وُصِفَ العام 2022م بامتياز بأنه عام الأزمة المستمرة a year of permacrisis، ولم تكن إفريقيا استثناءً من هذا الوصف؛ فقد استمرت القارة السمراء تعاني من تداعيات الأزمات الإقليمية والدولية السياسية والاقتصادية والاجتماعية بشكلٍ حادّ، وما قادت إليه مِن تآكل جهود التنمية أو مساعي تحقيق استقرار سياسي وعسكري وأمني واضح.
كما ظلت القارة “هدفًا سهلًا” لتدخُّلات الأطراف والقوى الدولية المهمة؛ مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا والاتحاد الأوروبي وعدد من الدول المتوسطة والصغيرة؛ في ظل حاجة الدول الإفريقية الملحّة لمدخلات مالية ونقدية لتحقيق حدّ أدنى من الصمود الاقتصادي في مواجهة أزمة عالمية مستحكمة وآخِذة في التعقيد في النصف الأول من العام 2023م حسب تقديرات اقتصادية دولية متنوعة، يأتي في مقدّمتها تلك التقديرات الصادرة عن صندوق النقد الدولي.
إفريقيا والأزمة الأوكرانية: حرب الرجل الأبيض!
أعاد اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا بأبعادها المعقَّدة إثارة جدل حول تأثُّر القارة الإفريقية بتداعيات “حرب باردة جديدة”، رغم ما يمكن ملاحظته من استمرار هامشية الدور الإفريقي في هذه الحرب الباردة، واقتصار موقف القارة على مراقبة الأحداث والتأثُّر بتداعياتها.
وظلت القارة الإفريقية طوال العام الفائت حاضرةً في خطابات أطراف الأزمة المختلفة (روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بالأساس)؛ من منطلق إملاءات منتظمة رأتْ هذه الأطراف وجوبَ أن تلتزم بها القارة الإفريقية، لا سيما عند بدء الأزمة وعمليات التصويت الأممية التي انقسمت فيها مواقف القارة الإفريقية بشكل ملموس ربما هو الأول من نوعه منذ سبعينيات القرن الماضي.
ورغم صحة وَصْف الأزمة الروسية-الأوكرانية بأنها “حرب الرجل الأبيض” هذه المرة؛ فإن القارة الإفريقية دفعت الثمن الأكثر كلفةً للحرب؛ مثل ارتفاعات غير عادية في أسعار السلع والخدمات وموارد الطاقة واضطراب سلاسل التوريد بشكل فاقَم من تداعيات التضخم الاقتصادي الذي دفَع عشرات الملايين من سكان القارة الإفريقية لما دون خط الفقر في العام 2022م وحده.
وفي المحصّلة فإن الأزمة الأوكرانية عمّقت الانقسام بين الغرب والقارة الإفريقية، أو ربما كشفت تناقضات السياسات الغربية في إفريقيا، ووضعت أعباء على الدول الأوروبية -مثل فرنسا وألمانيا- التي تدعو نظيرتها الإفريقية لإظهار مزيد من دعم أوكرانيا في هذه الأزمة، وتخوفات العواصم الأوروبية المختلفة من تصريحات قيادات إفريقية -ربما أبرزها الصادرة عن الرئيس السنغالي ماكي صال قبيل نهاية العام 2022م في أعمال المنتدى الدولي للسلم والأمن في داكار- بأن دول القارة لا تتَّخذ موقفًا عدائيًّا من أوكرانيا، لكن هذه الدول تشعر بأن مشكلاتها الخاصة مثل الأمن والاقتصاد والصحة ظلت محل تجاهل عالمي غير مبرَّر طوال العقود الأخيرةـ، في مقابل ما تمتعت به الأزمة الأوكرانية من اهتمام دوليّ مفرط([1]).
ومع قرب دخول الأزمة الأوكرانية عامها الثاني قبل ربيع 2023م لا يبدو أن استمرار الأزمة أو احتمالات تسويتها (حسب مؤشرات وساطة صينية وشيكة بين أطراف الأزمة في الأسابيع المقبلة) سيكون مُغيِّرًا للأزمات المزمنة في القارة، على الأقل على المدى القريب.
عام الانقلابات وعدم الاستقرار السياسي:
شهد العام المنصرم تأكيد ما عُرف بوباء الانقلابات في القارة (ستة انقلابات ناجحة ومؤدية لتغيير نظم سياسية منذ العام 2020م)، وترسُّخ ظاهرة استعداد القادة العسكريين الذين قاموا بهذه الانقلابات للترشُّح لمنصب الرئاسة في انتخابات “ديمقراطية” مقررة بقبول منظمات إقليمية ودولية؛ وتمثل جانب عدم الاستقرار في وقوع عدد من محاولات الانقلابات، ومنها ما قادت إليه من عزل أعداد كبير من قيادات الجيوش في دول إفريقية عدة جنوب الصحراء، وكذلك ملاحظة عدد كبير من المحللين الدوليين والإقليميين أن القائمين على الانقلابات تمتعوا على نحو متزايد بتأييد شعبي كبير ورفض متصاعد للوجود العسكري الأجنبي في بعض الحالات (كما في إقليم الساحل الإفريقي). ورأى محللون أن موجة الانقلابات التي شهدتها إفريقيا في العام 2022م اختلفت عن سابقاتها لا سيما من جهة صعوبة العودة عن الحكم العسكري إلى حكم مدني عقب هذه الانقلابات، كما هو الحال في انقلاب بوركينا فاسو الذي اعتمد كثيرًا على استغلال السخط المتنامي شعبيًّا([2]).
وبدت الانقلابات الإفريقية، وأبرزها في العام الماضي الانقلاب في بوركينا فاسو (أكتوبر الفائت)، مؤشرًا خطيرًا لاستمرار حالة عدم الاستقرار في القارة بالتزامن مع فشل التدخل العسكري الفرنسي والأوروبي واضطراب السياسات الخارجية الأمريكية في مناطق النزاعات، وما جنح إليه أغلب المراقبين الغربيين من ضرورة انتهاج هذه القوى سياسة دعم عمليات الحوار الوطني الشاملة التي يمكنها حَشْد المجتمع بأكمله لمواجهة التحديات التي تواجه كل دولة من دول القارة.
وعلى سبيل المثال؛ فإن صُنّاع السياسة الأمريكيين والدوليين، حسب تقرير صادر عن معهد الولايات المتحدة للسلام USIP نهاية العام 2022م، بحاجة للإقرار بأن إقليم الساحل واحد من أكبر المشكلات الأمنية في العالم، وضرورة الانقطاع عن حالة التهميش التقليدية؛ وأن الاستجابات الدولية لأزمات الساحل بقيادة فرنسا والولايات المتحدة والأمم المتحدة التي ركَّزت بالأساس على المواجهة المسلحة للإرهاب قد قادت إلى اتساع دوائر العنف وتشريد السكان داخليًّا وعبر الحدود الوطنية ومزيد من عدم الاستقرار في أرجاء الإقليم([3])؛ كمثال واضح على أزمة عدم الاستقرار في القارة الإفريقية، ويُتوقع استمرارها في العام الجاري 2023م.
وفي المقابل شهدت حالة الديمقراطية في القارة تحولات إيجابية نسبية في العام 2022م أبرزها الانتخابات السلمية الكينية التي عُدَّت انتقالًا ديمقراطيًّا كامل السلاسة ومُعزِّزة لسياسة التحالفات الديمقراطية، وكذلك حالة الانتقال من نظام الرئيس الصومالي السابق محمد فرماجو للرئيس الحالي حسن شيخ محمود في عملية انتخابية تمت بهدوء ملحوظ رغم شهور الترقب السابقة.
وشهدت تنزانيا (كثالث دولة في شرق إفريقيا بعد كينيا والصومال) انتخابات ديمقراطية ناجحة في العام 2022م، مع توسيع الرئيسة سامية صالح حسن هامش الحرية بشكل غير مسبوق في البلاد، وإعلانها عن عدد من الإصلاحات السياسية.
بينما واصلت غامبيا تحقيق تطورات ديمقراطية في العام 2022م، مع إجراء انتخابات تشريعية سلسة والإقدام على خطوات مهمة لإصلاح العدالة الانتقالية في البلاد، وترسيخ قواعد حكم القانون ضمن مسار التحول الديمقراطي في البلاد منذ العام 2017م([4]).
عام الآثار السلبية لظاهرة التغير المناخي:
كان العام 2022م هو عام الأزمات المناخية في إفريقيا بامتياز؛ وشهدت القارة فيضانات كاسحة في نيجيريا وموجات جفاف حادة في الصومال والقرن الإفريقي بمستويات غير مسبوقة منذ عقود، ولم تَحْظ الكوارث المناخية في إفريقيا بالتغطية الإعلامية المفترضة، بينما انشغلت وسائل الإعلام الدولية منذ مطلع العام الماضي بالأعاصير في الولايات المتحدة، وارتفاع درجة الحرارة إلى 40 درجة مئوية في المملكة المتحدة.
لكن المتابعة اللصيقة لأثر التغير المناخي في إفريقيا كشفت عن بعض الملاحظات الخطيرة في العام 2022م مثل مقتل 2500 فرد في أوغندا بسبب الجفاف والمجاعة وتأثر نحو 8 ملايين نسمة في إثيوبيا بموجة الجفاف؛ كما تُوفِّي أكثر من 600 نيجيري جراء الفيضانات التي شهدتها البلاد، وكانت الأكبر من نوعها طوال العقد الماضي؛ كما عانت دول إفريقيا الجنوبية، بما فيها مدغشقر وموزمبيق، من ست عواصف قوية في العام 2022م، وأدت إلى مقتل ما لا يقل عن 890 مواطنًا. بينما وصلت درجة الحرارة في تونس -على سبيل المثال- إلى 48 درجة في يوليو الماضي، وأدت إلى حرائق في المناطق البرية؛ كما تأثر نحو مليوني مواطن في تشاد بموجة فيضانات متقطعة في شهري أغسطس وأكتوبر. وكشفت هذه الأمثلة عن الأثر البالغ للتغير المناخي العالمي في إفريقيا التي شهدت استضافة قمة المناخ COP27 نهاية العام 2022م في مدينة شرم الشيخ المصرية، وهي القمة التي طالما عُرِفَت بأنها قمة المناخ في إفريقيا؛ لخطورة وضع الأخيرة في أجندة المؤتمر([5]).
غير أن نهاية العام، وبالتزامن مع جلسات مؤتمر المناخ COP27، شهدت وضع الاتحاد الإفريقي أول استراتيجية مناخ إفريقية تَستهدف الضغط على الدول الغنية للإسهام بالمستحقات الواجبة عليها؛ لمساعدة الدول الإفريقية في مواجهة تداعيات التغير المناخي التي تبرز في هذه الدول أكثر من غيرها في بقية أرجاء العالم([6])؛ لكن تظل نقطة الضعف الرئيسة في الاستراتيجية نفسها حاجتها الملحة للتمويل رغم تعهُّد الاتحاد الأوروبي بتوفيره في الأعوام المقبلة.
وتوصلت تقارير للمنتدى الاقتصادي العالمي نهاية العام 2022م إلى حاجة القارة الإفريقية، التي لا تُصدّر سوى 4% فقط من الانبعاثات الحرارية الحبيسة العالمية، إلى المواجهة العاجلة لقضايا المناخ المُلحّة مع توقعات مواجهة مزيد من الدول حالات الفيضانات وارتفاعات غير مسبوقة في درجات الحرارة وتآكل السواحل القارية وتدهور الأراضي الزراعية والمزيد من الصدمات المناخية. ويمكن أن تتكرّر موجات الفيضانات التي شهدتها دول في وسط إفريقيا وغربها (والتي تضم حوض الكونغو الذي يمثل الرئة الحقيقية لإفريقيا والعالم أجمع)؛ مما سيؤثر مجددًا على ملايين الأفراد في الشهور المقبلة([7]).
خلاصة:
مر العام 2022م بثقل واضح على المجتمعات الإفريقية ومواطنيها، وتشابكت تعقيدات الأزمات الاقتصادية والسياسية مع ظواهر مناخية صعبة باتت تُؤثّر على الحياة اليومية لعشرات الملايين من السكان الأفارقة لا سيما في شرق إفريقيا وإقليم الساحل، وبمستوى أقل نسبيًّا في غرب إفريقيا وجنوبها.
وبينما شهدت القارة تحسنًا نسبيًّا في ملف الديمقراطية؛ فإن ديناميات التنافس الدولي الراهن والعودة المرتقبة لمشروطيات المساعدات الأمريكية- الغربية مضافًا لها رغبة قوى دولية وإقليمية (في مقدمتها الصين وروسيا وتركيا والإمارات) في اغتنام الفرص القائمة بالحصول على حصص معتبرة في الموارد الطبيعية الإفريقية تُهدِّد بتراجع هذه المكاسب بشكل كبير والحيلولة دون انتهاج الدول الإفريقية خططًا تنموية بعيدة المدى، بل واستمرار اللجوء لحلول لحظية لتعويض عجز الموازنة ومواجهة مخاطر التضخم والإفقار المتوقع تصاعدها في النصف الأول من العام 2023م. وإجمالًا فإنَّ العام 2022م كان عام أزمة بامتياز؛ ويتوقع تفاقمها في العام الحالي دون آفاق واضحة لانفراجات مرتقبة.
[1] War in Ukraine strains ties between Africa and West, France 24, October 27, 2022 https://www.france24.com/en/live-news/20221027-war-in-ukraine-strains-ties-between-africa-and-west
[2] Laura Seay and Kim Yi Dionne, African politics in 2022: More than coups and conflict, The Washington Post, December 30, 2022 African politics in 2022: More than coups and conflict – The Washington Post
[3] Sandrine Nama; Joseph Sany, Another Coup in the Sahel: Here’s a Way to Halt This Cycle, United States Institute of Peace, October 20, 2022 https://www.usip.org/publications/2022/10/another-coup-sahel-heres-way-halt-cycle
[4] Adem Kassie Abebe and Alexander Hudson, Trends that defined democracy in Africa in 2022 , International Institute for Democracy and electoral Assistance, December 19, 2022 https://www.idea.int/news-media/news/trends-defined-democracy-africa-2022
[5] Daisy Dunne, ANALYSIS: AFRICA’S UNREPORTED EXTREME WEATHER IN 2022 AND CLIMATE CHANGE, Prevention Web, October 26, 2022 https://www.preventionweb.net/news/analysis-africas-unreported-extreme-weather-2022-and-climate-change
[6] The African Union’s first climate strategy and EU-Africa climate cooperation, Briefing, European Parliament, December 2022 https://www.europarl.europa.eu/RegData/etudes/BRIE/2022/738201/EPRS_BRI(2022)738201_EN.pdf
[7] Ousmane Digana, 3 Key Fronts on which Africa must combat climate change, October 28, 2022 https://www.weforum.org/agenda/2022/10/3-key-fronts-africa-climate-change/