في خطوةٍ تعكس تحوُّلًا لافتًا في المواقف الإقليميَّة، وتُبرِز الانقسامات السياسيَّة المُتزايدة في وسط إفريقيا؛ أعلنت رواندا، في بيان رسمي صادرٍ عن حكومتها في 7 يونيو الجاري، انسحابها من الجماعة الاقتصاديَّة لدول وسط إفريقيا (ECCAS) في ختام أعمال القمة الـ26 للمُنظمة؛ ردًّا على ما اعتبرته “كيغالي” انتهاكًا لحقوقها التي أقرَّها الاتفاق التأسيسي للمُنظمة، واستمرارًا لمواقف الدول الأطراف بالتواطؤ ضدها والانحياز لصالح جمهورية الكونغو الديمقراطيَّة التي تربطها بها خلافات سياسيَّة مُعقّدة.
تأسَّست الجماعة الاقتصاديَّة لدول وسط إفريقيا (إيكاس) في أكتوبر 1983م بعد التوقيع على معاهدتها التأسيسيَّة في ليبرفيل، لكنّها ظلت خاملةً لعدة سنوات بسبب القيود الماليَّة، وتفاقم الصراعات في منطقة البحيرات العُظمى، بالإضافة إلى اندلاع الحرب في الكونغو الديمقراطيَّة، ومع ذلك تم الاعتراف بها رسميًّا في أكتوبر 1999م، باعتبارها أحد التكتلات الاقتصاديَّة الإقليميَّة الثمانية المُعترَف بها كركائز للتكامل الإقليمي في القارة الإفريقيَّة.
وتهدف الإيكاس إلى تعزيز التعاون من أجل تحقيق تنمية اقتصاديَّة متوازنة ومُستدامة ذاتيًّا، خاصةً في مجالات الصناعة والنقل والزراعة والموارد الطبيعيَّة والتجارة والجمارك والشؤون النقديَّة والماليَّة، وغيرها من المجالات الأخرى، بهدف رفع مستويات المعيشة والحفاظ على الاستقرار الاقتصادي وتعزيز العلاقات السلميَّة بين الدول الأعضاء والمُساهمة في تنمية القارة الإفريقيَّة([1]).
وتضم الإيكاس في عضويتها إحدى عشرة دولة؛ هي: أنغولا، بوروندي، الكاميرون، إفريقيا الوسطى، الكونغو، الغابون، غينيا الاستوائيَّة، جمهورية الكونغو الديمقراطيَّة، ساو تومي وبرينسيب، تشاد، بالإضافة إلى رواندا التي أعلنت انسحابها مؤخرًا.
أولًا: سياق الانسحاب الرواندي من إيكاس
في ختام قمتها العادية السادسة والعشرين بمالابو -عاصمة غينيا الاستوائيَّة-، التي عُقدت في 7 يونيو 2025م؛ قرَّرت الجماعة الاقتصاديَّة لدول وسط إفريقيا تمديد رئاسة غينيا الاستوائيَّة للمُنظمة لعام آخر، في حين كان مُقررًا أن تُسلّم غينيا الاستوائيَّة الرئاسة إلى رواندا؛ عملًا بالمادة السادسة من الميثاق التأسيسي للجماعة التي تنص على أن تُدار رئاسة المُنظمة بالتناوب بين الدول الأعضاء لمدة عام واحد، لكن بوروندي وجمهورية الكونغو الديمقراطيَّة اعترضتا على هذه الخطوة، وسط مزاعم تُفيد بدعم رواندا للمُتمردين في شرق الكونغو الديمقراطيَّة.
أثار هذا القرار استياء كيغالي واعتبرته انتهاكًا لحقها المكفول بموجب الميثاق التأسيسي للإيكاس، وجاء في بيان حكومي لها «تُعرب رواندا عن استنكارها لاستغلال جمهورية الكونغو الديمقراطيَّة للجماعة الاقتصاديَّة لدول وسط إفريقيا (إيكاس)، بدعم من بعض الدول الأعضاء»، كما أعرب وزير خارجيتها أوليفييه ندوهونجيريه Olivier Nduhungirehe عن إحباط حكومته، مُنتقدًا انخراط الجماعة الاقتصاديَّة لدول وسط إفريقيا في أزمة شرق الكونغو، مُعتبرًا أنَّ هذه الأزمة تندرج ضمن اختصاصات جماعة شرق إفريقيا (EAC) وجماعة تنمية الجنوب الإفريقي (SADC)، برئاسة الرئيس التوغولي المُعيَّن مِن قِبَل الاتحاد الإفريقي([2]).
ولم تكُن تلك المرة الأولى التي تتّهم فيها رواندا الإيكاس بالتحيُّز ضدها، فقد شهدت القمة العادية الثانية والعشرين للجماعة الاقتصاديَّة لدول وسط إفريقيا، التي عُقدت عام 2023م في كينشاسا برئاسة الكونغو الديمقراطيَّة، استبعاد رواندا من حضور أعمال القمة، مما دفَعها إلى توجيه رسالة إلى رئيس الاتحاد الإفريقي ندَّدت فيه باستبعادها غير القانوني من القمة، لكنّها لم تتلقَّ أيّ استجابة أو توضيح، الأمر الذي عدَّته كيغالي تقاعسًا يعكس فشل المُنظمة في إنفاذ قواعدها الخاصة.
نتيجةً لذلك، أعلنت رواندا في 7 يونيو الجاري، أنها لا ترى أيّ مُبرِّر للبقاء في مُنظمةٍ يتعارض عملها الحالي مع مبادئها التأسيسيَّة وهدفها المنشود، لكن ليس من الواضح حتى الآن ما إذا كان قرار كيغالي بالخروج من الإيكاس سيدخل حيّز النفاذ فورًا، أم سيتم وفقًا لترتيبات زمنيَّة سيُكشف عنها في المرحلة المُقبلة.
ثانيًا: دوافع وأسباب الانسحاب
ثمة مجموعة من الدوافع والأسباب التي حفّزت رواندا على اتخاذ قرارها بالخروج من الجماعة الاقتصاديَّة لدول وسط إفريقيا (إيكاس)، يُمكن إجمالها فيما يلي:
1- تجاهل حقّ رواندا في الرئاسة الدوريَّة للإيكاس: قرَّرت إيكاس في قمتها الأخيرة التي عُقدت في السابع من يونيو الجاري تمديد رئاسة غينيا الاستوائيَّة لعام آخر، في حين كان من المُقرر أن تُسلم الرئاسة إلى رواندا، الأمر الذي وصفته حكومة الأخيرة بالانحراف عن مبادئ الجماعة الاقتصاديَّة ومبادئها، معتبرةً أنَّ هذا التجاهل غير قانوني، وأنه قد تم عمدًا لفرض إملاءات جمهورية الكونغو الديمقراطيَّة، وعليه أعلنت كيغالي انسحابها رسميًّا من المُنظمة.
2- تلاعب الدول الأعضاء بالجماعة: جاء قرار رواندا بالانسحاب من إيكاس نظرًا لما تصفه كيغالي باستغلال المُنظّمة مِن قِبَل الكونغو الديمقراطيَّة لمصالحها الخاصة بدعم من بعض الدول الأطراف، الأمر الذي عدَّته كيغالي تشويهًا لأهداف التكتل الإقليمي وتعديًا على مبادئه؛ حيث جاء في بيان صادر عن وزارة الخارجيَّة الرواندية أنَّ ما حدث في ختام القمة الـ26 يُمثِّل انتهاكًا لحقوقها القانونيَّة المكفولة بموجب النصوص التأسيسيَّة للجماعة الاقتصاديَّة لدول وسط إفريقيا، وبالتالي، لا ترى أيّ مُبرِّر يحملها على المُشاركة ومواصلة البقاء في المُنظمة.
3- التوتُّرات السياسيَّة بين الكونغو الديمقراطيَّة ورواندا: يأتي قرار كيغالي بالانسحاب من الجماعة الاقتصاديَّة لدول وسط إفريقيا في سياق تصاعد التوتُّرات الإقليميَّة بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطيَّة على خلفية الصراع الدائر في شرق الكونغو بين القوات الحكوميَّة والمليشيات المُتمردة، وعلى رأسها حركة 23 مارس (M23) التي أحكمت قبضتها على عدة مدن رئيسيَّة في شرق البلاد؛ حيث تتّهم كينشاسا، إلى جانب الأمم المُتحدة والعديد من القوى الغربيَّة، رواندا بدعم مُتمردي M23 بالقوات والأسلحة، فيما تنفى كيغالي هذه الاتهامات باستمرار مؤكدةً أنَّ عملياتها العسكريَّة هي بغرض الدفاع عن النفس في ظل عدم الاستقرار الإقليمي.
وفي هذا السياق، رفض مجلس الوزراء الرواندي في بيانه الادعاء القائل بأنَّ الصراع الدائر في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطيَّة يُبرر الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها الجماعة الاقتصاديَّة لدول وسط إفريقيا، مُشيرًا إلى أنَّ الأعمال العدائيَّة بدأت قبل تولّي رواندا رئاسة الجماعة عام 2023م بوقتٍ طويل([3]).
4- دعم الكونغو الديمقراطيَّة للقوات الديمقراطيَّة لتحرير رواندا: تتهم رواندا جمهورية الكونغو الديمقراطيَّة بدعم ميليشيا القوات الديمقراطيَّة لتحرير رواندا (FDLR)، وهي جماعة مُسلحة تزعم كيغالي أنها مسؤولة عن جرائم الإبادة الجماعيَّة التي شهدتها البلاد عام 1994م ضد عرقية التوتسي، وصرَّحت كيغالي بأنَّ حكومة كينشاسا تواصل تمويل وإيواء وتسليح القوات الديمقراطيَّة لتحرير رواندا، في انتهاك لقواعد القانون الدوَّلي وللقرارات الصادرة عن مجلس الأمن التابع للأمم المُتحدة([4]).
كما تزعم كيغالي أنَّ القصف المُتكرر وتواصل التوغلات مِن قِبَل القوات المُسلحة الكونغوليَّة والقوات الديمقراطيَّة لتحرير رواندا عبر حدودها، بالإضافة إلى التهديدات العلنية للرئيس الكونغولي فيليكس تشيسكيدي Félix Tshisekedi بالإطاحة بحكومة رواندا، يُشكِّل انتهاكًا مباشرًا للمادة 3 من معاهدة الجماعة الاقتصاديَّة لدول وسط إفريقيا التي تدعو إلى تعزيز التعاون وحسن الجوار([5])، ومع ذلك ترى حكومة رواندا أنَّ إيكاس تتجاهل عن عمد تلك الانتهاكات والتهديدات الأمنيَّة التي تُشكّلها حكومة الكونغو الديمقراطيَّة، وأنها تسعى لأن تُحمّل كيغالي وحدها مسؤولية الإخلال بالسلم والأمن الإقليميين.
ثالثًا: التداعيات والعواقب المُحتملة
لا شك أنَّ قرار رواندا بالخروج من الجماعة الاقتصاديَّة لدول وسط إفريقيا ستكون له تداعياته وعواقبه على مُستقبل التكتل والأمن الإقليمي، فمن ناحية يعكس هذا الخروج حجم الانقسامات والتوتُّرات السياسيَّة المُزمنة بين دول وسط إفريقيا، ومن ناحية أخرى يعكس هشاشة التنظيمات الإقليميَّة في استيعاب تناقضات المصالح بين دولها وفشل الدبلوماسية مُتعددة الأطراف في مُعالجة الأزمات السياسيَّة بالوسائل السلميَّة.
كما يُثير انسحاب رواندا تساؤلات حول فعالية وحياد تكتل الإيكاس، لا سيَّما في سياق تُهدّد فيه الانقسامات الداخليَّة والتلاعب الخارجي أُطُر السلام الإقليمي؛ حيث يُشير مراقبون إلى أنَّ عدم الالتزام بالمعايير المؤسسيَّة قد يُعمِّق انعدام الثقة بين الدول الأطراف، ويُعيق قدرة إيكاس على البقاء أداةً موثوقةً لتعزيز التعاون الإقليمي([6]).
ومن المُرجَّح أن يتسبّب خروج رواندا من الجماعة الاقتصاديَّة لدول وسط إفريقيا في تعطيل مرحلي لمُفاوضاتها مع حكومة الكونغو الديمقراطيَّة، تلك المُفاوضات التي ترعاها الولايات المُتحدة والتي تكلَّلت بتوقيع «إعلان المبادئ» في أبريل الماضي بين الطرفين، والذي يُحدّد مسارًا نحو السلام والاستقرار والتنمية الاقتصاديَّة المُتكاملة، وقد يكون هذا التعطيل المرحلي نتيجة تمسك كيغالي بسحب كينساشا لاتهاماتها ضدها من المنصات الإقليميَّة، فضلًا عن ذلك، من المُمكن أن يُفضي خروج رواندا إلى تقويض التوافقات التعدينيَّة بين البلدين وتهديد جهود الوساطة الإقليميَّة برعاية أنغولا([7]).
كذلك، يُهدد خروج رواندا من الإيكاس بتعطيل الأعمال التجاريَّة البينية عبر الحدود، ويُسهم في تعقد الجهود المبذولة لمُساعدة مئات الآلاف من النازحين بسبب القتال في شرق الكونغو، فالمنطقة غنية بالمعادن الحيوية للصناعات العالميَّة، ويُمكن أن يمتد عدم الاستقرار فيها إلى الأسواق الدوليَّة، كما يكشف خروج رواندا عن مشكلة أعمق تتعلق بإمكانية تحوُّل المجموعات الإقليميَّة إلى ساحات لتصفية الخلافات السياسيَّة، مما يُهدِّد بتآكل قيمتها ودورها بالنسبة لأعمال السلم والأمن الإقليميين([8]).
وأخيرًا يُخشَى أن يؤدي قرار رواندا بالخروج من إيكاس إلى إضعاف التنسيق الأمني والعسكري بين دول المنطقة في مواجهة التهديدات الأمنيَّة المُشتركة، وتعقُّد عمليات تبادل ونقل المعلومات، ما قد يُتيح للكيانات والحركات المُسلَّحة هامشًا أكبر للتحرُّك دون رقابة فعَّالة من الدول المُتأثرة بالصراع لا سيَّما في ظل تواصل أعمال العنف في شرق الكونغو، مما قد يُحفِّز الدول إلى تعزيز علاقاتها الثنائية بدلًا من التنسيق الجماعي في إطار التكتلات الإقليميَّة([9]).
ختامًا، يأتي قرار كيغالي بالانسحاب من عضوية الجماعة الاقتصاديَّة لدول وسط إفريقيا (إيكاس) وفك ارتباطها بها كخطوة طبيعيَّة مدفوعةً بالمُمارسات الاستفزازية للإيكاس ضدها، بدايةً بعدم دعوتها لحضور قمة المُنظمة التي عُقدت في كنشاسا عام 2023م، وصولًا إلى تجاهل حقّها في تولي الرئاسة الدورية للمُنظمة هذا العام، وانحياز أطرافها لصالح الكونغو الديمقراطيَّة، وفي حين أنه ليس من المتوقع أن يؤدي هذا القرار الرواندي إلى انفراط عقد إيكاس وتفككها، لكن ما هو مؤكد أنَّ هذه الخطوة ستكون لها عواقبها وتأثيراتها المُباشرة على مسارات التعاون الإقليمي في وسط إفريقيا في المجالات الاقتصاديَّة والأمنيَّة والسياسيَّة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) ECCAS – Economic Community of Central African States, United Nations Economic Commission for Africa, 2016, Available at: https://2u.pw/sumnv
([2]) Jacobs Seaman Odongo, Central Africa: Rwanda Withdraws From ECCAS, Accusing DR Congo of Manipulating the Bloc, Allafrica, 8 June 2025, Available at: https://2u.pw/2824I
([3]) Cabinet Reiterates Rwanda’s decision to withdraw from the Economic Community of Central African States, Republic of Rwanda, 9 June 2025, Available at: https://2u.pw/aPCZC
([4]) Cabinet Confirms Rwanda Withdrawal from ECCAS Regional Bloc, KTpress, 10 June 2025, Available at: https://2u.pw/RkaFL
([5]) Cabinet Reiterates Rwanda’s decision to withdraw from the Economic Community of Central African States, Op. Cit.
([6]) Cabinet Confirms Rwanda Withdrawal from ECCAS Regional Bloc, Op. Cit.
([7]) تبعات انسحاب رواندا من مجموعة “إيكاس”، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، 9 يونيو 2025م، متاح على https://2u.pw/TOi4j
([8]) Rift Over Congo Crisis Drives Rwanda Out of Central Africa Alliance, The Rio Times, 10 June 2025, Available at: https://2u.pw/RjkRI
([9]) تفكك إيكاس.. انسحاب رواندا يُنذر بتأجيج الصراع في إفريقيا الوسطى، إرم نيوز، 10 يونيو 2025م، متاح على https://www.eremnews.com/news/world/075it5x