يتركّز الخطاب الإعلاميّ الدوليّ منذ عدة أشهر على جائحة فيروس كورونا المستجد، وأصبح الهَمّ الأكبر في العقل النيوليبرالي هو كيفية تحقيق التوازن بين الصحة العامَّة وفتح الأسواق.
بَيْدَ أنَّ الوضع في إفريقيا يأخذ منحًى آخر؛ حيث يعتقد كثيرٌ من الناس بعدم وجود أسواق أصلاً لإعادة فتحها؛ فالقضية هي صراعٌ من أجل الحياة، سواء بوجود الفيروس أو بدونه.
إنَّ أزمة إفريقيا المستعصية أعمق من الأوبئة والكوارث الطبيعية التي عهدها الإنسان الإفريقي عبر السنين. ألم يجد سُكان شرق إفريقيا منذ بداية هذا العام أنفسهم مُحاصرين بين مطرقة أسراب الجراد التي تُهلك الحرث والزرع وسندان جائحة صحيَّة طارئة لا ترحم ولا تُميّز.
أضف إلى ذلك؛ نشهد كلّ يوم ملايين من الأطفال والنساء والرجال يجدون أنفسهم محاصرين في صراعات منسية في كثيرٍ من مناطق الأطراف الإفريقية.
يركّز الإعلام على القضايا الكبرى الجاذبة؛ مثل: سد النهضة، وفوز زعيم المعارضة بالانتخابات في ملاوي، أو وضع رئيس غانا نفسه في العزل الصحي الاختياري؛ خشية الإصابة بفيروس كورونا.
ونتيجةً لذلك، غالبًا ما يكون الدعم الإنساني غير كافٍ لتلبية احتياجات الناس الأساسية في مناطق الصراعات المنسية تلك.
وقد درَج مجلس اللاجئين النرويجي على إصدار تقرير سنوي عن أزمات النزوح العشر الأكثر إهمالًا في العالم؛ وذلك من أجل تسليط الضوء عليها. ولم يكن مستغربًا أن تضم قائمة عام 2019م تسع دول إفريقية من أصل عشر دول.
ويرى التقرير أنه على الرغم من أن المساعدات الإنسانية يجب أن تستند إلى قاعدة الاحتياجات وحدها، إلا أن بعض الأزمات تَحْظَى باهتمامٍ ودعمٍ أكبر من غيرها. ربما يرجع عدم الاهتمام ببعض الأزمات إلى درجة الأهمية الجيوسياسية. وربما تكون مناطق النزاعات بعيدةً، ويصعب الوصول إليها بالنسبة للجهات المانحة.
بَيْدَ أنَّ الإهمال يمكن أن يُعْزَى كذلك إلى عدم الرغبة في تقديم تنازلات مِن قِبَل أطراف النزاعات السياسية، وخلق أزمات طويلة الأمد بشكلٍ يبعث اليأس والقنوط لدى المانحين.
ومن المعروف أنَّ قائمة الأزمات المهمَلة في تقرير المجلس النرويجي للاجئين تستند إلى مراجعة أكثر من 40 أزمة نزوح على أساس ثلاثة معايير؛ هي: نقص التمويل، ونقص الاهتمام الإعلامي، والإهمال السياسي والدبلوماسي. أضف إلى ذلك أنه يتم تحليل جميع البلدان التي تضم أكثر من 200 ألف نازح.
حالات الطوارئ المنسية:
للسنة الثانية على التوالي، تصدَّرت الكاميرون القائمة باعتبارها تحتضن أكثر الأزمات المنسية على كوكب الأرض في عام 2019م؛ حيث واجهت هذه الدولة التي تقع في الغرب الإفريقي ثلاث أزمات كبرى تمثلت في: تزايد وتيرة هجمات بوكو حرام في مناطق الشمال، والصعود العنيف للنزعة الانفصالية في الغرب الناطق بالإنجليزية، وأخيرًا أزمة اللاجئين من جمهورية إفريقيا الوسطى.
ولا يخفى أن صمت المؤسسات الدولية والإقليمية عما يحدث في الكاميرون، وانشغال الخطاب الإعلامي الإفريقي بقضايا أخرى، بالإضافة إلى النقص الشديد في تمويل المساعدات الإنسانية؛ أسهم في أن تحمل الدولة لقب الدولة الأولى في العالم من حيث الصراعات المنسية.
وأعقب الكاميرون في الترتيب: جمهورية الكونغو الديمقراطية، وبوركينا فاسو، وبوروندي، ومالي، وجنوب السودان، ونيجيريا، وجمهورية إفريقيا الوسطى، والنيجر.
وهنا تجدر الإشارة إلى ملاحظتين:
أولهما: أن الدولة الوحيدة في قائمة عام 2019م من خارج إفريقيا هي فنزويلا، وهو ما يعطي مؤشرًا على تزايد حدَّة وتدهور مكونات الأمن الإنساني في إفريقيا هذا العام، والذي سوف تُكرّسه تداعيات فيروس كورونا هذا العام.
الملاحظة الأخرى تتعلق بمنطقة الساحل الإفريقي التي احتلت مكانة بارزة في تقرير هذا العام. فقد عانت كلّ من بوركينا فاسو ومالي ونيجيريا والنيجر من تبعات تزايد أعمال العنف والهجمات الإرهابية التي اجتاحت المنطقة، وذلك في سياق دولي له انشغالاته وأولوياته الأخرى.
الكاميرون وثلاثية التمرد والإرهاب واللاجئين:
لقد أصبح الشمال الأقصى في الكاميرون مرتعًا للأعمال العنيفة والإرهابية؛ بسبب المواجهات الدامية بين القوات الحكومية ومسلحي جماعة بوكو حرام. وطبقًا للبيانات المتاحة؛ فقد نفذت هذه الجماعة الإرهابية أكثر من 100 هجوم في المنطقة على مدار العام المنصرم، مما أسفر عن مقتل أكثر من 100 شخص مدني.
بَيْدَ أنَّ المأساة الكبرى تتمثل في إرغام ما يقرب من نصف مليون شخص على الفرار بحلول نهاية عام 2019م.
ولا يخفى أن زيادة معدلات العنف تؤدِّي إلى القضاء على سُبُل العيش، وتُدَمِّر البنية التحتية. من جهة أخرى أصبحت التوترات العِرْقِيَّة والثقافية في المنطقتين الشمالية الغربية والجنوبية الغربية الناطقة بالإنجليزية ذات طابع عنيف في عام 2017م، مما أدَّى إلى حالة طوارئ إنسانية اشتدت خلال العام الماضي. فقد قامت القوات الحكومية بهجمات واسعة النطاق، وردت جماعات التمرد المسلحة بشكل انتقامي. وفي نهاية المطاف وجد المدنيون أنفسهم محاصرين بين الطرفين.
وقد لقي أكثر من ثلاثة آلاف شخص مصرعهم في أعمال العنف منذ بدء الأزمة في عام 2016م. كما أدَّت الأزمة إلى تشريد ما يقرب من سبعمائة ألف شخص داخل البلاد، بينما فَرَّ نحو 52 ألف شخص آخر إلى نيجيريا المجاورة؛ بحثًا عن ملاذ آمن.
ثمة وجهٌ آخر لأزمة اللاجئين في الكاميرون؛ حيث استقبلت بحلول نهاية عام 2019م نحو 280 ألف لاجئ فرُّوا إلى أراضيها من جمهورية إفريقيا الوسطى. ولم ينجح الاتفاق الثلاثي بين البلدين ووكالة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين الذي أُبْرِمَ في يونيو الماضي إلا في مساعدة حوالي ثلاثة آلاف شخص فقط على العودة إلى ديارهم بحلول نهاية العام الماضي.
وعلى الرغم من أن الكاميرون تكافح بمفردها للاستجابة لهذه الأزمات المتشابكة، إلا أنها نادرًا ما تصدَّرت عناوين الأخبار، ولا تحظى باهتمامٍ إعلاميٍّ دوليٍّ يُذْكَر.
الدولة هي أصل الداء:
هل نلوم الغرب أم نلوم أنفسنا؟
أتذكر مقولة الاقتصادي النيجيري الأشهر “كلود أيك” الذي يؤكّد أنَّ “مهمة إصلاح البيت هي مسؤولية ساكنيه”.
ولعلَّ ذلك يدعونا إلى البحث عن أصل الداء؛ لِكي نَصِل إلى التشخيص السليم.
تُعَدُّ حالة الكاميرون مثالاً واضحًا على قيام الدولة بتفكيك الهوية الأنجلوفونية لبعض أبنائها مقابل خلق انتماءات إقليمية بديلة؛ فقد أصبحت الأجندة السياسية في الكاميرون في مرحلة ما بعد الاستقلال يهيمن عليها بشكلٍ متزايدٍ ما يُعْرَف بـ”مشكلة الناطقين بالإنجليزية”، والتي تُشكِّل تحديًا كبيرًا لجهود الدولة ما بعد الاستعمارية من أجل الوحدة الوطنية والتكامل الإقليمي، وهو ما دفَع إلى إعادة طرح خيار “الفيدرالية” أو حتى “الانفصال” مرَّة أخرى.
ومن المعلوم أن جذور هذه المشكلة ترجع إلى عام 1961م عندما اتفق السياسيون من منطقتين لكلٍّ منهما ميراث استعماري مختلف -الأولى فرنسية، والأخرى بريطانية- على تشكيل دولة فيدرالية الطابع؛ بحيث يحافظ كلُّ إقليمٍ على هُويته المستقلة.
وخلافًا للتوقعات المرجوة، لم ينجح النظام الحاكم في تحقيق الشراكة المتساوية لكلا الطرفين، ناهيكَ عن الحفاظ على التراث الثقافي وهُوية كُلٍّ منهما؛ حيث تبيَّن أنها مجرد مرحلة انتقالية لتحقيق التكامل التامّ عن طريق بوتقة الصَّهْر؛ بحيث يتم استيعاب المنطقة الناطقة باللغة الإنجليزية في دولة موحدة مركزية. لم يكن مستغربًا أن يظهر وعي أنجلوفوني يُعبِّر عن الشعور بالتهميش والاستغلال مِن قِبَل الدولةِ التي تهيمن عليها النُّخْبَة الناطقة بالفرنسية.
لم تظهر حركات الاحتجاج علنا من بعض النخب الناطقة باللغة الإنجليزية إلا مع موجة التحول الديموقراطي التي شهدتها إفريقيا في تسعينيات القرن الماضي حيث وصل الأمر إلى حد رفع المطالب الداعية إلى تطبيق مبدأ حق تقرير المصير والاستقلال الذاتي.
ومع ذلك؛ فإن أهمّ المنظمات الأنجلوفونية دعت منذ البداية إلى العودة إلى خيار الدولة الفيدرالية، إلا أن رفض الحكومة المستمر برئاسة الرئيس “بول بيا” لمناقشة أيّ إصلاحات دستورية ذات صلة أجبر البعض من هؤلاء على تبنّي موقف انفصالي.
وقد حاول الانفصاليون في الكاميرون كسب الاعتراف الدولي لقضيتهم؛ من خلال تقديم أنفسهم كأقلية مضطهدة تمَّ ضَمّ أراضيها إلى الدولة التي تهيمن عليها الجماعة الفرنكوفونية.
وعلى أيّ حال يُلاحَظ المتابع لقضايا القارة الإفريقية أنها أصبحت بمثابة “نقطة عمياء” في عدسات تغطية الأزمات الإنسانية، ولا سيما تلك المرتبطة بتغيرات المناخ، وتزايد حدَّة الأنشطة العنيفة.
وبعيدًا عن قضايا النزوح؛ وجد المسح السنوي لمنظمة “كير إنترناشيونال” أنَّ أزمة الغذاء المزمنة في مدغشقر -حيث تأثر 2.6 مليون شخص بالجفاف في عام 2019م- جاءت على رأس قائمة 10 من أكثر الأزمات التي تم الإبلاغ عنها في العام الماضي.
وقد شملت القائمة زامبيا التي تعاني من تأثيرات حالة الطوارئ المناخية، مع وجود نحو 2.3 مليون يكافحون من أجل لقمة العيش، وكينيا، التي شهدت 20٪ فقط من كمية الأمطار المتوقعة في عام 2019م.
وفي ظل هذه المأساة الإنسانية التي لم ينتبه إليها أحدٌ كان نشاط المراهقة السويدية غريتا ثونبرغ التي قادت حملة لمواجهة التغيرات المناخية يُغطِّي على العناوين الرئيسية في نصف الكرة الشمالي.
ولعلَّ ذلك يدفعنا إلى التفكير مرة أخرى في ضرورة عدم التعويل على المساعدات الخارجية وتبنّي سياسات تُعزّز من قِيَم الاعتماد على النفس، والمشاركة الشعبية، والتكامل الإقليمي.