بعد خمس سنوات من المفاوضات، وقَّعت 44 دولة إفريقية الاتفاقية المنشئة لـ “منطقة التجارة الحرة لإفريقيا”؛ وهي اتفاقيةٌ يُنظر إليها على أنها ضروريةٌ للتنمية الاقتصادية في إفريقيا؛ من خلال تعزيز التجارة البينية الإفريقية، وتُعتبر المنطقة اليوم أكبر منطقةٍ تجاريةٍ في العالم؛ من حيث عدد الدول الأعضاء.
وإذا اعتُبِرَتْ هذه المبادرة إنجازًا عظيمًا للقادة الأفارقة؛ فهي في الوقت ذاته تحدٍّ كبير؛ نتيجة للتركيبة المعقَّدة للقارة الإفريقية، وتثور أسئلةٌ جوهريةٌ حول فُرَص نجاح هذه التجربة، وقدرتها على فتح آفاقٍ جديدةٍ للاقتصاد الإفريقي، وَفْق نموذج الاتحاد الأوروبي، أو على غرار منطقة (ALENA)(1) ، حيث نجد أن القارة الإفريقية المكوَّنة من 55 دولة مع تعداد سكاني تجاوز المليار نسمة؛ تختلف في طبيعتها عن تلك المنطقتين، ومع كل هذه الاحتمالات راهن رؤساء القارة على إنشاء هذه المنطقة، وبعد مخاضٍ عسيرٍ كان يوم 21 من شهر مارس الجاري موعد عرض المعاهدة للتوقيع بعد انعقاد القمة الاستثنائية المخصصة لها في “كيغالي” عاصمة “روندا”.
ماذا تعني منطقة التجارة الحرة الإفريقية؟
في عام 2012م تبنَّى الاتحاد الإفريقي الخطة العملية لإنشاء منطقة التجارة الحرة الإفريقية، وأصدر قرار الدخول في المفاوضات الرسمية في يونيو 2015م في قمتها الـــ 25 في جنوب إفريقيا (2)، على أن تنتهي المفاوضات مع نهاية عام 2017م، إلا أن المفاوضات بدأت فعلاً منذ عام 2013م، وفوَّض الاتحاد الإفريقي الرئيس النيجري “محمد إيسوفو” بمتابعة الملف.
وبعد ثمانية اجتماعات وصل فريق المفاوضات إلى ثلاث نتائج مهمة، شملت صياغة الاتفاقية الإطارية بشأن المنطقة الحرة، والبروتوكول المتعلق بالبضائع، والبروتوكول الخاص المتعلق بالتجارة والخدمات.
وتمت الموافقة رسميًّا على الوثائق الثلاث، واعتمادها مِن قِبَل وزراء التجارة الأفارقة في “نيامي” عاصمة “النيجر” في ديسمبر 2017م(3).
وفي الاجتماع الخامس لوزراء التجارة للاتحاد الإفريقي (AMOT)، الذي عُقِدَ في “كيغالي” بـ “رواندا” في 8- 9 مارس 2018م، تم اعتماد الاتفاقية القانونية التي تُشَكِّل منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية (AFCFTA)، وعرضت للتوقيع في القمة الاستثنائية العاشرة في 21 مارس الماضي.
وبعد تقديم الجداول المتعلقة بامتيازات التعرفة الجمركية الخاصة بالتجارة مِن قِبَل كل دولة طرف، بما في ذلك 90% من المنتجات التي سيتم تحريرها، وقائمة المنتجات الحساسة التي تتطلب فترة زمنية طويلة للتحرير، وقائمة المنتجات المستبعَدة من التحرير، سوف تدخل الاتفاقية حيز التنفيذ بعد إيداع 22 دولة تصديقاتها للاتفاقية إلى رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي.(4)
تتمثل الأهداف الرئيسية للمنطقة الإفريقية الحرة في إنشاء سوق قارّية واحدة للسلع والخدمات، مع حرية حركة رجال الأعمال والاستثمارات والأفراد، كما تهدف إلى توسيع التجارة البينية الإفريقية من خلال تحسين وتنسيق وتحرير التجارة بين الدول الإفريقية، مع تيسير الوسائل التجارية بين المجموعات الاقتصادية الإقليمية وعبر إفريقيا بشكل عام، ومن المتوقع أيضًا أن تُعزِّز المنطقة الحرة القدرة التنافسية للصناعة من خلال استغلال الفرص للإنتاج وإعادة توزيع الموارد.(5)
قام المركز الإفريقي للسياسات التجارية (ACCP) التابع للجنة الاقتصادية لإفريقيا (ECA) ، بالاشتراك مع مفوضية الاتحاد الإفريقي، بحصر تسعة أهداف رئيسة تصبو هذه الاتفاقية إلى تحقيقها على المدى البعيد، وهي:
• إعفاء الشركات الإفريقية وأصحاب المتاجر والمستهلكين من الرسوم الجمركية، متضمنًا مجموعة واسعة من السِّلَع المتداولة بين البلدان الإفريقية.
• إزالة الحواجز غير الجمركية التي تعوق المستثمرين؛ مثل الإجراءات البيروقراطية المفرطة.
• التعاون بين السلطات الجمركية على المعايير واللوائح المطبَّقة على المنتجات، وتعزيز حركة البضائع عبر الحدود الإفريقية.
• التحرير التدريجي للخدمات، وإتاحة الفرصة لمقدمي الخدمات للوصول إلى أسواق جميع البلدان الإفريقية بشروط مناسبة تعادل شروط المستثمرين المحليين.
• الاعتراف المتبادل بالمعايير والتراخيص وشهادات مقدمي الخدمات على الشركات والأفراد؛ تلبيةً للمتطلبات التنظيمية للأسواق المختلفة.
• إنشاء قيمة إضافية إقليمية؛ حيث تأتي مدخلات من بلدان إفريقية مختلفة لخلق القيمة المضافة قبل تصديرها خارج القارة.
• الحماية من التدفقات التجارية غير المتوقعة؛ حيث يجوز للدول الأطراف اللجوء إلى سُبل الانتصاف التجاري لحماية الصناعات الوطنية؛ إذا لزم الأمر.
• إيجاد آلية “تسوية النزاعات” لتوفير حلول مستندة إلى قواعد عامة؛ لتسوية كل النزاعات التي قد تنشأ بين الدول الأطراف في تنفيذ الاتفاقية.
• توفير بيئة ملائمة للاعتراف بحقوق الملكية الفكرية في إفريقيا، والاستثمار داخل القارة ومكافحة الحواجز غير التنافسية. (6)
مبررات إنشاء المنطقة الحرة
تعتبر منطقة التجارة الحرة أحد المشاريع الرئيسية التي أطلقها الاتحاد الإفريقي، وهي من ضمن جدول أعمال “الأجندة الإفريقية لعام 2063″، ولقد فرض الواقع الإقليمي والدولي على الزعماء الأفارقة إلى التجاوب مع المتغيرات في الساحة الإقليمية والدولية؛ حيث تشهد القارة الإفريقية اختلالاً في اقتصادها الكلي وانخفاضًا في القدرة التنافسية، أضف إلى ذلك هيمنة الدول العملاقة اقتصاديًّا كالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأروبي والصين على السوق التجارية الإفريقية، ولعل فهم السياقات العامة للقارة سيجعل إدراك مبررات إنشاء المنطقة أكثر وضوحًا.
على السياق الاقتصادي الكلي، تتوسع منطقة التجارة الإفريقية إلى سوق يبلغ عدد سكانها 1.2 مليار نسمة، ويبلغ ناتجها المحلي (2.5 تريليون دولار) يشمل جميع الدول الـ55 الأعضاء في الاتحاد الإفريقي، ولذا ستكون أكبر منطقة تجارة حرة في العالم منذ إنشاء منظمة التجارة العالمية، وعلى المدى المتوسط سيكون لدى إفريقيا 2.5 مليار نسمة بحلول عام 2050م، أي 26% من سكان العالم في سنّ العمل، وسيكون نمو اقتصادها بمعدل ضعف نمو اقتصاد الدول المتقدمة، ولعل هذا السياق المتميز سيشكل فرصة كبيرة لأداء فعَّال لمنطقة التجارة الحرة الإفريقية.
وعلى مستوى التبادل التجاري الإفريقي، لا تتجاوز نسبة التجارة البينية الإفريقية 16% فقط من تجارة القارة، فيما وصل إلى 78% في دول الاتحاد الأوروبي(7)، وتتراوح بين 25 و30% في الدول الآسيوية(8) ووفقًا لدراسة أجراها مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية في عام 2014م؛ حيث “نَمَتْ التجارة بين كتلة (ALENA) بنسبة 188% في المكسيك ، و11% في كندا، و41% في الولايات المتحدة”(9)، ويشير هذا إلى ضعف التبادل التجاري بين الدول الإفريقية، وهذا ما يُحَتِّم على صانعي القرار في القارة اتخاذ إجراءات سريعة لسدِّ هذه الفجوة القائمة بين دول القارة.
وعلى صعيد القوة التنافسية، ففي وقت تلعب فيها الشركات الصغيرة ومتوسطة الحجم دورًا رئيسًا في النمو الاقتصادي الإفريقي، وتمثل 80% من شركات المنطقة بشكل عام، تجد هذه الشركات صعوبة في اختراق أسواق خارجية أكثر تقدمًا، فهي على سبيل المثال تواجه تعريفات جمركية أعلى عند التصدير إلى الدول الإفريقية في مقابل التصدير خارج القارة، أضف إلى ذلك تكاليف العبور العالية للدول الإفريقية غير الساحلية، وبالرغم من محاولة التكتلات الاقتصادية الإقليمية وضع التعريفات الجمركية المشتركة لإزالة هذه العقبة، إلا أن الأمر لا يزال بحاجة إلى بذل المزيد من الجهود لخلق بيئة تنافسية ملائمة.
المنطقة الحرة بين الفرص والمهددات:
لم تَحْظَ منطقة التجارة الحرة الإفريقية بإجماع الدول الإفريقية، ناهيك عن إجماع الخبراء الاقتصايين، نتيجة التخوُّف من الآثار السلبية التي قد تَكْتَنف هذا الإجراء، ولقد أعلنت بعض الدول عن أسباب تحفظها على توقيع الاتفاقية بخلاف بعض الدول، وتأتي نيجيريا -إحدى أقوى اقتصاديات القارة- في طليعة الدول الممتنعة عن التوقيع؛ مُعللة ذلك بعدم الانتهاء من التشاورات مع النقابات الوطنية المعنية الأمر، وطلبت المزيد من الوقت للتشاور، بينما اكتفت دولة ناميبيا وبنين وبورندي وسيراليون بعدم التوقيع دون إبداء الأسباب.(10)
هذه التحفظات من بعض الدول تعتبر ترجمة فعلية للتباين الحادّ في الآراء حول مزايا ومساوئ المنطقة الحرة. وتسرد الأغلبية الداعمة لهذه المنطقة جملة من المزايا تتلخص في الآتي:
تعزيز التجارة البينية: وهذا ما أكَّده رئيس مفوضة الاتحاد الإفريقي للتجارة والصناعة، ألبرت موشانغا (AlbertMuchanga) حيث ذكر أنه: “إذا أزلنا التعريفات الجمركية ، فإن مستوى التجارة البينية الإفريقية بحلول عام 2022 سيزداد بنسبة 60% ، وهو أمر مهم جدًّا”. (11)
وستُمكن هذه المزية الدول الإفريقية من خلق مزيد من فرص عمل خاصة في مجال الزراعة الذي يعتبر العماد الاقتصادي الرئيسي للدول الإفريقية، كما تفتح المجال إلى تعزز التنويع الاقتصادي، والتقدم التكنولوجي، وتنمية رأس المال البشري.
تعزيز المنافسة في الأسواق المحلية: حيث إن بعض الشركات التي تستفيد من توفر الموارد الإنتاجية سوف تسجل نموًّا سريعًا، وستعتلي المراكز المهيمنة في الأسواق، ومن أجل ضمان الانتقال السَّلِس للموارد والسلع، يجب وضع سياسات تكميلية مثل حماية المستهلك وسياسات المنافسة.
التقليل من تكلفة الإنتاج: فعلى الرغم من أنَّ الإيرادات الجمركية تُعَدُّ مصدرًا مهمًّا للدخل بالنسبة لبعض الحكومات، فإن الخسارة المقدَّرَة بأقل من 10% لا ينبغي اعتبارها خسارة مطلقة للبلدان كما يروِّجُها بعض معارضي المنطقة الحرة، وبالتالي فإنَّ إزالة التعريفات الجمركية ستسمح للمنتجين بالدخول إلى أسواق إفريقية أخرى بشكل أفضل وبتكلفة أقل، فيما سيحصل المستهلكون على أسعار منخفضة. ويمكن تلخيص ذلك في أن خسارة الإيرادات الجمركية تعني بالدرجة الأولى إعادة توزيع الدخل من الحكومات إلى المستهلكين والمنتجين. (12)
وبجانب هذه المزايا التي يروِّجها داعمو المنطقة الحرة، يوجد آخرون متخوفون من انعكاسات المنطقة الحرة؛ حيث يرون أنه من المرجَّح أن تؤدِّي انخفاض عائدات الرسوم الجمركية إلى ارتفاع نِسَب البطالة، وتخفيض الأنشطة الاقتصادية في بعض القطاعات الفرعية؛ بسبب إعادة تخصيص الموارد، وعلاوة على ذلك؛ فلن يمكن تقاسم منافع منطقة التجارة الحرة بالتساوي إذا كانت القدرات المالية والمؤسسية للبلدان غير متكافئة في التعامل مع الآثار السلبية.
الخاتمة:
إن إنشاء هذا المشروع- وهو أحد المشروعات الرئيسية للاتحاد الإفريقي- سوف يسمح بالإلغاء التدريجي للتعريفات الجمركية بين البلدان الأعضاء، وبالتالي تعزيز التجارة داخل القارة والسماح للبلدان الإفريقية بالتحرر من نظام اقتصادي منغلق؛ لا تعني التجارة فيه إلا بيع المواد الخام إلى العالم الخارجي، وأغلب ما يثار من المخاوف والسلبيات لا تعدو أن تكون آثارًا مرحلية منطقية، لا يمكن أن تخلو منها أيّ عملية تحوُّلٍ اقتصادي، ويجب على الدول التعامل معها إلى أن تتحقق الأهداف النهائية المرسومة للمنطقة الحرة، وهي الوصول إلى التكامل الاقتصادي الإفريقي المكتملة الأركان.
الهوامش والاحالات :
(1) اتفاقية أمريكا الشمالية للتجارة الحرة تجمع كندا والولايات المتحدة والمكسيك، تم التوقيع عليها في عام 1992م، ودخلت حيز التنفيذ عام 1994م، بهدف تشجيع التجارة والاستثمار بين الدول الموقِّعَة.
(2)Conférence de l’Union Africaine, Vingt-cinquième session ordinaire, 14-15 juin 2015, Johannesbourg (AFRIQUE DU SUD)
(3)African Continental Free Trade Area (AfCFTA) Legal Texts and Policy Documents, https://www.tralac.org/resources/by-region/cfta.html, March 2018
(4)L’UA bâtit les fondations d’une zone de libre-échange continentale, http://www.lavoixdunord.fr/338761/article/2018-03-19/l-ua-batit-les-fondations-d-une-zone-de-libre-echange-continentale, 19/03/2018
(5)African Continental Free Trade Area (AfCFTA) Legal Texts and Policy Documents https://www.tralac.org/resources/by-region/cfta.html
(6)Union Africaine, La Zone de libre-échange continentale africaine, Questions et réponses, p. 6
(7)International trade in goods, eurosta statistics explained, http://ec.europa.eu/eurostat/statistics-explained/index.php/International_trade_in_goods#Intra-EU_trade_in_goods Data from September 2017
(8)Trade and Development Report 2016 – Asia Facts & Figures, http://unctad.org/en/pages/PressRelease.aspx?OriginalVersionID=331, 21 September 2016
(9)Joël Té-Léssia Assoko, Les non-dits de la Zone de libre-échange continentale africaine, http://www.jeuneafrique.com/544436/economie/les-non-dits-de-la-zone-de-libre-echange-continentale-africaine/, 21 mars 2018,
(10)44 pays africains signent un accord créant une zone de libre-échange continentale, https://afrique.lalibre.be/16967/44-pays-africains-signent-un-accord-creant-une-zone-de-libre-echange-continentale/, 21 mars 2018
(11)L’UA bâtit les fondations d’une zone de libre-échange continentale, http://www.lavoixdunord.fr/338761/article/2018-03-19/l-ua-batit-les-fondations-d-une-zone-de-libre-echange-continentale, 19/03/2018
(12)African Continental Free Trade Area: Challenges and opportunities of tariff reductions, https://www.tralac.org/news/article/12686-african-continental-free-trade-area-challenges-and-opportunities-of-tariff-reductions.html, 07 Feb 2018