على الرغم من تراجُع إفريقيا في أجندة السياسة الخارجيَّة الرُّوسِيَّة عقب انهيار الاتحاد السوفييتي في أوائل تسعينيات القرن الماضي، وما تسبَّب فيه الغياب الرُّوسِيّ من فراغ استغله لاعبون جُدُد خلال العقود الثلاثة الماضية في القارَّة على حسابه (1) ، إلا أنه مع صعود الرئيس فلاديمير بوتين إلى السلطة منذ بداية الألفية الجديدة، حاولت روسيا استعادة نفوذها السياسيّ كقوة كبرى في النظام الدولي، تمتلك العديد من المصالح في شتَّى أنحاء العالم، ومنها قارَّة إفريقيا التي تمتلك أهميةً استِرَاتِيجِيَّة في النظام الجيوسياسي الدولي برزت بوادره بشكل مكثَّف خلال العقد الماضي.
ولطالما وُصِفَتْ منطقة القرن الإفريقي بكونها تتمتَّع بشخصيَّة ديناميكيَّة تجعلها ضِمْنَ أهمّ المناطق الاستِرَاتِيجِيَّة في العالَم؛ نظرًا لما تتمتَّع به من موقع جغرافيّ متميِّز، وكونها تُطِلّ على ممرَّات مائية مهمَّة، فضلاً عن احتوائها على العديد من الموارد الطبيعية، وقربها من مسرح الأحداث في منطقة الشرق الأوسط، مما جعلها محطَّ أنظار العالم لا سيما القوى الكبرى.
وفي ظل غموض السياسة الجديدة للإدارة الأمريكيَّة بعد صعود ترامب إلى السلطة إزاء إفريقيا بشكل عامّ، والقرن الإفريقي بشكل خاصّ، ما دفَع بعض التحليلات إلى تبنِّي الرأي القائل بتراجع نفوذ الولايات المتحدة الأمريكيَّة في القارَّة؛ لانشغالها بتسارع الأحداث في منطقة الشرق الأوسط وتعقيداتها، وهو ما يُعَدُّ فرصةً قويَّةً أمام روسيا التي تُعتَبر عنصرًا أساسيًّا في خارطة النفوذ الشرق الأوسطيَّة للاندفاع نحو إفريقيا، وخَلْق مناطق نفوذٍ لها في منطقة القرن الإفريقي؛ بهدف تحقيق وتعزيز مصالحها فيها.
أولاً: منطقة القرن الإفريقي في الاستِرَاتِيجِيَّة الرُّوسِيَّة
احتلَّت إفريقيا المرتبة التاسعة بين قائمة المناطق العشرة الأكثر أهميَّةً بالنسبة للمصالح الرُّوسِيَّة وفقًا لوثيقة السياسة الخارجيَّة التي صدرت في عام 2008م التي وقَّعها الرئيس السابق ديمتري ميدفيديف. في حين أن وثيقة السياسة الخارجيَّة للاتحاد الرُّوسِيّ التي وقَّعها الرئيس بوتين في 2015/2016م قد نصَّت على أن روسيا ستتوسَّع في علاقاتها مع دول قارَّة إفريقيا في مختلف المجالات؛ سواء على المستوى الثنائيّ، أو المستوى الجماعيّ؛ وذلك من خلال تحسين الحوار السياسي، وتكثيف التعاون الشامل؛ السياسيّ، والتجاريّ والاقتصاديّ، والعسكريّ والفنيّ، وفي مجال التعاون الأمنيّ، وكذلك التعاون في الشأن الإنسانيّ والتعليميّ، بما يخدم المصالح المشتركة، فضلاً عن المساهمة في تسوية الصراعات والأزمات الإقليميَّة، كما أن تعزيز علاقات الشراكة مع الاتحاد الإفريقي هو بمثابة عنصر مُهِمّ في السياسة الرُّوسِيَّة إزاء إفريقيا.
ومن ثَمَّ، أضحت إفريقيا هدفًا بارزًا في إطار تجديد روسيا لاستراتيجيتها الدَّوليَّة، خاصَّة في ظل تعاظم تأثيرها على الصعيد الدولي (2).
ولم تكن منطقة القرن الإفريقي ضِمْن اهتمامات السياسة الرُّوسِيَّة كمنطقة مهمَّة على الصعيدين الاستراتيجي والجيوسياسي، كجزء من فقدان الاهتمام لدى روسيا بالقارَّة ككل خلال تلك السنوات التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي، رغم أنه من الناحية التاريخية كانت المنطقة “من قناة السويس إلى خليج عدن” واحدة من المناطق الاستِرَاتِيجِيَّة التي خضعت للنفوذ السوفييتي، وأسهمت في تعظيم دوره العالمي؛ إلا أن روسيا وفي إطار سعيها إلى إعادة بناء دورها كقوة عظمى في السياسة الدَّوليَّة، بعدما أضحت أكثر استقرارًا مما كانت عليه في التسعينيات، شهدت تحت إدارة بوتين الثانية، تغييرًا في سياستها تجاه إفريقيا؛ من خلال سعيها إلى تعظيم مصالحها للبحث عن المزيد من الفرص والاستثمارات في منطقة القرن الإفريقي (3).
وينظر الروس إلى منطقة القرن الإفريقي على أنها تتمتَّع بمزيدٍ من الصراعات والنزاعات الإقليميَّة بين دولها، وتحديات أمنيَّة كبرى؛ من بينها: الإرهاب والقرصنة، والجريمة العابرة للحدود، والجريمة المنظَّمة، وهي الأسباب الرئيسة لازدياد النفقات العسكريَّة في المنطقة، كما تفسِّر تزايد إقامة قواعد عسكريَّة وبحرية وتجارية في المنطقة (4).
إلا أنَّ تلك الرؤية لم تُحَجِّم صانعي القرار الروس عن محاولات الدخول إلى المنطقة، والانخراط من أجل إيجاد موطئ قدم لها هناك، خاصَّة في ظل التطورات الديناميكية التي تشهدها المنطقة خلال المرحلة الراهنة، والتي سيترتب عليها تغيُّر المشهد الجيوسياسي، وإعادة هندسة العلاقات في القرن الإفريقي.
لذلك، تقدم روسيا نفسها لدول القرن الإفريقي على أنها شريك لا يمكن الاستغناء عنه في المنطقة، ومن هنا، تمثل التحركات الرُّوسِيَّة في المنطقة تحديًا بالنسبة لإعادة صياغة النفوذ الجيوسياسي في منطقة البحر الأحمر؛ حيث ترتبط تحركاتها في المنطقة بسعيها الحثيث إلى خلق نظام دولي متعدِّد القُطبية، يهدف إلى مواجهة تأثير القوى الدَّوليَّة في مناطق الصراع على النفوذ، ومنها إفريقيا، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية. وهو ما يدفع الروس إلى محاولة احتضان عددٍ من دول المنطقة مثل السودان وإريتريا، باعتبارهما مدخلاً مهمًّا إلى إفريقيا، وللتواجد بشكل مكثف في القرن الإفريقي، مستغلة في ذلك التراجع الأمريكي في المنطقة عقب فوز ترامب لتوسيع هامش المناورة من منطقة الشرق الأوسط إلى إفريقيا.
كما تراقب روسيا إلى جانب منطقة القرن الإفريقي، منطقة الساحل والصحراء، كجزءٍ من اهتمامها الجيوستراتيجي في القارَّة، وهو ما دفعها إلى إقامة وتقوية علاقاتها مع بعض دول المنطقة؛ من خلال توقيع سلسلة من الاتفاقيات الاقتصاديَّة والعسكريَّة والنووية مع نيجيريا والنيجر وتشاد، إضافة إلى السودان وكينيا وأوغندا وإثيوبيا وإريتريا (5).
وتستغل روسيا وضعها الدولي؛ باعتبارها إحدى الدول الخمس الكبار في مجلس الأمن الدولي، والتي تتمتع بحق النقض “الفيتو”، في إمكانية أن تُشَكِّل درعًا دبلوماسيًّا لدول المنطقة، خاصَّة في ظل معاناة بعض دول المنطقة من عقوبات دولية مثل السودان وإريتريا، مما يُسهم في تعزيز تواجدها في المنطقة، فضلاً عن الانخراط في قضايا المنطقة.
وفي ظل تضارب المصالح في منطقة القرن الإفريقي بين القوى الدَّوليَّة والإقليميَّة المتنافسة، وفي ظل اندفاع روسيا نحو لعب دور قوة عظمى في النظام الدولي، وتعارض مصالحها مع الولايات المتحدة الأمريكية في عددٍ من الملفات الدَّوليَّة والإقليميَّة، مثل الأزمة الأوكرانية، والأزمة السورية، والتي تُلْقِي بظلالها على ملفات أخرى، تتَّجه بعض الدراسات إلى التوصية بعدم الارتكان الرُّوسِيّ إلى منطقة القرن الإفريقي كحليف ورهان رابح لها، في ظل الوجود الأمريكي في المنطقة، وارتباط دولها بعلاقات وشراكات استِرَاتِيجِيَّة مع الولايات المتحدة برغم المزاعم بشأن تراجعها الراهن في المنطقة، بما يعظّم من التكلفة السياسيَّة والاقتصاديَّة على عاتق الروس حال الاندفاع نحو المنطقة.
لكن في نفس الوقت، يمكن النظر إلى التوجُّه الرُّوسِيّ كتطوُّر جديد يشهده القرن الإفريقي، بسبب التحركات الرُّوسِيَّة في المنطقة لإحداث اختراق فيها يُمَهِّد لها الطريق أمام توسيع نفوذها وإيجاد موطئ قدم راسخ في القرن الإفريقي، وهو ما سنتطرق له لاحقًا.
ثانيًا: المصالح الرُّوسِيَّة في منطقة القرن الإفريقي
ترتبط المساعي الرُّوسِيَّة بشأن التوجه نحو منطقة القرن الإفريقي بجملة المصالح الرئيسة للروس فيها، والتي تتمثل أبرزها في:
– المشاركة في احتواء خطر الجماعات والحركات الإرهابية؛ بما لا يهدد مصالحها في المنطقة، وبما يصعِّب من انتقال العناصر الجهادية إلى قلب الدولة الرُّوسِيَّة، أو مناطق الجوار والنفوذ الخاصة بها (6).
– استعادة النفوذ الرُّوسِيّ في المنطقة، وإيجاد موطئ قدم لها في منطقة البحر الأحمر، في ظل اشتداد التنافس الدولي والإقليمي على المنطقة، والرغبة الرُّوسِيَّة في مزاحمة القوى الدَّوليَّة لا سيما الولايات المتحدة على النفوذ في القرن الإفريقي.
– تستغل روسيا المنطقة كقاعدة للانطلاق نحو توسيع نفوذها في مناطق أخرى من القارَّة الإفريقيَّة، باعتبار أن منطقة القرن الإفريقي هي بوابة عبور إلى وسط وجنوب القارَّة (7).
– المساهمة في تأمين الملاحة البحرية في البحر الأحمر، والمشاركة في حماية مضيق باب المندب، فضلاً عن القرب من الأزمات الإقليميَّة في منطقة الشرق الأوسط.
– تعزيز التعاون السياسي، والتفاعل مع دول المنطقة، لضمان دعم روسيا والتطابق في المواقف في المحافل الدَّوليَّة بخصوص القضايا والملفات التي تهمّ الجانب الروسي.
– تنمية العلاقات التجارية والاقتصاديَّة، وتعزيز التجارة الثنائية مع دول المنطقة في مختلف القطاعات.
– فتح سوق جديدة في المنطقة، يمكن من خلالها تصدير المنتجات والخدمات والتقنيات الرُّوسِيَّة مثل بناء محطات الطاقة النووية، وبناء البنية التحتية، وتكرير النفط وخطوط أنابيب البترول، وإطلاق الأقمار الصناعية.
– استغلال ما تنعم به المنطقة الغنية بالعديد من الموارد الطبيعية، مثل النفط والغاز الطبيعي، والأراضي الزراعية، والثروة الحيوانية، وكثير من المعادن واليورانيوم.
– استغلال استمرار الصراعات والنزاعات الإقليميَّة في المنطقة بفتح أسواق جديدة لبيع السلاح الروسي، بما يمنحها النفوذ فضلاً عن المكاسب الاقتصاديَّة، خاصَّةً أن العقوبات الغربية تُمَثِّل عبئًا ثقيلاً على اقتصادها.
ثالثًا: مداخل روسيا إلى القرن الإفريقي
إن اكتساب وتحسين العلاقات الرُّوسِيَّة مع دول القرن الإفريقي تمثل أهمية متزايدة بالنسبة للروس، خاصَّةً في ظلِّ ما تتعرَّض له روسيا من ضغوط دوليَّة، والتي تصل إلى حدِّ العقوبات، وهو ما دفَعها إلى محاولة إيجاد مداخل من خلالها يمكن التغلغل الرُّوسِيّ في المنطقة، والدخول إلى معظم دول المنطقة بحيث تعزز علاقاتها في المجالات المختلفة السياسيَّة والاقتصاديَّة والعسكريَّة والأمنيَّة.
فهناك نشاط روسي متنامٍ باتجاه عودة العلاقات السياسيَّة والاقتصاديَّة والعسكريَّة مع قارَّة إفريقيا، لا سيما القرن الإفريقي، وتستخدم روسيا في ذلك عدة مداخل؛ من أهمها: مدخل تعزيز العلاقات السياسيَّة مع دول المنطقة، وفي سبيل ذلك أطلقت روسيا في عام 2015م المنتدى الرُّوسِيّ الإفريقي The Russian-African Forum بهدف تأسيس إقامة علاقات سياسيَّة واقتصاديَّة وتجارية جديدة بين الطرفين.
كما يبرز المدخل الاقتصادي من خلال استغلالها طريق الحرير الإفريقي؛ بهدف تعزيز علاقاتها الاقتصاديَّة في المنطقة، وخلق عمق استراتيجي لها في المنطقة.
إضافة إلى مشاركة خبراتها في الطاقة النووية والتكنولوجيا النووية لدول المنطقة؛ حيث وقَّعت مع عدد من دول المنطقة مذكرات تفاهم بشأن تشغيل محطات الطاقة النووية السلمية لتوليد الكهرباء؛ مثل إثيوبيا وكينيا والسودان.
كما أن مدخل مكافحة الإرهاب يُعَدُّ من أبرز المداخل لروسيا إلى القرن الإفريقي؛ حيث تلعب روسيا دورًا نشطًا في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في إفريقيا؛ حيث تشارك قوات رُوسِيَّة في حفظ السلام في دول إريتريا وإثيوبيا، والسودان، وجنوب السودان، والكونغو الديمقراطية، إضافة إلى كوت ديفوار وليبيريا، والصحراء الغربية (8).
وتزايد الوجود العسكري الرُّوسِيّ في إفريقيا، يعكسه حجم الالتزام الرُّوسِيّ بالمشاركة في عمليات حفظ السلام في قارَّة إفريقيا؛ حيث يتجاوز حجم الجنود الروس المشاركين في تلك العمليات حجم نظرائهم من دول فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية (9). فضلاً عن الترحيب الرُّوسِيّ بتسوية الخلافات والصراعات الإقليميَّة الراهنة في منطقة القرن الإفريقي، بما يعزِّز استقرار وأمن المنطقة.
كما تستخدم روسيا التجارة في السلاح كمدخل مهم لتوسيع شراكاتها في المنطقة، وتعميق العلاقات السياسيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة مع دول المنطقة، فقد قامت شركة Rosoboron Export خلال الفترة من 2011-2013م ببيع أكثر من 12 طائرة هليكوبتر هجومية من طراز Mi-24 وطائرات نقل هليكوبتر Mi-814 للحكومة السودانية (10) ، والوقوف ضد قرارات الأمم المتحدة بفرض حَظْر الأسلحة على بعض دول المنطقة التي تعاني من صراعات ممتدة مثل جنوب السودان، فضلاً عن بيع روسيا للأسلحة للطرفين؛ الإثيوبي والإريتري في حربهما في الفترة من 1998-2000م.
واعتمدت روسيا أيضًا سياسة تخفيض عبء الديون عن قارَّة إفريقيا؛ حيث قامت بإلغاء ديون بقيمة 20 مليار دولار في عام 2012م، وكانت روسيا قد قامت بإعفاء الدول الإفريقيَّة من الديون بقيمة 16 مليار دولار في عام 2008م. كما خفَّضَتْ عبء الديون لعددٍ من دول القرن الإفريقي، مثل إثيوبيا في إطار مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون، في الوقت الذي قدَّمت فيه مساعدات إنسانية لبلدان المنطقة، مثل إثيوبيا والصومال، بما يشكِّل تطوُّرًا إيجابيًّا في مسار العلاقات الرُّوسِيَّة مع دول المنطقة.
وفي نفس السياق، تلعب المراكز الثقافية الرُّوسِيَّة للعلوم والثقافة دورًا في تعزيز الوجود الرُّوسِيّ في المنطقة؛ حيث تعمل بشكل مثمر في إثيوبيا إلى جانب تنزانيا، والكونغو وزامبيا، كما تقوم روسيا بتقديم المنح والتدريب للطلبة الأفارقة في الجامعات الرُّوسِيَّة، ففي عام 2017م درس أكثر من 1800 شاب إفريقي في روسيا، وبشكل عام، هناك 15 ألف شاب إفريقي يدرسون في روسيا منهم 4000 في مِنَح دراسية مُمَوَّلَة من الحكومة الرُّوسِيَّة (11).
كما تسعى روسيا إلى التفاعل مع القضايا الإفريقيَّة على الصعيد الدولي، ومنها الدعوة الإفريقيَّة إلى إصلاح الأمم المتحدة، وأحقية حصول قارَّة إفريقيا على مقعد إفريقي في مجلس الأمن الدولي، لكي تُعَزِّز من تواجدها (12).
ولا تركز السياسة الرُّوسِيَّة تجاه منطقة القرن الإفريقي على تلك المداخل فحسب، بل تهتم أيضًا بالجانب الإنساني والقضايا الإنسانية، مثل دعم السلام، والتعليم، كمدخل مُهِمّ إلى دول المنطقة، جنبًا إلى جنب مع القضايا الأمنيَّة في المنطقة.
رابعًا: دوافع التوجُّه الرُّوسِيّ نحو القرن الإفريقي
تهدف السياسات الحالية للرئيس فلاديمير بوتين إلى إعادة تأسيس عالم متعدِّد القطبية؛ كوسيلة لاستعادة نفوذ روسيا على الصعيد الدولي، كلاعب رئيس على المسرح العالمي، تحت غطاء التعاون الاقتصادي والتجاري، وهو ما يجري بنجاح في القارَّة الإفريقيَّة؛ ففي أعقاب العقوبات المفروضة على الاتحاد الرُّوسِيّ من قبل الغرب، سارعت روسيا بشكل ممنهج إلى تكثيف جهودها بشأن بناء تحالفات سياسيَّة، وإبرام العديد من الصفقات التجارية والعلاقات الاقتصاديَّة مع عددٍ من الدول الإفريقيَّة؛ مثل السودان وإريتريا وزيمبابوي، في إطار ترويج بوتين لنظام عالمي بديل يكسر من حدَّة سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على مجريات الأمور في الساحة الدَّوليَّة (13).
ومن ثَمَّ، تتطلع روسيا إلى القرن الإفريقي بهدف محاولة التخفيف من وطأة الضغوط الدَّوليَّة، ويدفعها في ذلك عددٌ من الدوافع السياسيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة أيضًا، تعكس مدَى الاهتمام الرُّوسِيّ بإيجاد موطئ قدم للنفوذ والسيطرة في المنطقة:
– دوافع سياسيَّة:
تسعى روسيا إلى تجديد علاقاتها وإحداث اختراق مُهِمّ في المنطقة، وتعزيز تأثيرها السياسي، لكي تتمكن من مواكبة أمريكا والصين والقوى الأخرى فيها. يأتي ذلك بالتزامن مع التراجع الأمريكي في المنطقة، وفي ظل الانتشار السريع للصين في المنطقة. كما ترغب روسيا في التعاون مع دول إقليميَّة مهيمنة وصاعدة في المنطقة مثل إثيوبيا، بهدف توطيد نفوذها في المنطقة، وفتح آفاق تعاون جديدة مع باقي دول المنطقة من خلالها. فضلاً عن حرص روسيا على تقديم الدعم للاتحاد الإفريقي من أجل إيجاد تمويل مستدام لعمليات السلم والأمن في القارَّة الإفريقيَّة (14).
كما أنَّ مخاوف روسيا من العزلة الدَّوليَّة والدبلوماسية مِن قِبَل الغرب والولايات المتحدة بسبب السياسات الرُّوسِيَّة في سوريا وأوكرانيا وجورجيا؛ دفَع الكرملين إلى البحث عن حلفاء جدد، ومناطق نفوذ له في منطقة الشرق الأوسط، ومنها القرن الإفريقي (15) ؛ لمواجهة النفوذ الأمريكي، خاصَّة مع الدول التي تَخْضَع لعقوبات من الولايات المتحدة والغرب، وفي هذا السياق، قامت إريتريا بتقديم الدعم لروسيا في أزمة ضمّها لإقليم القرم من أوكرانيا وكذلك جورجيا، وهو ما اعتبرته روسيا نصرًا دبلوماسيًّا ولو رمزيًّا في الأمم المتحدة (16).
– دوافع اقتصاديَّة:
تمتلك المنطقة إمكانات اقتصاديَّة هائلة في ظل وفرة الموارد الطبيعية، والمواد الخام، والغاز والنفط، والزراعة والثروة الحيوانية، بخلاف الموقع الاستراتيجي للقرن باعتباره حلقة وصل بين شمال وجنوب القارَّة الإفريقيَّة، بما يمثل فرصة مواتية للروس للاستفادة من تلك الإمكانات. فهناك 30 شركة رُوسِيَّة تعمل في مناطق وقطاعات مختلفة في إثيوبيا، كما أبدت الشركات الرُّوسِيَّة اهتمامها بمجال التعدين في إريتريا، فضلاً عن الإمكانات الاقتصاديَّة في الصومال وجيبوتي، وهو ما يدفع السياسة الرُّوسِيَّة إلى المُضِيّ قُدُمًا نحو تعزيز الروابط مع دول القرن الإفريقي.
ولا تحتاج روسيا بشكل كبير إلى إمدادات طاقة جديدة من القارَّة الإفريقيَّة، كونها تُعتبر منتجًا ومصدِّرًا رئيسًا للنفط والغاز الطبيعي إلى دول العالم المختلفة، لكنها في نفس الوقت ترى في إفريقيا إحدى المناطق المهمة والغنية التي تؤمِّن لروسيا المزيد من الموارد الطبيعية التي تحتاج إليها، كما أنها ترغب في تعزيز سيطرتها على النفط والغاز الطبيعي وخطوط النفط في المنطقة من أجل دعم نفوذها السياسي والاقتصادي الدولي، وهو ما يُعَدُّ الجانب الأكثر استِرَاتِيجِيَّة بالنسبة لأجندة روسيا في إفريقيا عامة، والقرن الإفريقي بشكل خاص، بحكم قربه الجغرافي من النفط الخليجي، فضلاً عن كونه يتحكم في مضيق باب المندب، الممر المائي الأهم استراتيجيًّا في المنطقة.
أضف إلى ذلك، رغبة روسيا في إنشاء أسواق جديدة لبيع السلاح في المنطقة والقارَّة؛ كونها تعتبر ثاني أكبر مصدِّر للأسلحة في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية وفقًا لمؤشرSIPRI 2016 (17)، وهو ما يدفعها إلى استغلال حقّ النقض “الفيتو” في التصويت ضدّ فرض حظر الأسلحة على الدول الإفريقيَّة، بما يتيح لها توريد السلاح للأطراف المتصارعة.
وتجدر الإشارة إلى أنه يُنْظَر إلى الصناعة العسكريَّة الرُّوسِيَّة كأحد المحفِّزات والقوة الدافعة لإحياء الاقتصاد الرُّوسِيّ على الصعيد العالمي، وخاصةً في ظل انتشار الصراعات والنزاعات في المنطقة، ما جعلها عامل جذب لتلك الصناعة. فقد زوَّدت موسكو العاصمة الصومالية مقديشو بالأسلحة أثناء النزاع الذي شهدته البلاد منذ الإطاحة بنظام سياد بري في تسعينيات القرن المنقضي، بما جعل البعض يصفها بعاصمة الأسلحة في إفريقيا، إضافة إلى بيع السلاح إلى أطراف الحرب الإثيوبية الإريترية (1998-2000م)، الأمر الذي وفَّر إمكانات ضخمة لمبيعات الأسلحة لروسيا (18).
في الوقت الذي تُمَثِّل فيه التطورات الراهنة في القرن الإفريقي في إطار التسوية الشاملة للخلافات والصراعات القائمة بين دول المنطقة فرصة جيدة من أجل ضخّ المزيد من الاستثمارات الرُّوسِيَّة في المنطقة خلال الفترة المقبلة.
– دوافع أمنيَّة وعسكريَّة:
وتتمثل في تأمين التجارة الدَّوليَّة عبر خطّ الملاحة البحرية في البحر الأحمر من قناة السويس إلى خليج عدن، بما يسمح لها بوجود قويّ في المنطقة، في إطار سياق إقليمي ودولي مضطرب تشهده منطقة البحر الأحمر. فضلاً عن إمكانية إجراء روسيا تدريبات عسكريَّة وبحرية مشتركة في خليج عدن تضمُّ بعض دول المنطقة.
كما تمثل مواجهة الإرهاب أحد الدوافع المهمة بالنسبة للروس، في ظل اعتماد روسيا لسياسة مواجهة الإرهاب في بيئاته الحاضنة له، وتجفيف منابعه، والقضاء على العناصر الإرهابية؛ خوفًا من انتقالهم إلى مناطق النفوذ الرُّوسِيّ والداخل الرُّوسِيّ مما يُشَكِّل تهديدًا للأمن القومي لروسيا، لا سيما تنظيم داعش.
علاوة على إمكانية إقامة قواعد عسكريَّة رُوسِيَّة في المنطقة، وهو ما برَز في الخطط الرُّوسِيَّة بشأن إنشاء قاعدة عسكريَّة في إقليم أرض الصومال -غير المعترف به دوليًّا- مما يعزِّز من قُدُرَات الروس العسكريَّة في منطقة القرن الإفريقي.
يأتي ذلك في إطار محاولات روسيا بناء أسطول لها في البحر الأحمر، والقرن الإفريقي، لاستعراض قدراتها العسكريَّة في المنطقة، وحرصها على تأكيد العودة إلى قارَّة إفريقيا (19).
وتشير بعض التقارير إلى استمرار المباحثات بين روسيا وأرض الصومال بشأن بناء منشأة جوية وبحرية متعددة الاستخدامات في مدينة زيلا Zeila المتاخمة لجيبوتي، وعلى بُعْد بضعة أميال عن القاعدة الأمريكية في جيبوتي، في مقابل اعتراف روسيا باستقلال الإقليم.
كما عرض السودان إقامة قاعدة عسكريَّة رُوسِيَّة على البحر الأحمر، وكذلك الأمر بالنسبة لإريتريا (20).
وقد لمَّحت روسيا خلال العام الماضي إلى محور إفريقيا؛ بحيث تكون القاعدة الرُّوسِيَّة المحتملة في أرض الصومال بمثابة جزء لا يتجزأ من هذا المحور بالنسبة لروسيا، ويعتمد هذا المحور على قيام روسيا بدور الوسيط في الصراعات التي تُمَزِّق دول القارَّة مثل إفريقيا الوسطى. وهو ما يفتح المجال أمام الحكومة الرُّوسِيَّة للدخول في وساطة بين إقليم صومالي لاند، والحكومة المركزية الصومالية، وبين إثيوبيا (21) ، الأمر الذي يعزز من حضورها ونفوذها في المنطقة.
– دوافع استِرَاتِيجِيَّة:
تبرز في الالتفاف على الضغط الدولي على روسيا، والتهديد بفرض عقوبات عليها، بعد تورُّطها في أزمة القرم في أوكرانيا، وعدم تطابق المصالح الرُّوسِيَّة مع الولايات المتحدة الأمريكية والغرب في الأزمة السورية، الأمر الذي دفَعها إلى فتح مجال جيوسياسي جديد لها في إفريقيا، لا سيما منطقة القرن الإفريقي.
ومن ثَمَّ، فهي فرصة مواتية من أجل تخفيف العزلة الرُّوسِيَّة، وضمان المزيد من الدعم لها في المحافل الدَّوليَّة، علاوةً على تعزيز حضورها في القارَّة والمنطقة، في إطار تأكيدها على وضعيتها كقوة كبرى في النظام الدولي. كما ترغب روسيا في إيجاد حلفاء جدد في المنطقة، يساعدها في ذلك عدم وجود ميراث استعماري سلبي لروسيا في القارَّة الإفريقيَّة، وفي إطار سعيها لاعتماد سياسة رُوسِيَّة إفريقيَّة تقوم على الشراكة مع دول القارَّة.
خامسًا: التحرك الرُّوسِيّ في المنطقة.. المشهد الراهن
في إطار سعيها إلى التغلغل في منطقة القرن الإفريقي، تحرص روسيا على توسيع دائرة علاقاتها مع دول المنطقة؛ بهدف خَلْق المزيد من الحلفاء والشركاء الاستراتيجيين، من خلال المُضِيّ قُدُمًا نحو تعزيز العلاقات السياسيَّة والدبلوماسيَّة، وفتح آفاق جديدة في أسواق دول القرن الإفريقي.
– إثيوبيا:
يمثل قطاع الطاقة مدخلاً مهمًّا لروسيا يفتح المجال أمام شراكة قويَّة بينها وبين إثيوبيا، ومن ثَمَّ إعادة الارتباط بين موسكو وأديس أبابا؛ بحيث تصبح الأخيرة بوَّابة روسيا لإفريقيا بهدف إيجاد موطئ قدم ملموس في القارَّة؛ من أجل تعزيز المصالح الرُّوسِيَّة في إفريقيا؛ حيث تعمل شركة Rosatom في مجال مراكز الأبحاث والتكنولوجيا النووية في إثيوبيا، وفي دول أخرى مثل تنزانيا وغانا وزامبيا.
وتحتل إثيوبيا مكانةً متميزةً في الاستِرَاتِيجِيَّة الرُّوسِيَّة لعدة اعتبارات سياسيَّة واقتصاديَّة واستِرَاتِيجِيَّة وأمنيَّة، كما تُعَدُّ أديس أبابا واحدةً من أبرز المحطات المهمَّة التي يقصدها المسؤولون الروس خلال جولاتهم الإفريقيَّة، وآخرها زيارة وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف لأديس أبابا في مارس 2018م؛ إضافة إلى أنجولا وموزمبيق، وزامبيا وزيمبابوي، والتي وقع خلالها عدة اتفاقيات بهدف إنشاء مناطق اقتصاديَّة، واستكشاف الفُرَص المتاحة للحصول على الموارد الطبيعيَّة؛ مثل المعادن، وغيرها، وتعزيز التعاون العسكري والتقني (22).
– إريتريا:
تُمَثِّل أسمرة مدخلاً مهمًّا لموسكو لإيجاد موطئ قدم في القرن الإفريقي، وبسط النفوذ الرُّوسِيّ هناك؛ حيث تتطوَّر العلاقات الثنائية خلال السنوات الماضية، ففي نوفمبر 2014م أوضح الرئيس الرُّوسِيّ بوتين تطابق موقف البلدين حول القضايا الإقليميَّة والدَّوليَّة، وأشار إلى استعداد روسيا لتعزيز العلاقات مع إريتريا ليس على المستوى السياسيّ والاقتصاديّ فحسب، بل في بناء قُدُرَات إريتريا العسكريَّة، فضلاً عن إنشاء أسطول رُوسيّ في البحر الأحمر لحماية مصالحها، كما قامت البلدان بإجراء تدريبات بحرية مشتركة (23).
كما أنه برزت محاولات رُوسِيَّة لتحاشي فرض حَظْر السلاح على إريتريا، بسبب الادعاءات والاتهامات الدَّوليَّة بدعم إريتريا لحركة الشباب المجاهدين الصومالية. فضلاً عن دعوة روسيا إلى رَفْع العقوبات الدَّوليَّة ضد إريتريا مِن قِبَل مجلس الأمن الدولي، بعد تحسُّن الأوضاع الإقليميَّة في القرن الإفريقي عقب المصالحة الإريترية الإثيوبية.
كما يأتي إعلان سيرجي لافروف، وزير الخارجية الروسي، خلال اجتماع مع مسؤولين إريتريين في 31 أغسطس 2018م عن خطط رُوسِيَّة لتأسيس مركز لوجستيّ في ميناء عصب/مصوع في إريتريا؛ بهدف تعزيز التجارة الثنائية، والاستثمار في البنية التحتية بين البلدين، ليعكس فرصة أمام إمكانية إقامة قاعدة عسكريَّة رُوسِيَّة في البحر الأحمر تعزِّز من الحضور الرُّوسِيّ عند مضيق باب المندب، خاصَّة في ظل الترحيب الإريتري بإعلان الرئيس الإريتري أفورقي موافقته على بناء قاعدة بحريَّة وجويَّة رُوسِيَّة في ميناء عصب الجنوبي على ساحل البحر الأحمر، يأتي ذلك بالتزامن مع التطلعات الرُّوسِيَّة لبسط نفوذها في المنطقة؛ من خلال إقامة عدد من القواعد العسكريَّة في الشرق الأوسط، ومنها القاعدة العسكرية في حميم وميناء طرطوس البحري في سوريا (24).
– الصومال:
ترى روسيا في الصومال موردًا مهمًّا لعددٍ من الموارد الطبيعيَّة غير المستغلَّة؛ مثل النفط والغاز واليورانيوم، بالإضافة إلى حاجتها إلى شريك استراتيجي يسهم في إعادة بناء الدولة الصومالية، في ظل عدم الاستقرار السياسي الذي يعصف بالبلاد منذ الإطاحة بنظام بري في التسعينيات.
كما ترغب مقديشو في الاستفادة من الخبرة العسكريَّة الرُّوسِيَّة في محاربة الإرهاب؛ حيث طلبت الصومال في عام 2016م من موسكو معدات عسكريَّة لاستخدامها ضد حركة الشباب المجاهدين، إضافةً إلى التعاون الرُّوسِيّ في تعزيز قدرة الجيش الصومالي على القتال ضد الحركات المسلَّحة.
فمن الواضح أن روسيا ترى في الصومال نقطة انطلاق مهمة لها في محاربة الإرهاب؛ لا سيما تنظيم داعش في المنطقة، فضلاً عن أنَّ تعزيز الدعم العسكري والاقتصادي الرُّوسِيّ للصومال، بالإضافة إلى كونه يدعم بشكل كبير استعادة السلام والاستقرار الإقليمي في القرن الإفريقي؛ إلا أنه يعزِّز أيضًا من الدور الرُّوسِيّ في تحقيق الأمن الإقليمي، مما يعزِّز مكانة روسيا الدَّوليَّة كقوة صاعدة في النظام العالمي (25).
وتذهب السياسة الرُّوسِيَّة بعيدًا إلى دراسة إمكانية إقامة قاعدة عسكريَّة رُوسِيَّة في الصومال، وتحديدًا في إقليم صومالي لاند لتكون موطئ لمدمرتين روسيتين، وأربع فرقاطات بحرية، واثنين من الغواصات الكبيرة، ومهبطين لاستضافة ما يصل إلى ست طائرات ثقيلة، و15 طائرة مقاتلة ومرافق أخرى (26) ، لتكون قريبة من خليج عدن ومضيق باب المندب، وتعزِّز من نفوذها في هذه المنطقة.
– السودان:
تتمتع روسيا بعلاقات سياسيَّة واقتصاديَّة وعسكريَّة متميزة مع السودان، فقد كانت روسيا داعمًا رئيسًا للسودان في المجال العسكري من خلال تعزيز روسيا لقدرات السودان العسكريَّة. ومع توتّر العلاقات السودانية الأمريكية، وفي إطار توسيع النظام السوداني دائرة علاقاته في النظام الدولي، ناقش الرئيس البشير خلال زيارته الأخيرة في أواخر عام 2017م لروسيا إمكانية إقامة قاعدة عسكريَّة رُوسِيَّة على ساحل البحر الأحمر، واستغلال السودان كبوابة لإفريقيا بالنسبة لروسيا؛ حيث ترى الخرطوم في موسكو شريكًا يساعد في الحفاظ على وحدة أراضيه، على غرار الدور الرُّوسِيّ في سوريا، في ظل النظر إلى روسيا كقوة للاستقرار ودعامة لبيئة إقليميَّة أمنيَّة جديدة في المنطقة، كما أن وجودها يحقّق التوازن الدولي في المنطقة مع الولايات المتحدة الأمريكية. وهو ما دفَع بعض كبار العسكريين الروس إلى المشاركة في لقاء ثلاثي ضم الجانب القطري في الخرطوم في ديسمبر 2017م لمناقشة التعاون العسكري بين الدول الثلاث في منطقة البحر الأحمر. وتعتبر السودان هي أول دولة في المنطقة تحصل على طائرات رُوسِيَّة مقاتلة من طراز Su-35 من الجيل الرابع (27).
وفي المقابل سعى الروس إلى الحدّ من تأثير تحقيق لجنة الأمم المتحدة المعنية بشأن دور عوائد الذهب في تمويل الصراع في دارفور؛ حيث عارضت موسكو إلى جانب الصين، والدول الإفريقيَّة الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن الدولي محاولات الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة اعتماد توصيات اللجنة بفرض عقوبات على الأفراد والكيانات في السودان. كما منعت روسيا نشر تقرير الأمم المتحدة السري الذي ادَّعى قيام أحد المسؤولين السودانيين بجني 54 مليون دولار سنويًّا من مبيعات الذهب من منجم يقع في إقليم دارفور (28).
وقامت السودان بفتح المجال أمام مزيد من الشراكة أمام الاستثمارات الرُّوسِيَّة، ففي عام 2015م أعلنت هيئة الأبحاث الجيولوجية السودانية الأولوية للشركات الرُّوسِيَّة في التنقيب عن الذهب واليورانيوم في إطار التعاون السياسي والاقتصادي بين البلدين، ووقَّعت وزارة المعادن السودانية مع شركة سيبيريا للتعدين الرُّوسِيَّة اتفاقية بهدف استخراج الذهب في البحر الأحمر وولاية نهر النيل، وُصِفَ بأنه أكبر عقد استثماريّ في تاريخ السودان في مجال التعدين. وقد زعمت السودان بأنَّ احتياطي الذهب الذي اكتشفته روسيا بقيمة 1.7 تريليون دولار، كما أن أكبر منتج للذهب في السودان هو شركة Koch الرُّوسِيَّة (29).
وفي مجال الطاقة النووية السلمية؛ وافقت روسيا على تزويد السودان بمحطة نووية لإنتاج الكهرباء، ودعا السودان الشركات الرُّوسِيَّة للمشاركة في تطوير صناعتها النفطية.
وتجدر الإشارة إلى تطوُّر العلاقات الاقتصاديَّة بين البلدين؛ حيث إن حجم التبادل التجاري بينهما قد بلغ خلال عام 2017م نحو 438.7 مليون دولار، و117.7 مليون دولار في الربع الأول من عام 2018م (30).
– جنوب السودان:
يعتمد الرئيس سلفاكير ميارديت على روسيا والصين في الوقوف إلى جانبه ضد العقوبات الأمريكية على بلاده، وحظر الأسلحة من مجلس الأمن الدولي؛ بسبب الصراعات والحرب الدائرة في البلاد منذ منتصف ديسمبر 2013م. ومن ثَمَّ، ترغب جنوب السودان في تعزيز العلاقات مع روسيا؛ من أجل التوازن في علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية (31). وهو ما يُمَثِّل فرصة أمام الروس للولوج إلى المنطقة، وفتح آفاق تعاون مع دولها، وفتح مجالات جديدة وأسواق جديدة، سواء في مجال بيع السلاح، أو الطاقة النووية السلمية.
– كينيا:
يعتبر الاقتصاد الكيني هو الأكبر من حيث الناتج المحلي الإجمالي في جنوب شرق ووسط إفريقيا، فهي دولة غنية بالموارد الطبيعية، كما أنها وِجْهَة استثمارية مفضَّلة للاستثمارات الأجنبية، وتعمل كبوابة للسوق المزدهر في شرق إفريقيا. فضلاً عن كونها حليفًا قويًّا للولايات المتحدة في الحرب على الإرهاب. لذلك، أولت روسيا اهتمامًا ملحوظًا بتعزيز علاقاتها مع كينيا، فقد كانت الوجهة الأولى للرئيس أوهورو كينياتا عقب فوزه في انتخابات 2013م إلى موسكو، ومن بعدها الصين.
وتَعْتَبر روسيا كينيا شريكًا استراتيجيًّا في إفريقيا والمنطقة، كما تحرص على تعزيز العلاقات معها، والتعاون في مجالات مختلفة؛ منها: مجال بيع السلاح، حيث تشتري كينيا من موسكو كمية كبيرة من الأسلحة الرُّوسِيَّة، كما اجتاز عدد من المنتمين للأجهزة الأمنيَّة بالبلاد برامج التدريب والمنح الدراسية التي ترعاها روسيا. وفي 30 مايو 2016م وخلال انعقاد المنتدى الدولي الثامن للطاقة النووية Atomexpo 2016، وقَّعت شركة الطاقة النووية الرُّوسِيَّة ومجلس الطاقة النووية الكيني مذكرة تفاهم وتعاون في مجال الاستخدام السلمي للطاقة النووية، وخاصة في توليد الكهرباء (32).
ورغم ذلك، تظل التحركات الرُّوسِيَّة وتطوير العلاقات مع دول المنطقة رهينة بالموقف والدور الأمريكي في المنطقة خلال الفترة المقبلة، في ظل ضبابية الاستِرَاتِيجِيَّة الأمريكيَّة حتى الآن في المنطقة، ومنذ صعود ترامب إلى سُدَّة الحكم، بحيث يظل الدور الأمريكي أحد العقبات التي يمكن أن تواجه روسيا في القرن الإفريقي -على الأقل في الوقت الراهن- في ظل علاقاتها المتميزة والاستِرَاتِيجِيَّة مع دول المنطقة، الأمر الذي يعني صعوبة تغلغل روسيا بشكل كبير وملحوظ في المنطقة، فعلى سبيل المثال، يَصْعُب على روسيا أن تكون شريكًا استراتيجيًّا لأوغندا وإثيوبيا وكينيا بسبب العلاقات الاستِرَاتِيجِيَّة المتنامية مع الولايات المتحدة، فضلاً عن كونها تُعَدُّ حليفًا استراتيجيًّا للولايات المتحدة الأمريكية في الحرب على الإرهاب في منطقة شرق إفريقيا والقرن الإفريقي، فهناك 20 ألف أوغندي يعملون في القواعد العسكريَّة الأمريكية في العراق (33).
سادسًا: تداعيات التوجُّه الرُّوسِيّ نحو منطقة القرن الإفريقي
هناك موجة من التوجُّس لدى الدوائر الغربية من المساعي الروسية للعودة إلى منطقة القرن الإفريقي؛ لعدة أسباب: تتمثل أبرزها في التخوف من تكتل روسي صيني في المنطقة، وما يمكن أن يترتب عليه من إقامة شراكة بين روسيا والصين على حساب المصالح الغربية في القارَّة الإفريقيَّة؛ بحيث يكمّل بعضهما البعض، سواء في إطار بريكس أو الاتفاقيات الثنائية الرُّوسِيَّة الصينية (34) ، وفي مجلس الأمن الدولي أيضًا، وهو ما برزت بعض بوادره في عرض الصين على روسيا السماح لحاملة الطائرات الرُّوسِيَّة Admiral Kuznetsov بالهبوط في القاعدة الصينية بميناء جيبوتي، بعد فشل التوصُّل إلى اتفاق مشترك بين الروس وجيبوتي بشأن إنشاء قاعدة عسكريَّة رُوسِيَّة على أراضيها، وفقًا لما ذكره موقع African Intelligence (35)، بالرغم من أن المصالح الرُّوسِيَّة في إفريقيا ليست بالضرورة تتطابق مع المصالح الصينية.
كما يمكن لروسيا استغلال بعض القوى الإقليميَّة المتمركزة في المنطقة كبوَّابة لتوطيد وتطوير علاقاتها مع بعض دول المنطقة؛ مثل تركيا، التي تتواجد بشكل جيِّد في دولٍ مثل الصومال وجيبوتي، والسودان وإثيوبيا.
ويأتي الانخراط الرُّوسِيّ ليسهم في اشتداد التنافس في منطقة القرن الإفريقي والبحر الأحمر؛ كونها منطقة مزدحمة بالقوى الدَّوليَّة والإقليميَّة، كما أنها موطن للقواعد العسكرية لقوى غربيَّة وآسيويَّة وأمريكيَّة، بالإضافة إلى التنافس الأمريكي الصيني في المنطقة، والتنافس الدولي والإقليمي على الموارد، وبالتالي التواجد الرُّوسِيّ يفتح جبهة جديدة من التنافس الدولي في المنطقة.
ومن ثَمَّ، ففي ظل مسارعة الجانب الرُّوسِيّ إلى الانخراط في قضايا المنطقة، وتعزيز علاقاتها بدولها، يُمَثِّل التوجه الرُّوسِيّ نحو المنطقة عبئًا إضافيًّا عليها في إطار تعدُّد الأطراف الدَّوليَّة والإقليميَّة، وتضارب المصالح والأجندات في القرن الإفريقي، بما يُعَقِّد بيئة التفاعلات في المنطقة، التي تنعكس على مصالح الجميع فيها، كما أن الطريق إلى القرن الإفريقي دائمًا ما يكون مليئًا بالتحديات.
الإحالات والهوامش:
(1) Kester Kenn Klomegah, why are Russians complaining about Africa? Pambazuka News, Nov 17, 2016, available at:
https://goo.gl/GjLc8L
(2) Mehmet Cem Oğultürk, Idem.
(3) Mehmet Cem Oğultürk, Russia’s Renewed Interests in the Horn of Africa As a Traditional and Rising Power, Volume 2, Issue 1 (Russia’s Dual Roles in Global Politics as a Traditional Great Power and a Rising Power), Feb. 2017, pp. 121-143.
(4) روسيا تدعو المجتمع الدولي إلى دعم الجيش الصومالي، مركز مقديشو للبحوث والدراسات، 4 مارس 2018، متاح على:
https://goo.gl/Th5kAP
(5) THEODORE KARASIK AND GIORGIO CAFIERO, Why Does Vladimir Putin Care About Sudan?, Atlantic Council, NOVEMBER 27, 2017, available at:
https://goo.gl/jcKGPd
(6) Egypt: Russia’s Motives for Expanding Its Influence in the Middle East, Stratfor, Nov 30, 2017, available at:
https://goo.gl/Gzi9au
(7) JOHAN BURGER, Russia in Africa: A return to old haunts?, 31 MAY 2018, available at:
https://goo.gl/aepRmN
(8) J. Peter Pham, Russia’s Return to Africa, Atlantic Council, MARCH 13, 2014, available at:
https://goo.gl/FTGR3R
(9) Guest Blogger for John Campbell, Putin’s Russia and Africa, Council on Foreign Relations, August 13, 2015, available at:
https://goo.gl/18wm2a
(10) Gregory Alonso Pirio and Robert Pittelli, The Russian Challenge to US Policy in Africa – Analysis, Eurasia review, September 3, 2016, available at:
https://goo.gl/cSLh34
(11) Foreign Minister Sergey Lavrov’s interview with the Hommes d’Afrique magazine, Moscow, March 5, 2018, The Ministry of Foreign Affairs of the Russian Federation, 5 March 2018, available at:
https://goo.gl/cMv46n
(12) Russia emphasizes enhanced trade, economic cooperation with Africa, African News, 9 March 2018, available at:
https://goo.gl/mck5uW
(13) Gregory Alonso Pirio and Robert Pittelli, Idem.
(14) روسيا تدعو إلى تعزيز القوات الصومالية والإفريقية، مؤسسة الصومال الجديد للإعلام والبحوث والتنمية، نشر في 3 مارس 2018، متاح على:
https://goo.gl/YRcV2x
(15) Russia’s scramble for influence in Africa catches western officials off-guard, The Guardian, 11 Sep 2018, available at:
https://goo.gl/NZbUbX
(16) Yacqub Ismail, Russia and Sudan are Cozying Up, 26 MAR 2018, available at:
https://goo.gl/XZcMUX
(17) Kester Kenn Klomegah, Idem,.
(18)Tesfalem Habte, Russia’s Return to the Horn: A New Strategy in the Making?, 12 SEPTEMBER 2014, available at:
https://goo.gl/zk2GF8
(19) CIARAN MCGRATH, Putin flexes muscles with plans for new African base – with chilling echoes of Suez, Express, Apr 18, 2018, available at:
https://goo.gl/KYfoUH
(20)Russia calls for lifting Eritrea sanctions — Lavrov, Russian Politics & Diplomacy, 31 August 2018, available at:
https://goo.gl/8gP5qZ
(21) CIARAN MCGRATH, Idem.
(22) Abdi Latif Dahir, Russia is the latest world power eyeing the Horn of Africa, Quartz Africa, September 3, 2018, available at:
https://goo.gl/oCg66p
(23) Gregory Alonso Pirio and Robert Pittelli, Putin and his Oligarchs in Africa: The Scramble for Economic and Military Leverage, Strategic Thinking on East Africa, October 20, 2015, available at:
https://goo.gl/m9fNT2
(24) صهيب عبد الرحمن، عودة روسيا العظمى عبر بوابة القرن الإفريقي، موقع حفريات، نشر في 15 إبريل 2018، متاح على:
https://goo.gl/hAL33w
(25) Mehmet Cem Oğultürk, Idem.
(26) ISMAIL AKWEI, Russia to pitch first camp in Africa with military base in Somaliland, April 19, 2018, available at:
https://goo.gl/ykV4DA
(27) Egypt: Russia’s Motives for Expanding Its Influence in the Middle East, Idem,.
(28) Gregory Alonso Pirio and Robert Pittelli, Idem.
(29) Ibid,.
(30) مباحثات بين قيادات أمنية روسية وسودانية رفيعة المستوى، موقع Sputnik عربي، نشر في 6 سبتمبر 2018، متاح على:
https://goo.gl/ktnctg
(31) Rwanda courts Russia and China as ties with America deteriorate, The East African, 9 JUNE 2018, available at:
https://goo.gl/FmJ4Av
(32) Mehmet Cem Oğultürk, Idem.
(33) Kester Kenn Klomegah, Idem,.
(34) This is Why the Russian Presence in Africa Worries the West, How Africa, 16 September 2018, available at:
https://goo.gl/9ABD2P
(35) Kester Kenn Klomegah, Idem,.