemporary African Studies, 24,2006: 389–413.
(7) Bekalu Atnafu, Taye Ethnic federalism and conflict in Ethiopia, The African Centre for the Constructive Resolution of Disputes (ACCORD), 7 Dec 2017.
(8) AdrIENNE LEBAS,Term Limits and Beyond: Africa’s Democratic Hurdles, Current History, May 206, 169- 174.
(9) Catherine S. Namakula, (PDF) The efficacy of presidential term limits in Africa. Available from: https://www.researchgate.net/publication/312880882_The_efficacy_of_presidential_term_limits_in_Africa [accessed Jun 03 2018].
(10) Hickey, Sam, Tom Lavers, Miguel Niño-Zarazúa, and Jeremy Seekings. The Negotiated Politics Of Social Protection In Sub-Saharan Africa, WIDER Working Paper 2018/34 Helsinki: UNU-WIDER, 2018.
(11) Zainab Umar ,Does a change in leadership result in improved governance?, 15 February, 2018. Available at:
http://mo.ibrahim.foundation/news/2018/change-leadership-result-improved-governance Retrieved on June 3, 2018.