نشرت صحيفة “NZZ” السويسرية مقالاً لـ”صمويل ميستيلي/Samuel Misteli”، مراسل الصحيفة لشؤون إفريقيا؛ على خلفية مزاعم تَعرُّض الأقلية البيضاء في جنوب إفريقيا للاضطهاد، مما تسبَّب في أن جنوب إفريقيا لم تَعُد تتلقى مساعدات من الولايات المتحدة الأمريكية.
لقد كثرت الأوامر التنفيذية التي وقَّعها “دونالد ترامب” في الأسابيع الأولى من رئاسته، وكان أكثرها إثارةً للدهشة قرار يتعلق بإفريقيا؛ تلك القارة التي نادرًا ما يُبْدِي ترامب اهتمامًا بها، وهو يتعلق بأقلية عرقية يَزعُم أنها تتعرض للاضطهاد. تُرَى، ما هو الدور الذي يلعبه رجل التكنولوجيا “إيلون ماسك” المولود في جنوب إفريقيا من وراء الكواليس في هذا الملف؟!
بقلم: صمويل ميستيلي
ترجمة: شيرين ماهر
المرسوم الأمريكي الصادر في السابع من فبراير 2025م بعنوان “تدابير ضد الأفعال المشينة التي ترتكبها جمهورية جنوب إفريقيا”، والذي يزعم أن جنوب إفريقيا -في خطوة بمثابة “تجاهل صادم لحقوق مواطنيها”؛ قدمت قانونًا جديدًا يهدف إلى تجريد البوير من ممتلكاتهم.
والبوير هُم مستوطنو جنوب إفريقيا البيض الأوائل الذين ينحدرون من أصل هولندي أو فرنسي. وقد وصلوا إلى إفريقيا في القرن السابع عشر، وأغلبهم من هولندا؛ إذ يُشكِّلون الآن 5 في المائة من سكان جنوب إفريقيا، ولا يزال العديد منهم من كِبار مُلّاك الأراضي.
لقد أمر “ترامب” الولايات المتحدة بوقف جميع مدفوعات المساعدات المُقدَّمة لجنوب إفريقيا. وهذا يعادل حوالي 450 مليون دولار سنويًّا، والتي كانت مُوجَّهة، في الأساس، إلى قطاع الصحة؛ حيث ساعدت في تمويل أكبر برنامج لمكافحة الإيدز في العالم.
كما أصدر ترامب مرسومًا يقضي بمنح البوير الذين هم من ضحايا للتمييز العنصري حقّ اللجوء في الولايات المتحدة.
جرائم قتل مذهلة بحقّ المزارعين ذوي البشرة البيضاء:
يبدو أن دعم “ترامب” للبيض في جنوب إفريقيا كان مدفوعًا بقانون قدَّمته حكومة جنوب إفريقيا في يناير 2025م. ينصّ ما يسمى بـ”قانون نزع الملكية” على أن الدولة يمكنها مُصادرة الأراضي دون مَنْح تعويضات في ظل شروط معينة، وإذا كان ذلك يَصُبّ في الصالح العام. ويحل ذلك القانون محل قانون يعود إلى عصر الفصل العنصري.
من جانبها، تقول حكومة جنوب إفريقيا: إن القانون الجديد يشبه الأحكام العامَّة والمُنظِّمة لمثل هذه الأحوال في العديد من الدول الغربية، والتي مَكَّنتها من بناء الطرق السريعة أو خطوط السكك الحديدية، على سبيل المثال.
لكن في جنوب إفريقيا، تُعَدّ الأرض قضية عاطفية وذات حساسية خاصة، ففي أثناء مرحلة الفصل العنصري، تم مصادرة أراضي ملايين المواطنين السود في جنوب إفريقيا. اليوم، بعد مرور ثلاثين عامًا من النهاية الرسمية للفصل العنصري، يُشكِّل البيض في جنوب إفريقيا 7٪ من السكان، لكنَّهم ما زالوا يمتلكون أكثر من 70٪ من الأرض، بينما لا يمتلك السود في جنوب إفريقيا، الذين يشكلون 80٪ من السكان، سوى 4٪ من الأرض.
في الواقع، لم تحدث عمليات مصادرة واسعة النطاق في جنوب إفريقيا بعد عام 1994م، على عكس ما حدث في زيمبابوي المجاورة؛ حيث إن أصحاب الأراضي من ذوي البشرة البيضاء الذين تنازلوا عن أراضيهم حصلوا على تعويضات بأسعار السوق، وهو ما أزعج القوى السياسية في جنوب إفريقيا التي تتمركز على يسار المؤتمر الوطني الإفريقي المُهيمن منذ فترة طويلة.
ومع ذلك، فهناك أصوات في جنوب إفريقيا تشكو من أن السكان البيض يتعرَّضون للحرمان، إن لم يكن الاضطهاد. والادعاء الأكثر تطرفًا هو “الإبادة الجماعية للبيض”. ويَستشهد أنصار هذا الادعاء بجرائم قتل مروعة بحقّ المزارعين البيض كدليل على ذلك. وحتى إن كان البيض في جنوب إفريقيا هُم، في أغلب الأحيان، ضحايا لجرائم القتل. لكنّ الشباب السود أيضًا هُم الأكثر عُرضة للقتل. ومن بين أكثر من عشرين ألف جريمة قتل تحدُث كل عام، هناك نحو خمسين منها مؤخرًا بين المزارعين البيض.
وفي الأساس، تُروِّج المنظمات اليمينية المتطرفة البويرية نظرية المؤامرة حول “الإبادة الجماعية للبيض”، وتسعى إلى نَشْرها بكثافة. وهي شكل صارخ من أشكال المقاومة ضد أيّ وسيلة من وسائل التعويض التاريخي في جنوب إفريقيا. كما تنتشر هذه المنظمات المتطرفة على المستوى الدولي مِن قِبَل أشخاص متشابهين في الفكر الأيديولوجي.
تعاطف “ماسك” مع نظرية الإبادة الجماعية:
لقد وصلت الاتهامات الآن إلى البيت الأبيض، الأمر الذي يُثير التساؤل عما إذا كان الرجل الذي من المفترض أن يهدم الجهاز الإداري الأمريكي لصالح ترامب قد لعب دورًا ما في ذلك الأمر.
جدير بالذكر أن ملياردير التكنولوجيا “إيلون ماسك” وُلِدَ وذهَب إلى المدرسة في بريتوريا في الثمانينيات، خلال حقبة الفصل العنصري، وعاش في جنوب إفريقيا حتى بلغ الثامنة عشرة من عمره. و”ماسك” لا ينتمي إلى البوير، لكنه ينتمي إلى عائلة بريطانية كندية ثرية. ومع ذلك، فقد أظهر في السنوات الأخيرة تعاطفًا مع نظرية “الإبادة الجماعية للبيض”.
ومن غير الواضح ما إذا كان “ماسك” لعب دورًا مباشرًا في المرسوم الرئاسي الذي أصدره ترامب. ولكن الأمر المؤكد هو أنه انضمَّ إلى المناقشة التي دارت على منصة (إكس)، وتوجه إلى الرئيس الجنوب إفريقي “سيريل رامافوزا” قائلاً: “لماذا لديك قوانين ملكية عنصرية علنية؟”؛ الرسالة مماثلة للرسائل السابقة. ففي عام 2023م غرَّد “ماسك” على المنصة قائلاً: “في جنوب إفريقيا يدفعون علنًا من أجل إبادة البيض”.
لقد تفاقمت كراهية “ماسك” للحكومة الجنوب إفريقية، التي لا تزال تقودها حركة التحرير السابقة “المؤتمر الوطني الإفريقي”، وفي عام 2024م ولأسباب تجارية؛ لم يتمكن من “ماسك” من الحصول على موافقة على خدمة الإنترنت عبر الأقمار الصناعي (ستارلينك/ Starlink) في جنوب إفريقيا. وذلك لأن القانون في جنوب إفريقيا ينص على ضرورة إشراك المواطنين السود في جنوب إفريقيا كمستثمرين.
“ترامب” سمع عن عمليات المُصادرة على قناة “فوكس نيوز”:
عند البحث عن خلفية المرسوم الذي أصدره ترامب؛ يتضح في البداية أن هذه ليست المرة الأولى التي يشعر فيها بالقلق بشأن الأقلية البيضاء في جنوب إفريقيا. ففي عام 2018م، وخلال رئاسته الأولى، غرَّد بأن المزارعين البيض في جنوب إفريقيا يتعرَّضون لمصادرة ممتلكاتهم وقتلهم “على نطاق واسع”.
وكان يشير إلى تقرير على قناته المُفضَّلة “فوكس نيوز”؛ حيث نشر ممثل لوبي “البوير” نظرية الإبادة الجماعية. وفي ذلك الوقت، أصدر “ترامب” تعليمات لوزير خارجيته آنذاك “مايك بومبيو” بالتحقيق في الأحداث المزعومة، دون وقوع عواقب معروفة.
ولكن هذه المرة الرياح عاتية. قال رئيس جنوب إفريقيا “رامافوزا” عقب صدور مرسوم ترامب: “نحن شعب جنوب إفريقيا نتسم بالمرونة، لكننا لا نخشى شيئًا”. ولكن في حقيقة الأمر، يتجلى قلق الحكومة في إجراء رامافوزا شخصيًّا اتصالاً هاتفيًّا مع “ماسك”، مؤكدًا أن حكومته تريد إرسال مفاوضين إلى واشنطن لإجراء مفاوضات؛ حيث تخشى جنوب إفريقيا أن يكون وقف أموال المساعدات ليس الإجراء العقابي الأخير الذي تتخذه الولايات المتحدة. فالولايات المتحدة هي ثاني أكبر شريك تجاري للبلاد، وتُشكّل جنوب إفريقيا جزءًا من “قانون النمو والفرص في إفريقيا/ أغوا”، الذي يمنح بعض الدول الإفريقية إمكانية الوصول إلى السوق الأمريكية مُعفاة من الرسوم الجمركية، ويتعيَّن تجديد الاتفاق هذا العام.
من ناحية أخرى، لقد أصبحت محاولات جنوب إفريقيا لاسترضاء إسرائيل أكثر صعوبة؛ بسبب وجود أسباب حقيقية للقسوة الأمريكية تجاه جنوب إفريقيا. ففي السنوات الأخيرة، جعلت البلاد نفسها أكثر استقلالية، على نحو متزايد، بين الكتل الجيوسياسية؛ فعلى سبيل المثال: نفَّذت جنوب إفريقيا مناورات بحرية مع الصين وروسيا في عام 2023م. وفي ديسمبر 2023م، رفعت جنوب إفريقيا دعوى قضائية ضد حليفة الولايات المتحدة “إسرائيل” في محكمة العدل الدولية في لاهاي، بذريعة أنها ترتكب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة.
ومؤخرًا، قالت حكومة جنوب إفريقيا: إنه يمكنها أيضًا أن تُدشّن تعاونًا مع إيران في مجال التكنولوجيا النووية.
في الواقع، كانت واشنطن تعامل جنوب إفريقيا بفتور منذ صدور المرسوم. ومن المقرَّر أن يُعقَد اجتماع لوزراء خارجية مجموعة العشرين في جوهانسبرج؛ وستتولى جنوب إفريقيا رئاسة المجموعة في عام 2025. وقد ألغى وزير الخارجية الأمريكي “ماركو روبيو” مشاركته في الاجتماع. وفي منشور له على منصة (إكس) بدا وكأنه يردد صدى لادعاءات رئيسه، قال: “إن جنوب إفريقيا تمارس أفعالاً سيئة للغاية”. فهي تستولي على الممتلكات الخاصة. والسفر إلى هناك سيكون إهدارًا لأموال دافعي الضرائب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رابط التقرير: