تُعد بنين إحدى الديمقراطيات الإفريقية؛ فقد حقَّقت انتقالاً سلميًّا للسلطة عبر انتخابات قلَّت مآخذها، وشهد مراقبوها بحريتها ونزاهتها على مدار ثلاثة عقود، وبعد أن قطعت بنين هذا الشوط الكبير على مسار التحول الديمقراطي؛ لاحت في الأفق غيوم استبدادية صاحبت حكم الرئيس “باتريس تالون” Patrice Talon؛ كان أولها تضييق نطاق الحقوق والحريات السياسية، وتشديد الخناق على المعارضة. وكان ثانيها إدخال تعديلات على قوانين الانتخاب، ما أدَّى إلى موجة من التفاعلات السياسية الحزبية، قاطعت على إثرها المعارضة -مضطرة- الانتخابات البرلمانية لعام 2019م. ومَن استطاع منها خوض غمار المنافسة أخفق في الوصول إلى البرلمان، الذي خلا من المعارضة تمامًا لأول مرة في تاريخ البلاد الديمقراطي. وكان ثالثها نكوص “تالون” عن وعده الانتخابي بجعل رئاسته ولاية واحدة؛ حيث ترشَّح للرئاسة لولاية ثانية وفاز بها.
وها هي الانتخابات البرلمانية الجديدة جرت في الثامن من يناير من العام الجاري 2023م، وخاضتها سبعة أحزاب؛ تُوالي أربعة منها الرئيس “تالون”، وتُحسَب الثلاثة الباقية على المعارضة، وقد تمكَّن أحد الأحزاب المُعارِضَة من كسر سياج الموالاة البرلمانية الكاملة، وأخفق الحزبان المعارضان الآخران، وفي ضوء هذه النتائج نتساءل: هل تعاني بنين من انتكاسة على المسار الديمقراطي؟ أم أنها تمر بمنعطف ديمقراطي يمكن تجاوزه؟
وللإجابة عن ذلك تتناول هذه الورقة المسار الديمقراطي البنيني في عصر “تالون” بالتحليل والتقييم عبر المحاور التالية:
أولاً: لمحة عن الديمقراطية في بنين
استقلت “داهومي” Dahomey عن الاحتلال التقليدي الفرنسي عام 1960م، واضعةً أقدامها على مسار الديمقراطية؛ لكن شأنها في ذلك شأن جُلّ الدول الإفريقية، سرعان ما انزلقت باتجاه الأحادية الحزبية والانقلابات العسكرية والماركسية، وفي عام 1975م تسمت بـ”بنين”، ودخلت الدولة بقيادة رئيسها الملازم (جنرال لاحقًا) “ماثيو كيريكو” Mathieu Kérékou في دوّامة التأميم والاشتراكية حتى ساءت حالتها الاقتصادية كثيرًا، ما اضطر معه “كيريكو” إلى الانتقال من مأزق الاشتراكية إلى فخّ رأسمالية البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، والإصلاح الاقتصادي، والتكيّف الهيكلي، وازداد اقتصاد الدولة تعثرًا، وهبَّت رياح الديمقراطية بالتزامن مع انهيار الاتحاد السوفييتي مطلع التسعينيات، وتبنَّى ساستها نظامًا رئاسيًّا مع تعددية حزبية، وتداولت السلطة من حينها رئاسيًّا وبرلمانيًّا سلميًّا في انتخابات ديمقراطية.
وفي عام 2016م فاز المرشح المستقل “تالون” بالرئاسة، وهو بالأصل رجل أعمال له صلات قوية بالساسة، ويلقب بـ”بارون القطن”، ويُعدّ من بين أغنى أغنياء إفريقيا، ومع بداية حُكمه بدأت التناقضات تظهر في سياساته؛ فقد أخذ في تعيين حلفائه المُقرّبين في المناصب العامة، على عكس ما روّج له في برنامجه الانتخابي من أن الكلمة العليا في هذه التعيينات ستكون للكفاءة، وحدث تضارب واضح في المصالح بين دوره كرئيس للبلاد ومصالحه التجارية؛ حيث استعادت شركاته الخاصة السيطرة على القطاعات الرئيسية للاقتصاد، بما في ذلك قطاع القطن، وميناء “كوتونو”، كما أجرى “تالون” تعديلات على قوانين الانتخابات، وميثاق الأحزاب السياسية، وتراجَع عن وعده الانتخابي وترشح لولاية ثانية وفاز بها، وتبنَّى بعض السياسات والتكتيكات القانونية التي تَحُدّ من بعض الحريات، وهو ما اعتبرته المعارضة انتكاسة ديمقراطية.
ثانيًا: حالة الحقوق والحريات الحريات
يتحدّث مراقبون عن بعض القيود على حرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة، فعلى سبيل المثال: أصبح للبلد منذ أبريل 2018م رمز كودي يحكم الاتصالات الرقمية، يعتبره المجتمع المدني قيدًا عليها، حتى ولو لم يتم النص صراحة على تقييد الوصول إلى وسائل التواصل الاجتماعي، وفرضت الحكومة في يوليو 2018م ضريبة جديدة على الشبكات الاجتماعية، ثم سحبتها بعد ضغوط شديدة من الجماهير، وفقدت “الهيئة العليا للوسائل السمعية والبصرية والاتصال” High Authority for Audiovisual and Communication “HAAC” بعض حيادها بعد أن أصبح رئيسها وعضوان آخران من أعضائها يتم تعيينهم بمعرفة رئيس الجمهورية.([1])
كما تم إلغاء حق الإضراب للعاملين في مجال الصحة والعدالة، وفرض قيود جديدة على حق غيرهم من العمال في الإضراب؛ حيث تم قصره على 10 أيام كحد أقصى في السنة.
وكذلك تمت زيادة القيود على الحق في تأسيس الأحزاب السياسية؛ حيت تمت زيادة عدد الأعضاء المؤسسين المطلوبين على مستوى الدولة من 120 عضوًا إلى 1155 عضوًا، بحد أدنى 15 عضوًا من كل إدارة محلية من إدارات الدولة الاثني عشرة.([2])
وأيضًا تم إضعاف دور ممثلي النقابات العمالية بعد أن أصبح غالبيتهم من الموظفين العموميين، كما تم احتواء منظمات المجتمع المدني وتخفيف حدة دورها الرقابي، بعد أن أصبح تحالف المجتمع المدني حزبًا سياسيًّا، ولعب ذلك الحزب دورًا رئيسيًّا تحت عباءة الموالاة في الانتخابات البرلمانية والمحلية والرئاسية الأخيرة.([3])
فيما تزايد الجدل حول عدم استقلال السلطة القضائية، بما في ذلك تسييس محاكمات المعارضين([4])، وتعيين الرئيس “تالون” محاميه “جوزيف دجوجبينو” Joseph Djogbenou وزيرًا للعدل في أول حكوماته، ثم تعيينه بعد ذلك رئيسًا للمحكمة الدستورية، وخاصةً بعد أن حكمت المحكمة تحت رئاسته بدستورية العديد من القوانين الجديدة، بما في ذلك تلك المتعلقة بسحب حق الإضراب من العاملين بقطاعي الصحة والعدل، وهو ما رفضته المحكمة سابقًا برئاسة “روبرت دوسو” Robert Dossou.([5])
ثالثًا: تعديل قوانين الأحزاب السياسية والانتخابات البرلمانية
أجرى الرئيس “تالون” تعديلات تشريعية تعجيزية من شأنها تضييق نطاق المنافسة السياسية تمامًا، بل واستبعاد المعارضة بالكلية من المشهد الانتخابي الرئاسي والبرلماني كالتالي:
على مستوى الانتخابات البرلمانية أصبح على كل قائمة ترغب في الترشح توفير كفالة مضمونة قدرها 249 مليون فرنك (حوال 400 ألف دولار)، ويتوجب على كل حزب يرغب في خوض الانتخابات المشاركة في نشاط على المستوى الوطني، وفي حال تخطت أحزاب المعارضة كل العقبات وخاضت غمار المنافسة الانتخابية، أصبح عليها تخطّي “عتبة انتخابية” Electoral Threshold من أعلى النسب حول العالم، مقدارها 10% على مستوى الدولة، وإلا لن تحظى بالتمثيل البرلماني حتى ولو حصدت بعض قوائمها بعض المقاعد، وهو أمر بعيد المنال عن جُلّ أحزاب المعارضة؛ وذلك بأن الأحزاب السياسية في بنين محدودة الانتشار، محدودة القدرات المالية، وتعتمد بشكل كبير في تمويلها على الرعاية المالية من بعض رجال الأعمال.([6])
وعلى مستوى الانتخابات الرئاسية أصبح على كل مرشح تقديم كفالة مضمونة قدرها 250 مليون فرنك (أكثر من 400 ألف دولار)، مع جمع موافقة (رعاية) 16 عضوًا (10%) من أعضاء البرلمان الـ(83) ورؤساء البلديات المنتخبين الـ(77)، ومِن ثَم وباعتبار خلو البرلمان تمامًا من نواب معارضين، وخلو البلديات من رؤساء معارضين باستثناء 6 أعضاء فقط، فقد تَحَكَّم “تالون” في تحديد مَن يمكنه منافسته في الانتخابات الرئاسية لولايته الثانية والتي فاز بها عام 2021م.([7])
رابعًا: نتائج الانتخابات البرلمانية لعام 2019م
كان من نتيجة الإصلاحات التشريعية التي قام بها “تالون” أن أخفقت جُلّ الأحزاب في الوفاء بمتطلبات الترشح للانتخابات البرلمانية التي جرت عام 2019م، فاجتمعت أحزاب الموالاة واندمجت في حزبين رئيسيين هما: حزب “الاتحاد التقدمي” Union progressiste، وحزب “الكتلة الجمهورية” Bloc républicain، أما أحزاب المعارضة فلم تندمج أو تدخل في ائتلافات، ومِن ثَم لم يترشح كثير منها للانتخابات، ومن استطاع الترشح رفضت “اللجنة الانتخابية الوطنية المستقلة” La Commission électorale nationale autonome قوائمه، ومِن ثَم نافَس الحزبان المواليان نفسيهما، فيما اعتبرهما العديد من المراقبين حزبًا واحدًا برئيسين، وتقاسما مقاعد البرلمان الـ83، والتي خلت من المعارضة لأول مرة في تاريخ بنين؛ حيث حصل حزب “الاتحاد التقدمي” على 47 مقعدًا، وحصل حزب “الكتلة الجمهورية” على 36 مقعدًا.([8])
جدير بالذكر أن التعديلات التشريعية التي غيَّرت في المعادلة الانتخابية كثيرًا، تسبَّبت بالتزامن مع انتخابات عام 2019م، في إثارة احتجاجات واسعة النطاق وأحداث عنف مميتة، وامتناع قياسي عن التصويت (أكثر من 70٪)، وإغلاق كامل للاتصالات والإنترنت، وهي أحداث نادرة الحدوث للغاية في بنين.([9])
خامسًا: ترشح “تالون” للرئاسة وفوزه بعهدة ثانية
حاول “تالون” إدخال تعديلات دستورية تُقلّص فترتي الرئاسة إلى واحدة كما وعد في برنامجه الانتخابي، غير أن المحكمة الدستورية رفضت هذه التعديلات، حتى لا تُؤسّس لسابقة قضائية تسمح للرئيس بالعبث في فترات الرئاسة، وحتى لو كان قد نجح في تمرير هذه التعديلات، فلم تكن لتمنعه من الترشح لولاية ثانية؛ لأنها ستكون حينئذ الأولى بالنسبة له بعد التعديلات، وعلى كلٍّ فقد نكص عن وعده وترشح للرئاسة للمرة الثانية رغم تعهُّده بألا يفعل، وقد ساعده على الفوز بها فوزًا مريحًا عدمُ وجود مرشحين منافسين أقوياء؛ بسبب عدم إمكان أيّ مرشح الحصول على الرعاية المطلوبة من نواب البرلمان أو رؤساء البلديات، إلا بموافقة “تالون” نفسه؛ باعتبار أن مانحي الرعاية ينتمون إلى حزبي الموالاة، ولا يوجد بينهم سوى 6 رؤساء بلديات منتخبين من المعارضة، وهو عدد غير كافٍ للوفاء بالرعاية القانونية المطلوبة، ومِن ثَم لم يَسمح سوى لمرشحين اثنين ضعفاء بمنافسته منافسة غير متكافئة، فيما تخلفت المعارضة؛ إما بسبب عدم قدرتها على الحصول على الرعاية المطلوبة، أو بسبب وجودها بالمنفى بالخارج هربًا من الملاحقة القضائية، أو بسبب خضوعها لمحاكمات وتحقيقات قضائية مسيَّسة.([10])
سادسًا: نتائج الانتخابات البرلمانية لعام 2023م
بين يدي هذه الانتخابات تم زيادة عدد مقاعد البرلمان من 83 مقعدًا إلى 109 مقاعد، وحدثت العديد من التفاعلات في النظام الحزبي مثل اندماج وائتلاف بعض الأحزاب وإنشاء أحزاب جديدة، ما أسفر عن تمكن عدد ثلاثة أحزاب معارضة من تخطّي العقبات التشريعية، ودخول حلبة المنافسة فضلاً عن الحزبين الأساسيين المواليين وحزبين آخرين من أحزاب الموالاة، وكان من بين التفاعلات الحزبية الجديدة أن تقاعد “برونو أموسو” Bruno Amoussou رئيس حزب “الاتحاد التقدمي” ليخلفه في رئاسة الحزب “جوزيف دجوجبينو” محامي “تالون” ووزير العدل سابقًا بعد أن استقال من رئاسة المحكمة الدستورية في يوليو 2022م، بعدها اندمج “حزب التجديد الديمقراطي” Parti du renouveau démocratique في حزب “الاتحاد التقدمي” ليشكلان حزبًا واحدًا برئاسة “دجوجبينو”، وخاض الانتخابات تحت اسمه الجديد “الاتحاد التقدمي من أجل التجديد” ion progressiste pour le renouveau، وكان من هذه التفاعلات أيضًا انقسام أعضاء حزب “قوات كاوري من أجل بنين الناشئة” Forces Cauris pour un Bénin émergent، قسم منهم استمر في نفس الحزب، وقسم شكَّل حزبًا جديدًا بقيادة رئيس الدولة السابق “توماس بوني ياي” Thomas Boni Yayi، وهكذا خاض المنافسة الانتخابية لعام 2023م سبعة أحزاب؛ منهم أربعة من الموالين، وثلاثة من المعارضة، وقد جرت العملية الانتخابية دون عنف أو احتجاجات تُذْكر، ودون انقطاع خدمات الاتصال أو الإنترنت([11]). ويبين الجدول رقم (1) نتائج التصويت الأولية المعلنة مِن قِبَل اللجنة الانتخابية الوطنية المستقلة.
جدول رقم (1)
النتائج الأولية المعلنة مِن قِبَل اللجنة الانتخابية الوطنية المستقلة لعام 2023م
الحزب |
نسبة الأصوات |
المقاعد |
الاتحاد التقدمي من أجل التجديد |
%37,56 |
53 |
الكتلة الجمهورية |
%29,17 |
28 |
الديمقراطيون |
%24,02 |
28 |
قوات كاوري من أجل بنين الناشئة |
%4,44 |
0 |
حركة النخب الملتزمة بتحرير بنين |
%2,28 |
0 |
حركة التحرير الشعبية |
%1,28 |
0 |
الاتحاد الديمقراطي من أجل بنين الجديدة |
%1,07 |
0 |
إجمالي |
100% |
109 |
الجدول من إعداد الباحث استنادًا إلى النتائج المُعلنة مِن قِبَل “اللجنة الانتخابية الوطنية المستقلة” والمنشورة على موقع “مكتب البث الإذاعي والتلفزيوني في بنين”، تحققت آخر زيارة في 14 يناير 2023م الساعة 12:50م على الرابط: https://ortb.bj/a-la-une/en-direct-de-la-cena-resultats-provisoires-des-legislatives/
وهكذا أُعيد صياغة هيكل البرلمان وتشكيله بعد أن مكث أربعة أعوام بالموالين للرئيس فقط وبلا أي معارضة تُذْكَر، لكن المعارضة التي دخلت البرلمان في العام الحالي 2023م لا تستطيع منع إجراء أي تعديلات دستورية، إذا استطاع “تالون” تمريرها في المحكمة الدستورية، وأراد تمريرها عبر البرلمان فالمؤيدون له أكثر من الثلثين.
سابعًا: تقييم التجربة الديمقراطية في عصر “تالون”
لا شك أن التغييرات التي أحدثها الرئيس “تالون” في البنية التشريعية، كان لها تأثير بالغ على تفاعلات النظام السياسي، وبخاصة النظام الحزبي، ووفقًا للسير العادي للأمور؛ فقد لاقت هذه التغييرات رفضًا شديدًا من المعارضة؛ لعدم تمكنها من الوفاء بمتطلباتها في الفترة القصيرة التي كانت تفصلها عن الاستحقاق الانتخابي التالي لها، وهو ما حال بينها وبين التمثيل البرلماني، غير أن الأمر اختلف مع الانتخابات الأخيرة لعام 2023م؛ حيث تمكنت بعض أحزاب المعارضة من الوفاء بالمتطلبات القانونية وخوض الانتخابات بل وفاز أحدها وبنسبة جيدة من المقاعد.
وحتى يصح تقييم التجربة نعرض ما أثار جدلاً منها على المعايير والقيم الديمقراطية؛ وصولاً إلى الإجابة عن التساؤل الرئيسي للدراسة؛ ألا وهو: هل تعاني بنين من انتكاسة على المسار الديمقراطي؟ أم أنها تمر بمنعطف ديمقراطي يمكن تجاوزه؟
كان أكثر ما أثار الجدل الديمقراطي: تحديد عتبة انتخابية كبيرة نسبيًّا، وبالرجوع إلى أدبيات النظم الانتخابية نجد أن العتبة الانتخابية (أو نسبة الحسم)، تُعدّ من العناصر الأساسية في أنماط عائلة النظام الانتخابي النسبية، وأنه معمول بها في كثير من الديمقراطيات الراسخة والناشئة على حد سواء، وينحصر دور العتبة الانتخابية في زيادة درجة عدم تناسبية نمط النظام الانتخابي النسبي، بما يزيد من اعتدال التعددية الحزبية، ومِن ثَم فعالية الأحزاب السياسية، وبالتالي الحد من تشرذم هيكل تشكيل البرلمان، وهو ما من شأنه تحفيز الائتلاف والتحالف والاندماج بين الأحزاب السياسية، واستبعاد الأحزاب الصغيرة فئوية أو إقليمية النشاط والانتشار، ولا يتعارض استهداف جميع هذه النتائج مع أيٍّ من معايير أو قيم الديمقراطية، وبخاصة في ظل ما يتسم به النظام السياسي البنيني من انعدام الاستقطاب الإثني على الرغم من التعددية الإثنية المجتمعية، ومن هنا لا يمكن أن تُؤخَذ نسبة الحسم مهما كانت مرتفعة على الديمقراطية البنينية، فقد عرفت بعض الديمقراطيات نسبة الـ10% كما في تركيا، ووصلت النسبة في بعض الأحوال إلى 33% كما في بلجيكا.([12])
أما ما أُثير من جدل حول اشتراط ممارسة الحزب نشاطًا على نطاق الدولة، واشتراط الكفالة المالية، واشتراط الموافقة أو الرعاية للمرشح الرئاسي، فجميعها اشتراطات معروفة في التقاليد الديمقراطية، وتهدف إلى ضمان جدية الأحزاب والمرشحين، واستبعاد الضعفاء، وهو ما لا يتعارض مع القيم والمعايير الديمقراطية.
وأما ما أثير عن نكوص “تالون” عن وعده الانتخابي بعدم الترشح لولاية ثانية، وبتقليص فترتي الرئاسة إلى واحدة، فما هي إلا وعود انتخابية لا يقدح عدم الوفاء بها في تماسك الديمقراطية البنينية، ومع ذلك فقد حاول “تالون” تقليص فترتي الرئاسة بالفعل، وطرح مشروعًا دستوريًّا؛ لكن المحكمة الدستورية رفضته.
وبالنسبة إلى استخدام العنف في مواجهة الاحتجاجات الانتخابية التي اندلعت عام 2018-2019م، فلا شك في أنه يُعدّ انتهاكًا خطيرًا لحقوق الإنسان، وبخاصة الحق في إبداء الرأي والتعبير، ولا شك في أن هذا الانتهاك ينال من الديمقراطية البنينية، لكنه لم يستمر، ولم يتكرر مع الاستحقاقات الانتخابية التالية. أما بالنسبة إلى ما يحدث من تسييس للقضاء فهو بالفعل انتهاك ديمقراطي خطير متعدد الوجوه؛ فهو من ناحية أولى يُعد انحرافًا بالغًا عن مبدأ الفصل بين السلطات، ومن ناحية ثانية يُعدّ اعتداءً صارخًا على حقوق الإنسان، ومن ناحية ثالثة يُعدّ خرقًا واسع النطاق لقِيَم حياد وعدالة ونزاهة القضاء.
وأما عن سحب حق الإضراب من العاملين في قطاعي الصحة والعدالة، وتحديده بمدة زمنية بالنسبة لباقي العاملين، ولئن كان انتهاكًا ديمقراطيًّا، إلا أنه وبالنظر إلى الضرورة التي فرضته، وإلي كونه تقييدًا جزئيًّا لا كليًّا؛ لا يمكن اعتباره انتهاكًا خطيرًا قادحًا قويًّا في الديمقراطية البنينية.
خلاصة القول:
في ضوء التحليل والتفسير السابقين يمكن القول بأن الديمقراطية البينينية تمر في عصر الرئيس “تالون” بمنعطف على المسار الديمقراطي يمكن تجاوزه، ويصعب اعتبار ما جرى من تفاعلات انتكاسة ديمقراطية، ولا أدل على ذلك من عودة المعارضة وبقوة إلى مقاعد البرلمان، ومن عدم تكرار بعض الانتهاكات، ومِن تدنّي نِسَب الأصوات التي حصلت عليها الأحزاب الصغيرة التي منعتها نسبة الحسم من الحصول على مقاعد، فأكبرها لم يحصد حتى 5% من الأصوات الصحيحة، ما يُعد مؤشرًا قويًّا على ضعف هذه الأحزاب لا على عدم ديمقراطية العتبة الانتخابية.
([1]) Bertelsmann Stiftung, “BTI 2022 – Benin Country Report” (Gütersloh, Germany: Bertelsmann Stiftung, 2016), Pp. 11-12.
([2]) Ibid, P. 11.
([3]) Idem.
([4]) Pierre Lepidi, Francis Kpatindé, “Au Bénin, la main lourde de la justice sur les opposants politiques”, au site web de le Monde, dernière visite le 14 jan. 2023, à 12:05, au lien:
https://www.lemonde.fr/afrique/article/2021/12/11/au-benin-la-main-lourde-de-la-justice-sur-les-opposants-politiques_6105669_3212.html
([5]) Bertelsmann Stiftung, Op. Cit., Pp. 12-13.
([6]) Vincent Duhem, “Bénin : le nouveau code électoral suscite la polémique”, au site web de la Jeune Afrique, dernière visite le 14 jan. 2023, à 12:10, au lien:
https://www.jeuneafrique.com/mag/632821/politique/benin-le-nouveau-code-electoral-suscite-la-polemique/
([7]) Cochimau S. Houngbadji, “Présidentielle 2021 au Bénin: « Il n’y a aucun risque d’exclusion »”, Alain Orounla”, au site web de la Benin Web TV, dernière visite le 14 jan. 2023, à 12:15, au lien:
https://archives.beninwebtv.com/2020/12/presidentielle-2021-au-benin-il-ny-a-aucun-risque-dexclusion-alain-orounla/
([8]) Gabin Dédjila, “Législatives 2019 au Bénin: Seules les candidatures de l’Union progressiste et du Bloc républicain validées par la CENA”, au site web de la Nouvelle Tribune, dernière visite le 14 jan. 2023, à 12:20, au lien:
https://lanouvelletribune.info/2019/03/legislatives-2019-au-benin-seules-les-candidatures-de-lunion-progressiste-et-du-bloc-republicain-validees-par-la-cena/
([9]) BBC, “Benin holds vote with no opposition candidates”, on BBC Website, Last Visit at 14 Jan. 2023, at 12:25 pm, at link:
https://www.bbc.com/news/world-africa-48084124
– France24, “Bénin : abstention massive aux legislatives”, on France24 Website, Last Visit at 14 Jan. 2023, at 12:30 pm, at link:
https://www.france24.com/fr/20190501-legislatives-benin-taux-participation-plus-bas-histoire-pays
([10]) France24, “Benin tense as president seeks reelection”, on France24 Website, Last Visit at 14 Jan. 2023, at 12:35 pm, at link:
https://www.france24.com/en/live-news/20210411-benin-tense-as-president-seeks-reelection
– Matthieu Millecamps, Maurice Thantan, “Bénin : Patrice Talon réélu dès le premier tour, selon la commission électorale”, au site web de la Jeune Afrique, dernière visite le 14 jan. 2023, à 12:40, au lien:
https://www.jeuneafrique.com/1154144/politique/benin-patrice-talon-reelu-des-le-premier-tour-selon-la-commission-electorale/
([11]) Robbie Corey-Boulet, “As Benin Gears Up for Legislative Elections, the Opposition Is Left Out”, on World Politics Review Website, Last Visit at 14 Jan. 2023, at 12:45 pm, at link:
https://www.worldpoliticsreview.com/as-benin-gears-up-for-legislative-elections-the-opposition-is-left-out/?one-time-read-code=49355167348489662637
([12]) لمزيد من التفاصيل حول مكونات وعناصر وخصائص النظام الانتخابي انظر:
– د. سعيد إسماعيل ندا، النظم الانتخابية وتأثيرها علي التعددية الحزبية في إفريقيا (لندن: مركز أبحاث جنوب الصحراء، 2023) ص ص 35-128.